أخبار الأدب
نشرت بتاريخ: 5 مايو 2013
نبض الناس
أنواع العقول ومعرفة الله
هل خطر على بالك من قبل أن يكون للعقول أنواع؟ أو أن يكون لك أكثر من عقل؟ الكتاب الذى أقدمه لك اليوم اسمه “أنواع العقول” بعنوان فرعى: “نحو فهم الوعى”، مؤلفه ليس طبيبا نفسيا، أو عالم نفس، أو أستاذا فى الأنثربولوجيا أو فى المخ والأعصاب، المؤلف هو “دانييل دينيت” أستاذ الفلسفة حاليا بقسم فلسفة العلوم فى جامعة لندن، وكان محاضرا ثم أستاذا مساعدا فى الفسلفة جامعة كاليفورنيا، وقد استقبلتُ ما كتبه فرحا وهو يقول عن نفسه فى مقدمته: “أنا فيلسوف ولست عالما”، أهمية هذه الجملة عندى جعلتنى أقرأه على أنه فيلسوف أكثر منه أستاذا فى الفلسفة (هناك فرق!!)، وقد فرحت أنه ليس عالما (بالمعنى الذى نفاه غالبا)، وإلا كان اختنق بمنهج أعتقد أنه كان سيحول بينه وبين أن يثرينا بكل ما أثرانا به هكذا: فى آخر سطور الكتاب عاد المؤلف يقول: “.. ولما كان هذا الكتاب لفيلسوف، فإنه ينتهى، لا بالإجابات، وإنما ينتهى بنُسخ معدلة من الأسئلة نفسها، وهى على نوع أفضل”.
تعالوا نرى معا تواضع استعمالنا شعبيا ودينيا وعلميا لكلمة “عقل”: فى الحديث العادى فيما بيننا نسمع هذا الحوار: “هوا حد شاف ربنا؟ قالّك لأ، … قال أمال ربنا عرفوه ازاى؟ قالك بالعقل”، الحس الشعبى لا يقصد العقل الممنطق السببى الخطى، لكنه فى الأغلب يقصد البديهة اليقظة، والوعى النقى، وهو يتجاوز الحواس الخمس (لا أحد شاف ربنا)، إلى ما بعدها من إدراك حى يتجلى فى فطرة الأطفال وإيمان العجائز. إن عقلنا الحديث المغرور أعجز من أن يثبت وجود الله إلا بمنطق مسطح. ليس معنى هذا أن عقلنا البدائى هو الأقدر على إثباته، لكن الذى يستوعب وجود الله سبحانه بالمعنى الحقيقى الحاضر فى الداخل والخارج وفى كل “ذرة مكان” و”لحظة آن” هى كل “أنواع” عقولنا معا، فى لحظة لها أثر باق، قابلة للتجلى بيقين منير، بلا حاجة إلى إثبات عقلى بالمعنى الشائع، وإنما بالإدراك الأعمق الذى يتناغم مع الوعى الكونى فنتوجه إلى وجهه تعالى نعرفه فلا نعرفه لنعرفه: “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء”.
تسطيح آخر يتم بحسن نية، وترديد عفوى يؤكده المسلم الطيب الكسول فرحا مرددا “إن الإسلام هو دين العقل”، وهات يا استشهاد بالآيات التى وردت فيها كلمة العقل، ويعقلون، ويتفكرون، يرددها بعيدا عن سياقها أحيانا، ومستندا إلى تفسيرها المعجمى المكتوب أحيانا أخرى، وكأنه بذلك قد اطمأن إلى أن دينه هو الدين الحق لأنه دين العقل(!!)، لو علم هذا الطيب المستسهل أن المسألة لم تعد بهذه البساطة، وأن ما يسمى عقلا – حتى من منطلق الاستعمال المسمى العلم أو المنطق – قد تراجع إلى مكانة شديدة التواضع، إذن لعدل كثيرا عن هذا الحماس، الذى أعتقد أنه هو هو الذى يدفع فريقا آخر إلى ممارسة وترويج تلك البدعة التى يسمونها “التفسير العلمى للقرآن”، وهم منجذبون بسحر لمعة العقل العلمى المعلوماتى المعجمى، وهو أصغر وأعجز من نبض الإدراك وحدس اليقين وإعجاز القرآن الكريم.
فما هو العقل يا عمنا الفيلسوف؟ بملاحظة العنوان الفرعى، واحترام كل ما أورد الكتاب من روعة برامج البقاء عبر تاريخ الحياة، تصبح العقول هى: منظومات وبرامج الوعى القادر على التكيف والتكافل للبقاء والتطور، والله سبحانه هو الذى خلق كل سلالة مستويات العقول المتلاحقة المتكاثفة المتبادلة، ونحن نحتاج إلى تنشيطها جميعا معا – إبداعا – فى محاولة التوجه للتعرف على من “وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ”، “وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ”.