نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 17-6-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4673
الأربعاء الحر
مقتطف من كتاب:
دليل الطالب الذكى فى: علم النفس
انطلاقا من: قصر العينى (1)
مقدمة:
كان أخر ما نشر في حلقة الأسبوع الماضى هو:
الطالب: تعرف يا سيدى، إن الحديث عن الذاكرة بهذه اللغة الأشمل دون الاقتصار على اللغة الكيميائية الجافة رائع، ولكنه خطر فى نفس الوقت.
الفصل الخامس: الذاكرة والاستذكار (2)
المعلم: لا خطر ولا يحزنون، فما أروع الحديث عن الذاكرة الجينية Genetic Memory التى تحمل عوامل الوراثة، والذاكرة المناعية Immunity Memory التى هى أساس تكوين الأجسام المضادة Antibodies لأى هجوم ميكروبى أو جسم غريب حساس فى الوقت الحالى أو المستقبل، ثم الذاكرة الذاتية Individual Memory التى نتحدث عنها أنا وأنت أغلب الوقت.
الطالب: إن هذا الحديث يجعل الذاكرة هى كل شئ، وقد كان التعلم هو كل شئ.
المعلم: ولَمِ لا، فكأن الكائن الحى مبنى من كم هائل من المعلومات (ذاكرة النوع) وهذا الكيان جاهز للاحتفاظ بكم هائل من الخبرات (ذاكرة النوع متمثلا فى ذاكرة الفرد).
الطالب: هذه آخرتها..، قلبت لنا الإنسان إلى كم من المعلومات.. الإنسان بجلالة قدره كم من المعلومات فالخبرات.
المعلم: حاسب عندك، لابد من إيضاح كلمة “معلومات” هنا، إذ هى تعنى أى تأثير خارجى أو داخلى تحتفظ به الخلايا أو يؤثر فى تكوينها أو يغير استجاباتها أو يشكل محتواها، ولسنا نعنى بالمعلومات أخبار الصباح وأين تذهب هذا المساء أو المعلومات العامة مثل “الأشيا والصحة” أيام زمان.
الطالب: ولو، فالإنسان هو هذا الكيان الرائع النابض بالحب والإيمان، ولا يمكن اختزاله إلى كم من المعلومات.
المعلم: يا أخى لم لا تتصور معى أن هذا الكم فى تناسقه الإبداعى هو معمل الحب ودفع الإيمان وتناسق التوازن، لم هذا التباعد المصطنع بين كيمياء وفسيولوجيا الجزيئات وبين الألفاظ الشاعرية المنمقة، لم لا تستمع مع ترتيب الحياة فى الخلية لموسيقى الشعر فى الوجود.. هذا خطأ مرحلى ناتج عن استقطاب فهمنا للحياة.
الطالب: ماذا تعنى باستقطاب؟
المعلم: استقطاب يعنى Polarity، وهنا أعنى به أن نتصور الذاكرة وكم المعلومات فى ناحية.. والعواطف ورقة المشاعر ونبض الايمان فى ناحية أخرى.. إن المخ كيان كلى فى وظائفه الأرقى، وتناسقه “لكل ما هو له، وما هو إليه” هو قمة الإيمان وروعة التكامل معاً.
الطالب: يا صلاة النبى!!! إصنع بى معروفا ويكفينى الحديث عن علاقة الذاكرة بالحامض النووى الديزوكسى ريبوزى وما شابه، وحدثنى عن طبيعة الذاكرة وآليات عملها.
المعلم: حاضر يا سيدى، لقد فرضوا عدة فروض لتفسير الذاكرة أهمها:
1- إن هناك دوائر عصبية تتكون أثناء عملية استيعاب المعلومات (وذلك على اساس كهربى)، وهى تتكون نتيجة لارتباطات مشتبكية Synaptic جديدة، وسميت هذه الفروض: الفروض الدوائرية Circular Electrical Hypotheses وهى على أحسن الفروض لا تكفى لشرح حفظ محتوى الذاكرة بعد تماسكه وثباته، وهناك تجارب عديدة تدل على ان المنطبع (الإنجرام Engram) ليس كهربيا بحتا لأنه يبقى بعد أن يتوقف النشاط الكهربى الحيوى تماما.
2- إن هناك عمليات كيميائية تسهم فى تخزين وتماسك المعلومات العصبية، ويعتقد من يقول بهذا الفرض أن هنك تمثيلا لبروتينات جديدة تتدخل فى التسهيل الدائم للتوصيل عبر المشتبك العصبى، أو غير ذلك من العمليات، ولكن معتنقى هذا الفرض لا يزعمون أى تجميع تنظيمى للذاكرة.
الطالب: كلها فروض فى فروض، وأعتقد أنه حتى أصحابها غير مقتنعين بها
المعلم: إيش عرّفك
الطالب: لو أن واحدا منها هو الصحيح لنسخ الباقى
المعلم: لا يا شيخ! هذا ضد حركية العلم فى كل زمان مكان، ولكن لتصبر قليلا حتى أحدثك عن الفرض الثالث الأقوى.
الطالب: وما هو؟
المعلم:هو الفرض الكيميائى الجزيئى للذاكرة Chemical Molecular Hypothesis وهو لا يعتبر أن الجزئ المجمع للذاكرة يشبه فى عمله وتنظيمه الشريط فى الحاسب الإلكترونى ولكنه يعتبر أن الجزيئات العملاقة Macro Molecule هى مثل لوحة لذبذبات خاصة للمثير العصبى، ويفترض أن التجميع الجزيئى إنما يضاف إلى مسار خاص فى المخ.
الطالب: أربكتنى ولم أعد استطيع المتابعة.
المعلم: لنبسط الأمر: يا سيدى إن المخ البشرى ليس مثل شريط التسجيل ولا هو مثل شريط الكمبيوتر، وإن الأرجح الآن أن الجزيئات العظيمة Macromolecule التى تعنى حـِـمـْـضـَـىِ النيوكليك، والتى لها قدرة هائلة على إعادة ترتيب محتواها هى التى تحتفظ بانطباعات الذاكرة وهى القادرة على استرجاعها مع عمل الدوائر العصبية جنبا إلى جنب.
الطالب: ولكن هل من إثبات لدور هذه الجزيئات؟
المعلم: توجد بعض العلامات الايجابية بلا أدنى شك (راجـَـعـَـهـَـا بإفاضة عالم اسمه جلاسمان حتى سنة 1969) ولكن لا يوجد دليل نهائى على ذلك.
الطالب: المهم، ما هى هذه العلامات الايجابية؟
المعلم: خذ مثلا تجارب تسمى تجارب ديدان “البلانوريا”، علـَّموها استجابة معينة لصدمة كهربائية معينة ثم قـَسَموها ونمى نصفيها من جديد وتبين أن النصف النامى الجديد هو متدرب على هذه الاستجابة دون تعليم، كما أن هناك ما يشير إلى أن دودة حية إذا أكلت قطعا مدربة من الدودة المقطعة قد يترك أثراً يثبت إمكان نقل التدريب، ربما من خلال هذا الحمض.
الطالب: يا حلاوة! يعنى حين أريد أن أحفظ علم النفس ألتهمك واستريح!!
المعلم: رجعت إلى فكاهتك وسخريتك قبل الأوان، دعنى فى حماسى حتى أقول لك ما أريد مما سيخيب أملك فى الاختزال والاختصار، لقد راجع العلماء هذه التجارب حتى ظهرت، مقالة فى أغسطس سنة 1966 فى مجلة “العلم” موقعة من ثلاثة وعشرين عالما يمثلون سبعة معامل تعلن فشل إعادة تجارب نقل الذاكرة، حتى بالنسبة لحقن جرذان ساذجة بواسطة الحامض النووى الريبوزى من جرذان مدربة… وكانت مثل هذه التجارب قد أعلن نجاحها من قبل عام 1965.
الطالب: ما هذا؟ من أصدّق ومن أكذّب وماذا أكتب فى الامتحان؟
المعلم: عندك، انتظر، لقد نشر اثنان من العلماء الثلاث والعشرين بعد ذلك بشهرين اثنين أن نقل الذاكرة ممكن ومع ذلك اهتزت الأمور تماما.. بلا أمل فى رجوع البندول إلى الثبات قريبا.
الطالب: ولو… أنا مع رفض هذه النتائج إذ يستحيل أن أتصور أن “سندوتشات” مخ الضأن ستجعلنى “أنطح” القدر.
المعلم: بالرغم من سخريتك هذه التى لا تهمد، فقد أوصلتُ إليك ما أريده.
الطالب: لا تخدع نفسك، أنت لم توصل لى إلا الحيرة.
المعلم: ولعل هذا ما أردت توصيله، وعلى كل حال فإن هذه الحيرة قد جعلت علماء مثابرين يواصلون تجاربهم إلى حد فصل المادة الفعالة وهى من الببتيدات Peptides، وهذا ليس متناقضا بالضرورة مع فكرة الدوائر العصبية، والاتجاه الحالى هو الجمع بين النظريتين كما ذكرت لك (قام بذلك عالم اسمه أنجار سنة 1972 – 1973) فقد افترض أن التنظيم الجزيئى يشبه لوحة المرور للمثيرات العصبية عبر المشتبك العصبى، وحسب مفهوم “الممرات المتميزة كيميائيا” فإن النيورونات المقدر لها أن تكون فى الممر نفسه تتعرف بعضها على بعض بواسطة لافتة جزيئية ملتصقه بها، وقد ذهب إلى تفسير الوراثة بنفس الطريقة، فهذه العملية التعارفية الكيميائية المحددة وراثيا إنما تضبط النمو الجينى للمخ وغيره…، هل يكفيك هذا أم أزيدك تفصيلا.
الطالب: لا يا عم يكفى وزيادة، بصراحة لقد بدأت أخاف من هذه الأبحاث.
المعلم: وهل يخاف أحد من العلم؟
الطالب: طبعا.. تصور لو أن الحكاية أصبحت فى الإمكان، وعرف ما هو الببتيد الذى ينقل العادات والاتجاهات، وتطورت التكنولوجيا، وأصبحت توجد مصانع لبيتيد الأخلاق حسب الطلب، إذن لذهب رئيس دولة ما، (أو اتفق رؤساء الدول الأقوى) وطلب من المصنع خلاصة ببتيد “التفكير الانصياعى” أو ببتيد “إبادة المخاِلف” ووضعه فى مياه الشرب لعامة الناس… إذنً لضاعت البشرية أكثر من ضياعها الآن.
المعلم: ألم أقل لك إنك تفهم ما أريد بالرغم من مقاومتك، إن هذه المخاوف قد أثارها العلماء بالفعل.
الطالب: ولكن قل لى، هل هذا علينا فى الامتحان؟
المعلم: ياليت.
الطالب: وهل هذا علم نفس أم كيمياء؟
المعلم: أكلمك باللغة التى اعتدتَ احترامها.
الطالب: ولكنى بدأت سؤالى عن كيف يساعدنى علمك أن استذكر التشريح والفسيولوجى والكيمياء، فقلبتها دوائر لى كيمياء، وتفاعل أحماض وكل هذا الكلام.
المعلم: يا سيدى هناك بعض القواعد التى تسمى تدريب الذاكرة Memory Training وهى توضع أحيانا تحت اسم “الاقتصاد فى عملية الاستذكار” Economy in Memorizing فإذا شئت أن تستعين بها أقولها لك يا سيدى، رشوة موقته.
الطالب: يا ليت، قلها بالله عليك فأنا طالب أذاكر بصعوبة شديدة
[1] – يحيى الرخاوى: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)، والكتاب قديم مهم (الطبعة الأولى سنة 1982 ) ولم يتم تحديثه فى هذه الطبعة، موجود فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net