الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأربعاء الحر : مقتطف من كتاب: دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى: الفصل‏ ‏الثانى: تقديم وتعريف، واعتبارات أساسية (5)

الأربعاء الحر : مقتطف من كتاب: دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى: الفصل‏ ‏الثانى: تقديم وتعريف، واعتبارات أساسية (5)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 11-3-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد: 4576

الأربعاء الحر

مقتطف من كتاب:

دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى  (1)

 الفصل‏ ‏الثانى: تقديم وتعريف، واعتبارات أساسية (5)

انتهت نشرة الأسبوع الماضى كالتالى:

الطالب: فما هو تعريف علم النفس الصحيح إذا؟

المعلم: كل التعريفات صعبة يا بنى كما تعلم، ولكن مما سبق نستطيع أن نقول سويا “إن علم النفس هو العلم الذى يدرس نشاط الإنسان كوحدة متكاملة، فى أدائها للوظائف الترابطية الأرقى، والأعقد للكائن الحى كوحدة فى ذاتها وفى تفاعلها مع البيئة.” 

وهذا التعريف يقرب علم النفس من علم وظائف الأعضاء، ثم هو يشمل علم نفس الحيوان كما يشمل علم نفس الإنسان، وهو لا ينسى أن الإنسان كيان اجتماعى بالضرورة.

أما التعريف الشائع فيقول “إن علم النفس هو العلم الذى يبحث نشاطات الفرد فى ظواهره العقلية وتعامله المتبادل مع البيئة من حوله وخاصة المجتمع البشرى”

الطالب: إذا كانت النفس هى النشاط الكلى للمخ (الأمخاخ)، وكان علم النفس هو دراسة هذا النشاط، فكيف نتعرف على هذا الكل المعقد وندرسه حتى نحترم معطيات هذا العلم؟

المعلم: ألم أقل منذ البداية أننى لم أغامر بحوارك إلا ثقة فى ذكائك، إن هذا السؤال هو مربط الفرس كما يقولون، وليس عندى  له إجابة شجاعة وأمينة، وتاريخ علم النفس منذ أكثر من قرن ونصف يبحث عن إجابة لهذا السؤال، ولا يمكن فى هذا “الدليل” أن نجد – أنت وأنا – إجابة عنه بعد أن حير العلماء من قبل، وكاد يشوه هذا العلم نفسه لما حاول أن يرتدى وسائل بحث لا تصلح له، فمشى يتعثر فيها كالطفل يلبس حـُلـّة والده ليقنع الناس بكبر سنه، ولكن، هذا لا يعنى بالضرورة أن علم النفس هو طفل يحبو بحق، ولكنه يعنى أننا نحتاج: أن نعيد النظر فى تعريف ما هو “العلم” من ناحية مبدئية، وأن نعيد النظر فى وسائل الدراسة المطروحة من ناحية ثانية، ثم أن نتواضع أخيرا فى الأخذ بمعطيات هذا العلم والمبالغة فى قيمتها.

الطالب: أليس أولى بك أن تدعنى للتشريح والكيمياء والفسيولوجيا حتى تعيدوا النظر؟ ثم حين تستقرون على رأى، تأتى وتدرس لى ما انتهيتم إليه؟

المعلم: أنت حر، وفى ستين داهية العشر درجات المخصصة لهذا العلم، ولكنك لو فكرت قليلا فأنت الخاسر، فنحن فى مأزق أنت تستطيع أن تساهم فى أن تنقذنا منه، الآن، أو بعد حين، ألم أقل لك أن المناطق المجهولة هى أولى المناطق بالعناية؟ أليس فى عرض الأمر بحجمه المتواضع هذا تكريم لعقلك ودعوة لفكرك؟ أليس هربك من التساؤل امتهانا لإنسانيتك؟ فلتسمع منى أين نحن بالنسبة لوسائل الدراسة بما فى ذلك دراسة هذا العلم، ثم ننطلق معاً.

الطالب: فما هى وسائل الدراسة لعل فيها ما يسمح باستمرار الحوار على الأقل؟

المعلم: لا توجد دراسة علمية إلا من خلال الملاحظة وهذه أول وسيلة: أن تلاحظ الظاهرة مباشرة وتسجلها بدقة، أو أن تستعمل فى الملاحظة وسائل دقيقة توضح أبعاد الظاهرة وتحددها، وهذه الوسائل تسمى أحيانا الاختبارات النفسية، فالملاحظة تشمل القياس أحيانا، وإذا تمت الملاحظة بعد ترتيب ظروف محددة للنظر فى تأثير مؤثر ما على جانب من جوانب الظاهرة المعنية سميت هذه الطريقة الملاحظة التجريبية أو الوسيلة التجريبية إذن فهى ليست سوى ملاحظة، ولكن فى ظروف بعينها لدراسة ظاهرة محددة بذاتها، وللتعرف على أى من العوامل هو المسئول عن تغيير بذاته، فى ظاهرة ما، والملاحظة فى هاتين الطريقتين لا تتعمق عادة وراء ظاهر السلوك مما يعلن قصورهما – نوعا ما – عن سبر أغوار الإنسان، ولكن هناك نوع من الملاحظة ما هو خاص بعلمنا هذا، وهو أن يلاحظ الإنسان نفسه داخليا، وهذا النوع يميز الإنسان بوجه خاص، وهو يسمى الاستبصار أو التأمل الذاتى، لكن المآخذ عليه كثيرة، لأنه يقال أنه يحتاج لأشخاص متدربين عليه بوجه خاص، كما أنه يشق الفرد إلى جزئين: جزء يـُـلاحـِـظ وجزء ملاحـَـظ، وتكون النتيجة أن المعلومات تصف جزءا من الإنسان وليس الإنسان كوحدة، ثم إنه يعتمد على الذاكرة فى كثير من الأحيان، فهذه الوسيلة إذن وسيلة مقولة بالتشكيك، وقد يمتد الاعتماد على الذاكرة إلى السؤال عن الماضى وتاريخ الحالة، كما قد تتأتى الملاحظة فى تتبع ظاهرة ما لمدة شهور أو سنوات وذلك فى حالات دراسة نمو طفل أو تطور وظيفة بذاتها، وبديهى أن الطريقة الأولى (تاريخ الحالة) صعب الاعتماد عليها لأنها تعتمد على تصورات وذكريات الحاكين، وليس على حقائق قائمة بذاتها، والطريقة الثانية (الملاحظة التتبعية) تكاد تكون مستحيلة إذا أريد تنفيذها بدقة وأمانة مطلقتين.

الطالب: ما دامت وسائل الدراسة كلها معيبة إلى هذه الدرجة فما هو الحل..؟

المعلم: إن هناك رأى صعب تفصيله على قارئ هذا الدليل، وهو يضيف وسيلة هامة جدا وصعبة تماما، ولكنها الوسيلة الجارية فعلا فى دراسة الظواهر الإنسانية المعقدة، وهى شديدة الارتباط بالممارسة الطبية الصحيحة بوجه خاص، هذه الوسيلة لا يمكن شرحها بأمان كاف دون أن تشوهها الألفاظ، إلا أنها بصفة عامة تعتمد على المشاركة، وهى تعتبر الفاحص جزءاً من الظاهرة المفحوصة، وتعتمد عليه هو ذاته (بمشاركة آخرين فى البداية) كأداة قياس مباشرة، وهى تتضمن درجة من المعايشة أكثر مما فيها معنى الملاحظة، وفيها احترام لاجتهاد الإنسان “العالـِـم” فى مواجهة الإنسان “الموضوع”، بحثا عن الحقيقة، أكثر مما فيها من ترجيح قياس الآلة على حدس العالم، وأخيرا فإن فيها نوع من التأنى وتعليق الحكم أكثر مما فيها من المباشرة والاكتفاء بملاحظة ظاهر الحركة، وهذه الطريقة كما ذكرت صعبة وتحتاج إلى تنشئة طويلة للباحث العالم، كما تحتاج إلى نمو شخصى فى اتجاه الموضوعية يعيد للعلماء قيمتهم الذاتية، ويخفف بعضا مما ثار حول تحيزاتهم من شكوك.

وهذه الطريقة هى قريبة جدا مما يسمى فى الطب “الحاسة الكلينيكية” Clinical Sense. وإذا كان عالم النفس الأمين يخاف على علمه وظواهره من هذه الطريقة فله كل الحق، خاصة وأنها تنتمى إلى منظومة معرفية أخرى تسمى “الفينومينولوجى”.

الطالب: الفينو… ماذا؟

المعلم: لا عليك دعك من الاسم، ولكن على دارس الطب، وممارسه أن يستعد لدرجة من مجاهدة التقشف النفسى سعيا إلى الموضوعية، وما يحمل من عبء الأمانة فى محراب العلم، وقد بالغ البعض فقال إنه يمكن مشاركة حتى الحيوان فى دراسة ظواهره، ونصح باتباع هذه الطريقة حتى فى دراسة نفسية الحيوان.

وبدون الدخول فى التفاصيل أقول لك معتمدا على ذكائك أن إعلان ضعف وسائل الدراسة لا يعفيك من الدراسة، وإذا لم تقتنع بالخمس طرق الأولى، ولم تفهم الأخيرة لأنه لا يفهمها إلا ممارس فعلا، فلا تلفظنا وتحكم علينا، بل ساعدنا بالسماع لنا ومشاركتنا اجتهادنا لنتخطى عجزنا.

الطالب: لقد حيرتنى معك، ومع ذلك لقد أثرتنى بحيرتك، فهل عندك معلومات تطمئن إلى إبلاغها لى، رغم هذا الضعف الشديد فى وسائل بحثك.

المعلم: بلا أدنى شك، بل هى معلومات أساسية لا غنى عن معرفتها لك ولى، ونحن نُكسبها احتراما علميا بإيضاحها وترتيبها، ولنأخذ معلومة بسيطة وهى أن الإنسان للإنسان، أو ما يقوله العامة “الناس للناس” أو “الناس لبعضها”، إن علم النفس حين يضع هذه البديهية يحوِّرها ويطورها قائلا “إن الناس.. بالناس.. وللناس”.

وتفسير ذلك أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا بتفاعله المستمر أخذا وعطاء مع إنسان آخر، ثم إن هذا التفاعل يهدف فى غائيته إلى محيط أوسع من الشخصين المتفاعلين وهو بقية الناس، وأى خلل فى هذه الحلقة يصيب الإنسان بالاضطراب حتى العجز أو حتى الهلاك، وقد بدت هذه الحقيقة الأساسية مهمة لبعض العلماء حتى أصبحت أساس مدرستهم فى علم النفس المسماة “العلاقة بالموضوع Object Relation School”، وإن كنت أعترض على كلمة “الموضوع” هذه حرصا على تكريم الإنسان لأنه كيان وليس موضوعا، ولكن دعنا نبدأ بالقواعد العامة لعلاقة الإنسان بالبيئة من حوله.

……………….

ونستكمل الأسبوع القادم

[1] –  يحيى الرخاوى: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)،  والكتاب قديم مهم (الطبعة الأولى سنة 1982 ) ولم يتم تحديثه فى هذه الطبعة، موجود فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *