نشرت فى روز اليوسف
3 – 3 – 2006
سلسلة الإنسان
أ.د. يحيى الرخاوى
أما قبل
حين قرأتُ كيف أنهيتُ موضوع الأسبوع الماضى: مّن يحب مَن؟، شعرت أنه علىّ أن أتجنب أى اثنين يمارسان الحب الشائع بشاعرية وانجذاب وولَهْ، وخلاص، ذلك أننى خشيت أن يلحقا بى ما أستحقه مما لا يُحمد عقباه !! فمَنْ ذا الذى يقدر أن يمارس ما عرّفته فى نهاية المقال من: “إن الحب جدلٌ متواصل بين كيانات متعددة بعضها فقط هو الذى على السطح، “..إلخ. قلت قبل ذلك كلاماً أصعب، تصورت واحدا قرأه وصدقنى فراح وهو يحب واحدة, وهما جالسان على كورنيش المقطم، يقول لها “هل تسمحى لى أن أحبك حبا وعيا متعددا متجادلا بشريا خلاقا؟” النتيجة معروفة طبعا، وجارى البحث عن جثة المحب الجدلى أسفل سفح جبل المقطم! قال لى بعض من قرأ مسودة المقال السابق، وأيضا بعض من قرأ المقال، أن ذلك المقال كان ينبغى أن أنتهى إليه فى آخر السلسلة الفرعية عن “ملف الحب”. شعرت أنها وجهة نظر جيدة. لكن فات الأوان، وهأنذا أحاول تصحيح الترتيب بأن أعرض بعض نماذج “ما ليس كذلك”، أى نماذج من صور من الحب الجارى، ومن عكسه المثالى المستحيل أيضا. فى تلك الخبرة التى استلهمتُ منها “قراءة العيون” لاستكشاف الذوات الكثيرة فى كل واحد(ة) منا. شاركتْـنا صديقة طيبة وهى على وشك أن تبنى عشا ناجحا نتيجة “حالة حب” طيب عادى جدا، وقد فعلتْ والحمد لله، وبرغم قبولها فكرة “الحب الحقيقى” (مع الاعتذار لمحمد فؤاد) إلا أنها انسحبت باكرا. كنت قد قرأت انسحابها المشروع قبل أن تنسحب وسجـّلته فيما سوف أعرضه فى هذه الحلقة. أما الصديقة الأخرى فقد كانت أكثر حماسا لما صوّرناه، أو تصورناه، أنه “الحب الحقيقى”، إلا أن مبالغاتها فى هذا الحماس شككتنى فى أنها ذهبت بعيدا فى عمق حلم اليوتوبيا حتى قرأتُ أنها إنما تهرب من الواقع برغم حدة بصيرتها وعمق رؤيتها، كانت بصيرة معقلنة، لم تختبر!!
أنا واحد ولاّ “”كتير””؟ (9) (ملف الحب2)
هاربتان: إلى الواقع (الآمِنْ)، أو اليوتوبيا المستحيلة!
أولا: الهاربة إلى الواقع (الآمِنْ)
هى، (التى ليست هى، بل أى واحد(ة) فينا) هى كانت الأصغر. صعبٌ أن تعرف إن كانت سمراء أم بيضاء، لون نيلك يا مصر، متفتحة، قارئة، كانت صغيرة طموحة، لن أذكر وظيفتها آنذاك حتى لا تعرفها الآن، لها إسهامها فى الرأى والفكر، وكانت تحب زميلا لها، وهو يحبها حبا من الذى هو حب، جيدٌ ومعقول، “ماشى الحال”. حين قلّبتْ الأوراق معنا، وابتدأ يظهر أن “فى الأمور أمور” (كما يقول أولاد البلد)، شعرنا أن حبّها لصاحبها/مشروعها المتميز قد يهتز، فتراجعنا، أو كدنا، لكنها كانت أذكى فتراجعتْ قبلنا، وكأنها تسارع بالاحتماء بالحب الشائع، كما هو، بدلا من هذه المخاطرة الصعبة، هكذا انتبهتْ. برغم موافقتها من حيث المبدأ على أن الحب الحقيقى هو أرقى وأعمق مما يشاع عن الحب الجارى، هو القدرة على التواصل والتحمل والمسئولية وإعادة التخلـّق من حيث أنه عملية منطلقة، وليست صفقة ساكنة، وكلام من هذا، برغم إقرارها بكل ذلك وأكثر، فقد قرأت فى عينيها الأعمق داخل داخلها احتجاجا صارخا يقول :
أنا مالِى؟
أنا عايزهْْ أعيشْ،
زىّ الباقْيِيِن،
يبقَى لى عشْ صغيـّر، وعْيالْْ.
ولـَفَندى بتاعِى (أيوه بتاعى ملكى)،
يرجعلِـى تملّى..
زىّ حمام الزاجل.ْ
يحضنّى أنا وعيالِى،
يطوينٍى تحت جناحُهْ،
وراح اربُطْ رجلُهْ بـْـفتــلَةْ.
لـَيْـــطير.
ليس أبسط ولا أصرح من هذا الموقف الواضح، ماذا تريد المرأة – والرجل أيضا بينى وبينك- إلا هذا العش تحتمى به وفيه؟ ثم يأتى الأولاد تبرر بهم استمرارها داخله؟ هذه هى الملكية المسجلة فى الشهر العاطفى أو العقارى أو عند المأذون، تحت اسم الحب الرسمى؟ أليست هى غاية امراد؟ لتكن ملكية متبادلة، لكن من حق الناس أن تسميها حبا، العلاقة بين الحب والملكية علاقة قديمة قبل أن ينبهنا إحسان عبد القدوس عن “الشعرة الرفيعةً التى تفصل بينهما. لا يوجد حب دون درجة ما من الملكية والخصوصية. عادةً هى ملكية متبادلة. فى هذا الاحتجاج الذى قرأتٌه فى عيون صاحبتنا، نرى حبيبها والدا حاميا يطويها تحت جناحه هى وعيالهما، كما نراها أيضا مرفأ له يعود إليه دائما مثل حمام الزاجل، وهو لا يطير بعيدا، لأنها بدورها هى التى تحدد (حسب مقاس الفتلة التى تربط بها رجله) مدى طيرانه، فهى “الوالد” بدورها، وهى التى تخاف من فقده، “لَيْطير”. لكن هل لمثل هذه العلاقة عمر افتراضى كافٍ يصبرنا حتى الوفاة بلا فشل أو شقاء؟
تُـعـرّى صاحبتنا البديل المعروض(الحب الحقيقى) ، الذى يزعم أن القدرة على الحب أفضل من الاقتصار على حب احتكارى دائم، وأن حبنا لواحد معين، هو حب بالأصالة عن نفسه والنيابة عن كل الناس. صاحبتنا تتحفظ على هذا الكلام “المجانى”، هذا ما قرأته فى عيونها وهى تقول:
(2)
أنا مالى بْكلّ الناسْ؟
ما تْحبّوهمُْْ.
هوّا انا قلتلكُو انَا باكْرَه حَدّ؟
حـِبُّوهم بكلامْكُمْ يعنى،
مش حا يخسّــرْ.
ما انا بَرْضُهْ باحِبّ انِّى اتكلِّم،
لكنّى مِشْ قد كَلاَمِى
دا كَلام كِدَه بسْ
ولا عايزهْ أصلّحْ حَدْْ،
ولاّّ واخْدةْْ كَـلاْمْكم جَدّ،
ولاّّ نفسى أعدّل فى الكونْ،
ولا شَايْلَه هَمِّ المطحون،
ولاْ قادرة أصاحب المجنون
ولاّ نَاوية أبطَّل بَصْ ورَصْ.
واهُو كُلُه كَلاَمْ.
هذا المقطع، يعلن أن ما قرأتُه فى عيونها من داخل داخلها، كان عكس الجارى بيننا، وعكس ما تعلنه هى لنفسها ولنا، فقد كانت هى إحدى صُنّاعه ومن أكثرنا حماسة له. لكن داخلها عرّى احتمال الخدعة، ليعلن أن هذا المستوى الأرقى (أو الذى نزعم أنه أرقى) هو مجرد كلام أو هرب من بساطة وصعوبة الواقع معا، كنا نـُصِرّ أن حب الناس جميعا هو الدليل على حب أحدهم، وأن الحب لا يقتصر على صفقات الأخذ والعطاء السرّيين، بل هو حمل همّ خلق الله، العمل على تصحيح مسارهم، وخاصة المطحونين منهم، بل وأيضا الذين تمزقت عقولهم جنونا (دون قصر هذه المهمة على متخصص)، لكن صاحبتنا، أعنى داخل داخلها، راح يعرى كل هذا بوضوح مقتحم، راح يعتبر أن كل ما ندعيه هو مجرد “رص كلام”، فهل كنا حقا كما رأت؟، وهل هذه المقالات الآن أيضا هى كذلك؟ أم أن صاحبتنا كانت ترسم للانسحاب، وتبرره؟ على أى حال نلاحظ اختزالها حبنا للناس بأنها لا تكرههم. (أنا مالى بكل الناس؟ ما تحبّوهم، هوّا انا قلتلكوا انا بكره حد؟..إلخ). ثم هى – من داخلها- تؤكد نوع احتياجها الواقعى وهى تحدد موقفها هكذا:
أنـــا عايزة حد يعوزْنِى،
إشمـِعـْنى حسن ونعيما؟ْ
إشمعنى بتوع السِّيما؟
أنا مشْْ قدّ الحب التانِى
وانْ كان لازم نتطوْر؟
نتطوّرْْ،!
ما يـْضـُرّشْْ.!!!!!
بس ارجع تانى لْعشّى،
ولَفَندى بتاعى،
يطوينى تحت جناحهْ،
وانا ماسكةْ الخيط بالجامدْ،
لـَـيْـــطيــــرْْ.
السخرية من دعوى “التطور” التى كانت تدور طول الوقت تبريراً للبحث عن حب أرقى، قامت بها صاحتنا بصورة لاذعة لتكشف أن الهرب فى مثل هذه الدعوة ربما يكون تأجيلا لمواجهة اللحظة الراهنة، وأنه ما أسهل التطور “بالكلام عنه”.
نقرأ معا حكاية “حد يعوزنى، وأعوز عوزانه” فهى حكاية أساسية فى العلاقات السائدة بين المحبين عامة. صاحبتنا باعترافها، تعلن بشجاعة أن الحاجة إلى أن “يرغبنا آخر”، يريدنا، يسعى هذا إلى صحبتنا، يحتاج إلينا، قد تصل إلى درجة تمحو هذا الآخر، ولا يبقى إلا “عوزانه”، هذا المحو ينفى الحب الحقيقى، لأن هذا المحب يُختـزَل إلى مجرد “عوزانه” إياها. وبالتالى هى تعوزه (تحبه) لأنه منحها احتياجها, لا أكثر. ومع أن هذه العلاقة تغذى احتياجا أساسيا عند الطرفين، خاصة إذا تبودلت “عوزان-مقابل- عوزان”، لكن للأسف هى فى قرارة عمقها تكاد تمحو الآخر كموضوع متميز مختلف قائم بذاته ، وبالتالى قادر على أن يشارك فى حركية الأخذ والعطاء.
فى آخر جلسة علاج جمعى عقدتها فى قصر العينى يوم الأربعاء (22 فبراير 2006) وجدت نفسى أطالب أحد أفراد المجموعة باختبار “علاقته” بأفراد المجموعة، وحين سألنى “يعنى ماذا”؟ قلت له:
يعنى “تاخد وتدّى”، “هنا ودلوقتى”،
مع واحد، واحدة، بمسؤولية وتحمّل بس يكون الواحد(ة) ده هو هو، مش اللى انت راسمه فى مخك”، وتستمر كده مهما كان.
بعد أن قلت ذلك خِفت أن أبدو له كأنى أسمّع درسا حفظته، الغريب أنه تقبل كلامى، ومارسنا بعضه معا فى بعض ألعاب المجموعة، واكتشفنا أن ذلك ليس مستحيلا، فيما عدا اختبار “الاستمرار”.
فلماذا بدا لصاحبتنا أن ذلك مستحيلا بهذه الصورة ؟ ربما معها حق، فما المجموعة إلا مرضى (لعلهم أفضل منا) !!!.
ثانيا: الهاربة إلى اليوتوبيا
صديقتنا الأخرى، الهاربة الثانية، كانت هاربة فى الاتجاه العكسى تماما، صدّقت ما كنا نزعم، كانت مَلكية أكثر من الملـِك، بصيرتُها حادة، صدّقتـْـنا، فصدّقنا أنفسنا، لكنها تمادت بقفزات متلاحقة حتى سبقت كل أحد وكل شىء، فبدت خطواتها سابحة فى الهواء، لكن ذبذباتها راحت تهز عرشها الاجتماعى ، حتى أصاب هذا الاهتزاز أولادها (مرحليا). تعالوا نقرأ فى عيونها أولا:
والنظره دى صادقهْ، وْمحتاره، وْخايفهْ؛
خايفهْ مِنْ الصَّدق وكُتْر الشّوفْ المُرْْ.
خايفه مِنْ بُكَرَهْْ.
عمّالَه بتقولْ:
”نفِسى آجى معاكُو.. حتى ماشيَهْ حافيهْ
بس شوك الأرض بيَخزَّقْ عِنَيّهْ.
نفِسى اغَمّضْ، نفسى أًعـْمَى.
نفسى ما اعرفشى اللى شُفْته
نفسِى أنْسَى اللى عِرِفْتُهْ
حتى لو قلت الضلام ستر وغطا،
أبقى شايفه .. إنى عاميه”.
حين تصل البصيرة إلى أن يشك الواحد منا فى صدق بصيرته _أبقى شايفة، إنى عامية- تصبح المسألة أكثر إيلاما، إذ تصبح الميكانزمات القادرة على تعتيم الرؤية أبعد من المتناوّل، (نفسى اغمض، نفصى أعمى) ، ولكى تساعد صاحبتا نفسها أن تغض الطرف عن بلادة العادى، وركود الساكن، قبلتْ أن تشكك فى هذا “الحب الحقيقى”، بل أن تشك حتى فى حماسها واندفاعها إليه:
والشك الشوك بيشكشِكْْ:
”مش يمكن كل كلامى الصح: مش صح؟
مش يمكن أنا باعملّكوا فخ؟
مش يمكن باكْذبْْ.
لاجْلَ أهْرَب والعبْ..؟”
ومع ذلك، فقد بدت فى نهاية النهاية أنها سُرقت إلى لعبة الشوفان فقط. حلت هذه البصيرة المعقلنة محل العلاقة الحقيقية، ارتبكت رؤيتها بخلط كل الأدوار، كل الذوات داخلنا) مع بعضها البعض، وهكذا انقلبت البصيرة إلى قهر عقلانى استبطانى (يكاد يكون نوعا من الاستمناء الفكرى)، هكذا:
الشوف بقى شوف غصبنْ عنى:
آدى حتة كدْب،على نبضةْ صدق، على رسمةْ حب،
على صرخة همْْ، على سكـْتِةْ غمْ، على ضحكهْ كإنْ..،
وتـْلخبطْ كل حاجاتها، على كل حاجاتها، بالقصد.
وانْ جَهْ وَاحِد شاوِرْ عقله يقرّبْْ:
تحرَن وتْـرَفَّـصْ،
تضربْ تْتِملـَّصْ
وتعاند زى العيَّل لما يزق البزْ،
مع إٍنه جعانْ.
وتقول أنا مخَّى مافيش زيُّـه،
وتدوَّر عاللى مافيش زيُّه:
وتلاقى: “يسقُط شر الناس،
ويعيش الحب”
وخلاص.
- إزاى؟
- مِشْ شغلى.
هكذا نتبين أن كل هذا الحماس كان هربا من علاقة حقيقية، تلك البصيرة الرائعة التى رأت كل شىء، لم تُختبر بعلاقة بسيطة واقعية متحدية من خلال الاقتراب مع الاختلاف مع شخص حقيقى فعلا، كانت تتملص من أى اقتراب محدد، برغم الجوع اللحوح، (زى الطفل ما بيزق البز، مع إنه جعان)، هكذا يحل محل هذا الارتواء من مصدر “موضوع” حقيقى ذلك التنظير العقلانى ليوتوبيا غير قابلة للاختبار (وتقول أنا مخى ما فيش زيه)، وحين يوضع هذا التنظير العقلانى موضع الاختبار: سرعان ما يثبت أنه لم يكن إلا شعارا أو هتافا. لكن المسألة لم تكن كلها هربا فى العقلنة والشعارات، فقد كانت بصيرتها تحتد أكثر فأكثر حتى تكشف هذا الهرب أيضا.
ثم يطول الصبر، ويزداد الألم، حتى تكاد تتبين معنا لاحقا، ان كل هذه المثالية لم تكن إلى نشاط الطفل فيها – حتى لو لبس ثوب الأم، فهو طفلىّ أيضا – (والاقينى قاعدة فْ وسط عيالى) لكن التأجيل برغم المرارة ، يتمادى حتى لا يبقى إلا الحلم فى غدٍ قادم لعله يحمل الحل:
وبحور المّر بْتِرْوِى الشوك ِالصبرْ.
والبحر بعيدْ، ومالوش شطآنْ.
ولا فيش مقداف ولا دفّهْْ،
ولا ريّـِسْ، ولا بمبوطِى.
والطفلة تشقّل فى اللفّة وتقول:
رمضان اهُو جىْ، وحاقول وَحَوِى،
واستَنّى الفجر.
وليالٍ عشر.
وراح افتح طاقة القدْرْ.
وأطَلَّع منها فانوس ألوانْ.
بس كبير خالِصْ.
قد الدنيا بحالها.
ولاَقِينِى قَاعْدَهْْ فْ وسْط عِيالىِ،
وعيالى كـتـار، وكـبـار.
يبقى حلِّيتْهاَ يا حَلُلِّى.
لا انا سِبْت عْـَيالىِ،
ولا سِبْت النَّاسْ.
الكثير داخلى أنا:
انتبهتُ إلى نفسى وأنا أدعى أننى أقرأ داخلها: هل أنا أراها بعينىْ والدٍ يريد لها الاستقرار والنمو حتى تحقق مستوى أنضج من العلاقات، أم أراها يعينىْ طفلى الذى يريد بدوره أن تكون أحلامها حقيقه له هو قبلها، أم يراها بعينى اليافع أو الحكيم الذى يحسبها فيكتشف أن بصيرتها ليست إلا شطحات إلى يوتوبيا لا تتحقق، هربا من فتور الحياة المستقرة، وأيضا من الاقتراب المغامر؟ نقرأ معاً كيف انتهت الصورة:
وأبص بشكْْ، وأحاول أصدّقْْ.
وتبص بعِند، وتقول أنا قَدَّكْْ.
والطفل اللى جواىَ يقول “أنا مالى، مِش يمكن!”
والشيخ اللى بَرَّاىَ يقول: “لا ياعَمْْ، مش ممكن”.
وتبصْ، وأبصْ.
وأشوفْلَكْ طاقةِ الحلم فْ عينها،
من غير فوانيس، ولا ناس.
والنور بقى نار بِتْلَهْلِبْ.
والحيرة بتضربْ تقلبْ،
إنما جواها:
فيه “بكره”. أو “يمكن!”.
“… مش يمكن!!!؟”
الألم الذى عاشته هذه الفاضلة بهذه الحدة المخترقة، والإحباط الذى قوبل به هربها إلى هذه اليوتوبيا المعقلنة، لم يجعلاها تستسلم لأحلامها أو شطحها، وإن كانا قد شجعاها أن تصبر على واقعها الجارى لعلها تصنع منه ما يمكن، بعد أن شوّهته –غالبا- تلك اليوتوبيا.
أظل ألمح داخل داخلها تلك الذات المتطلعة إلى حب حقيقى فى وقت ما، حب يمكن أن يجمع بين ما تريده أى أم تحتاج إلى مؤسسة تمارس فيها حبها لمن يسكنوا إليها وتسكن إليهم، كما أنها تحتاج فى نفس الوقت إلى حركة تحقق بها إبداعها كيانها وإطلاق فطرتها إلى الناس فى علاقات تتشكل باستمرار (حبا حقيقيا) إلى ما خُـلقنا به إليه.
وبعـد
ما علاقة هاتين الهاربتين بالمفهوم الذى قدمناه عن الحب فى العدد الماضى، والذى اكتفينا بالإشارة إليه فى هذا العدد؟ ثم ما علاقة هذا بدوره بتعدد الكيانات داخلنا؟ (أنا واحد ولاّ كتير؟).
يبدوا أن ما افترضناه حتى يكون الحب حركية تشكيلات متعددة معا، فى نبض دائم، يستلزم ألا تقتصر علاقة الحب على مستوى واحد من الذوات طول الوقت، ذلك لأن هذا المستوى الواحد الذى عبرنا عنه فى العدد الماضى بما أسميناه علاقة “الضبة بالمفتاح”، هو مستوى يسكّن كل ما عداه، لأنه يتم بين ذوات محدودة، ظاهرة أو خفية، وبسكون هذا المستوى يتم شلل باقى الذوات فتموت حركية الجدل، ومع دوام التسكين يتم الهمدان، ومع دوام الهمدان، يموت الحب حتى لو تبقى منه ما يسمى “العِشرة” أو “الألفة” أو “التعود”. هذه جميعا قد تكون مسكّـنات طيبة تفيد الإبقاء على مؤسسات الحب بأنواعها، وخاصة المؤسسة الزواجية عندنا، لكنها لا تغذى بالضرورة حركية العلاقات البشرية المتجددة التى هى منغرسة أساسا فى فطرتنا بطبيعتها.
إن تراجع صاحبتنا الأولى عن المحاولة راضية مكتفية بأن يطويها صاحبها تحت جناحه، وأن تربطه بدورها بفتلة (ليطير)، هو توقف عن المحاولة مهما بدا حلا عاديا معقولا ومقبولا، لكن أين استمرار الحركة فالنمو؟
ثم إن ما فعلته صاحبتنا الثانية من شطح مثالى (طوبائى) مؤجل يسمح لها أن تحب كل الناس، وهى تحتويهم جميعا، ومن ضمنهم أطفالها “. يبقى حلِّيتْهاَ يا حَلُلِّى. لا انا سِبْت عْـَيالىِ، ولا سِبْت النَّاسْ.” هو حلم فعلا، لكن لا يبدو رغم ذلك أنه المستحيل، على الأقل فى المدى البعيد.
اعتراف
رجعنا للكلام الصعب، ولكن دعونا ننتظر إلى الحلقات القادمة لعل الأمور تتضح بمزيد من الأمثلة.
فى العدد القادم سنقدم امرأتين أخريتين تمثلان نوعين آخرين من الحب، النوع “السهل المتدفق” الذى قد يثبت أنه ليس إلا استهالا، فى مقابل “صفقة الموت المتبادل” (أموت فيك وتموت فى) خوفا من أى حركة احتمال آخر.
الحلقة القادمة: امرأتان: استسهال الحنان ، والموت حبا” !!