الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأربعاء الحر: مقتطف من كتاب: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس” انطلاقا من: قصر العينى (تابع) الفصل‏ الرابع: التعلم (4)

الأربعاء الحر: مقتطف من كتاب: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس” انطلاقا من: قصر العينى (تابع) الفصل‏ الرابع: التعلم (4)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 3-6-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد: 4659

الأربعاء الحر

مقتطف من كتاب:

دليل الطالب الذكى فى: علم النفس

 انطلاقا من: قصر العينى  (1)

مقدمة:

كان أخر ما نشر في حلقة الأسبوع الماضى هو:

المعلم: على ذكر “البصم” أحب أن أقول لك إن هذا النوع من التعلم قد شغل الباحثين فى السنوات الأخيرة، فـَـشـُـغـِـلتُ معهم ولم أكن أريد أن أطيل عليك فى هذه العجالة، ولكنك شاب وهذه مسئوليتك أن تنشغل معنا، وإليك ما شغلهم وشغلنى، وسيشغلك بإذن الله وحب العلم.

الطالب: هاتها ودعها تكمل.

المعلم: لا يا عم، الباقى أصعب دعنا نؤجله حتى تأتينى أكثر نشاطا وأقل احتجاجا

الطالب: وبعدين؟!، أنا ما صدقت أن شدنى الموضوع، لكن أحسن، فعندى واجبات أخرى بالكوم

 (تابع) الفصل‏ الرابع: التعلم (4)

الطالب: هاتها ودعها تكمل.

المعلم: لقد حاولوا أن يفرقوا بين التعلم الشرطى Conditioned Learning  وبين البصم Imprinting، وفى الواقع أنى حين قرأت ما اسموه التعلم بالبصم لم أجد فيه ما يميزه عن السلوك الوراثى، فقد أجروا تجارب لإثبات أن نوعا من الطير حديث الولادة يصدر أصواتا خاصة بنوعه دون أن يختلط بوالديه أو أى طير آخر من نوعه، وقالوا إن هذا السلوك مطبوع فقل لى بربك ما هو الفرق بين هذه الكلمة وبين كلمة موروث؟ وكذلك أجريت تجارب على البط الأزرق فور فقسه حين لاحظ عالم اسمه “تينبرجن” أو “لورنز” أن البط (الكتاكيت) من نوع أزرق اللون تتبعه حين يلبس حذاءه الأزرق ويسير بينهم، فأعدّ جسما أزرق يشبه الأم وجعله يتحرك، فوجد أن الكتاكيت حديثى الفقس يتحركون وراءه، ثم عاد وركـّـب بطارية فى هذا الجسم الأزرق ترسل صدمات كهربائية بضغطة على زرّ عن بعد، فوجد فى البداية: أن الكتاكيت تسير وراء هذا الجسم ثم أن الصدمة الكهربائية إذا انبعثت من نفس الجسم الازرق زاد اقتراب البط الصغير منه – بعكس تعلم الارتباط الشرطى حيث المفروض أن تدفعه الصدمة الكهربائية إلى أن يبتعد عن مصدر الأذى، فرجـَّـح أن هذا التصرف من جانب البط الصغير إنما يدل على انه عاجز تماما عن حماية نفسه، وأن انعكاس اقترابه من أمه (الذى أصبح الجسم الأزرق يمثلها) هو للحفاظ على حياته من هذا التهديد بالصدمة، فلابد أنه سلوك موروث فعلا، ثم بالاستمرار والمتابعة وجد الباحث أن هذا السلوك يستمر لفترة محدودة إذ تبلغ حدته فى هذه التجربة ما بين الساعات الأولى إلى 48 ساعة، ثم يعود بعدها التعلم الشرطى للغلبة، حيث يبتعد البط الصغير الأزرق عن مصدر الأذى متجنبا الصدمة بالكهرباء، وكأن ذلك يعنى أنه بلغ من العمر مبلغا يمكنه أن يحمى نفسه مما يؤذى بالابتعاد عنه، كذلك ربما يعنى أيضا أنه بدأ تمييزا بسيطا بين هذا الجسم الأزرق المتحرك وبين أمه الحقيقة.

انطلاقا من هذه التجربة وغيرها، تراجع تحديد الفروق يبن التعلم الشرطى والبصم، منها مثلا أن البصم يختص بأول استجابة لا بأسهلها ولا بآخرها مثل التعلم الشرطى، وكذلك أن البصم يحتاج إلى جرعة مكثفة متلاحقة .. إلى آخر مثل هذه الفروق التى لا مجال هنا لتفصيلها

الطالب (مقاطعا):

الطالب: لكن هذا السلوك المكتسب بالتعلم بالبصم هل هو الذى يغير فى التركيب الحيوى حتى يُوَرَّث فعلا للأجيال التالية؟

المعلم: الحمد لله، أنت تشعرنى الآن أنك المعلم وأنا الطالب، ثم إنك أجبت على سؤالك وأنت تسأل بهذه الطريقة.

الطالب: أتذكر ما ذكرته فى بداية حديثنا عن التعلم من أنك قلت: إن العمل خـَـلـَـق الأحياء، وأن الأعضاء نمت لتسد حاجة وتحقق غاية، وأن نمو الأعضاء هو تغيـّر فى التركيب الحيوى، وقلنا بعدها إن التعلم هو التغير فى السلوك الجزئى، أو النمط الكلى أو التركيب الجوهرى، أليس كل ذلك متعلق بما تقوله الآن؟

المعلم: انتباهك وذاكرتك تجعلانى أفخر بك وأحذر منك، كى لا أخطئ أمامك، حصل..، ذكرنا كل هذا، ويبدو أن الاستنتاج البديهى وراء هذا وذاك، هو أن العادات المكتسبة من تعلم بذاته تـُـوَرَّثُ، حتى قيل أن عادات اليوم هى غرائز المستقبل، وقد ثارت معركة بين اللاماركيين (و “لا مارك” هو من قال بالتطور قبل داروين) وبين الداروينيين المحدثين وعلماء الورائة المندليين (التابعين لمندل Mendel) ورجحت الكفة لفترة من الزمان فى صالح الفريق الثانى الذى قال باستحالة وراثة العادات المكتسبة، ولم يقنعنى ذلك أبدا، إلا أن أعمالا لاحقة (2) بدأت تأخذ سبيلها إلى إثبات هذه البديهية التى وصلتَ أنت إليها وحدك من واقع تفكيرك البسيط السليم ووصلت أنا إليها من واقع خبرتى العلاجية وقراءاتى معا، ووصل إليها فلاسفة قبلنا بوضوح ويقين ضد كل المعلومات الجزئية المعارضة حتى قال “روبرت سبنسر” الفيلسوف العالم: إنه إذا لم تكن العادات المكتسبة تورث فإنه لا يجد أى  سبب معقول يفسر به التطور.

الطالب: إذن لسنا وحدنا، عنده حق والله، ولكن يخيل إلىّ أن الذين رفضوا هذا الرأى معذورون أتم العذر، إذ كيف نتصور أن كل ما نكتسبه من عادات سأورثه إلى إبنى، ألا ما أسخف هذا إذا أطلق على علاته، فهو قد يعفى الجيل الأحدث من مسئولية ما يفعل.

المعلم: يا خبر!! عندك حق، من البديهى أنه ليست كل العادات التى تنطبع تورث ولو تتبعنا تقسيمنا لأنواع التعلم وخاصة تدرجها من المحاكاة للسلوك إلى التقمص بالبصم لأمكن حل المشكلة بين الفريقين دعنا نقول: إن الفرض المطروح الآن يشمل التالى:

1- ليس كل ما يتعمله الكائن الحى – الإنسان هنا – قابل للنقل بالوراثة.

2- إن أهم ما ينقل بالوراثة هو السلوك المطبوع غائر التثبيت فى الكيان الحى.

3- إنه إذا تمثل الإنسان أى سلوك متعلم حتى تفاعل معه وغيّر تركيبه نموا واستيعابا واندماجا، كان هذا التركيب المنطبع الجديد هو القابل للنقل بالوراثة.

4- السلوك القابل للطبع، ومن ثم للتوريث، هو السلوك ذو الدلالة التطورية، Evolutionary Significant (وهو قد يسهم فى دفع التطور، فإذا كان سلبياً قد يعـجـّل بالانقراض).

الطالب: هكذا معقول، هكذا نفرق بين عادة لعب الطاولة وبين عادة تجمع الإنسان فى جماعت على أرض تسمى الوطن لحفظ البقاء.

المعلم: نِعـْم  ما تقول والله، نعم ما تقول، الله يفتح عليك، دعنى استعير منك هذا المثال لأشرح به لزميلائك الموضوع

الطالب: ولكن هل تعنى بتعبير “ذو الدلالة التطورية” السلوك المفيد للنوع فحسب؟

المعلم: بل لقد أوضحت حالاً أنه قد يكون السلوك المفيد للنوع والمهلك للنوع كذلك.

الطالب: يا خبر!! هذا يضاعف من مسئوليتنا نحو الأجيال القادمة.

المعلم: ليس فى ذلك شك، لو لم نتقبل هذا المعنى إذن لما كان هناك تفسير كاف لانقراض بعض الأنواع.

الطالب: ما أجمل هذا الحديث وخاصة حين أتذكر إشارات علم الأجنة المقارن Comparative Embryology إلى وجه الشبه بين أجنة الأحياء على سلم التطور المترامى.

المعلم: إن علم الأجنة المقارن هو مفتاح علم النيوروبيولوجى الحقيقى، وهو هو مفتاح علم النفس الأحدث.

الطالب: لو تركت نفسى معك فى هذا الحوار لابتعدنا عن المقرر والذى علينا والذى ليس علينا، أرجوك أن تكف عن الاستطراد فإن ورائى استذكارا كثيرا، ولكن قل لى أليس الاستذكار تعلـّـما؟

المعلم: تفيق فجأة لتصدمنى باستذكارك، ولكن عندك حق، ولكن دعنى أقول لك شيئا آخر يتعلق بالسلوك الموروث المـُـتـَـعلم أصلا، قبل أن ننتقل إلى ما عليك وماليس عليك!!.

الطالب: الأمر لله ماذا عندك أيضا؟

المعلم: وصف كونراد لورنز Konrad Lorenz حديثا فكرة الطاقة الخاصة الفعالة Action-Specific Energy باعتبار أن لكلِّ سلوكٍ موروث كمية من الطاقة المتاحة له، وأنه حين تقل هذه الطاقة لا يمكن إصدار السلوك أو إثارته وأن هذه الطاقة تستعاد بالاستراحة أو الراحة.

الطالب: لست فاهما، أليست هذه الطاقة هى الغرائز؟

المعلم: يالك مـِنْ يـِقظ! لقد تراجعت نظرية الغرائز فترة طويلة تحت ضربات السلوكيين ورجال الاجتماع، ولكنها عادت أكثر قوة وأشد تحديا من خلال هذه التعبيرات الجديدة مثل الطاقة الخاصة الفعالة، ولو أخذنا بهذا الرأى لأصبح كل سلوك مطبوع وموروث بالتالى غريزة قائمة بذاتها والحديث الآن يجرى من مدخل علم الإثولوجيا (3).

الطالب: الله..!؟ الله.. !! وماذا أيضا؟ سأعمل نفسى كأنى لم أسمع هذا الرطان؟

المعلم: رطان؟ بالله عليك هل هذا رطان؟ وهل تسمى كل ما صـَـعــُـبَ عليك رطانا

الطالب: وماذا أفعل، كيف أحول دونك والتمادى فى البعد عن المقرر والذى علينا

المعلم: والله لو كان الأمر بيدى لجعلت هذا هو كل ما عليك

الطالب: الحمد لله أنه ليس بيدك، ومع ذلك هات ما عندك فأنا مهتم كما ترى.

المعلم:  أقول لك ما ذكره نيكو تينبرجن Nico Tenbergen سنة 1951 وهو آخر ما عندى، حيث شَرَحَ فكرة إزاحة النشاطDisplacement Activity ، فقال إن النشاط يزاح إذا لم يـُـطلق فى اتجاهه الأصلى، فإذا حدث صراع مثلا بين سلوك وراثى وسلوك وراثى آخر لدرجة التناقض فإن النشاط يزاح إلى سلوك ثالث، ولو تكرر هذا التضارب فإن السلوك قد يتحور تدريجيا إلى هذا السلوك الثالث، على انه فى الظروف الطبيعية لابد أن تطلق الطاقة فى شكل نشاط صريح، إلا أنه فى حالة قمع التعبير عن سلوك بذاته فإن الطاقة الفعالة تبحث عن طريق آخر للتعبير، ويمكن القول أن هذه الطرق البديلة لا تحددها البيئة أو الجهاز العصبى فقط وإنما تحددها هذه العوامل مجتمعة.

الطالب: بالذمة ما فائدة هذا كله.

المعلم: فائدته؟! إن له فوائد لا حصر لها فى ربط التعلم بالوراثة، وفى تفسير مسارات بعض ما يسمى الغرائز وكبتها وإزاحتها.

الطالب: تبدو لى هذه اللغة من معجم التحليل النفسى.

المعلم: تقريبا، ولكنها هنا تطرح بلغة نيوربيولوجية أوضح ودون اقتصار على الجنس أو حتى العدوان، وإنما بما يشمل غرائز كثيرة مثل الهرب بل لعلها تشمل كل سلوك مطبوع كما ذكرنا.

الطالب: هكذا يتداخل العلم فى بعضه مثلما تداخلت الوظائف النفسية، فتزداد المسألة صعوبة.

المعلم: ولم لا، ألا يمكن تفسير بعض مظاهر الفصام (الشيزوفرينيا) بإثارة السلوك الهروبى المطبوع إما لقوة هذا الطبع فى ذاته أصلا، وإما لإزاحة النشاط الخاص بسلوك آخر لم تتح له فرصة الانطلاق، وعلى فكرة إن مثير السلوك المطبوع اسمه المطلِق Releaser وليس المثير Stimulus.

الطالب: حدثنى إذن عن الشيزوفرينيا ودعها تكمل.

المعلم: لا ياعم هذا ليس وقته، خلـّـنا فى محاولة شرح ما هو “عليك” أولاً

الطالب: إذن فحدثنى عن الذاكرة والاستذكار .. الله يخليك.

 

[1] –  يحيى الرخاوى: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)،  والكتاب قديم مهم (الطبعة الأولى سنة 1982 ) ولم يتم تحديثه فى هذه الطبعة، موجود فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

[2] – من أهمها أعمال منشورين وتلاميذه فى الاتحاد السوفييتى اعتبارا من 1950

[3] – علم الأخلاق والأجناس وتكوينها: Ethology.

 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *