الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأربعاء الحر : مقتطف من كتاب: (الناس والطريق) “الترحال الأول” الفصل الرابع: “الحافة والبحر”

الأربعاء الحر : مقتطف من كتاب: (الناس والطريق) “الترحال الأول” الفصل الرابع: “الحافة والبحر”

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 20-2-2019

السنة الثانية عشرة

العدد:  4190

الأربعاء الحر

مقتطف من كتاب: (الناس والطريق) “الترحال الأول” (1)

الفصل  الرابع: الحافة والبحر

…. بل إن بعدا آخر قد أطل على ينبهنى إلى أننى أعيش دائما على “حافةٍ” ما. لا أحب المراكز الوسطى ولا الزحام بلا حدود. دائما أتحرك لأجد نفسى على حرف كل شىء، وربما لهذا كنت أمتلئ غيظا حين أتصور أن الآىة ” الكريمة” ومن الناس من يعبد الله على حرف” يمكن أن تنطبق علىّ، أبدا، ليس كذلك، فحرف فى الآية الكريمة إنما يشير إلى التردد والمساومة. أما الحرف الذى أعيش عليه معظم الوقت، فهو حرف التأهـب للتغيير، ورفض الرؤية الواحدة، وأحسب أننى أخذت هذا الموقع؛ لأننى حريص طول الوقت أن أحافظ على موقعى على الحرف، لأننى أخشى أن أغوص وسط الزحام فلا أعود أتعرف على اتجاه المسير، كما أخشى أن أتحمس لغالبية الاتجاه فأنسى احتمالات صواب الاتجاهات الأخرى، (رنت مسألة الحافة فى وعيى حين شاهدت فيما بعد مسرحية المرحوم سعد الله ونوس: طقوس الإشارات والتحولات، حين تناول موضوع “الحافة” فى “تحولات الماسة”)، .

أكتشف تناقضا دالا بين إصرارى على  السير على الحافة من جهة وبين حماسى الشديد حتى النخاع للغوص فيما أنتمى إليه فى لحظة بذاتها، أو فترة بذاتها، أو مرحلة بذاتها،   أندفع إليه، وأقاتل فى سبيله  بكل ما أملك، لكننى رغم ذلك أظل جاهزا لللانضمام إلى أى جانب آخر بسهولة تـُـنبهنى إلى أن  استغراقى فى القاع لم يمنع من بقائى على حافةٍ ما.  لا أتذكر أننى على أى حافة أثناء القتال والإصرار، لكن  إذا ما تجمعت التغيرات حتى بلغت حد ترجيح النقلة مما أنتمى إليه، إلى ما أنتمى إليه، تركت كل ما أنا فيه غير هياب، لأغوص فيما استجد، وأحافظ على موقعى على الحافة دون تأرجح أوتردد أواهتزاز. من لا يعرفنى أعمق يصفنى بالتقلب المخيف، وما أسميه أنا بالأمانة مع اللحظة، ومع الحركة، وليس مع الخلق الثابت والعقيدة المكتملة أو الجامدة.

سرنا على حرف كل شىء، حتى وصلنا إلى حرف/ حافة البحر، ونحن بعد المغرب وقبل الليل، فنقرر مضطرين أن نبيت فى فندق، أى فندق،  هذه الليلة فقط. فنحن على سفر منذ أربع عشرة ساعة بالتمام، ولاوقت للبحث وحسابات التكاليف، ولا أمل فى العثور على مخيم مثل ذلك الذى تركناه وراءنا حول فينيسيا، ونبدأ فى السؤال عن الفنادق ذات النجوم الأقل، ولا نجد إلا حجرة واحدة فى فندق ثقيل الظل.

قبل أن ندخل فندقا آخر، يقابلنا على الباب زملاء طريق من المشاة الرُّحل، وحقيبة الظهر تنوء بما يحملون، فنقرأ أسعار الفندق على تقاسيم الوجه التى تنوء بخيبة أمل أثقل من حقيبة الظهر، وتعود الطريق تلتف بنا، فتطاوعه حافلتنا فرحة بالتجوال الحر بعد أن كادت أنفاسها تنقطع من استمرار السير المستقيم، ومن ألاعيب الأضواء فى الأنفاق، ثم تلافيف “الكرانيش”. وهاهى  ذى تتسكع فى تَمَطٍّ ودلال تحت دعوى البحث عن فندق.

نلمح فندقا يطل على ما يشبه الميناء للقوارب الشراعية. حيث تقبع مجموعة منها كأنها أسطول للصيد أو للسباق أو للحب الخاص، ولا نأمل فى حجرة، ولا يتصور الأولاد قدرة ميزانيتهم على مجرد الاقتراب من المبيت فى فندق، ولكننا نغامر فنرسل ابنى للسؤال، ويعود مترددا بين فرحته بالعثور على ثلاث حجرات، وبين خوفه من “هبش” الميزانية المحدودة، ويتهامس الأولاد والبنات دون تدخل منى، وأكاد ألمح استغناءهم عن عدد محسوب من الوجبات فى مقابل ليلة مريحة، وماء ساخن مع ما يلزم له هذا الماء الساخن،  فترجح كفة الفرح على كفة الحذر. ويذهب ابنى يغرينا بالتضحية، فالحجرة بمائتى فرنك فرنسى، ورغم أن الفندق ذا ثلاثة نجوم، إلا أنه يفوق فندق الرئيس (بريزيدانت Président) فى جنيف – ذلك الفندق الذى نزلنا ضيوفا فيه فى العام بعد التالى لعدة أيام (انظر بعد)..- ونوافق فيذهب ابنى عدوا قبل أن يلطش أحدهم الحجرة، أو قبل أن أرجع فى كلامى (وما أسهل ذلك لو شممتُ رائحة استسهال منهم). وقبل أن نعدل السيارة باحثين عن مَرْكن، نجد ابنى قد عاد ثانية حزينا، تتعثر خطواته فيما يشبه الأسف والأسى معا، وأتعجب لقسوّة هذه المشاعر المرتبطة بهذه الإحباطات المادية (ما دام مقدوراً عليها) وكأنى نسيت كيف كان ضياع نصف أفرنك (بالمصرى) يمثل عندى- طفلا- مأتما، ربما يفوق مأساوية موت عزيز، أو إعلان حرب.. يا سبحان الله.. وأشفق على ابنى وهو مطأطئ مهزوم فأسارع بسؤاله، فيقول إنه آسف، إذ يبدو أنه- لفرط التعب واللهفة – قد سمع الثلاثمائة على أنها مائتان (وهذا الخطأ محتمل بالنطق الفرنسى الذى يأكل أول الكلام، ويؤكد آخره). فألعن النقود، وكيف تخترق نخاعنا هكذا، حتى تختلط الحسرة بالدم حتى النخاع.

إذا كانت هذه هى مشاعر إبنى ونحن نتحرك فى منطقة فائض الفائض. نعم فنحن ورغم كل شئ نعيش فى رفاهية القادرين، فما بالك بالحرمان الذى يعانيه المحرومون حتى الجوع الحقيقى ، المتكرر والملحّ، أو حين يُحرمون من حق النوم تحت سقفٍ ما طول الحياة قهرا وليس أثناء الرحلات اختيارا،

 وتتضخم لدى معانى الحرمان الحقيقى، والقهر بالعجز، وهو يمارَسُ ليل نهار على كل من لا يقدر على مايريد، وعلى كل من يريد ما لا يكون. والألعن، ذلك القهر الداخلى الذى لا يسمح للأغلب أن “يريد” أصلا ما يمكن أن يراد.

 ردعت نفسى من جديد نفس الردع الذى أشرت إليه سابقا، فإما “ترحال” مثل الذى نحن فيه، مع عدم نسيانهم، وإما نجلس فى بيوتنا نحارب من أجلهم، لأنه لا معنى أن أشد الرحال  إلى آخر الدنيا، وكلما هممت بالاستمتاع، رحت أمضغ الهم وأجتره هكذا، حقيقة يستحيل أن “أنسى” بقية الناس مع هذه “الرؤية الأعمق”، لكن مسئولية الرؤىة ليست فى أن أستمر نعَّايا مدعيا بهذا البكاء أو التباكى العاجز فى وقت غير مناسب، وإنما علىّ أن أتذكر أن الأبواب مفتوحة لمن يريد أن يساهم فى مسيرة العدل الممكن.

وأنجح فى طرد هذه الأفكار الدائرية، واعدا نفسى بأداء الديْـن، وأعود إلى صحبتى المتلهفة فأقرر أن أتقدم “بدعم محدود”، يمثل فرق السعر بين ما سمعه ابنى أولا، وما تيقن منه أخيرا، حتى يمكن أن ننام فى هدوء نسبى، فنتمتع بفضل الله، بالدرجة التى قد تعيننا على حمل أمانته إلى سائر خلقه.

أكاد أصدق نفسى.

فعلا، كان الفندق فخيما، اسمه فريزيا، وكنا نتذكر اسمه بعجول الفريزيان المبرقشة. استقبلنا فيه بمنتهى الذوق والأدب، ورغم منظرنا الأشعث، واحد “بيه”، يصلح – والله العظيم- سفيرا لهولندا فى الدانمرك، لا أقل، وراح يحترمنا احتراما شديدا.

تذكرت حين كنا أطباء امتياز، وذهبنا إلى كازينو بأعلى المقطم (سنة 1975) وكان معنا أحد الزملاء الذى لم يدخل كازينو فى حياته، ولم يلبس رباط عنق أصلا، ولا يعرف حتى كيف يربطه، وكلما حضر لنا النادل (“الجارسون”) بسترته البيضاء و”البابيون”، والسروال الأسود، وقف زميلنا منتفضا يحييه، وكأنه يعتذر له أنه جلس قبله، أو أنه جلس أصلا، ونقول له: يا دكتور فلان، هذا “جرسون”، وهذه وظيفته، وهو يخدمنا ويحترمنا مقابل ما ندفع، ولكن رأسه وألف سيف أنه “لا يصح”، و “هذا لا يجوز”. ونقول له: ما هذا الذى لا يجوز؟. هذا أكل عيشه..إلخ، فيقتنع زميلنا بالكاد. ولكن ما إن يحضر “الجارسون” مرة أخرى، حتى يهم زميلنا هذا بالقيام فيمسكه جاره بالعافية… وهكذا. مازلت أذكر هذا الصديق، وقد رفض أن يختار تخصصا دقيقا – كطبيب مقيم – يسمح له بالتعيين فى الكلية فى هيئة التدريس. لأنه “لا يصح” أن يطمح إلى هذا، رغم أنه كان متفوقا علينا جميعا، وفضَّل التخصص العام فى الجراحة بلا فرصة للتعيين فى هيئة التدريس، وحين ناقشتُـه فى ذلك راح يبتسم ويقول لى: هل تعلم ماذا يعمل أبى؟. إنه بائع متجول فى الأسواق الريفية، يعرض الأقمشة على ظهر حمار، فأقول له: ولو…، هذا حقك، أنت أحسن منا بكل المقاييس، أنت ترتيبك السادس وأنا السبعة وثلاثون، فيغيظنى حين يُنهى الحديث باسما طيبا شاكراً حماستى شارحا لى كيف أن الجراحة العامة تصلح فى كل كفر وقرية، أما التخصص الدقيق (أعتقد أنه كان جراحة القلب) الذى أشيرعليه به، فهو لا يصلح إلا فى العاصمة للناس الآخرين، وهو بتخصصه فى الجراحة العامة يكاد يكون مثل والده وهو يلف على الأسواق بكل أنواع ما تريده نساء القرى المحيطة، لأنه لا يستطيع أن يفتح محلا متخصصا وينتظر من يأتيه ممن يريد بضاعته هذه دون غيرها، ولا أقتنع ، وأعاود محاولة إقناعه،  ولكنه ينفّذ ما فى يقينه، فيختار التخصص العام- مثل والده ، وأيضا مطيعا لرأى  والده. ويضحى بفرصة تعيينه فى الجامعة.

رحت أتذكر زميلى هذا الطيب كلما أقدم علينا هذا البيه فى فندق فريزيا، فأكاد أقوم له من على المقعد احتراما لأنه فعلا “لا يصح”، بعد أكثر من خمس وعشرين سنة، فهمت ماذا كان يعنى صديقى بـ “هذا” الذى “لا يصح”، !!! !!.

نستقر، ونترك الأولاد الساعة 30،9 مساء، وأنزل من فورى مع زوجتى أتعرف على هذه البلدة ذات الاسم على مسمى “البقعة الجميل على البحر”. فنجد الشوارع “هس هس”.والمحال مقفلة أبوابها، إلا من مقهى متواضع يلملم أشياءه. ولا تمضى بنا أرجلنا أكثر من ربع ساعة، لكنا نقنع به كنوع من “التوقيع فى “دفتر التشريفات”. فقد اعتدنا- زوجتى وأنا- حتى فى مصر، ألا تكون نهاية السفر، مهما طال وشق: هى إغماءة النوم، أو تأوهات الإرهاق. وهكذارحنا نوقع هذا التوقيع الحانى على سيقان المدينة من شوارع، وعلى شفاهها من مقاه، قبل أن يضمنا الفندق بكل ما يشعه من دفء الجنوب.

 

[1] – المقتطف من كتاب “الترحال الأول (الناس والطريق)”  (ص 166-170) (الطبعة الأولى 2000)  والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط،

 

النشرة السابقة 1النشرة التالية 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *