الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1984 / اكتوبر1984- فى غيبوبة التفاصيل

اكتوبر1984- فى غيبوبة التفاصيل

فى غيبوبة التفاصيل    

وفـاء

لا تدرى منذ متى بدأت تهتم بهذه التفاصيل الصغيرة التى باتت تستغرق كل وقتها، فقد غدت تستيقظ من نومها كل صباح وذهنها مشغول بهذه السلسلة من الواجبات والأعمال التى كان عليها أن تؤديها، ولقد أصبح انشغالها الدائم بهذه الاشياء والأعمال يلح عليها الحاحا يسلبها نومها ويقظتها، ولم يكن ينقذها من انشغالها ذلك الدائم سوى بعض الاشياء الخاصة جدا والحميمة التى نادرا ما كانت تجدها.

كان التروللى باص لا يزال يجاهد بطيئا وسط الشوارع المكتظة بالعربات حين فرغ شريط ذكرياتها عن اليوم كله، وملت من قراءة اعلانات الشوارع، حينئذ التقط ذهنها وكأنها على موعد مع ذلك الطفل الباكى الذى كان يمر صدفة عبر الشارع لتنسج قصة طويلة حول بكائه،  وعندما فرغت قصة الطفل الباكى نبهتها صفارة المحصل لتجد نفسها قد بعدت بمقدار محطة عن مكان نزولها فنزلت من السيارة مسرعة وهرولت عائدة.

وفى يوم من الأيام اثارها صوت العود لأول مرة، منذ مدة طويلة بعيدا عن ضجيج الآلات الموسيقية الكهربائية الحديثة فرددت على أنغامها لحنها المفضل “أنا طول عمرى أداديكم – حرام تنسونى بالمرة”.

وعندما فرغت من انشغالاتها البيتية جلست لتحتشى كوبا من الشاى، وعندما رفعت الكوب الى فمها وجدته فارغا، لقد نبهها دفؤه فقط أنها كانت قد فرغت لتوها منه دون أن تدرى.

استيقظت فى منتصف الليل على صوت ضحكات زوجها مع أصدقائه، ففركت عينيها لتتأكد أنها لا تحلم. وعندما أفاقت من نومها ودهشتها اكتشفت أنها قد نسيت الضحك منذ زمن بعيد، وكأنما أدركت الآن فقط أنه لم يعد يربطها بزوجها سوى التفاصيل اليومية الصغيرة، وقد بات ما يشغلها أن ترتب ما افسده بفوضاه، أن تغسل فرشاته التى ترك الصابون عالقا بها، أو أن تجمع جواربه التى يلقى بها فى كل مكان، ولقد أصبح حديثهما فى الفترة الأخيرة لا يخرج عن طلبات البيت والأولاد أو الأسعار والالتزامات، أما فى اللحظات النادرة التى كانت تجلس فيها خالية تجدها تقفز من مكانها ربما لتزيل قطعة من الخيط كانت قد علقت بطرف السجادة.

وعندما تجمع كل حرمان السنين مع رغبة الحياة، ورغم الملل والموت البطئ اتخذت قرارها ذلك بصدق النية وبالعزيمة التى لا تلين الا تجعل هذه التفاصيل  اليومية الصغيرة والانشغالات الدائمة تدمر حياتها.

وفى اليوم التالى أفاقت من انشغالاتها هذه المرة على صوت الضحكة الساخرة التى انبعثت من داخلها، والتى تعرفها جيدا لتكتشف أنها كانت تعيد تلميع الأثاث الذى فرغت لتوها منه رغم خلوه تماما من الأتربة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *