“نشرة” الإنسان والتطور
السبت 20-2-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 4921
الأرنب والأسد… داخلنا (1)
إذا كنا نرجو لأنفسنا ثورة حضارية تفتح لنا آفاق المستقبل، فعلينا أن نقف أمام كثير من المسلمات فى حياتنا، نعيد فيها النظر بشجاعة المسئول عن وجوده، القادر على إعادة صنع حياته.
ومن البديهيات الشائعة أن الفن ضرورى ولازم دائما أبدا – لتطور الشعوب، وقد كنت أخذ هذه البديهية قضية مسلمة، وكان يؤكدها لى أكثر ما للفن من فائدة علمية فى العلاج النفسى ايضا، ولكنى أخذت أعيد النظر فى وظيفة الفن فى مرحلة تطورنا الراهنة بعد أن مررت بخبرة مؤلمة مع صديق، جعلتنى أدقق النظر فيما يجرى فى جلسات العلاج الجمعى، وفى المجتمع الأوسع، بحثا عن الوجه الآخر لهذه البديهية، طارحا هذا السؤال: هل يمكن أن يكون التفريغ فى الفن سبيلا إلى الاغتراب السائد، إذ يجهض القلق الحضارى ويؤجل الثورة!.. وقد كدت أجيب بالايجاب لما لاحظته ورصدته من كثيرين ممن يستغرقون فى الابداع، أو ينسون فى الاستمتاع، أنهم يستعملون الفن كبديل عما عجزوا عن تحقيقه فى واقع أنفسهم أو حياتهم، ثم تتوقف بهم المسيرة فى كثير من الأحيان عند مرحلة الفرجة، أو الاسترخاء – فيما عدا أوقات الاثارة الفنية – وقد لاحظت أن هذا الفريق يعجز – أكثر من غيره – عن معايشة حاضره اللحظى بانفعال صادق، وبالتالى عن تحمل مسئولية حياته: صحة أو مرضا، إيجابية أو هربا – وبدأت أخاف من احتمال أن نكتفى بالفن كوسيلة للتسكين والتفريغ بلا فاعلية، أى نكتفى برؤية المستقبل ورسمه بديلا عن صنعه وتحقيقه، وبهذا نجهض الألم البناء اللازم لإعادة صنع الحياة.
وأحاول أن أوفق بين شقى المعادلة: كيف أن الفن سلاح نورى لازم، وكيف أنه – فى نفس الوقت – يمكن أن يكون تخديرا بديلا عن “مسئولية العمل الثورى اليومى”، وأعنى به استمرار التحدى والتجدد الذاتى فى مواجهة واقع جامد مؤلم ومتناقض.. ومن ثم تحمل المسئولية الفردية والاجتماعية “هنا” و”الآن” للمساهمة فى صنع المستقبل.
وأتذكر هجوم أفلاطون على الشعراء، وتحذير الاسلام من أنهم يقولون ما لا يفعلون، وثورة نيتشه (على لسان زراديشت) عليهم، وحذر نجيب محفوظ من الركون إلى هذا الحل “فما هو إلا اجهاض مثلما بدا عند “عمر الحمزاوى: الشحاذ”، وأعود لاراجع فكرة استعمال الفن كوسيلة فى العلاج، فأجد اننا نلجأ إليه عادة حين نواجه الاختيار “الحرج” إما الفن أو الجنون، أما وقد فتح لنا العلاج الجمعى أفاقا جديدة، نفهم منها كيف يمكن أن نعم تواجدنا الإنسانى بتحمل مسئولية الحياة، فقد كنا نواجه اختبارا آخر (بعد أن يفشل الحل الهروبى أو السلبى) وهو: إما الفن أو العمل الثورى اليومى، وأرجع لأواجه بعد الشقة بين واقع حياتنا المتجمد وبين صورة المستقبل التى نرسمها وتشاهدها فى الفن، ويبدو لى أن عبور هذه الهوة مستحيل، كما أن بقاءها خطر خبيث وخادع، ويزداد خوفى من أن يصبح الفن مجرد بديل عن الحياة ومجهض للثورة الحضارية، فيكون هو المخدر العام فى حياتنا هذه فى وقتنا هذا.
ولكن حوارا مع محمد ابنى (13 سنة) يهدئ قليلا من روعى: سألته – بعد أن شاهدنا “دون كيشوت” عن رأيه، فقال أنها لم تقل له جديدا، ولكنها على العموم – مسلية، غير أنى لمحت فى وجهه شيئا آخر، فما زلت به حتى أضاف ما موجزه أن الإعدام كان سخيفاً، ثم أردف: إلا أن يوقظ بموته الفرقه مما كانت فيه: فرحت حتى رحت أشعر أن الفن – حتى من خلال نقصه – قد يساعد على رؤية الحل العملى، ومن ثم تحمل المسئولية.
ثم ينتقل المشهد إلى حوار حول “شاهد ما شافش حاجة، التى ما دخلتها إلا ارضاء له، وسعيا للتقريب بين ما أفرضه عليه وما يدعونى إليه، ولكنى أفاجأ وسط عاصفة الضحك التى اجتاحتنا، أن المسرحية تعالج مشكلة أساسية فى تركيبنا النفسى بطريقة سهلة ونافذه، وهى مشكلة التوفيق بين الأرنب والأسد فى داخلنا! أو بلغة إريك بيرن صاحب مدرسة التحليل التفاعلى فى العلاج النفسى: التوفيق بين طيبة الطفل فينا وقسوة الأب – نتيجة خوفه – فى داخلنا أيضا – إلا أن المسرحية انتهت بانتصار الارنب (الطفل) فى عادل إمام، وأرفض أن يكون هذا هو الحل الذى نقدمه لأولادنا أو نخدع به أنفسنا، وأنقل هذا الرفض لابنى متسائلا، إلا أنه يرد فى بساطة، أن عادل لم يختر الأرنب الجبان، ولكن قدم لنا الأرنب الطيب، لأنه متى عرف أن بداخله أسدا قادرا فإنه يستطيع استعماله وقت ما يشاء، ثم يستطرد “ولكن يا ليتهم جعلوا الصراع بين الأرنب الجبان العبيط ونسر خبيث مفترس، وياليت عادل أمام رفض الاثنين ليختار الأسد، فلكم أحب الأسد وأرى الطيبة فى عينيه مع القوة فى ساعديه.
ويفاجئنى الحوار، وأعجب بقدرة الفن على التوصيل واثارة التفكير فى مشكلة طالما واجهتنى أثناء العلاج النفسى حتى كتبت قبلا “تلك هى المسألة الصعبة: أن نعطى للطفل الحكمة والنضج، دون مساس بطهارته، ببراءته، بحلاوة صدقه – أن نصبح ناسا بسطاء لكن فى قوة – أن نشرب من لبن الطيبة، سر الصحة، لكن فلنحذر دوما من غدر الشر المتحفز بالإنسان الطيب”.
لكنى لا أستطيع أن أقاوم حذرا يراودنى أن نختار الإنسان الطيب، لكن على خشبة المسرح فقط، لنمارس الإنسان الشرير فى واقع الحياة.
[1] – نشرت بجريدة الأهرام بتاريخ 7-3-1975