نشرة “الإنسان والتطور“
25-1-2011
السنة الرابعة
العدد: 1243
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (31)
الصحة النفسية (24)
ماهية الحرية، والصحة النفسية (7)
الجنون هو فعل الحرية لتستحيل
(الجنون مقصلة حريته)
مقدمة:
مرة أخرى أكتشف أن موضوع الحرية والصحة النفسية (مرورا بحركية الإرادة وتعدد مستويات إتخاذ القرار)، يقع فى بؤرة اهتمامى، ففى أطروحتى عن “الحرية والجنون والإبداع” التى نشرت فى مجلة فصول: “المجلد السادس، العدد الرابع 1986، ثم أعيد نشره وتحديثه فى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”: المجلس الاعلى للثقافة 2007، ص 281 – 289.تناولت الأمر بتفصيل أكبر بكثير من مقال وجهات نظر الذى نشر فى نشرة: 11-1-2011 بعنوان:”الحرية والإبداع والقهر الداخلى”، وقد وجدت فى التعليقات التى تصلنى ثراءً وإثراء حقيقيان يتيحان لى فرصة التحديث بما تطور من فكرى وواقع ممارستى خلال هذه الفترة حتى الآن، وهأنذا أبدأ اليوم بالجزء الأول من تحديث هذه الأطروحة على الرغم من احتمال بعض التكرار.
****
الفرض:
“إن المجنون يخترق كل حاجز، ويعيش أى تجاوز، ويقفز فوق أسوار اللغة بلا لغة، وهو يلعب بالزمن، لا يتبعه، ولا يقع فيه، لكنه فى نفس الوقت هو ينتهى إلى هـلامية ساكنة، حتى لو ترجرجت فى مكانها، وكأنها تتحرك.
إن المجنون الحر الطليق هو فى واقعه دائر فى محله فى انغلاق دوائرى متناثر، فلا هو حر ولا هو طليق.
هكذا ينفى الجنون، الذى يبدو لأول وهله وكأنه الحرية الكاملة، ينفى الحرية تماما وهو يجتثــها من جذورها. مع أن الحرية فى جوهر حركيتها تبدو وكأنها الحتمية التى تسمح باختيار الجنون، فنُفاجأ فى نفس الوقت أن الجنون هو فى النهاية مقصلة الحرية”.
الجنون هو فعل الحرية لتستحيل.
إذا كان الجنون اختيارا فى مستوى معين من الوجود، فإنه ليس اختيارا للحرية وإنما هو نفسه الحرية القاضية على نفسها، وهذه المأساة هى من أعظم إشكالات الجنون فَـهْـما، وعلاجا.
فى الجنون: الحرية تنتحر اختيارا.
المجنون يختار أن يحرم نفسه من قدرته على الاختيار.
هذا على الرغم من أن الشخص العادى عادة ما يستبعد، بل يستنكر فكرة أن يكون الجنون اختيارا على أى مستوى من الوعى.
الشخص العادى لا يملك (بوعيه الظاهـر) أن يختار الجنون.
الإنسان العادى (جدا) يبدو وكأنه لا يستطيع (أعجز من) أن يـُجَن.
ومع ذلك فالممارسة اليومية المهنية المتعمقة تُعلـِّمنا كيف أن المجنون – بجنونه- إنما يعلن أن له طريقا آخر، وأنه استطاع على الرغم من كل شئ أن يرفض السائد الآمِـن، وأن يتحدى، ليسلك -منفردا- الصعب المجهول (ثم يفشل).
آن لنا أن نتوقف هنا عند كلمات مثل “استطاع”، ومثل “يرفض”، ومثل “العادى”، على الرغم من أن تناول هذه اللغة المميزة كان واردا بشكل أو بآخر فى الفصلين السابقين، ومع ذلك وجب التنبيه إلى ضروة التروى وتجنب الاختزال إلى الشائع.
حرية السماح بالجنون (حق الجنون)(1)
لكى يجن إنسان ما (لكى يستطيع أن يجن) لا بد أن يـُـسمح له (بشكل ما) بذلك(2). لا بد من وجود مساحة متاحة للحركة (فى الداخل والخارج على حد سواء) تسمح بأن يمارس فيها الإنسان اختلافه لدرجة اختيار هذا النقيض الشاذ المتحدى (=الجنون). إن هذه المساحة (مع السماح الضمنى فى الخارج والداخل) هى التى تتفرع فيها الاختيارات المتعددة بما فى ذلك اختيار الجنون. ولتوضيح ذلك، فإنه على سبيل الافتراض (المستحيل): لو أن القمع الخارجى كان مطلقا (مائة فى المائة) والقمع الداخلى كذلك (مائة فى المائة) فإن الجنون يستحيل، لأنه لم يعد ثَمَّ سبيل لأى اختيار بين بدائل، ولا لأية حركة فى أى اتجاه، بما فى ذلك اتجاه الجنون.
أساسان للاختيار:
إن فهم مسألة اختيار الجنون تحتاج إلى التسليم بأساسين:
الأول: تعدد الذوات، فى الشخص الواحد، ومن ثم يكون اختيار غلبة أى ذات منها على حدة هو نوع من الحرية، حتى ولو بدا على حساب الذات (الذوات) الأخرى. فى الجنون; يكون الاختيار الغالب هو فعل الذات الكامنة دون الظاهرة فى لحظة بذاتها، ثم تقتحم الذات الكامنة (البدائية عادة) لتقود، فيكون الجنون هو: محصلة غلبة اقتحام من قبل إحدى الذوات الكامنة بالداخل جنبا إلى جنب مع آثار هزيمة الذات الظاهرة عيانا، بأية درجة من الهزيمة.
الثانى: إن اختيار الجنون لا يظهر بشكله المباشر والمعترف به، إلا بعد بداية الجنون نفسه، بمعنى: إن اكتشاف أن الأمر كان اختيارا سابقا، على مستوى آخر أخفى، ليُعلن الجنون لاحقا بوعى ظاهر. إن ذلك لا يعنى أن الذى يختار الجنون هو تنظيم واحد فقط من بين المنظومات المتعددة للدماغ وللفرد (من بين الذوات المتعددة)، لأن الجنون حين يـُعـلـن، إنما يؤكد عادة خليطا من اختيار الذوات (المنظومات) المتعارضة والمتصارعة والهشة والمهمشة والمستعيدة بدائيتها والناكصة، وبالتالى فإن الذى يـُجـن هو الكل المتداخل فى واحد ظاهر، وهو هو الكيان الذى له إسم عـَـلمٍ يـُنـَادى به، وهو الذى يوصف فى النهاية بالجنون.
وعلى الرغم من أن بداية الاختيار تكون بترجيح غلبة ومحاولة قيادة أحد التنظيمات البدائية على حساب التنظيم الواقعى الناضج، لكن الذى يحضر - مجنونا – فى الوعى الظاهر – كما أشرنا - هو:
(1) جماع آثار تنشيط هذا المستوى البدائى من الوعى. جنبا إلى جنب مع:
(2) مظاهر مقاومة مستوى الوعى الظاهر القائم لهذا النشاط المقتحم. بالإضافة إلى:
(3) آثار (بقايا) معاركهما (المستوى البدائى الذى طغى، والمستوى الواقعى الظاهر المهزوم)
إن المجنون الذى يقر باختيار جنونه أثناء العلاج النفسى المكثف (مثلا)، لا يفعل ذلك إلا بعد أن يطمئن لقدرة جنونه على التحدى، وفى مرحلة لاحقة: إلا وهو مطمئن إلى معالِجِه الذى يقبل، أو على الأقل يناقش اختياره.
المجنون يقر لنفسه بطريقة غامضة اختيار ما هو به، وذلك بعد تمكـن الجنون من الحلول فى الوعى الظاهر، ولكنه لا يعلن هذا الإقرار لغيره إلا بعد استشعاره الأمان من معالج قادر على الحوار مع مستوياته المتعددة.
الجنون حين يـكسر القشرة ليطل من الداخل إذْ يقتحم الوعى الظاهر يجعل الداخل خارجا أو جزءا من الخارج، وهنا يمكن إعلان إدراك أن الأمر ”كان اختيارا”، وهذا ما يسمى ”سبق التوقيت” لبداية الجنون، وهذا بمثابة الاعتراف باختيار سابق، أو هو تأكيد اختيارٍ ما سبق اختياره.
“إن الجنون هو حصيلة اختيار كان كامنا ثم أمكنه إعلان نفسه باختراق هادفٍ شاطحٍ معا”.
أنظر أيضا نشرة: 13-7-2008، 20-7-2008، بعنوان: “زخم الطاقة، والإيقاع الحيوى، واختيار الجنون”.
[1] – يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” دار الغد للثقافة والنشر 1979- القاهرة.
[2] – هنرى إى: الجنون والعالم المعاصر Folie et la monde moderne، قرأت هذه الورقة فى فرنسا سنة 1969 وصورتها وأحضرتها معى ولم أعثر عليها أثناء كتابتى هذه الدراسة، ذهب فيها هنرى إى إلى أنه لكى يجن أى إنسان لابد أن يكون هناك أمامه مساحة للحركة، بها قدر من الحرية، ليستطيع أن يجتاز الجنون.