نشرة “الإنسان والتطور”
23-9-2009
السنة الثالثة
العدد: 754
استشارات مهنية (13)
حركية الموت والحياة : تشكيلات متداخلة
استجابة لما أرسله الزميل د. منير شكرالله، اضطرنا ذلك إلى العودة إلى فتح ملف “الاستشارات المهنية”، بأخذ يوم من أيام “دراسة فى علم السيكوباثولوجى: الكتاب الثانى: “شرح ديوان أغوار النفس”، وقد نفعل ذلك بين الحين والحين دون التخلى عن استكمال الكتاب.
ونحن ننشر مناقشة هذه الاستشارة بعد بعض التحرير اللازم دون المساس بأية معلومة أساسية.
د. منير شكرالله
………
لاحظت غياب باب الإستشارات المهنية لحساب أبواب أخرى جديدة خاصة العرض بالغ الأهمية والعمق لمتن ديوان أغوار النفس..، إسمح لى أن أعرض عليك هذه الحالة فى باب استشارات مهنية:
الحالة
هى حالة مريضة مزمنة [مرضا وإقامة !!] بقسم السيدات المجانى بمستشفى المعمورة وكانت سابقا تحت إشراف زملاء آخرين ثم أصبحت لفترة تحت إشراف د. أميمة رفعت. …….
يجب أن أعترف أن هناك بعض النقص فى بيانات هذه المريضة ،……التى يمكن الرمز لها بالحرف \”ف\” للمحافظة على سرية حالتها.
مصدر المعلومات الأساسى: المريضة، وشقيقتها
السيدة \”ف\” 63 سنة. مسلمة. من منطقة راقية نسبيا بالإسكندرية. تقرأ وتكتب. (تركت المدرسة فى الصف الرابع الابتدائى) مطلقة. لا تعمل. ….. الثالثة بين خمسة: 4 إناث وذكر واحد. الأخ الذكر هو الأكبر.،عملت فى سن مبكرة فى شركةللملابس الجاهزة وكانت تميل للعزلة وتشعر بأنها أحسن من غيرها وتميل للتسلط والترفع على الغير، تزوجت من أحد أقاربها فى سن متأخرة نسبيا، ولم يستمر زواجها أكثر من شهر واحد، الوالد متوفى من حوالى 20 سنة. و لا يوجد تاريخ مرضى لأمراض عقلية بالعائلة. وهى تعيش مع أختها بعد وفاة الوالدة منذ 16 سنة.
بعض معالم التاريخ المرضى
تتردد \”ف\” على المستشفى منذ أكثر من 20 سنة. آخر مرة خرجت من المستشفى قبل عامين من تاريخ الدخول الحالى، وهى تعانى من المرض منذ كان عمرها حوالى 35 سنة. بدأت أعراض المرض عقب طلاقها من زوجها الذى قام بالإستيلاء على ذهبها ومنقولات المنزل وترك المنزل (سبب أم نتيجة للطلاق ؟؟)
فى البداية: ميل إلى العزلة – عدم النوم – كثرة الحركة والكلام غير المترابط – كثرة الشتم والسب بالألفاظ الخارجة – فقد الإهتمام بنظافتها ومظهرها – إلقاء ملابسها فى الشارع – سماع أصوات غير موجودة فى الواقع- أوهام إن شقيقها إعتدى عليها جنسيا – عدم ترابط بين الأفكار-تتحسن على العلاج ولكن بعد الخروج ترفض الإنتظام فى تناول العلاج مما يؤدى إلى تدهور حالتها
حالتها عند الاستقبال: متهيجة و\”غير متعاونة\” – زيادة فى النشاط النفسحركى – مهملة المظهر العام – الكلام غير مفهوم وغير مترابط – المشاعر غير متناسبة مع الموقف
(تصفها الأخت): عمرها ما تهتم بنظافتها – عدوانية جدا – العدوانية دى لما تكون هايجة بس – شخصوها فصام – بتشك فى الأكل اللى بنعمله فى البيت وتقوم تعمل أكلها بنفسها – تهلل وتشتم – تمشى فى الشارع – تعمل حمام على نفسها فى الشارع – تكسر زجاج الأبواب – مهملة فى نفسها – لا يمكن تستحمى – رافضة العلاج
نماذج من كلام المريضة: (24-8-2008)
“مافيش حاجة … أنا كويسة … بانام كويس\” -” أنا قاعدة مع ناس مش أهلى … هى دى مشكلتى .. همه مش أهلى نفسى أموت .. أتدفن فى القبر .. هو فيه حد يعيش كده،
اللى جابتنى هنا واحدة عايشة معاها عاملة نفسها أختى ومعاها واحد إسمه \”….\” عامل نفسه أخوها .. مش بيعاملونى كويس بيخلونى أشتغل فى البيوت وبياخدوا الفلوس،…،باسمع اصوات أحيانا .. ماقدرش اقول أصوات إيه، أصل الحتة اللى انا فيها فيها ناس شعبيين مش حيقدروا يكلموا واحدة خدامة زيى … وباقعد اسمع الفاظ خارجة فى كل مكان
أنا عايشة الدنيا وخلاص زى أى حد عادى .. ياريت أرتاح
د. منير: ترتاحى إزاى .. تموتى ؟
\”ف\”: آه ياريت
د. منير:: تحبى إنتى اللى تنهى حياتك ؟
\”ف\”: لأ مش مستاهلة .. أموّت نفسى ليه .. هى تيجى من عند الله أحسن. أنا تعبانة .. التعب اللى عندى مش مخلينى أحس إنى طبيعية زى الناس
د. منير: إيه حكاية الناس اللى كنتى عايشة معاهم
\”ف\”: خلاص راحو لحالهم مش عاوزة اتكلم عليهم عشان ماتعبش، مش عاوزة الحياة … مش عاوزة أعيش
[لـ : د. أميمة ]31-1-2009
\”ف\”: إنتى عارفة كل حاجة من غير ما أقول .. فاكرة إنى حاسقط .. لأ دى أجهزة مهمة مش ممكن أسقط .. الكهربا كلها فى جسمى مسيطرة عليا يبقى بالمنطق إزاى يحطولى كهربا تانى !! إنتى مش عاوزة تساعدينى .. كله فى السياسة .. مانا مش خالص [؟؟]
أنا حاسة بنار فى كل جسمى.. موتونى .. أنا دلوقت مش عارفة انا عايشة ولا ميتة .. بصى فى عينيا كده ! قرايبى ظلمونى منهم لله .. عليا ناس .. فيه اصوات باسمعها .. ساعدينى أنا مش عارفة أتكلم .. طول النهار باتكلم مافيش حاجة بتوقفنى .. غصب عنى مش عارفة ليه
إضربونى بالرصاص وادبحونى انا عايزة اموت
كنت فى مدرسة ابتدائى فى الأرياف بالبس مريلة زرقا وجزمة سودا وكان عندى فستان العيد أحمر .. لأ ، مرجانى
[ د. أميمة: ياه .. ده انتى دقيقة قوى وعارفة الفرق بين اللون الأحمر والمرجانى! ]
\”ف\”: يعنى أنا بافهم ؟ يعنى شايفانى بافهم ؟!
رجعت اسكندرية بعد الابتدائى مع أهلى … ماما وبابا وخمس اخوات
اشتغلت عاملة فى شركة ملابس 18 سنة وفى شركة تانية 6 سنين وواحدة تانية سنة ونص .. لغاية ماتعبت وبدأت اسمع اصوات .. حرق فى كل حتة .. أحمد السبب [ مين أحمد ؟] مانتى عارفاه أحمد
[ للدكتور . منير ]2-7-2009
\”ف\”: قاعدة متبهدلة هنا بقالى 10 شهور … وقبل ماجى كنت متبهدلة برة .. عايزة ارتاح بقى. حرق حرق على طول .. انا مش عايزة الحرق .. عايزة رصاصة واحدة. أموت بقى أحسن. ماهو مافيش فايدة
مش متجوزة ولا حاجة انا مش بتاعة جواز ولا سكس ولا حاجة، الجوازة مانفعتش، قعدت معاه شهر بس، ده انا بنت، مقفولة من تحت.
ده انا ضعت خلاص، شايف وشى بقى ازاى ؟ كله براز [تتحسس وجهها] أهه .. حاسة ان كله براز
[د. منير ]14-7-2009 [ يسألها عن نومها]
\”ف\”: ده انا نمت حتة نومة !! نومة وحشة! كانوا مكتفينى بحبل قد كده، وخمسة نايمين فوقى .. قاعدين على جسمى بيكلموا بعض \”دى بتكلم مين ومابتكلمش مين .. دى بتعمل كذا ومابتعملش كذا \” عايزين يشدونى برضه ..
ده أنا كنت فى حى شعبى وبعدين رحت فى حى راقى .. عشان نبقى يعنى .. مانتَ عارف بقى[نظرة لوم وكأنى أتخابث عليها] إنت عارف كل حاجة من غير ما أقولها .. دى مش \”ف\” .. ده انا شفت حاجات ماشفتهاش قبل كدة .. بنايات وحاجات كدة ماعرفش معناها إيه [ س: معناها إيه بالنسبة لك ؟] ماعرفش بقى معناها إيه [ ثم تخفض صوتها وتحدثنى \”فى السر\” ] ماتشوفلى رصاصتين بدل البهدلة دى .. دا انا اتبهدلت قوى .. هو كده يعنى الفقير ماحدش بيقدره ؟ ( تعتبر أن محاولة علاجها هى نوع من البهدلة بسبب يأسها التام )
الدم مش ماشى .. دراعى مافيهوش عروق .. يمكن حيقطعولى قلبى ولا حاجة؟ وشى رايح خالص .. [ حاسة إزاى إنه رايح ؟] ..على كل الوشوش .. مافيش وش شوف عينيا واقفة ازاى؟ وانفعالات داخلية فى جسمى .. باحس بكهربا فى جسمى كله فى بطنى وكتافى، حاسة جسمى مولع كله .. ياريت تكون حريقة عشان أخلص بقى
د. منير 12.8.2009
\”ف\”: (رد على د.منير): مش مبسوطة .. لما تبقى \”ف\” تبقى تيجى تكلمك .. هى فين \”ف\” !!؟ بقالى اسبوع مش بانام .. تفكير بقى .. ماهى ماتت \”ف\” .. هى فين !!؟ عايزاها تموت .. ماتدفنوها بقى .. بقالها سنة بيبهدلوا فيها وبيفتحوا جسمها .. ماراحت خلاص .. ضايعة
د. منير
\”ف\”: (رد على د.منير): حاسة بألم فى جسمى كله. يعنى ربنا حيسهل عليا شوية ؟ عندى وجع فى دماغى زى ما تكون دماغى فاضية
حاسة بخوف مش عارفة من ايه .. مش من حاجة معينة
[د. منير ]29-8-2009
\”ف\”: (رد على د.منير): عايزين حل جذرى بقى. الموت هو أحسن حل مافيش حل تانى
أنا عايشة ميتة. ما احنا هنا كلنا أموات … أنا واحدة غلبانة مش عارفة أى حاجة بس إنت ماتركزش عليا أنا، حرام كده
أنا ميتة؟ عايشة؟ فين العيشة دى؟ باسمع تعقيد، التعقيد وحش، شوف شكلى بقى إزاى ؟ [تشير الى جسمها]
[د. منير ]1-9-2009
\”ف\”: (رد على د. منير): عايزة اروح تحت التراب بقى. مش عايزة اقعد هنا فى المستشفى على طول. [كنت قد إتفقت مع إحدى الممرضات أن تجعلها ترى وجهها فى المرآة] شفت وشى فى المراية .. شفت وشها .. شفت شكلى ضايع ومية نازلة من وشها [ تغير موضوع الحديث وتتجنب تماما الحديث عما رأته فى المرآة ليه اكون كده .. وليه بتيجى عليا كدة هم رصاصتين تلاتة وخلاص
إتجوزت من زمان وقعدت معاه شهر .. ماكانش ينفع .. وانا شكلى ماينفعش .. ده منظر ده ؟
وبعدين ماحصلش حاجة .. يعنى مابقيتش مدام ولا حاجة .. مش قادرة اتكلم بقى فى السكس وكدة ..
أروح تحت التراب احسن .. مش احسن ما نقعد نتكلم كدة كل يوم ؟
وكل شوية جيبوها وودوها، وكل شوية حد يشدنى ويقولوا دى بتقول كلام وبتعمل ماعرفش ايه
ملاحظات فى المستشفى:
مقاومة للتعليمات، تكلم نفسها وعن نفسها بضمير الغائب، تتكلم عن رغبتها فى دون ميل أو تفكير فى الانتحار، تقول:
\”ف\”: (رد على د. منير):
حاتوفى امتى بقى؟ دى حاجة بالأمر: يقولوا موتى أموت على طول.
أنا كلى بايظة: جسمى ووشى، وعندى أملاح .. إعمل لى تحاليل واكتب لى علاج [ ألفت نظرها أنها مادامت تطلب علاجا لجسمها فمعنى ذلك أنها حية]
[ د. منير ]15-9-2009
اللى بتشتكى دى بتحس .. ميتة بتحس
إنطباعات ومعلومات أخرى عن الحالة
– المريضة \”ف\” بصفة عامة هادئة و\”متعاونة \” ظاهريا ولكن هناك مقاومة دائمة – ظاهرية أيضا.
– للجلسات النفسية إذ أنها تعبر دائما بطريقة ساخرة وأحيانا عدوانية عن عدم جدوى ما نحاول أن نفعله معها، ومع ذلك فإنها لا تمانع أبدا فى الحضور لغرفة العلاج وإن كانت تبدى تأففها أحيانا من \”إزعاجها\” بهذه الطريقة. حاليا أراها وأجلس معها جلسة طويلة مرة على الأقل أسبوعيا وأحيانا مرتين فى الأسبوع.
ملاحظات عن سلوكها العام:
مظهرها العام فى المستشفى معقول. منطوية وجالسة على فراشها أغلب الوقت ولا تختلط بالمرضى الآخرين. ولكن يبدو أن لديها حاجة للتواصل إذ أنها ما إن ترانى ولو من بعيد حتى تبدأ فى الكلام والشكوى عن هلاوسها وأحاسيسها الجسمية المزعجة كأنها تواصل حوارا\” لم ينقطع.
– تتناول \”ف\” حاليا مزيجا من الأدوية المضادة للذهان والمضادة للإكتئاب – ولا يبدو أن أى منها ذو فائدة ملموسة حتى الآن – وكانت قد تلقت جلستين فقط لتنظيم إيقاع المخ فى بداية دخولها وكان إنطباع الطبيب المعالج أنها \”تحسنت نسبيا\” بهذه الجلسات.
– لاحظت كثيرا أثناء جلوسها وحديثها معى كمية من الغضب الهائل تجاه نفسها وتجاه أهلها وتجاهى لدرجة اعتبارها محاولة علاجها نوع من التعذيب. الغضب هو الشعور الغالب عليها.
– لاحظت أيضا أنها كثيرا – وفى أثناء حديثها معى – تحاول إشراك الأطباء الآخرين فى نفس الغرفة فى شكواها مما يقطع التواصل بينى وبينها
الأسئلة بخصوص الحالة:
1- كيف نفهم – من الناحية الإمراضية النفسية – هذه الأعراض الذهانية الجسمية والعدمية والإصرارعلى أنها \”ميتة\” أو أن شكلها مشوه .. إلخ ؟ ثم حديثها عن نفسها بضمير المتكلم وضمير الغائب فى نفس الجملة الواحدة ؟
2- هذا الجانب الإكتئابى فى الحالة: هل يمكن أن نعتبره مرحلة لاحقة – أى تحسن نسبى – حسب نظرية ميلانى كلاين؟ وإن كان الأمر كذلك فلماذا يبدو وكأن الحالة ثابتة وغير متطورة [ كدت أقول أيضا كأنها ميتة فعلا كما تشعر المريضة!!] أغلب الوقت؟
3- هل يمكن أن نعتبر هذا التناقض بين رغبتها المعلنة فى الموت وبين تحسرها الدائم على \”التشوه\” الجسمانى الذى تشعر به دليل على وجود ذوات مختلفة بداخلها – ولكل ذات \”برنامجها أو أجندتها\” الخاصة ؟
4- لاحظت فى الأسابيع الأخيرة – ولا أدرى إن كان هذا موجودا من قبل – تركيزها على بعض الأعراض الجسمية العادية [خلاف الأعراض الجسمية الذهانية الموجودة طول الوقت ] وطلبها أن تخضع لبعض الفحوصات والعلاج لهذه الأعراض. هل أجسر أن أعتبر هذا نوع من التحسن؟ بمعنى أن يكون هناك جزء منها بدأ يشعر بالحياة والحاجة للشفاء ؟
5- ما الهدف العلاجى الذى يجب أن أركز عليه فى الوقت الحالى؟
المناقشة:
- أولا: أشكرك على عرض الحالة بهذه التفاصيل المفيدة، وإن كان الأمر يختلف عما إذا كان العرض حيا، فى “مرور إكلينيكى” مثلا، وأقرب مثال لذلك هو ما سجلنا أمثلة منه فى باب حالات وأحوال، ذلك أن بابالاستشارات المهنية الذى لك فضل دعوتنا لفتحه من جديد، هو مخصص – تقريبا- للإجابة على أسئلة موجزة فى نقطة محدة، أو صعوبة علاجية بذاتها، وهو ما يحدث فى باب “التدريب عن بعد= الإشراف على العلاج النفسى” (الذى توقف أيضا، مؤقتا إن شاء الله)،
- المهم، دعنا نحاول الرد على بعض ما سألت فى حدود المتاح:
اعتراف:
بدأت بالرد على أسئلتك واحدا واحدا، فتشعبت المواضيع، وطالت، وافتقدت معلومات أكثر فأكثر عوّقتنى، ثم إننى وجدت لهجة الرد غير مناسبة، فعدلت.
فجمعت أسألتك إلى بعضها البعض، وحاولت أن أربط بينها، فنجحت نسبيا، ثم فضلت أن أتناول مسألة واحدة (تيمة محددة) نناقشها معا، وهى “تداخل الموت والحياة”، مع هوامش لاحقة موجزة لبقية تساؤلاتك.
تشيكيلات متداخلة بين الموت والحياة
هل الموت هو ببساطة ضد الحياة؟ عكس الحياة؟ أم أنه داخل نبض الحياة، وبالعكس؟
هل يمكن أن نتعلم من هذه المريضة معانٍ أخرى لمضامين كلمة الموت، وعلاقة ذلك بالحياة؟
وهل إعلان الرغبة فى الموت هو تعرية لحياة هى والموت سواء؟
(وغير ذلك مما سنرى!!)
كثيرا ما أقول لنفسى، وأحيانا لمرضاى: إن المطلوب من أى منا أن يقرر أن يحيا أو ينسحب، لا أكثر ولا أقل، فإذا استوضحنى مريضى، أو ساءلت نفسى: “يعنى ماذا؟”، لم أُجـِبْ.
سمحت لنفسى أن أجمع من موجز حالتك يا د. منير ما يتعلق بهذه الأسئلة أساسا، ثم تركت لغيرها هامشا ختاميا، وقد قمت بقراءة تقريرك (مناقشته، تفسييره) بقدر الجهد، فى حدود ذلك:
قراءة محدودة فى مقتطفات دالة
1- همه مش أهلى، نفسى أموت .. أتدفن فى القبر .. هو فيه حد يعيش كده، أنا عايشة الدنيا وخلاص زى أى حد عادى .. ياريت أرتاح
القراءة:
حين ينكر المريض أهله، (مش أهلى) حقيقة لا مجازا، وخاصة فى سن أصغر من ذلك بكثير (أغلب من أنكر أهله من مرضاى كان فى سن المراهقة أو بداية منتصف العمر)، فيعلن أن أباه ليس أباه، أو أن هذه المرأة (اختها) تدعى أنها أختها، (مثل هذه المريضة)، فهى تعلن حقيقة ماثلة أكثر وضوحا لها بحسب تعريف جسدها ووجدانها لهذه الصلة، وليس بحسب ما جاء فى شهادة الميلاد أو السجل المدنى، إن الأب لا يكون أبا لأن اسمه جاء تاليا لاسم ابنه فى الأوراق الرسمية، من حق الخلايا ألا تعترف بالأوراق الرسمية، هذه المريضة، برغم كبر سنها (63 سنة – مقارنة بمن حضروا لى بهذا العرَض) ما زالت تحتاج لأهل حقيقيين تعترف خلاياها بهم، فهى تعلن بهذه الشكوى اندمال الحبل السرى العلاقاتى (الحب والرعاية والاحترام وتبادل الاعتراف) مع أهلها، ومن ثـََمَّ، هى تعلن أنه لم يصل إليها، أو لم يعد يصلها ما كان ينبغى أن يصلها، أو ما كانت ترجو أو تتوقع أن يصلها، إذا اندمل أو انقطع هذا الحبل السرى العلاقاتى (وهو بيولوجى أيضا بلغتى الخاصة)، ولم يكن الشخص قد نضج واستقل بدرجة تجعله يستغنى عنه بالرضاعة أو الأكل (مما هو “معنى” و”وجدان” و”غائية” ) فإن إعلان إنكار الأهل (هنا: الأخت فالأخ) يكون مجرد “تحصيل حاصل”، لأن المريضة تعلن بذلك افتقادها للرِّى من الأهل كمصدر لما هو “حياة” تتشكل بعد الخروج من الرحم، ولا ينبغى أن نتصور ببساطة أن هذا تقصير من الأهل لا أكثر، لأن الانسدادا قد يكون فى استقبال المريضة، وليس فى عطاء المحيطين، أو فى كليهما، يترتب على ذلك إدراك أن مقومات الحياة لم تعد موجودة “ همه مش أهلى، نفسى أموت .. أتدفن فى القبر .. هو فيه حد يعيش كده،”؟
وبرغم ذلك فهى تردف بعد ذلك مباشرة أنها عايشة (عادى!): (أنا عايشة الدنيا وخلاص زى أى حد عادى) “ وكأنها بذلك تدمغ ضمنا الحياة العادية بأنها “لا حياة”، على الأقل بالنسبة لها، ومن ثم فالقبر أرحم لأنه إعلان لموت حقيقى يتراءى لها من بعيد أنه الراحة الممكنة ” نفسى أموت .. أتدفن فى القبر .. …. .. ياريت أرتاح
2- د. منير:
ترتاحى إزاى .. تموتى ؟
\”ف\”: آه ياريت
س: تحبى إنتى اللى تنهى حياتك ؟
\”ف\”: لأ مش مستاهلة .. أموت نفسى ليه .. هى تيجى من عند الله أحسن.
القراءة:
الرغبة فى الموت، غير اتخاذ قرار إنهاء الحياة (الانتحار) حين قالت: “لأ مش مستاهلة” لم يخطر ببالى أنها تعنى الحياة (أن الحياة لا تستأهل) بل وصلنى –غالبا- أنها تشير يذلك إلى عملية الانتحار، بمعنى أنها لا تريد أن تكبد نفسها مشقة التفكير فالتدبير فالتنفيذ لهذه العلمية التى ربما هى فى النهاية تحصيل حاصل، الانتحار إنهاء لحياة شخص حى، وهى – على ما يبدو – لم تعد تحيا بالمعنى الذى يستأهل هذه الكلمة (الحياة) كما حركها مرضها. ثم إن سياق موقفها النقدى من “هذه الحياه” يعلن أنه ما زال يربطها بها خيط ما، لعله أمل غامض أن يسرى الدم من جديد فى الحبل السرى المندمل”أموت نفسى ليه“،
ثم إنها بعد ذلك تترك هذا القرار لصاحب القرار “ربنا” ” هى تيجى من عند الله أحسن” (وأنا لا أرجح أن هذا الرفض للانتحار كان بدافع دينى كما يبدو من الألفاظ )
3- \”ف\”: مش عاوزة الحياة … مش عاوزة أعيش
القراءة:
لكى نربط بين هذه الفقرة مع قولها سابقا حالا ” أنا عايشة الدنيا وخلاص زى أى حد عادى .. ياريت أرتاح” يمكن أن نفترض أنها بمرضها هذا تعلن أنها “مش عيزة تعيش كده وخلاص” ، وليس مش عايزة تعيش من حيث المبدأ ، وكأنها تضع شروطا جديدة حتى تعتبر نفسها حية، بمعى أنها لكى تقبل، أو ترغب فى، أن تعيش، هى تريد أن تعيش “الحياة”، وليس أن “تعيش وخلاص”
4- …. موتونى .. أنا دلوقت مش عارفة انا عايشة ولا ميتة .. بصى فى عينيا كده
القراءة:
هنا نلاحظ تعبيرا أعمق لعله يهدئ من عجلتنا بالإسراع إلى الحكم عليها بالاكتئاب ورفض الحياة، هذا التساؤل “مش عارفة عايشة ولا ميتة“، هو دليل آخر على أنها تطلب إما أن تعيش “بحق وحقيق” كما تتصور، أوأن الحياة: “قلـّـتها أحسن”، وهى تشرك الطبيبة فى هذا التساؤل، الذى لو أخذته الطبيبة بجدية، وسألت نفسها لنفسها عن نفسها (نفس الطببية) فربما وقعت فى المحظور الذى وقعتُ فيه أنا شخصيا وأنا أقرر – كما ذكرت منذ قليل – أن : “المطلوب من أى منا أن يقرر أن يحيا أو ينسحب، لا أظن أن كثيرا من الأسوياء يسأل نفسه مثل ذلك، (وإلا لتحسنت أمورنا جميعا بشكل ما)
ثم إن مريضتنا تطلب من الطبيبة أن تنظر فى عينيها لترد على السؤال، وكأن قرار الحياة، أو نبض الحياة يمكن أن نقرأه مما تقوله العيون، أكثر من مجرد جس نبض دق القلب، أو التأكد من انتظام التنفس
(برجاء مراجعة لغة العيون إن شئئت- لاحقا فى شرح أغوار النفس، خاصة ما سيأتى فى قراءة القصيدة المسماة “دراكيولا“: حين يصل الأمر إلى قول صاحبة الصورة فى قصيدة “دراكيولا” عن العلاقة المغتربة التى كانت تسميها صاحبة القصيدة ” الحب”، تقول : “إوعى لموتك يحلى لى موتى”
أو
بكره حا تحتاج موتى يا موت، ونموت جمّعا!!! .
وما دامت مريضتنا هنا تتساءل إن كانت حية أم ميتة، ومع رفضها لاتخاذ قرار الانتحار “المسألة ما تستاهلشى” وفى نفس الوقت ترى فى الموت راحة، فتسلم أمرها لله وهى تتمناه (نصف نصف) ، فهى تعرض على الطبيب أو الطبيبة هنا أن يتولى المهمة (بالسلامة) : “موتونى“، وبرغم ظاهر السلبية فى الطلب، إلا أنه يحمل قدرا من تحميل المسئولية وكأنها تقول: إن عجزتم أن تفهموا سر احتجاجى بالمرض، وبالتالى أن تحيونى، كما ينبغى، فموتونى. وهذا يظهر جليا فى الفقرتين التاليتين.
5- إضربونى بالرصاص وادبحونى انا عايزة اموت
عايزة رصاصة واحدة. أموت بقى أحسن. ماهو مافيش فايدة
القراءة:
وصلنى إعلان أنه “مافيش فايدة” ليس باعتباره – فى هذه الحالة– إعلانا لليأس من الحياة، وإنما باعتباره تعرية للفشل الذى ذكرناه حالا “، أى: ما دمتم أعجز مـن أن تعطونى فرصة الحياة ، فهيا برصاصة واحدة إحسموا بها القضية”، صحيح أن الموقف يبدو بالغ السلبية من جانبها، لكنه فى نفس الوقت قد يحمل حدة الاحتجاج وتحميلنا المسئولية كما ذكرنا، الاحتجاج هنا لم يعد فقط على أهلها الذى انقطع بينها وبينهم الحبل السرى، بل انتقل إلى الأطباء الذين ربما تراهم على مسافة لا (أو لم) يمكنها، ولا (أو لم) يمكنهم، عبورها بشكل أو بآخر.
6- بقالى اسبوع مش بانام .. تفكير بقى ماهى ماتت \”ف\” .. هى فين !!؟ عايزاها تموت .. ماتدفنوها بقى .. بقالها سنة بيبهدلوا فيها وبيفتحوا جسمها .. ماراحت خلاص .. ضايعة، عايزين حل جذرى بقى. الموت هو أحسن حل، مافيش حل تانى
القراءة:
هكذا يتحقق الموت، ولكن لإحدى ذواتها دون “واحدية” وجودها،
فهى تنسلخ هنا عن “/ف/” وتتكلم عنها بضمير الغائب،
وبدلا من “موتونى”، هى تعلن – بضمير الغائب- “أنها ماتت فعلا، وهى تلحق بذلك إعلانها لرغبة تريد تحقيقها مباشرة، بل كأنها بمجرد أن تعلن الرغبة فى “موتها”، يتحقق الموت، ولا يبقى إلا الدفن“ما تفدفنوها بقى”،
فى قصيدة باكرة صورتُ مثل هذا المنظر شعرا (ديوان: البيت الزجاجى والثعبان) قصيدة “الجناز والجنين”، هكذا:
الميت ماتْ
لكن شهادة دفنهْ
لم تُختمْ بعد
يقضى العصر الملتاث
أن التوقيع يتم بخط الميت
…..
وبرغم الفحص وتأكيد المشرحة الثلاجة
– غرفة نوم العذراءِ المومسْ-
يملأ وجه الميت أحشاءَ الحارة
يعلن وسط الجمع الحاشد:
لن أتركـَهَا إلا حيَّا!!
أنا آسف يا منير يا إبنى، ولكن لعل هذا الاستشهاد يقلل من تسارعنا نحو إعلان أن ثم تناقضا فى موقف هذه المريضة، ذلك أنه حين يتجاور الموت مع الحياة ويتداخلان بصدق هكذا، سواء فى الشعر أو فى الجنون، فإن وصف هذا الموقف بالتناقض يصبح غير ذى موضوع.
يتأكد هذا أيضا فى الفقرة التالية التى لك فضل اقتطافها، يا د. منير:
7- أنا عايشة ميتة. ما احنا هنا كلنا أموات … أنا واحدة غلبانة مش عارفة أى حاجة بس إنت ماتركزش عليا أنا، حرام كده
القراءة:
حين يصل التناقض الظاهر إلى درجة الحيرة المطلقة هكذا حتى يعلَن مثل هذا العجز، تلوح أفضلية الانسحاب.
نتوقف هنا قليلا أمام لغة العيون التى لم تذكر صراحة، فنفترض أن المريضة تتجنب نظرات الطبيب بقولها “إنت ما تركزشى علىَّ“، ربما وصلتها دعوة ضمنية من خلال عينيه لإرساء علاقة ما لتخطو من خلالها إلى “أخر” ومعه على درب الحياة ، مع أنها فى نفس الوقت على يقين – على ما يبدو – من استحالة ذلك، وبالتالى : لماذا التقليب والتلويح “حرام كده“ ، ويستمر موقف التساؤل:
8- أنا ميتة ؟ عايشة ؟ فين العيشة دى؟
القراءة:
يرجع بنا إصرارها على موقف التساؤل هكذا إلى ترجيح احتمال الاحتجاج أكثر من غلبة اليأس ، كما وصلنى أيضا من هذا الموقف أمل خفى فى عيشة “حقيقية”، وليس مثل تلك التى ارتضاها أغلب الناس، وإلا…. ،
فهى تعلن بذلك وجهة نظرها، أن “ما هو تحت التراب أصدق وربما ابقى” .
9- عايزة اروح تحت التراب بقى
10- ليه اكون كده .. وليه بتيجى عليا كده هم رصاصتين تلاتة وخلاص
القراءة:
يتأكد قرارها أن تترك أمر إنهاء المسألة فى يد الذى عجز عن إحيائهأ، (الطبيب) أو على الأقل عن مساعدتها فى اتخاذ قرار الحياة، وهى تعلن هنا أنها لم تعد تطيق الانتظار، فهى تتعجل القرار، برغم أنها ليست هى التى سوف تنفذه ، فهى تطلب ، وتتعجل، ومستعدة للتنفيذ شريطة أن يصد ر منهم “يقولوا موتى أموت” كما يلى:
11- حاتوفى امتى بقى؟ دى حاجة بالأمر: يقولوا موتى أموت على طول. أنا كلى بايظة:
القراءة:
من هم الذين يقولون “موتى” تموت،
قالها أهلها حين اندمل الحبل السرى العلاقاتى فأنكرتهم، ليسوا أهلها، لم تمت، ولن تنتحر،
قالها زوجها فانسحبت وتفككت، وتراجعت، ولم تمت، ولن تنتحر،
فمن هم الذين سوف يتولون إصدار الحكم الحالى بعد الاستئنف والنقض؟
الأطباء؟
المجتمع المتمادى فى الاغتراب؟
زحمة الذوات الذين تفرقوا عن بعضهم البعض داخلها؟
كل هؤلاء؟
بعض هؤلاء؟
…………..
وبعد (1) يا عم منير:
- هل هناك مكان لقراءة تناقض ما فى موقف هذه المريضة؟
- هل يمكن اختزال كل هذه الحركية إلى ما يسمى اكتئاب، أو حتى يأس ؟
- هل ما لاحظته من حرصها على عدم التشوه إلا إعلانا عن تواجد الموت مع الحياة هكذا؟
لم أحاول أن أستدرج إلى تفاصيل “صورة الذات” المشوهة عند الفصامى (كما علمنا سيلفانو أريتى) مع أن محاولتك معها فى المرآة، وتعبيرها “شايف وشى بقى ازاى ؟ كله براز [تتحسس وجهها] أهه .. حاسة ان كله براز” يبدو إسقاطا مباشرا لهذه النفس الداخلية المهزومة والمشوهة، أكثر منه حرصها على عدم التشويه.
- ثم أرجوك أن تنتبه إلى أن الاكتئاب الذى بدا لك أنه ظهر عليها هو لا يُفهم إلا فى سياق ما عرضناه فى محاولة قراءة تجاور الموت مع الحياة وتداخلهما، وهو لم يصل إلىّ أبدا على أنه يعلن صعوبة محاولة تنشيط حركية العلاقة بالآخر كما تبادر لك، هذا رأيى فعلا لكن فى نوع واحد حيوى للاكتئاب، لم ألمحه إلا بعيدا جدا فى هذه الحالة، رجحت أن سؤالك فى هذا الصدد ربما جاء نتيجة كثرة ما تكلمنا عن هذاالنوع من الاكتئاب فى شرح “أغوار النفس” فى الحالتين الأخيرتين، وهو الموقف الذى أسميناه مؤقتا الموقف “العلاقاتى البشري”، تجنبا لاستعمال كلمة اكتئاب، ومن ثم تجنبا لمثل هذا الخلط، ما وصلنى بالنسبة لحركية العلاقة بالنسبة لهذه المريضة هى أن العلاقة بالآخر مغلقة تماما من كل الأبوب تقريبا، لم تتح الفرصة لى فى هذا الرد المحدود أن أقول لك ما وصلنى من موقفها بالنسبة لزخم الجنس المغلق بابه عندها من أصله ، مع قلة ما تناوله فى تقريرك لأسباب مفهومة، لكن حين نقرأ معا قولها : انا مش بتاعة جواز ولا سكس ولا حاجة، الجوازة مانفعتش، قعدت معاه شهر بس، ده انا بنت، مقفولة من تحت”، ينبغى ألا نفهمه على أنه مجرد إشارة مثلا إلى أنها ما زالت عذراء برغم زواجها شهرا، الأرجح أنه ينبهنا إلى أن قنوات التواصل معها (وإليها) من أول وصلة الحبل السرى العلاقاتى مع الأهل، إلى احتمال التواصل من خلال الجنس، كانت – وربما ما زالت- مغلقة تماما.
- أرجوك يا عم منير أن تتروى كثيرا فى تطبيق ما يبهرك من معلومات نظرية على حالة بذاتها تطبيقا مباشرا هكذا، ثم إنى لا أذكر أن ميلانى كلاين قالت شيئا عن إيجابية ظهور مثل هذاالاكتئاب أو غيره فى سياق علاج الذهانيين خاصة، فهى ليس لها خبرة فى هذا المجال بالذات، برغم عظم خبرتها فى علاج الأطفال، والأرجح – عندى- أنك ربما قد لاحظت مثل هذه الإشارات فى باب الإشراف على العلاج النفسى فى سلسلة هذه النشرات أكثر من أى باب آخر، صحيح أننا ذكرنا حتى أمللنا أن الموقف الاكتئابى هو مرحلة أكثر نضجا من موقف الكر والفر (البارانوى) ومن الموقف اللاعلاقاتى (الشيزيدى)، لكن المسألة ينبغى أن تؤخذ بحذر شديد عند محاولة تفسير حالة مفردة بذاتها من خلال مثل هذا التنظير وفى ظروف مثل تطور هذه الحالة، فى حدود ما ذكرتَ فى تقريرك.
وبعد (2) يا عم منير:
أرجو أن تضع فى اعتبارك عند قراءة كل حالة المعالم الأساسية لخصوصيتها، التى تحول دون التسرع فى التفسير أو التأويل أو التعميم، ودعنا نركز معا –فى حالتك- على كلٍّ مما يلى :
– الحالة عمرها 63 سنة، والنقلة النمائية التلقائية أصبحت بعيدة المنال وخاصة فيما يتعلق بنقلة إلى مرحلة عمل علاقة مع آخر تسمح بظهور نوع الاكتئاب الذى تتحدث عنه كعلامة تحسن.
– الحالة مزمنة، حوالى ثلاثين سنة، وحركية النمو إما همدت أو هى دائرة حول نفسها فى تناثر لا يساعد أبدا فى مجرد الأمل فى التوجه نحو واحدية الذات ONENESS الذى هو متطلب أساسى للنقلة إلى “الموقف الاكتئابى الذى تشير إليه“
– الحالة ليست على مسار أى علاج نفسى منتظم، بحيث نأمل أن يكون المعالج قد نجح أن يلمها – برغم كل الصعوبات- بشكل يسمح بهذه النقلة أصلا. هذا الموقف هو مأزق علاجى نام، لا يحدث إلا إذا استتبت العلاقة العلاجية بالمعالج كموضوع واقعى حقيقى ماثل، ثم إن الموقف الاكتئابى (الذى أسميناه أخيرا: الموقف العلاقاتى البشرى) ليس مرادفا لعرض الاكتئاب المرضى، وهو موقف نادر حتى فى مسيرة النمو العادى للأسف(راجع الحالتين السابقتين)
– الاكتئاب الذى قد يصاحب الفصام، عموما، وفى هذه الحالة بالذات، ليس واحدا أبدا، كما أنه يمكن أن يكون له أسباب كثيرة جدا أكثر مباشرة، وأبسط من أن نصورها على أنها نقلة إيجابية على مسار العلاج، فى هذه السن، فى هذه الظروف،
– ضع نفسك مكانها يا منير، فقد يصلك حقها البسيط فى أن تحزن بكل تفاعلى مباشر وهى تتيقن كل لحظة :
o أنها بلا أهل، (بالمعنى الذى أعلنته الأعراض)
o أنها ميتة،
o أنهم خدعوها،
o أنها لا تتقدم نحو الشفاء،
o أنها لا تخرج من المستشفى إلا لتعود إليه،
بديهى أن كل هذا، أو بعض هذا، جدير بأن يترتب عليه مسحة مفهومة من الاكتئاب لأى مريض يتمتع بقدر يسير من الانتباه وبعض البصيرة، وعلى ذلك ينبغى علينا توقيت ظهور الاكتئاب الذى تتحدث عنه، مع أحداث العلاج وآلياته ووسائله، بما ذلك جرعة العقاقير وتوقيتها، ونوعها (وبعضها يسبب الاكتئاب مباشرة)
وأخيرا لنفرض أن ظهور الاكتئاب فى هذه السن هو كما تصورت أنه علامة نمائية إيجابية، فإن مجرد ظهوره هو إشارة إلى وجوب تعهده، فى إطار العلاقة بالموضوع، الأمر الذى يبدو غير متاح فى هذه الحالة، سواء بالنسبة لسنها، أو لطبيعة المستشفى الذى تعالج فيه، أو للافتقاد إلى ظروف بقية وسائل االتأهيل وشروطه، بما فى ذلك تثبيت المعالج لمدة كافية، …إلخ . .
وبعد (3) يا عم منير:
دعنى بعد ذلك أختم ردى بإشارة موجزة إلى سؤالك الأخير عن الهدف العلاجى فى هذه الحالة، وبالرغم من تحديدك الهام هذا، وأنه خاص بهذه المرحلة “فى الوقت الحالى”، فإنه يفتح الباب لتحديد أهداف العلاج عامة لأى حالة فى حدود ظروف مجتمعنا وواقعنا، والفروق الفردية والثقافة الفرعي جميعا:
أما بالنسبة للوقت الحالى، فلا مفر من البدء بالتركيز على الامتثال للانتظام فى تعاطى العقاقير المضادة للذهان، بطريقة الذبذبة ما أمكن ذلك zigzag حسب تطور الحالة، وليس طول الوقت طول العمر ، ثم بالتركيز على إرساء علاقة تعليمية psycho-education بين المعالج ومن تيسر من الأهل – مهما أنكرتهم المريضة- لأنهم هم الذين سوف يتولون تنفيذ إكمال التأهيل بعد الخروج.
وبالنسبة لسنها، فالأمر يتطلب أن نتذكر قصور خدمات الدولة لمن هم فى هذه السن من الأسواء، ناهيك عن المرضى، كما نتذكر كيف أصبح المجتمع (بما فى ذلك الأهل) يتعامل مع الأسوياء فى هذه السن وبعدها، ثم دعنى أذكرك بدور الدين فى هذه المرحلة من العمر بالذات، و فى مجتمعنا خاصة
ثم إنه لا بد من مراجعة أسئلة أساسية فى وصف العلاج المناسب، مثلا : هل هذه الحالة فى هذه السن تصلح للعلاج النفسى النمائى، أو المكثف أصلا أم لا؟ ولا يخفى عليك أن أغلب الإجابات على مثل هذه الأسئلة، ومن البداية، وفى ظروفنا الراهنة حسب إمكانات الواقع، لا بد أن تقلل من شطح الآمال غير الواقعية، وأن تقلل من التعميم والتنظير لصالح الممكن المؤلم الرائع،
هذه الحالة بهذه الصورة التى عرضتها يا د.منير ، يوجد مثلها مئات الحالات، بل آلاف، وأكثر، وترتيب ظروف مناسبة تساعدنا فى تحديد الهدف الواقعى المتواضع لعلاجها هو أمر يحتاج إلى تعاون جاد من كل من يهمه الامر، ولا يقتصر هذا على الفريق العلاجى، فى المستشفى أو العيادة الخارجية، بل يشمل أساسا الأهل المسئولين عنها كما ذكرنا.
ولما كانت الإمراضية هنا قد بينت كيف أن كل الظروف هى شديدة الصعوبة ، فإن الأمر يحتاج من المعالج – فى مصر- أن يقوم بأكثر من دوره كطبيب، وذلك فيما يتعلق بتثقيف أفراد الأسرة نفسيا، وتنظيم الوقت، وضمان الامتثال على أخذ الدواء، وعدم إيقافه أبدا إلى بإذن الطبيب إلخ إلخ.
الهدف ، فى نهاية النهاية يا عم منير، هو أن تعيش هذه المريضة – مثل أى منا ولو كان سليما معافى – ما تبقى لها (لنا) من أيام أو شهور أو سنين، وهى متماسكة ، محترمة، كما خلقها الله ما أمكن ذلك.
ياليت !!
هل هذه إجابة بالله عليك ؟
وبعد (4) يا عم منير:
أرجو أن تعذرنى أننى لم أجب تفصيلا على كل هذه المسائل الأخيرة، ولا على بقية تساؤلاتك مثل سؤالك عن تعدد الذوات الذى هو حقيقة وإشكالة عندى وعندك بشكل آخر، (ألا تحلم يا رجل؟)،
ثم تقبل أخيرا شكرى الجزيل أن أتحت لنا بثقتك برأينا أن نكتشف مدى صعوبة “التدريب عن بعد” بهذه الصورة، فقد شعرت وأنا أرد عليك بحرج شديد حيث كنت أتساءل طول الوقت عن جدوى ما أجيب به دون مواجهة مباشرة وتدريب عن قرب، ومع ذلك دعنا نحاول طول الوقت.
وليترفق بنا من يرسل بعد ذلك فيحدد نقطة معينة، يمكن أن ندلى فيها برأى مفيد “عن بعد“.
ولكن بالله عليك:
كيف كان يمكن أن نتناول هذا الموضوع هكذا إلا بفضل عدم التزامك بهذه التوصية
وشكرا لتنهئتك برمضان، ثم بالعيد.