الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأربعاء الحر: مقتطف من كتاب: دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى: الفصل‏ ‏الثانى: تقديم وتعريف، واعتبارات أساسية (4)

الأربعاء الحر: مقتطف من كتاب: دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى: الفصل‏ ‏الثانى: تقديم وتعريف، واعتبارات أساسية (4)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 4-3-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد:    4568

الأربعاء الحر

مقتطف من كتاب:

دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى  (1)

 الفصل‏ ‏الثانى: تقديم وتعريف، واعتبارات أساسية (4)

انتهت نشرة الأسبوع الماضى كالتالى:

المعلم: فى اعتقادى أنك لو أخذت هذا العلم بحجمه المتواضع لسهل عليك أمورا كثيرة فى حياتك الشخصية ابتداء من موقفك من الحياة حتى طريقة استذكارك، ولأعدك إعدادا طيبا لمزيد من فهم نفسك، ومن فهم مرضاك، ومن عونهم فيما بعد، ودور علم النفس الإيجابى لكل التخصصات هو دور محورى.

الطالب: لكل التخصصات؟ كلها؟ كلها؟

المعلم: كلها، كلها.

الطالب: لا أكاد أصدق

المعلم: اصبر علىّ وسوف أعدد لك بعض ذلك

ونكمل اليوم:

1- فلو أنك صرت طبيبا عاما General Practitioner : فأنت تمارس كل التخصصات بصفة مبدئية وتعتبر الأحوج إلى هذا العلم، ولابد أن أذكـّـرك ابتداء أن الممارس العام يمثل أعلى نسبة من خريجى الطب وخاصة فى سنوات التخرج الأولى – وهو الطبيب النفسى الحقيقى، فهو يقوم بدور طبيب العائلة، ومستشار القرية، والعارف بأمور الصحة والحياة والمستقبل، صاحب المكانة الاجتماعية ذى الرأى الأرجح، أقول: لو أنك أحسنت دور هذا الطبيب وفهمت نفسك ومكانك فى هذا المجتمع المرهق المحتاج: لأمكنك أن تقوم بدور رائع فى نموه وتطويره من خلال خطوات بسيطة ومتكاملة، وعلم النفس إذا أحسن تدريسه وتوظيفه سوف يساعدك فى فهم احتياجات الناس، ونفسك، وفى دفعهم إلى الإيجابيات دفعاً هادئاً متواضعاً بلا خطابة ولا سياسة مشكوك فى أمرها ولا ترهيب ولا ترغيب، ولسوف تحصل على متع من خدمتهم تتناسب مع حقيقة دورك وعمق احترامك لمسار إنسانيتك كتركيب طبيعى لماهية الإنسان… وهكذا تعود “حكيما” بحق كما كنت تسمى قديما.

ولتتذكر أنك لو اصبحت طبيبا باطنيا عاما Internist  لكان عليك القيام بنفس الدور على نطاق آخر، فى المدينة الصغيرة مثلا، بادئا بدور طبيب العائلة ومنتهيا بدور المستشار العارف المعتمد عليه (الحكيم).

2- ولو أنك صرت طبيبا للأطفال: لأمكن لعلم النفس أن يسهم بوجه خاص فى ذلك، لأن هذا الطبيب يمثل بحق دور “طبيب العائلة” فى الممارسة العصرية للطب عندنا خاصة، بعد ان اختفى هذا الدور الأساسى إلا فى بعض القرى والمدن الصغيرة، ودراسة العلاقات الأسرية، وفهم التناحر الزوجى، ووظيفة الطفل النفسية لدى أمه، ومعنى أعراض الطفل، وتفاعل الأم لذلك، ومعنى غيابها، كل هذا سوف يساعدك، ليس فى مهمة الإسهام فى شفاء الطفل فحسب، ولكن فى إرساء قواعد حياة الأسرة على أسس سليمة، ومن خلال فهم بسيط للحاجات والدوافع لكل فرد فى الأسرة مما يقدمه لك علم نفس الأسرة Family Psychology الذى هو نموذج مصغر من علم النفس الاجتماعى  Social Psychology.

3- أما لو أصبحت مثلا إخصائى فى “العيون” فإن الأمر يصبح أعمق وأهم، فرغم ضيق المساحة من الجسم التى تمثل اختصاص طبيب العيون إلا أن العين هى نافذة الحياة الداخلية للإنسان (2)، وهذا الطبيب يقوم – ربما دون أن يدرى – بدور كبير فى مساعدة مريضه على جلاء كل ما يرمز إليه البصر والبصيرة، وفهم هذا الطبيب الأعمق للنفس الإنسانية واحتياجاتها، ولنفسه ودوره وطبيعة إسهامه، لاشك سوف يسهل مهمته ويؤكد إيجابية دوره.

4- ولو أصبحت جراحا مثلا فلابد أن تذكر أن موقف الجراح كحرفى فنان أساساً هو من ألزم المواقف التى ينفعها تعميق دوره كعالم إنسانى يواجه البشر أثناء أزمات وضغوط شديدة الإرهاق ومتعددة النتائج، ذلك أن العملية الجراحية بما يسبقها من تخدير وما يلحقها من رعاية مكثفة تعتبر أزمة ضاغطة تكاد تماثل ما يسمى تجربة إعادة الولادة Rebirth، فإذا فهم الجراح مريضه من هذا البعد، وأدرك مدى حاجته الطفلية الاعتمادية عليه فى هذه الخبرة الحرجة، فإنه قد يقوم بدور هائل بجوار المريض، ليس كجراح حاذق فحسب، ولكن كإنسان فاهم مسهم فى النقلات التى يمكن أن ينتقلها الإنسان على سلم نموه أثناء هذه الأزمات الحياتيه الحرجة.

ودور جراح التجميل – الذى يتولى فى كثير من الأحيان مسئولية تغيير معالم الوجه مثلا، أو إرجاعها إلى أصلها، يستحيل أن ينجح فى عمله نجاحا حقيقيا دون اعتبار لما يعنيه ذلك لدى مريضه من تغيير فى شخصيته وذاته، فقد ينهار أو يتميع أو يفقد كيانه واعتزازه حتى ولو كان التغير يسيرا غير ظاهر، وذلك ما لم يتهيأ بالدرجة الكافية لهذه الخطوة.

وهكذا، لو عددنا الأمثلة لما استطعنا حصرها.

الطالب: لكن هناك من هؤلاء الأطباء الناجحين من يقوم بكل ما ذكرت من أدوار بكفاءة وذكاء دون أن يدرسوا علم النفس، معتمدين على تلقائيتهم وخبرتهم، فما الداعى لغير ذلك؟

المعلم: إن هذا السؤال يبدو لى مكررا لكنه سؤال ذكى نابع من واقع أن أى طبيب ناجح، بل أى تاجر ناجح، أو صاحب فندق ناجح لابد قد استمد نجاحه من معرفته بحاجة عميله “زبونه”، ثم إرضائها بطريق تلقائى يؤكده ويحافظ على ما يحصل عليه من نتائج، ولكنا لو اكتفينا بثقتنا فى هذا الاسلوب لكنا نسير فى اتجاه  يهوّن من معطيات العلم ويؤخرنا كمجموع، رغم نجاح بعض الأفراد.

الطالب: إذن فحاجة دارس الطب لدراسة هذا العلم تختلف حسب شخصيته

المعلم: من حيث: المبدأ “نعم”، ولكن دعنى أضيف:

أولا: إن الطبيب الناجح الذى فهم نفسه وفهم مريضه قد لا يحتاج إلا إلى أقل القليل من المعلومات النظرية فى فهم الإنسان، ولكنه قد يحتاج إلى أن يطمئن إلى أن ما يفعله بحدْس تلقائى هو هو ما يقول به العلم، فيستمر فى نجاحه وخدمته لمريضه واثقا فخورا.

ثانيا: إن من حرم هذه المزية من طلبة وممارسين قد تتفتح لهم أفاق جديدة للنجاح والعطاء من خلال فهمهم لأنفسهم ولمرضاهم من خلال معلومات متواضعة عن طبيعة هذه النفس من خلال دراسة علومها.

ثالثا: إن تدريسنا لهذه العلوم لا ينبغى أن يكون جافا أو بديلا عن الممارسات التلقائية الناجحة، ولكنه ينبغى أن يكون مقننا ومدعمِّا لطبيعة النجاح السائد، وفى نفس الوقت متعمقا فيه حتى لا يكون نوع النجاح هو نجاح التحايل والشهرة فحسب، بل نجاح التكامل ودفع المسيرة الإنسانية فى نفس الوقت.

ولابد أن من يرفض التوسع فى تدريس هذا العلم من أساتذتك يا بنى قد رأى ما رأيت، وقارن بين جفاف ما ندرسه وبين ما اهتدى إليه هو بحدسه وخبرته، وأراد أن يثق فى تلقائيته بدلا من هذا “التزيـّـد” – كما يتصور – ، ولابد أن نحترم رأيه هذا، فنعدّل أنفسنا من خلاله، ولكن ينبغى ألا نتمادى فى الأخذ بوجهة نظره وإلا لألغينا معطيات العلم فى كثير من المجالات ثقة فى نجاحه ونجاح أقران له ناسين حاجة الفاشلين من ناحية، وناسين ضرورة تقويم نوع نجاحه من جهة أخرى، إذ لابد أن يتميز نجاح الطبيب عن نجاح “الجرسون” والتاجر وصاحب الفندق، بلا تمييز فئة عن فئة، إلا أن لكلٍّ دوره، بل حتى فى الدول المتحضره فإن “الجرسون” وصاحب الفندق يعرفان فى هذه العلوم النفسية – سواء من الشائع المتداول فى الصحف السيارة، أو من الدراسة الاختيارية – أكثر مما يعرفه طالب الطب هنا بمراحل كثيرة فخذ ما شئت مما أقول، تجدد به موقفك، وتؤكد نجاحك بلا تردد.

الطالب: فإذا كان ما يفعله الشخص الناجح تلقائيا، هو ما ينصح به علم النفس، فهل يعنى ذلك أن علم النفس هو علم النجاح مثلا؟

المعلم: لقد حاول “المعلنون” و”رجال الأعمال” وأحيانا رجال الحرب فى بعض البلاد أن يستولوا على علم النفس تحت هذا الزعم فيسخرونه لخدمة أغراضهم، ولا شك أنهم نجحوا جزئيا، ومرحليا، ولكن النجاح الحقيقى ينبغى أن يقاس بالاستمرار، والأصالة والعمق، وليس فقط بالشيوع والإقبال والخطو السريع، وفى كلمات أخرى: إن دراسة علم النفس إذ تساعد الطالب فى نجاحه كطبيب إنما تهدف – أو ينبغى أن تهدف – إلى تعميق معنى هذا النجاح وضمان استمراره لما هو فى صالحه كحرفى، ولما هو فى صالح مريضه كمتألم، ولما هو فى صالحهما وصالحنا معا كبشر، وهنا تصبح هذه الدراسة لا غنى عنها، ثم قل لى يا أخى لماذا تــُـعـَـامـَـل العلوم النفسية بوجه خاص بمقياس “الأنفع والأبقى” ثم لا تعامل سائر العلوم التى تدرسها فى هذه الكلية بنفس المقياس؟ أليس جدير بك أن تسأل – بالقياس- ماذا يفيد أخصائى الرمد من دراسة طبقات العضلات الصغيرة فى قفا الإنسان فى علم التشريح؟ أليس جدير بك أن تسأل ماذا يفيد طبيب الأنف والأذن فى دراسة التركيب المعقد – تفصيلا – لكيفية إعادة امتصاص الأملاح نوعيا فى أنابيب الكلى فى الفسيولوجيا؟ (3)…… إلخ إلخ إلخ.

لنكن صرحاء، ولنتذكر أن المعرفة الشاملة هى أرضية شاملة ينتقل الإنسان منها إلى بؤرة الاهتمام رويدا رويدا، ثم ينتفع بما يتبقى منها بعيدا عن دائرة تركيزه بدرجات مختلفة، ولتكن عادلا وتعامل علمنا – رغم تقصيرنا فى كيفية توصيله إليك– بنفس المقياس دون تحيز.

وأنا معك فى تحفظاتك وخاصة وأن البعض قبلك ذهب إلى ما ذهبت إليه من أننا ندرس البديهيات بأسلوب يعقد الأمور ويجعلها أبعد ما تكون عن أصلها التلقائى حتى عرفوا علم النفس بأنه “العلم الذى يدرس لنا أشياء نعرفها بأسلوب ومصطلحات لا نعرفها”.

الطالب: فما هو تعريف علم النفس الصحيح إذا؟

……………….

ونستكمل الأسبوع القادم

[1] –  يحيى الرخاوى: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)،  والكتاب قديم مهم (الطبعة الأولى سنة 1982 ) ولم يتم تحديثه فى هذه الطبعة، موجود فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

[2] – فى ديوان لى بالعامية “أغوار النفس” كتبت نقدا للعلاج النفسى من خلال قراءة العيون رمزا فنيا وحقيقة كلينيكية معاً، ثم شرحت من خلال ذلك ما أسميته “فقه العلاقات البشرية” كتاب: فقه العلاقات البشرية (3) “قراءة فى عيون الناس“، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، 2018

[3] – يمكن الرجوع أيضا بهذا الصدد إلى كتابى حيرة طبيب نفسى حيث يوجد فصل بأكملة عن “فى التعليم الطبى” من (ص 91 إلى ص 112)، دار الغد للثقافة والنشر 1972، القاهرة.

 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *