الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأربعاء الحر: مقتطف من كتاب: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الرابع: “ممَرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولة بلا هُويةْ” (1)

الأربعاء الحر: مقتطف من كتاب: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الرابع: “ممَرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولة بلا هُويةْ” (1)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 17-4-2019

السنة الثانية عشرة

العدد:  4246

الأربعاء الحر

مقتطف من كتاب:

الترحال الثانى: “الموت والحنين” (1)

الفصل الرابع: “ممَرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولة بلا هُويةْ” (1)

……………..

20/8/1986

نعود  إلى أوربا عبر مضيق البوسفور، وينتهى التهديد بالسفر إلى أنقرة، فتطمئن زوجتى إلى حين، وتسألنى عن ناتج”فرصة التفرغ” فى هذه الأيام الأربعة، وأنها كانت تتعمد إطالة التسوّق حتى أنجز بعض ما يعننى على الاستقرار نسبيا، تريد أن تطمئن على الآثار الجانبية لما مارستْه من ضغطٍ خفىّ حتى أكملنا الرحلة، وبالإضافة: فهى تعلم أننى أكون أقرب إليها وإلى نفسى حين أتم عملا أحبه، وأنى أقلبها غما فى أى رحلة إذا أنا لم أقرأ ولم أكتب أضعاف ما أفعل وأنا مقيم بالقاهرة، وأقول لها إننى شخبطتُ كثيرا، وترابطتْ عناوين وتقاسيم كثيرة، وعرفتُ مداخل كثيرة لما أريد، لكننى لم أكتب شيئا، ولم أستقر على شىء، لكنها تطمئن لعدم انقلاب سحنتى حين أصاب بالعُقــلة التى تطمسنى أحيانا.

21/8/1986

استبانت لى فعلا أثناء هذه الأيام الأربعة فى ضاحية اسطنبول الخطوط العامة لجدلية الجنون والإبداع، وتصورتُ (أو حدث) أننى أمسكت بالخيط، ففرحت، بل إنى وددت لو نمد إقامتنا ليوم واحد أو يومين لعلى أثبتُ ما وصلتُ إليه ببعض التفصيل خشية أن يفلت منى الخيط أو يتلخبط، وحين عادت زوجتى من جولتها النهارية، عرضتُ عليها أنا هذه المرة أن نقضى سهرة متواضعة مع عشاء خفيف فى ذلك الحى الذى حدثتْنى عنه وأحبته “تاكسيم”، لم تصدق، ولم تقترح أن نبقى لأتمكن من مواصلة الكتابة، إذ يبدو أن شكلى كان مختلفا.

فى تاكسيم، تركتنى زوجتى أقودها هذه المرة، فالأماكن التى تعرّفتْ عليها هى غير الأماكن التى يقودنى حدسى (المكانى) إليها: من شارع واسع إلى شارع ضيق إلى زقاق إلى مقهى أو مطعم صغير إلى حارة سد. هكذا الحال فى كل مدينة مهما اتسعت شوارعها الأكبر، وهكذا وجدنا نفسينا فى حى فـرعى، أو قل زقاق على مقهى أو حانة أو كليها، والناس تقصف وتصخب وتضحك ولعلها تفرح، لكنى افتقدت فرحة المطعم الألمانى فى سان فرانسيسكو، وفرحة الطليان الراقصة فى فينسيا، وفرحة الفرنسيين الهائصة فى دُولْ (فى جبال الجيرا) خيل إلىّ أن الناس هنا يضحكون بحِدّة وليس بانطلاق، وهم يتصايحون لا يغنون، وهم يسكرون لا يشربون، وهم يأكلون ولا يستطعمون.

 جلسنا محشورين فى المقهى،أوالمقصف، جاءت جلستنا بجوار رجل متوسط العمر، كان وجهه قد احمر من أثر المدام، بدا لى: وحيدا جدا لكنه ليس حزينا مثل فتى المسجد وسط المدينة، لكنّه مع التمادى فى الشراب كسرت وحدته ليبزغ من ورائها حزن ثرثار، نظر إلينا الرجل وحيانا بمنتهى الثقة دون تردد(أو هذا هو ماخيل إلينا) رددنا على سؤال تصورنا أنه عن جنسيتنا أو بلدنا، قلنا “إيجيبت”، فلم يفهم وانتبهنا الى اسم مصر بالتركية فصححنا أنفسنا بسرعة وقلنا: “مِـسِــرْ” كما ينطقونها، انتفض الرجل واقفا يهلل، وراح يحيينا وينحنى و هو يقول كلاما كثيرا، وبدا لى أنه نطق كلمة الأزهر. لكننى غير متأكد، المهم أنه عدل كرسيه ناحيتنا وصمم أن يعزمنا على شىء. فهمنا ذلك بوضوح وهو ينادى النادل ويشير إلينا، فاعتذرنا وشربنا ما كنا طلبناه، لكن صاحبنا واصل الشرح والتأكيد والتشويح والإعادة (فى الأغلب) دون أن ينتظر منا أى فرصة لـلتعبير عن أننا لم نفهم حرفا، لكن الأمور كانت قد تخطت الإنذار المبكر، والمتأخر. الأعجب أن زوجتى كانت تسمع له بانتباه، ويبدو أنها كانت تصدّقه (تصدق ماذا؟ لست أدرى) لأنها كانت تومئ برأسها بالموافقة بين الحين والحين، ليست مجاملة، بل خيل إلىّ أحيانا أنها تفهمه، ولا يعدم الأمر أن تلتفت إلىّ وتترجم لى بعض ما يقول، تكون قد سمعت كلمة (بالتركية طبعا) لها رنين كلمة عربية، أو تشترك مع كلمة عربية فى حرفين أو أكثر، فتتحول إلىّ وهات يا ترجمة، ماذا جرى بالضبط؟ أصبحتُ أنا وحدى الذى لا يفهم تركى، وكما عجزت أن أهدئ الرجل أو أوقفه عن طلاقته أو انطلاقاته، كذلك عجزت (إلى درجة أقل) أن أوقف زوجتى عن محاولة ترجمة ما يقوله الرجل.

خيل إلىّ أنها تقرأه كما كانت تقرأ الفنجان، فهى قد مارست هذه الهواية فترة من قبل، وكانت تصدُقُ معها فى أحيان ليست قليلة، وقد عدلتْ عن ذلك تدريجيا ثم نهائيا، وقد أخبرتنى بأنها حين كانت تقرأ الفنجان لم تكن تنظر فى الفنجان أصلا، ولم تكن تحل نقوشه، أو تترجم رموزه، بل كانت تترك حدسها بوعيها المتغير قليلا ينطلق، وكانت تتعجب ـ هكذا حَكَتْ ـ حين كان طالب أو طالبة القراءة تصدق ما تقول، لم تكن تستعمل ذكاءها أوتلفق الحكايات بشكل يصلح لكل الأغراض، ومع أنها هى التى كانت تقوم بكل هذا إلا أنها لم تعتقد أبدا فى مصداقية ما تفعل،

 تذكرتُ ذلك وهى تقرأ وجه الرجل وتترجم لى أصواته بكل هذه الثقة والوضوح، كانت كأنها تقرأ وجهه كما تقرأ الفنجان، هل يمكن؟

قضينا ليلة طيبة لم أكن انتظرها فى تركيا أصلا، فكل ما كنت أتصوره فى تركيا أنها بلد إسلامى، خلع إسلامه ليصبح مسْخا أوربيا، وأنها سوق أرخص من غيرها، أما أن نقابل فيها ناساً نتعرف عليهم، ويتعرون إلى هذه الدرجة، حتى نتقارب ونحن لا نفهم حرفا ممايقوله بعضنا لبعض، فنتعاطف بكل هذه الحرارة، فهذا هو الجديد، وهو جديد رائع يذكرنى بعلاقتى الأصلية بالناس والطريق.

هل تركيا هذه هى تركيا العثمانية التى كانت فوق أنفاسنا دهورا (كما سمعنا)؟

هل هى بلد أوربية كانت مسلمة؟ هل هى بلد مسلمة تأوْرَبَــتْ؟

 أين ناسها مما صارت هى إليه؟ وهل هى إلا ناسها؟

أين يقع هذا الرجل السكران الـمسلم الطيب من كل هذا؟

تذكرت كيف أن الفقراء بالذات حين يسكرون يكونون أكثر طيـبة وأبيض قلبا، وذلك قبل أن يرحلوا إلى المرحلة التى يستحقون فيها إقامة حد السكر (الذى لا يصح ـ فقهاً ـ أن يقام إلا إذا لم يعد السكران يميز الليل من النهار ولا الرجل من المرأة) ذكرنى هذا الرجل الطيب بسكارى حانات العتبة أمام محطة الأتوبيسات قرب مسرح الطليعة، أو حانات الأوبرا فى مقابل المسرح القومى وإلى درجة أقل حانات شارع التوفيقية حيث يجتمع كثير من العمال وبعض البوابين يشربون ويتحدثون دون سابق معرفة، أو بسابق معرفة، وتمر عليهم المرأة بائعة الفول السودانى بقشره، والترمس، ويزدادون طيبة أكثر فأكثر، ثم يزدادون صمتا، ثم يغط بعضهم فى النوم، فيكاد الآخر يغطّىه ويهدهده، ذلك كله وأنا أحاول أن أتعرف على خلفية مجموعة قصص “خمارة القط الأسود”، وجو البوظة فى الحرافيش، ونوع الحوار فى عوامة “ثرثرة فوق النيل”، فإذا بى أكتشف نبض وجدان العرايا المصريين الفقراء الهاربين، خيل إلى من بعض مشاهداتى تلك أن الشرب ـ بدرجة ما ـ يوحد بين البشر الفقراء بالذات قبل أن يغيبوا عن الوعى، وحين تقوم المعارك بينهم مع السكر البيّن، سرعان ما تهدأ أسرع من العاديين. من يدرى ؟ يغفر الله لهم ويهديهم، هو أدرى بهم.

هذه الحانات الصغيرة هى أمعاء المدن الكبيرة، ما الحكاية؟

من هو التركى؟

ليس جلفدان هانم، ولا راكبى السايرة الذين قابلناهم فى طريقنا إلى بلجراد (قلت إنهم كانوا أكرادا فى الأغلب)، ولا هو هذا الرجل الذى كسرت الخمر وحدته وأطلقت ثرثرة حزنه فى حانة حى ماكسيم، من هو التركى؟

هو كل هؤلاء، وهو غير هؤلاء.

أثناء تجوالى وحدى من يومين، وقدتركت زوجتى مشغولة بمشاهدة ما تحب فى الواجهات، لمحت صورة كمال أتاتورك فى أحد المحلات الصغيرة، لا أذكر ماذا كان يبيع أو فيم يختص، ولا أعرف لماذا تصورت أنه محل كى طرابيش،مع أنى أعرف تماماً أن الطربوش كان من أوائل ما تخلص منه كمال أتاتورك، دخلت المحل وأنا أتصور أننى سأجد وسيلة لـلتفاهم مع صاحبه الكهل بشكل ما، وصدق حدسى فقد كان يتكلم بعض العربية، وبعض الانجليزية بدرجة كافية، سألته مباشرة عن صورة كمال أتاتورك التى ما زال يزين بها محله: هل هى مفروضة عليه مثل صور الرؤساء عندنا، ولو من باب “الحيطة القومىة”، فهم بسرعة، وتغير وجهه محتجا، وأعلن لى بوضوح أنه يحبه فعلا، وأنه يفخر به، ثم راح يؤكد لى أن الأتراك يحبونه، وأنه فعلاً مؤسس تركيا الحديثة، وأتذكر أننى سمعت من أبى كم كان المصريون فرحين بأتاتورك فى أوائل العشرينات، وكان لى ابن عم اسمه كمال، وزوج اختى (ابن عم والدى) اسمه عصمت، والاثنان من مواليد 1922، وقد سميا على اسم كمال اتاتورك وعصمت لست أدرى ماذا، وقد تمادى حديثى مع هذا الكهل الطيب حتى طرقنا باب وضع الإسلام فى تركيا (فى ظل ما قال)، فتعجّب من السؤال وحوّله إلى شرح إسلامه هو، وكاد يقول لى بذلك أنه: ماله هو والإسلام فى تركيا إنه يكتفى أن يمارس إسلامه هو، وهو يصلى بانتظام ، وهو مثل شاب الفندق، فخور بإسلامه بشكل أو بآخر.

رجعت وأنا فى حال، لا بد أن أدرّب نفسى على مزيد من رحابة تحمّل الاختلاف والتأجيل.

كل هؤلاء الناس، والمحطات التليفزيونية التركية الخالعة برقع الحياء، وأرقام التليفونات لتسويق الأجساد، والجميلات، والمآذن، وهذا العجوزالرائع، ورجل الحانة الذى أطلق السكر لسانه فراح يتدفق حزنا وحبا،  وهذا العجوز المتمسك بإسلامه المحب لزعيمه، الفخور ببلده، والشاب قارئ القرآن فى مسجد وسط البلد فى اسطانبول، ياه!!! ما ذا يعنى هذا كله؟ كل هؤلاء معا هم تركيا، أو على الأقل هم النماذج التى وصلتنى من اسطنبول لأقترب أكثر من ناس تركيا على الطريق إليها ومنها وفيها. لم أستطع أن أسجل كل هذا نثرا، فهاج بى الشعر وكتبت قصيدة بعنوان: “إسطنبول” (2)  أولها:

-1-

وموجُ ‏بحر‏ ‏الناس‏ ‏يلطم‏ ‏الخـَـدَرْ‏ ‏

‏تقولُها‏، ‏وهـِـزَّة‏ ‏مسافرهْ،‏

تعيدُها‏، ‏مؤذّنٌ‏، ‏وفاجرهْ،‏

تقولُها‏، ‏تكبيرةٌ‏، ‏وقبّره‏، ‏

                            تعيدُها‏، ‏

وقد أكملها الأسبوع القادم إذا استطعتم

[1] –  المقتطف من الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل العاشر: ” ممَرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولة بلا هُويةْ ” (ص 194 إلى 201)  (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

[2] – كتبتها بعد زيارة عاجلة بسيارتى  لتركيا، وبالذات لإسطنبول بتاريح 22/3/2000 والقصيدة  من الديوان الثانى  “شظايا المرايا ” وهو ضمن ثلاثة دواوين (1981 – 2008)  مجتمعة وهم: الديوان الأول: “ضفائر الظلام واللهب”، الديوان الثانى: “شظايا المرايا”، الديوان الثالث: “دورات وشطحات ومقامات”

admin-ajax (4)admin-ajax (5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *