نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 20-1-2013
السنة السادسة
العدد: 1969
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (147)
الإدراك (108)
الإدراك والحلم والجنون والإبداع (8 من ؟)
مقدمة:
كان التركيز فى أطروحتى الباكرة عن “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” حول العلاقة بين الحلم والشعر، وإلى درجة أقل “الجنون”، إذا كان الحلم قد استطاع أن يوحى بكل هذه الفروض، وقد ارتبط بشكل أو بآخر بعملية اعتمال المعلومات Information Processing ، وأيضا من خلال دوره فى إعادة التنميط ٌ Re-patterning تمادت الفروض حتى اعتبرنا الحلم المحكى تأليفا، هو تشكيل إبداعى قبل النوم فى زمن متناهى الصغر بالمعنى الأوسع الذى استعملنا فيه مصطلح “الإبداع”، فقد آن الأوان أن نفتح ملف الإبداع، بما فى ذلك فعل النقد باعتباره “إبداعا على إبداع”، لأنه إعادة تخليق النص الأول، وإن كان ذلك سوف يبعدنا قليلا أو كثيرا عن جوهر الإدراك، ومن ثم عن علاقته بالجنون مؤقتا، مع أنه الأولى بالتصدى من منطلق أننا فى مجال الطب النفسى والإمراضية النفسية، إلا أن طبيعة النشرات قد أخذت منحنى تلقائيا أجّل هذه التقسيمات والأولويات للنشر الورقى بشكل أو بآخر.
وبما أن بدايتنا كانت من فرض أن الحلم هو “إبداع الشخص العادى”، فقد يكون السبيل إلى التعرف على مراحل الحلم ومستوياته هو التعرف على مراحل الإبداع ومستوياته، ثم نغامر بالقياس
هذا وسوف نأخذ الشعر كمثال، لأنه أكثر تركيزا وأحدّ اختراقا، وإن كنا سوف نشير بين الحين والحين إلى الإبدع القصّى والروائى كلما لاح ذلك مهما.
ثم يأتى “النقد إبداعا”، فنتذكر ما سبق الإشارة إليه بالمصطلح الجديد “نقد النشر البشرى” المرادف للعلاج الخلاق إن صح التعبير، ولن نتطرق إلى ذلك كثيرا فى هذه المرحلة.
3- فروض الدراسة من منطلق الإبداع
لا أنوى هنا – ولا أستطيع- مراجعة أهم نظريات الإبداع، أو مناقشتها، لكنى سأحاول مباشرة أن أتقدم بوجهة نظر تناسب ما قدمنا من فروض فى تناول ظاهرة الحلم، من حيث إن تعدد مستويات الحلم، بصفته الإبداع البيولوجى اليومى كما تتناوله هذه المداخلة، تقابل تعدد مستويات الإبداع.
ولنبدأ بتحديد معالم فروض هذه الدراسة بلغة الإبداع على الوجه التالى:
1) إن الإبداع هو حتم حيوى (بيولوجى) حياتى (وجودى).
2) إن ثمّ إبداعا أكثر دلالة، وألزم حدوثا، وأعم تواترا وإن كان أخفى ناتجا: هو الإبداع اليوماوى (1) لكل الناس، باعتبار أن الإيقاع الحيوى إذ يتجلى فى الحلم خاصة كل ليلة، إنما يحافظ على إعادة التشكيل البيولوجى (المعرفى)، على مستوى غير ملموس عادة، وأيضا بعيدا عن الوعى الذاتى الظاهر فى أغلب الأحوال، كما أن استقبالنا لذلك والحيلولة دون إجهاضه بعلم سطحى أو تفسير متعجل هو إسهام فى دعم آلية طبيعية على مسار التطور.
3) من هنا يمكن اعتبار أن الإبداع حتمٌ تطورى للنوع البشرى على مسار تطوره النوعى والفردى على حد سواء، (الأنتوجينيا تعيد الفيلوجينيا).
4) إن الإنسان الفرد فى دورات نموه وقفزات تغيره الكيفى، يعيد إبداع ذاته بإيقاع منتظم، (الإيقاع الحيوى على كل المستويات).
5) إن ما يظهر فيما أسميناه “ناتج الإبداع” فى الفن والأدب، مثلا، هو بعض مظاهر الإبداع البشرى وليس كلها، وهو ما يبقى ويسجل خارج الذات التى انتجته عادة “ناتج الإبداع الُمفَعْلنَ”.
3-1
لا يخفى ما يمكن أن يكون فى هذا التعميم القياسى من مخاطر، لكن البديل التجزيئى أخطر، وأضل. فائدة المخاطرة بالتعميم القياسى هذا هى أننا قد نتمكن من الإلمام بمعالم ظاهرة ما (تستحيل دراستها – بسبب تكثيف الزمن أو امتداده- فى مجال ما) بدراسة ظاهرة موازية يمكن رصدها أو تتبعها بشكل أبطأ وأكثر تفصيلا؛ فدراستنا لـ “الأنتوجينيا” (تاريخ تطور الفرد)، مع المقارنات اللازمة (علم الأجنة المقارن، وعلم التشريح المقارن..إلخ) تتيح لنا فهم مسار الـ “فيلوجينيا” التى يستحيل دراستها إلا استنتاجا من تاريخها وآثارها. ودراستنا لأطوار الفيلوجينا قد تكون هادية لمعرفة أطوار أزمات النمو الواحدة بعد الأخرى فى الفرد الواحد وهى التى تتم فى بعد زمنى أقصر. كذلك دراستنا لأزمات النمو قد تكون مؤشرا قياسيا لما يجرى فى مراحل الإبداع. من هنا جاءت فكرة أن دراسة مراحل الإبداع قد تكون هى مفتاح فهمنا لتجليات مراحل الحلم التى هى بعيدة عن التناول بشكل مباشر، لخفائها وقصر زمنها.
3-2
أما أن الإبداع هو عملية طبيعية من صلب الحياة، وقوانينها، فهذا ما تؤكده مشاهدات، ومسار الظاهرة الحيوية عبر تاريخها التطورى حتى أفرزت البشرية بما هى، بفضل الله، وبما يتجلى فى بعض نتاجها الخارج عنها مما يسمى إبداعا. إن بعض ما ألمحنا إليه فى إبداع الحلم، يشير بالضرورة إلى حتمية دورات التنشيط، فالتفكيك، فالتناقض، فاحتمال التوليف للتصعيد. وإذا كان الحلم هو الإبداع المكثف - بناتج مُدْرَك أو بدونه- فإن تاريخ الفرد العادى (إذا لم يُجهض نموه) هو “الإبداع الممتد” دون ناتج منفصل عنه بالضرورة.
وما بين ”إبداع الحلم” الذى يتم فى بعض الثانية أو بضع ثوان، وإعادة إبداع الحياة الذى يتم عبر طول عمر الفرد، يظهر من بعض الأشخاص الإبداع المسجل بأدوات الفن، والآداب والعلوم، ولغاتها.
من أهم أهداف هذه المداخلة هو ألا نقصر ما هو إبداع على هذا النشاط المفعلن خارج الكائن البشرى.
4- علاقة الإبداع الأدبى بظاهرة الحلم
بدءا من هذه المرحلة فى تسلسل العرض، سوف أقصر حديثى على نوعين محددين من الإبداع الأدبى، هما: “الشعر” و”فن القص”، وسوف يختلف تناولى، لكل منهما بما يتفق مع الغرض من هذه الدراسة.
تمتد الرواية زمانيا، بما يتيح أن تستعمل الحلم فى السياق الروائى، أو أن تكون هى نفسها، بعضها أو كلها، حلما فائقا (موجها بقدر من الإرادة والوعى بما لايخل بتشكيله الأساسى). ومن ثم يكون المدخل من باب الرواية بالنظر فى بعض مايرد فيها من أحلام من ناحية، ثم بعض ماتشترك فيه مع الأحلام، هو مدخل متواضع لايخدم مباشرة الغرض الأساسى من هذه الدراسة، ولكنه قد يوضح بعض ماهية الحلم من منطلق أدبى.
أما الشعر، فالأمر يختلف؛ ذلك أن الشعر هو الأقرب إلى الحلم، فهو الإبداع الأدبى المكثف، والمركز، لا بنفس درجة تكثيف الحلم، وتركيزه، وإنما بدرجة كافية للمقارنة، مع اختلاف حضور وعى المبدع إراديا بشكل أو بآخر. فمدخلى من باب الشعر سوف يكون لتصنيفه على نفس نهج ما صنفُت به الحلم، موازيا له، وشارحا إياه بالقدر المتاح.
نبدأ بالشعر:
المأزق والمخرج (الموقف الدائرى)
الموقف دائرى حرج، حيث أننى أحاول أن أتعرف على ماهية الشعر، وأبعاده، ومستوياته، من خلال فروض غامضة حول ماهية الحلم، وأبعاده، ومستوياته، نتذكر ابتداءً أن الأول (الشعر) أقرب تناولا، وأكثر تحديدا، وأطول زمانا من الثانى (الحلم) بدرجة تسمح بالدراسة والفحص، بل إنه لو صح الفرض القائل: ” إن ظاهرة الشعر - بوصفه فعل الإبداع المكثف فى أعمق مستوياته- هى تشكيل التجليات الأرقى لظاهرة الحلم فى وعى فائق” (2)، فإن التعرف على الشعر هو الذى قد يعلمنا ماهية الحلم، وليس العكس .
وهكذا يمكن أن تصيغ كيف تسلسل الفرض كالتالى:
- إن حركية الحلم هى القادرة على أن تفسر عملية إبداع الشعر===>
ثم :
- إن عملية تشكيل الشعر يمكن أن تشرح الكامن من حركية إبداع الحلم!
واجهتُ واعيا هذا المأزق بشدة لأننى خبرت هذا الاحتمال شخصيا من حيث أننى أجتهد أحيانا فى “فعل” الشعر، كما أجرّب كثيرا فى حدس الحلم، (فضلا عن مواكبتى المستمرة لتجارب الجنون). لقد حاولت فى تقديمى للحلم أن ألتزم معظم الوقت بما هو حلم مباشرة، أى أن أجتهد فى حدود ظاهرة الحلم ما أمكن ذلك، غير أنى لا أستبعد أن أكون طول الوقت، كنت متأثرا بظاهرة الشعر، والعكس صحيح، فهل لهذا المأزق من مخرج؟
أتصور أن الأفضل ألا نخرج منه، وأن نأمل أن يكون هذا التداخل فى ذاته، من عوامل مشروعية القياس. ولتكن معرفتنا لما هو شعر، تعميقا لفرضنا لما هو حلم. وليكن العكس صحيحا أيضا، حتى لا يُختزل الموقف إلى مالا يحتمِل.
العلاقة بين الشعر والحلم
لا أحسب أنه من المفيد أن نناقش، بداية، حدود تعريف ماهو شعر، إذ يبدو أن بعض مانهدف إليه هنا، هو أن نصل إلى ذلك، أو إلى ماهو قريب منه. إذن: لنا أن نتصور أن كل ماقيل عنه إنه شعر فهو شعر، حتى نرى.
ومع تذكر تحفظنا المبدئى تجاه الموقف الدائرى الذى ورد فى الفقرة السابقة (1) دعونا نتذكر ما ذهبنا إليه فيما هو حلم لنرى ما المشترك معه فيما هو شعر، بصفة عامة:
- الحلم إيقاع منتظم (فسيولوجيا).. والشعر (الموزون) كذلك (بخاصة العمودى منه).
- الحلم جرعة مكثفة… والشعر الجيد كذلك.
- الحلم تنشيط محرِّك…وكذلك الشعر.
- الحلم لغة: عيانية/مفهومية: “معا”.. الشعر الجيد كذلك.
- الشعر -كالحلم عند يونج- هو بديل كشفى ثورى لواقع داخلى وخارجى يتحدى باستقراره وجموده.
- الشعر- كالحلم- يخترق واقع الذات قبل (ومع) مصارعة واقع الخارج، إذ “يتحرك بوصفه فاعلية إبداعية فى مدار التجاوز”، إلا أن اختراق الشعر لواقع الذات (ابتداء) يتفوق على اختراق الحلم لهذا الواقع؛ لأنه يتم بإرادة مقتحِمة، وفى وعىٍ فائق، يستحث التفكيك، ويتحمل مسئوليته، ومن ثم: الفرصة لاحتواء الواقع المخترق بعد ضربه-لتخليق التصعيد، اللامّ، والمتفجر، معا. ومِنْ ثمَّ: الواقع الإبداعى.
أما الحلم، فهو ينتهز الفرصة لتوليف إبداعه من تفكيك جاهز (من واقع حتم إيقاعية التناوب بين النشاط الحالم، والنوم واليقظة).
- الحلم يستعمل لغته الخاصة فى داخل عباءة النوم، “بمناسبة” التراجع المؤقت والدورى المنتظم للغة المفهومية الراسخة القبـْـلية (اللغة بمعناها الأوسع)، فهو يجدد فى اللغة، أو يبتدع لغته فى غياب اللغة، أو على حساب اللغة الجاهزة السائدة.
- الشعر الشعر، يجدد اللغة بأكثر الخطوات شجاعة، واقتحام، ومخاطرة، وهو بذلك، يجدد الشاعر نفسه (المفروض!!).
- لغة الحلم لغة مصورة لكنها لا تستلزم بالضرورة -كما ذكرنا- أن تترجم إلى لغة لفظية، أو مفهومية؛ إذ أن الصورة - بذاتها- تؤدى، وتحتوى، وتحتمل، مالا يقدر عليه اللفظ. وهذا من طبيعة عملية إبداع الحلم، فى زمن بالغ القصر، إذ لا يمكنه البحث عن اللفظ المناسب، لاحتواء المادة المستثارة، دون تشويه لأصالة التركيب الأولى.
- لغة الشعر لغة مصورة أيضا، لكنها ترسم الصورة بنفس الأبجدية الأم، فالشعر يستعمل اللفظ ليتجاوزه، ويحطم حدوده، ويعيد شحنه حين يشكل بما حوله، به، سياقا يبعث فيه من الإيحاءات والرسائل، ما يحتمل توسيع دائرته أو تحوير وظيفته.
تحديد مستويات الشعر(قياسا بالحلم)
استـدرَجَنا فعل الحلم ومستوياته – قياسا- حتى وصلنا إلى “أقصى الشعر” الذى يتشكل بأقل درجة من فرط وصاية التفكير العادى على شكل الشعر أو محتواه.
غير أن الشعر (وقد اتفقنا على أن نقبل ابتداء كل ما سمى شعرا) ليس دائما كذلك. فلا مفر من العودة إلى محاولة التقسيم والتصعيد، بدءا بافتراض أن ما يندرج تحت ما يسمى شعرا يمكن أن نتعرف على جوهر طبيعته من خلال فهم عملياته الأساسية باعتبار أنه: فى الشعر تستوعب العملية الإبداعية الطاقة الخلاقة فى فعل تنشيط، وتحريك فتفكيك فتنظيم مستويات الوعى ومفردات المعلومات، فى نمط يتميز بالإيقاع، والتصوير، و إعادة تخليق البنية الأساسية (بها جميعا). حيث الأداة الغالبة هى التشكيل بالأبجدية اللفظية الحاضرة بعد تفريغها وإعادة شحنها فى كلِّ جديد، وهو يتم بدرجة من الإرادة والتوجه فى وعى فائق.
إن هذا ليس تعريفا مقترحا، إنه مجرد مدخل متسع، يسمح لنا بتضمين المستويات المختلفة لهذا النشاط الإبداعى معا.
4/4 مستويات
4 / 4 / 1
الشعر الذى لم يقل
ثمة شعر لم يقل أصلا، وهذا مايقابل التنشيط المبدئى للداخل فالخارج، هو لم يُقَلْ إذ يمر سريعا بمراحله الإبداعية الطبيعية، من تفكيك، وتحريك، فولاف داخلى، دون أن يتمكن الشاعر من اللحاق به، للإمساك بمادته، وتسجيلها، وتطويرها فى صياغة معلنة. هذا المستوى هو ما يمكن أن يسمى: “القصيدة بالقوة”، أى: الشعر الذى لم يقل (أصلا). ويمكن أن نفترض أن كل قصيدة معلنة قد نبعت من هذا المستوى الذى سيظل مستوى فرضيا أبدا، لأن مجرد قول الشعر فى شكل معلن، أو مسجل، ينقله إلى مستوى آخر، سوف نسمى هذا المستوى : “القصيدة بالفعل” التى لا تتطابق بالضرورة مع “القصيدة بالقوة”؛ وإن كانت تحاول احتواءها . كثيرا ما يجد المبدع نفسه فى حالة حصار مبعثه عدم التطابق بين القصيدة بالقوة والقصيدة بالفعل، أى بين مايراد قوله، ومايقال (3)
ثـَـمَّ تحفظ على أن القصيدة بالقوة هى مايراد قوله (بالمعنى الظاهر)، لأنها هى التنشيط فالتوليف الضاغط الذى ينبغى قوله، أو الذى يلح ليقال، وهو الذى لا يمكن قوله هو هو. إنه يضغط ليفرض نفسه، إذ يتوجه “بالإرادة -فى- الأداة” إلى الكشف الممكن، لكنه عادة (ربما دائما) لايتمكن من ذلك، لأن مايقال-فعلا- ليس إلا نتاج المحاولة اللاهثة الناقصة، لإرادة مايـَضغط، ليصاغ، فيعلن.
وبقدر الفرق بين سرعة إيقاع بناء “القصيدة بالقوة” وسرعة إيقاع إخراجها، يكون الفرق بين المستويين، بما يصاحبه من ألم وقلق هما الدافع عادة للاستمرار فى محاولات لا تنتهى من الإبداع. لعل بعض هذا هو ماعبر عنه ت. س. إليوت، بقوله: “لم يتعلم المرء إلا انتقاء خير الكلام للشئ الذى لم تعد ثمة ضرورة لقوله، وبالطريقة التى لم يعد ميالا لقوله بها” (4)، وعلى ذلك ، مرة أخرى، فإن مايقوله الشاعر- أخيرا- ليس هو ما كان يلحّ حتى يقال، أو ما كان يجدر بالشاعر أن يقوله، فهو على الرغم من أنه نابع مما لم يقله، مما لم يستطع أن يصيغه، إلا أنه ليس هو. إن هذا المستوى الأعمق غير المعلن قد يقابل مستوى “الحلم بالقوة” الذى لا يمكن إظهاره كما هو، والذى نستنتج بعضه، أو أقله، من نتاج وفاعلية الحلم بالفعل، أو من تشكيل الحلم المحكى الذى رواه الحالم كما استطاع، لا كما حدث. حين أقول “يقابل” فإننى لا أعنى تطابقا بحال من الأحوال، لأن القصيدة بالقوة – لكى تسمى كذلك- لابد أن تكون قصيدة بشروط الإبداع. إذ لابد أن: تهز، وترعب، وتفكك، وتغامـر، وتحتوى، وتتآلف، وتتناقض، فتجتمع، لتهرب، ثم تجتمع لتصعد، ثم تجتمع، لـتـلـُم، ثم تتفكك، فتتصارع، فتتواجه، فتعلو مشتملة (دون الالتزام بهذا الترتيب)، ثم تقال أو لا تقال،
أعنى أنه لكى يكون الشعر شعرا
1) لابد أن يرجح جانب البناء فى النهاية
2) كما لابد من درجة من القصد (حتى إن لم يصل إلى الوعى الكامل).
3) ولابد أن يغلب جانب الولاف على جانب التعتعة بما نستنتج معه حتمية احتواء أكثر من مستوى من مستويات الوعى.
أما الحلم بالقوة، فهو نشاط إيقاعى حتمى، يحدث بالتبادل مع مستويات الوعى الأخرى؛ ويكون نتاجه إيجابيا فى حالة السواء، لكن ذلك لايصل-عادة- إلى درجة الولاف الأعلى المعلن سلوكا أو تغيرا نوعيا فى الوعى (إبداعا) إلا فى فترات قفزات النمو النوعى للشخصية دون وعى كامل أيضا، وفى هذه المرحلة قد يحق لبعض الأحلام أن تُعد أبيات قصيدٍة بالقوة، حين تتجلى نتائجها فى صورة ما يشبه الطفرة، أو الخطوة من طفرة الفرد ذاته على مسار نموه، حين يصحو الواحد منا جديدا جدة نوعية لا يعرف لها سببا، وكأنه ولد من جديد أو بُـعِثَ بعد موت.
ولعل كثيرا من حقائق الوجود التى نعجز أصلا عن قولها هى من باب هذا الشعر الأصل، فالموت-الموت- شعر لايقال (بالنظر إلى الجانب البنائى فيه لا مجرد مظهر التحلل العدمى)، يقول أدونيس فى رثاء صلاح عبد الصبور: “… ففى لحظة الشعر، خصوصا لحظة الموت، ذلك الشعر الآخر” (5). بل إن “الله سبحانه” - من منظور تصوفى معين- إنما يدرَكْ شمولا، وهو الذى ليس كمثله شئ (6)، فهو “أبعد/أقرب” من الوصف حتى بأسمائه.
لن أدخل الآن فى تفاصيل هذا المستوى التزاما منى بالحديث عن الإبداع الظاهر فى شكل النتاج الأدبى (الشعر والرواية تحديدا)، ولكنى فقط أنبه القارئ إلى طبيعة “النقلات النوعية المفاجئة” على مسار النمو الفردى: فالنمو الفردى لا يتم فى زيادة كَـمية بقدر ما يعلن فى نقلات نوعية تبدو مفاجئة، وهى نتاج تراكمات جدلية متصاعدة، وتتم المفاجأة لحظة التغير الكيفى أساسا، ولا يحدث هذا فى حالة من الوعى اليقظ معظم الوقت، بل إن هذه النقلات قد تتم أثناء النوم بما قد يترتب عليه الوعى بناتج هذا التغير الكيفى (المفاجئ) عقب الاستيقاظ مباشرة (7)
أقصى الشعر
يلى هذا المستوى (القصيدة بالقوة التى لم تظهر) ما يمكن أن أطلق عليه مرحليا “الشعر-الشعر”، أو “أقصى الشعر”، وهو الذى يبدو -لأول وهلة- فجا متناثرا، إذ يمثل أول خطوة ممكنة تعلن نجاح محاولات عبور الموت/التحلل/الجنون؛ فهو الشعر الذى ينجح فى أن يلتقط عمق التفكك وبدايات الـَّلم فى آن. ثم هو يقدر أن يعلنها فى مسئولية إرادية هائلة، حيث القصيدة لم تزل فى عنفوان المفاجأة والتكثيف، فى محاولة احتواء الهجوم على حواجز اللغة والزمان، وحيث يطل الموت كتنظيم بديل ليس له معالم، فيواجهه الشعر ليبعث فيه، ومِـنه، حياة مجهولة ومستكشِفة، لم تتخلق تماما، كما أنها لا يكتمل تخليقها إلا فى وعى القارئ (المتلقى: شاعرا).
هذا المستوى يحتاج إلى قدر هائل من الإرادة والمغامرة معا، لأنه يتناول عمقا غائرا من عملية التفكيك فالتركيب، ذلك أنه بدلا من أن يستسلم للتسجيل والرصد بأقل قدر من الإرادة الواعية المسئولة عن استمرار فعل الإبداع، وهو ما يحدث فى الحلم فى مستوياته الأعمق، فإن الشعر يتحمل هذا التنشيط التفكيكى ويتجاوزه به… ويغامر فـ “يقول”.
وبألفاظ أخرى: إن الشاعر لا يكتفى بتسجيل ماتنشط (ونشط) من صور وكيانات الداخل، إذ هو مازال محتفظا بوعى اليقظة الراصد المتحمِّل، بل إنه يتواجد فيه اقتحاما، ثم يستسلم له ليسيطر عليه، ويخاف منه متقدما إليه، غير مضطر إلى الإسراع بترجمته أو بتقريبه إلى أقرب “واحد صحيح” كما تعودنا نحن الحالمين دون شعر يقال.
ثم إن الشاعر يواصل حمله أمانة الوجود الخالق ليحتويه فيه فيقوله: ليس كما هو، وإنما كما تخلق من المادة المفككة، و بالاقتحام المسئول.
هذا المستوى من الشعر الشعر، هو أقرب المستويات إلى الحلم الحلم، فى مراحل البداية، وفى الوقت نفسه هو أعمق مستويات الشعر إنتاجا وقراءة (إنشاء، ونقدا) فى مرحلة الاكتمال.
محاولة تحديد
لابد أن نلاقى مستويات سلبية مختلفة على أقصى مدرج “التفكك - التخليق” مقابل مدرج “التناثر – التزييف”، فمثلا نجد على طرف التناثر ما يسمى بالإملاء الفج (نوع سئ من الأتوماتية) حيث أقصى التراخى واللامسئولية (مما أشك فى حسابه على الشعر أصلا) فى حين نجد على الجانب الآخر الرَّجز، وربما الزجل وهما ليسا شعرا رغم القافية والوزن.
و يتدرج الشعر نضجا وولافا حتى يصل إلى قمته فيما يسمى “قصيدة النثر” (مع تحفظى على الاسم) التى تمثل أصعب وأخطر مرحلة من الإبداع الغائى المتحدى المسئول.
وبين هذا وذاك قد نلتقى صورا مختلفة من التفكيك والتعيين والرسم.
وكل من القارئ والناقد عليه مهمة عسيرة فى التلقى والربط والولاف، على أنه من الصعب أن نفترض إلقاء مهمة إبداع القصيدة على القارئ أكثر منها على الشاعر، وكأنها مهمة المعالِج منفردا فى مواجهة التناثر الفصامى دون تفاعل المريض الإيجابى (انظر بعد).
الحلم توليف متاح، والشعر اقتحام واع.
الشاعر “يقتحم ويهاجم” ابتداء، محطّما البنية القديمة ليولد بنية جديدة جميلة ومتفجرة معا، غير أن الأمر يحتاج إلى وقفة طويلة لنعرف طبيعة وتفاصيل العلاقة بين الشاعر واللغة من ناحية، وبينه وبين الكلمة من ناحية أخرى؛ إذ يبدو أن الشاعر لايقوم بفعل الهجوم ابتداء، بل هو يحمل مسئولية التفكيك منتبها، وقد يستحثه إرادة، وهو فى مراحل تخليقه الأولى مثل الحالم إذ نوقظه فى طور “البسط التنشيطى”، فيسارع فى أثناء الاستيقاظ بلم مفردات حلمه من المادة المتاحة، فحكايتها، غير أن الشاعر يفعلها بوعى أعمق، وإرادة مشتمِلة، بل إنه يسهم فى السماح بالتفكيك فى وعى فائق يتمادى فيه، فيحتويه.
الشخص العادى، حالة كونه عاديا فى يقظته، لا مبدعا ولا مريضا، ينكر التفكيك ويتنكر له، وهو لا يتفكك مختارا عادة، لكنه يتفكك دوريا فى التنشيط الحتمى فى الحلم أثناء النوم، فإذا حكى الحلم – فى حدود فروض هذه الدراسة- فإنه يستعمل المادة التى تفككت بسرعة وبإرادة متواضعة، لاتصل عادة إلى الوعى المسئول القادر على قلب الحلم إبداعا فائقا، وإن كانت العملية تعتبر ضمن ما نود التأكيد عليه باعتباره “إبداع الشخص العادى”.
[1] – circadian
[2]- أدونيس: “زمن الشعر” ص 312- الطبعة الثانية (1978)- دار العودة – بيروت.
[3]- محمد فتوح أحمد: “توظيف المقدمة فى القصيدة الحديثة” ص 45، المجلد الأول، العدد الرابع مجلة فصول (1981).
[4]- ت.س. إليوت فى م.ل. روزنتال: “شعراء المدرسة الحديثة” ص 20، ترجمة جميل الحسنيى، بيروت (مقتطف من محمد فتوح) هامش 49.
[5]- أدونيس “مكان لمسرح الكآبة” ص 211، المجلد الثانى، العدد الأول- مجلة فصول (1981).
[6] – من منطلق هذا الذى هو “شعر لايقال”.
[7]- “الحمد لله الذى أحيانى بعد ما أماتنى، وإليه النشور” (دعاء المسلم عن الاستيقاظ).