إعادة ترتيب الأوراق منذ نصف قرن (2) مقتطفات تصالحية
نشرة الإنسان والتطور
نشرة الأحد: 30-4-2017
السنة العاشرة
العدد: 3529
إعادة ترتيب الأوراق
منذ نصف قرن (2)
مقتطفات تصالحية
المقدمة:
اليوم أبدا ما وعدت به أمس، ولست واثقا من نجاح التجربة، قررت أن أقتطف من كتاباتى القديمة جدا ما أعتقد أنه ظل مهجورا بسبب عجزى عن تسويقه، وفى نفس الوعد أحمد الله على أنه طمأننى على موقفى.
وأبدأ المقتطفات من كتاب “عندما يتعرى الإنسان” (صور من عيادة نفسية) الذى كتبته سنة 1968، وصدر بعد سنة من ذلك.
مازالت المفاجأة مستمرة، ويضطرد تصالحى على هذا العمل، كما تحتد دهشتنى لسابق تحفظى على إعجاب مَنْ رحب به وأفاد منه، فأحمد الله أن خبرتى كانت على هذه الدرجة من اليقظة من البداية، وأعتذر عن كل ما وصفتُ به هذا العمل من ميله إلى المثالية، واستشهد على هذا الموقف الذى أتراجع عنه الآن بما جاء فى مقدمة الطبعة الثانية، وهذا نصه:
المقطم فى 20 مايو 2011
“… إن جرعة الحديث عن “الإنسان” و”الحب” وتلك القيم التى تبدو تجريدا أو مثالية، وبرغم أنها جرعة صادقة، إلا أنها وصلتنى أقل جدوى فى توصيل الرسالة وبيان مسيرة العلاج، وذلك قياسا على ما أمارسه الآن، وخاصة فى العلاج الجمعى، الذى تعلمت منه أكثر فأكثر كيف نركز على الواقع “هنا والآن”، وعلى “الفعل”، وعلى “إعادة تشكيل أنفسنا” بما نستطيع معا، على أرض قوية بما فيها ومن فيها.
كتبت هذا الكتاب سنة 1968 وكان عمرى 34 سنة، ومدة خبرتى عشر سنوات تقريبا، والآن عمرى 78 عاما، وخبرتى 53 عاما، هل يجوز أن أعدَل فيه؟
هأنذا أقدمه لأصحابه دون حماس، أمِلا أن يظل مفيدا لزملائى وزميلاتى الاصغر، وربما لأصدقائى المرضى أيضا، وقد غيرت العنوان الفرعى إلى “دروس للناس: فى الطب النفسى” للتأكيد على كل ذلك.
وقد كان الشكل الذى صدر به هذا الكتاب بمثابة إحياء التقليد الذى جاء فى كتاب “كليلة ودمنة”، فى صورة حوار بين الحكيم وسائله، حتى أن كلمة الكتاب كانت هى ما صدر به كاتبه الكتاب الأصل كليلة ودمنة، فتوسطت الصفحة الافتتاحية كالتالى:
“… من قرأ هذا الكتاب، ولم يفهم ما فيه،
ولم يعلم غرضه ظاهرا وباطنا، لم ينتفع بما بدا له
من خطه ونقشه، كما لو أن رجلا قدر له
جوز صحيح لم ينتفع به إلا أن يكسره”
برزويه (رأس أطباء فارس)
كليلة ودمنة
وبعد
هأنذا أبدأ بالاقتطاف المناسب الذى أود من خلاله أن أحيى التاريخ من ناحية، وأؤكد الموقف من ناحية أخرى ثم أضيف ما يعين لى أولا بأول، وفى نفس الوقت أجد وقتا يسمح لى بلملمة أعمالى قبل فوات الأوان.
يبدأ الاقتطاف من مقدمة الطبعة الأولى لهذا الكتاب الأول: التى كتبت سنة 1968.
المقتطف (1):
على لسان الحيوان تعلمنا الحكمة، وقال بيدبا الفليسوف لدبشليم الملك حكمة الأمس..، وحكمة اليوم أبعد منالا وأصعب تحقيقا.. فهى أشد اختلاطاً بالوهم من أى وقت مضى، وبذلك فهى أقل تحديدا ووضوحا.
………………
لاحظ التأكيد من البداية على الحذر من ادعاء الحكمة، وعلى التنبيه إلى تجنب الخلط بين الحكمة والوهم، فكيف اتهمت هذا العمل بالمثالية بعد ذلك؟.
المقتطف (2):
وقد حاولت أن أبحث عن حكمة اليوم فى حديثى مع أصدقائى المرضى ووجدتها فى كل مرة بلا استثناء، وحين كنت أعجز أن أراها، كنت أعلم أنى لم أفهم لدرجة كافية، أو أنه – صديقى المريض – لم يعانِ لدرجة كافية..
لاحظ حتم الاعتراف بمصدر المعرفة الأساسى، وهم المرضى وأنه كلما احتدت المحنة واتسعت دوائر الوعى زاد الأمر صعوبة، ولكن كثرت وعوده المعرفية فى نفس الوقت.
المقتطف (3):
سوف أحاول فى هذه اللقطات أن أعرض بعض زوايا من صور الإنسان حين يتعرى ليهيم على وجهه باحثاً عن حقيقة ذاته، وإنى إذ أعرض هذه الصور التى لا تصف إنسانا بذاته، أرجو أن يقبل القارىء ابتداء صداقه أصدقائى، فهم أعز عندى من أن أعرض صورهم إلا على أصدقاء، رغم أنه لا توجد لقطة واحدة يمكن التعرف على صاحبها الحقيقى احتراماً وعهداً.
لا تعليق فهذا هو هو موقفى لا يزال
………………
المقتطف (4):
قال أحد هؤلاء الأصدقاء، “الفتى” الذى اتضحت رؤيته واستقام على الطريق”:
أمَا وقد انتهى بنا المطاف، فهلاّ حدثتنى عن بعض ماعلمتَ من أمور النفس وأحوالها، لعلى أتعلم منك ما لن أجده عند غيرك وربما نفعت به غيرى.
لاحظ أن الفتى المحاور لم يعد مريضا يتردد، بل طالب معرفة يأمل فى الاسهام فى المشاركة فى حمل الشعلة.
المقتطف (5):
قال الحكيم:
- أما عن ما رأيتُه فهو كثير كثير، ليس أكثر منه إلا ما لم أره، أما ما علمتُهُ فهو أقل مما رأيت فليس كل ما رأيته علمته، كما أنه ليس كل ما علمته رأيته.. فكم يرى العالم – مهما علم – رؤيا لا يجد لها فى علمه تفسيرا، وكم يبحث عن حقيقة تصورها قانونا فلا يصادفها فيما يرى أبداً، وليس هذا نقصاً فى قدرته، ولا هو قصور فى علمه، ولكنها طبيعة العلم.. وتقلب صور الحقيقة، وما دام العلم ليس له نهاية – وخاصة فى هذه الأحوال – فالمجال يتسع لكل معرفة .
لاحظ موقفى من العلم وضرورة ربطه بالممارسة، وحتم احترام قصوره، ثم كيف صوَّر هذا النص الحقيقة، وأنها هى التى تُلزم كل ما هو علم بمواصلة الكشف والمراجعة بلا توقف ولا نهاية.
المقتطف (6):
تجارب الإنسان الفرد لا يعدلها تجارب الغير، وإنما جُعلت معرفة تجارب الغير خيرا لجواز النفع منها لا للاقتداء بها، فالانسان هو ذاته بكل معالمها الخاصة، ولا بد أن يعرف نفسه فى هذه الصورة الفريدة.. وأن يحقق وجوده كوحدة مستقلة فى تفاعل دائم مع الدنيا الصاخبة بالناس والأشياء.
لاحظ التحذير من التوقف عند التقليد، والإفراط فى الوعظ والتوجيه المباشر، ثم التوصية بضرورة السعى الفردى، والكدح المعرفى، “وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً”.
المقتطف (7):
وأما ما تسمعه منى ولا تجده عند غيرى، فأعلم – بُنَىّ – أنه ليس عندى جديد غريب، وأن الذى يستطيع أن يرى كما أرى، ويحس كما أحس فإنه قد يجد كل طبيعى غريب، وأيضا أن كل غريب طبيعى، ثم هو لابد سيجد مفتاح الحقيقة، ولعل العثور على مفتاح الحقيقة هو الطريق الأول أو الأوحد للمعرفة، لأن الحقيقة ذاتها غير ثابتة ولا هى محدودة ولا محدّدة.
………………
على أن الكلام كالسكين ذى الحدين: قد يأتى منه الضرر من حيث ترجو به النفع، وبما أنه ليس هناك وسيلة للتفاهم أفضل من الألفاظ فى مجالنا هذا، فلابد من الحذر ونحن نرسل الكلام، ولا بد من الحرص وأنت تسمع الخبر، ولتأخذ منه ما تحس أنه وافق مكاناً صالحاً فى فكرك ووجدانك، ولا تقحم على نفسك ما لا ترتاح إليه طبيعتك.
الاحظ الحدْس الباكر بتراجع دور الكلام فى التواصل البشرى، والانتباه إلى دور الوجدان متضمنا حركية الوعى البينشخصى الذى أتضح لى فيما بعد، وقد تناولته فى مناقشة بالتفصيل حين قدمت “العقل الوجدانى الاعتمالى” Emotionally Processing Minds (نشرات: 25-8-2014) و (19-10-2014)
المقتطف (8):
أما أن تنفع الناس بدورك، بما تسمع وتعى، فإنك إنما تفعل ذلك إذا أدركت ما راق لك فعشتـَه وتمثـَّلته؛ ثم حفظته ووعيته، ثم كان جزءا من كيانك ونفسك.. فإنه ينضح بالخير على غيرك، فإنما تنتشر الحكمة إذا كانت هى الحقيقة، وإنما تتأصل الحقيقة إذا اختلطت بالذات لتصبح إيمانا، ثم يكون الإيمان عملاً طبيعياً تلقائياً سلساً.
لاحظ التأكيد على ضرورة “معايشة” المعرفة وليس مجرد ترديدها، معايشتها حتى تختلط بالكيان كله لتصبح حقيقة تهدى للإيمان “عملا طبيعيا تلقائيا سلسا”
المقتطف(9):
وأخيرا.. فإنى أحدثك اليوم لأنه كما قلت قد انتهى بنا المطاف فى تجربتك، ولو أن المطاف لم ينته لما كان لهذا الحديث مكان ولا معنى ولا فائدة، فإنما يقع الضرر من تناول القواعد العامة وكأنها الدواء الناجع لمرض بذاته، فلو أنك مازلت “الفتى المريض” لما كان لهذا الكلام جدوى، بل لكان السكوت عنه أبلغ وأجدى، فالعهد القديم بيننا قد انقطع، ولنتفق على أن يدور الحديث بين “الفتى” و”الحكيم” لا بين “المريض” و”الطبيب”.
لاحظ أن هذا الحوار ما كان يمكن أن يكون بهذا العمق والافادة لو كان الفتى المحاور مازال فى بؤرة محنة المرض.
المقتطف (10):
قال الحكيم:
“..على أنى يا بنى لا أطمع فى الكثير، فلعلى بهذا الحديث قد ألقيتُ فى بحر الركود والظلام حجرا حاولت أن أشحنه بكل ما أحمل للانسان من حب، ومهما كان الحجر صغيرا فأملى أن تنزاح به دائرةً مَا لتصبح دوائر متتابعة إلى غاية نأملها، دون أن نضطر لتحديدها بشكل حاسم مسبقا.
لاحظ الوعى بصعوبة نشر مثل هذه المعرفة المختلفة عن السائد، وهو الإشكال الذى مازلت أعايشه وأعانيه وأتحمل مسئوليته حتى هذه اللحظة، وأيضا كيف أن المعرفة مفتوحة النهاية دائما.
وبعد
بالله عليكم، وهل أنا قلت أو نشرت أو كتبت خلال عمر النشرة اليومية عشر سنوات، بل خلال ستين عاما عمر ممارستى للمهنة غير ذلك.
الحمد لله
والله المعين.
2017-04-30