يحيى الرخاوى طبيب نفسى
حــوار
(معنى و .. مشروعية الحوار)
م. جاد الرب X يحيى الرخاوى
جاد الرب: لم يبق أمامنا إلا أن نعرض للسؤال الصعب الذى يتعلق بامكانية الحوار – أو بالأحرى – يتعلق بالشروط التى تجعل الحوار مشروعا، والحق أن فلسفة الشخصية الانسانية بالنظر إلى عقيدتها الرئيسية وباسم الدافع الأساسى الذى يحركها لا ترفض الحوار بل انها تدعو إليه دائما، لأن فلسفة الشخصية الانسانية مهما كان تكذيب الواقع العملى لها، فانها تعتقد أن كلامنا يشتمل فى داخله على الامكانيات التى تجعل منه شخصية إنسانية، وأنه من الممكن أن يكشف يوما ما عن كونه انسانا … ولهذا ينبغى أن يسلك سبيل الحوار لا سبيل الدفاع الخطابى ..
وكل حوار أصيل يتسم بالوضوح والمشاركة معا ..والحق أن هاتين الصفتين يمكن أن يكون فى ظهور احداهما اختفاء الأخرى من حيث أن الوضوح يمكن أن يقتل المشاركة .. كما ان المشاركة يمكن أن تقتل الوضوح لكن كلا منهما لهما وجوده فى الحوار الحقيقى، وهما العنصران اللذان يجعلان منه حوارا مفيدا وشاقا فى الآن نفسه.
الرخاوى: بصراحة أنا معك ومعه، وان كنت لم أفهم جيد كيف أن الوضوح يمكن أن يقتل المشاركة، لعله يقصد بالوضوح الحسم، أو ما يشبه اليقين المسبق، فى حين يقصد بالمشاركة المرونة، واحتمال “ما ليس كذلك” مما قد يظهر فى رأى الآخر، لعل ..، ولكنى آسف لمقاطعتك فهات بقية الكلام الصعب (رغم كثرة سماعه من كل الأطراف).
جاد الرب[1]: فالحوار لا يعنى اذن اظهار تهافت فكر الآخر، ولا يعنى كذلك مجرد احتوائه فى فكرى الخاص، بل يعنى أن أجعل من نفسى موضع التساؤل لكى أتقدم فى لقائى مع الآخر ولا وجود للحوار بغير هذا التعاطف المنهجى الذى يجعلك تشعر بفكر الآخر من الداخل ويهزك بالمعنى القوى لهذه الكلمة، ويضطرك إلى أن تقوم باعادة النظرة فى ذاتك إعادة حقيقية.
الرخاوى: يا صلاة النبى، كلنا نقول ذلك، ونكرره بما فينا أنت وأنا، ولكنى لاحظت ولعلى مخطئ أنه كلما علت نبرة مثل هذا الكلام كان صاحبه أبعد ما يكون عن احتمال التغيير، وأحسب أنى أدركت بعد دروس فظيعة أنه كلما ترددت كلمات تشير إلى الحرية واحترام رأى الآخر … كنا أبعد فأبعد عن كل من الحرية واحترام رأى الآخر، ولا أبرىء نفسى ولا أنت، فمسألة الحوار حتى التغير الداخلى الأصدق هى معاناة تشمل كل شرف الوجود الإنسانى وكل مخاطر الكفر والجنون فى آن، أما الاتهام بالكفر فسيحيطك به كل من تسلم صك احتكار رحمة ربنا، وسجل ملكيته لجنانه بمسح مخه بممحاة الخوف ثم بالتجمع فى دفئ التعصب والتكرار والأغلبية، وأما الجنون فهو الثمن الذى ستدفعه صاغرا وأنت (وأنا) تتغير لو ابتليت بشرف المحاور الأمين، ثم تعود فتتغير لتتغير … وهكذا، فلا يعرفك الناس “ثابتا على مبدأ” ولا تعود تعرف نفسك صخرة ملساء فى بناء لست مالكه، قال حوار قال!! ألسنا معذورين إذا اكتفينا بالحديث عن الحوار عن المخاطرة بهذا الذى أسمته “إعادة النظر فى نفسك …” الطيب أحسن، كيف ما أصبحت، إلا عذرا وشكرا.
م. جاد الرب: ….. “.. لكن الاسراف فى لطف المعاملة ليس بأفضل من كشف النوايا، فالكاثوليكى والشيوعى عليهما واجب أولى هو أن يكون كل منهما ذكيا دائما”.
الرخاوى: والذكاء فى كل شئ بحسبه، أليس من الذكاء أن أظل كما أنا، وتظل: كما أنت؟ أليس من الذكاء أن ننتمى للأشهر فالأسهل؟ أليس من الذكاء أن ندعى الحوار دون الحوار، ونرفع راية التطور حتى لا نتطور؟ أليس من الذكاء أن نعتقد (وليس فقط أن نعلن) أن الأصح والأصلح هو رأى صاحب مصدر الرزق وواهب الأمن والأمان، إن الوجود يا جاد كاد يصبح لعبة لفظية سمجة فلا أحد يريد أن يبذل جهدا إلا فى “التحصيل” طول الوقت “تحصيل” “تحصيل” تحصيل المعلومات، ثم تحصيل القروش، ثم تحصيل الألقاب، ثم تحصيل المعارف (دون تفكير) حتى لنغامر فنعلن أن الانسان حيوان “محصل” لا حيوان ناطق ولا حيوان مفكر، ذلك أن أى شئ غير التحصيل يحتاج إلى مغامرة وجودية لا أحد يقدم عليها مختارا.
م. جاد الرب: …. الجهد الذى يبذله الانسان لتفهم الآخر بفضل أى عمل آخر … ولكى أفهم الآخر لابد أن أخرج من ذاتى وأضع نفسى مكان الآخر وأجعل تفكيرى يكف مؤقتا عن الفاعلية ليحل محله تفكير الشخص الآخر.
الرخاوى: الله يسامحك يا شيخ، أخرج من ذاتى؟ لماذا؟ هبل أم ضعف عقل؟ أجعل تفكيرى يكف مؤقتا عن الفاعلية؟ جرب بالله عليك هذا الذى اقتطفته ولسوف ترى – يحفظك الله – ما يطمئنك على طريق السلامة، ان كل حزب بما لديهم فرحون، فكيف بالله عليك أرى، وأنا الشيوعى فى الرأسمالية وجهة نظر تسرق الرأسمالى نفسه لصالح دورة المال فى أيدى الناس العاملين والمنتجين رغما عن صاحب المال (أو متوهم ملكه) وكيف أنا الرأسمالى أتصور أن الشيوعى يرحمنى من نفسى بعدله الصعب قبل أن يرحم الناس من ظلمى؟ وكيف – حتى إذا نجحت فى تمثل وجهة نظر الآخر – أظل محتفظا بكيان ذاتى له معالم متميزة؟ وكيف لا يأكلنى هذا وذاك فرحين بخيبتى البليغة، متهمين إياى باللاموقف، وعلى أحسن الفروض بالطيبة البلهاء
جاد الرب: …. الحوار لا يعنى إذن أن أجعل من نفسى هدفا لهجمات الآخر، لأن هذا سيكون لا قيمة له … بل أن أهيئ نفسى وفكرى الخاص لهزة قد تنتهى بالضياع.
الرخاوى: ها أنت ذا قد قلتها (أو اقتطفتها) … قد تنتهى بالضياع”
جاد الرب: … ومن لم يمر بهذه التجربة تملأ نفسه خوفا وانكسارا من لم تهزه رعدة لاضطراره إلى أن يعيد النظر إعادة كاملة فى كل شئ من لم يشعر بأن تفكيره يتغير على نحو ما تحت وطأة تفكير الآخر، من لم يقدر أن يتقبل بمحض اختياره ويعيش إمكانية هذا النوع من التضحية بالنفس، فانه لا يمثل عضوا جديرا بعضويته فى ذلك الحوار الذى يجرى بين البشر إلخ إلخ إلخ إلخ إلخ إلخ إلى أن يقول جان لاكروا: لكن المشاركه لا تمنع الوضوح وذلك لأن الحوار مواجهة.
الرخاوى: يا شيخ ذكرتنى أنه “لاكروا” لا فض فوه، ومنه إلى باب السماء، وتصبح على خير، آسف والله العظيم لمنظرى هذا، لكنى راجع يا جاد من بعيد، ومعى أفكار كثيرة وهموم كثيرة ورؤى كثيرة ويأس غير قليل، فاعذرنى حتى ألملم نفسى بهدوء، ولا تتصور انى سأتوقف عجزاء وألما – إلا مضطرا من خارجى – لكن إيقاع خطى واقعنا – على الجانبين – أصبح ثقيلا ثقيلا – وكأن السائر المتراخى فى كل موقع يسير فوق قفصى الصدرى، وكل ما يحمله من أوزار وأصنام واقترح عليك أن تخفف من وطأه هذا الكلام الصعب باطلاق سراح الحلم، علنى أنسى قليلا
جاد الرب: أننى أحلم بالهوميروس
الرخاوى: تانى
جاد الرب: الذى ينضم إليه الأدباء والمفكرون عن طريق تحرير بطاقاتهم الأدبية على حجر بنبن BENBEN بل أننى أطالب بتطوير إسم الانسان والتطور إلى بنبن BENBEN ومحاولة إصدارها شهريا
الرخاوى: هكذا نعود إلى عهدنا الأول، ودعك من حكايات “رعدة الاضطرار لإعادة النظر” و “أخرج من ذاتى وأضع نفسى مكان الآخر) لماذا هل فرغنا من المهم أكمل يا رجل ولا يهمك.
جاد الرب: والاعلان عن أمسية أدبية شهرية تحت عنوان ال: … هوميرس: بطاقات على حجر بنبن BENBEN إذ يقرأ الراغبون فى الانضمام الهيوميروس بطاقاتهم فى تلك الأمسية فأنا أذكر كم كانت قراءة الأدب قصة أو قصيدة خلال ندوات رابطة الأدب الحديث فى عام 1958 وما بعدها، كم كانت ندوات ممتعة أكسبتنا الروح الأدبى والأصدقاء والأدباء، ويمكن للراغبين من خارج أرض مصر أن يبعثوا ببطاقاتهم الأدبية إلى أصدقائهم كى يقرؤوها نيابة عنهم، وآرى وجود اشتمال كل بطاقة على 28 فقرة لأن أحرف الهجاء 28 حرفا.
الرخاوى: ولا عزاء للساسة المحترفين، وأصحاب بطاقات التموين الحمراء، وجوازات السفر الدبلوماسية
والعفو عند المقدرة، ولأمر ما جدع قصير أنفه، وإلى اللقاء.
[1] – كانت رسالة م. جاد الرب قد اشارت قبل ذلك مباشرة غلى كتاب “نظرات حول الإنسان” تأليف روجيه جارودى ترجمة د. يحيى هويدى، والتقط رسالة موجهة من “جان لاكروا” إلى روجيه جارودى” حول فلسفة الشخصية الإنسانية، ويبدو أن أغلب ما ورد على لسانه من أول ما اقتطفنا من رسالته إلينا هو مقتطف من هذه الرسالة بين لاكروا وجارودى.