نشرت فى الاهرام
5-9-2005
إحلال وتبديل: الواقع والمفاوضات
كنا نتعجب فى الأربعينيات من إصرار الحزب الوطنى (التاريخى/ الحقيقى) على التمسك بشعاره أنه: “لا مفاوضة إلا بعد الجلاء“، وكنا – صغارا – نتساءل: على ماذا نتفاوض بعد الجلاء إذا كان المطلب الرئيسى- وهو الجلاء- قد تحقق فعلاً؟ روح يا زمان تعالى يا زمان وصلنا إلى سنة 1950 وظهر فى الأفق ما سمى آنذاك “مشروع صدقى بيفن“، وقامت المظاهرات، كنت فى إعدادى طب ولم نكن نعرف كيف ننطق الفاء فى اسم “بيفن” بالعربية، ورحنا “نهتف بيفن بيفن يسقط بيفن”، وسقط المشروع، كما سقط صدقى باشا, لا لأنه كان مشروعاً أقل من مشروع عبد الناصر اللاحق ولكن لأن صدقى باشا لم يعرف كيف يخاطب الناس، أو يحترمهم سرا أو علانية, كما لم يكن له كاريزما عبد الناصر ولا طيبة وإخلاص النحاس باشا، وأيضا لم يكن وراءه حلم القومية المخدر, ولا سيف جيش الثورة المتربص, فسقط هو وأسقط معه المشروع، قامت دراسات مقارنة بعد ذلك أظهرت أن مشروع صدقى بيفن هو أفضل كثيرا من اتفاقية الجلاء اللاحقة فى أوائل الخمسينيات، روح يا زمان تعالى يا زمان مرورا بنكسة، وهات يا مشروع روجرز، فوفاة، فحرب, فنصر, فزيارة، حتى كامب ديفيد، فاغتيال، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن, الأمر الذى يصعب اعتباره إيجابيا ما لم نستثمره حضارة وانتاجاً وإبداعاً.
الجارى فى فلسطين الآن شئ مواز، وإن كانت المسالة طالت، وباخت والضحايا زادوا وفاضوا، والخداع تمادى وتوارى، والعالم يتفرج ويتحيز، والعدل يتراجع ولا يخجل منتهكوه. خلاصة الخلاصة منذ ما قبل أوسلو حتى خريطة الطريق أن الكلام يجرى فاترا متراجعا على الموائد المفواضاتية وأمام الكاميرات، فى حين أن القتل والإبادة والفعل على الأرض من جانب واحد يمضى ظاهرا صاخبا كاذبا فى ناحية أخرى، ورويدا رويدا يحل الأمر الواقع محل الحجج والبراهين, ويحل التحرير الزائف محل مباريات المفاوضات وألعاب الدبلوماسية وصفقات الاتفاقات والتسويات المعقولة والمشبوهة.
لا تبدو عملية الإحلال هذه – إحلال الواقع محل الكلام – هى آخر عمليات الإحلال كما جرت فى غزة، الأمر إن ما يجرى هو مجرد إعادة نشر المساكن (تماما مثل إعادة نشر القوات)، إخلاء هنا وتسكين هناك من جانب واحد. فى نفس توقيت مهرجانات الإخلاء وتسويق دموع القتلة وهم ينزعون السكين من جسد الضحية وكأنهم هم الضحية تصدر الموافقات والتعليمات الرسمية برشق خناجر أخرى مسمومة وتنمية أخطبوط إحتلال أرسخ قدما فى الضفة الغربية، ومنذ أسبوع واحد تصدر وزارة الخارجية الأمريكية بيانا رسميا تقول فيه: إنها لن تعترض على إسرائيل إن هى انتقمت من أى اعتداء عليها من الذى يعتدى على من؟ من الذى له حق الانتقام؟ ما هو تعريف الاعتداء؟ ومن هى إسرائيل المعتدى عليها؟ وهى مازالت تشغل كل الأرض المحتلة إلا 6% (غزة) وبشروطها.
كل هذا والعالم العربى مازال غارقا فى غيبوبة الكلام والتصاريح والمفاوضات بالمرّة، دون الانتباه حتى إلى معنى ارتفاع سعر البترول الذى أصبح ضعف ما قفز إليه بعد حرب أكتوبر.
إن لم نضع أموال البترول هذه، وغيرها، فيما هو تعليم حقيقى، وانتاج متزايد، وحرية مشاركة فسوف تنقلب هذه الزيادة نقمة علينا: فى صورة مزيد من الاستهلاك، ومزيد من الطبقية، حالمين بالرضا السامى والرفاهية الموعودة.
هل ما جرى ويجرى فى الشارع السياسى المصرى مؤخراً يقول شيئاً آخر؟ يلوحّ بأمل آخر؟ ينبه إلى طريق آخر؟ يقدم واقعا آخر لا يحتاج إلى مفاوضات وخطط طريق واتفاقات وكلام؟.
ربما!!.
وربما لا.