عدد أكتوبر 1985
“مثل وموال”
اختراق الحدود الأخلاقية: بما يستاهل
يحيى الرخاوى
جاءنا من الزميل المثابر د. أحمد حربى ما يلى:
” أن سرقت أسرق جمل
وأن عشقت أعشق قمر”.
المثل يضرب ما هو أخلاق، ويوضح معرفته بدخائل النفس وطبيعتها، والسرقة من الكبائر وعطف العشق عليها يوضح أن المقصود بالعشق هنا أيضا:العلاقة الكاملة، والقائل عالى الهمة، واضح الطريق، فاذا كان لابد من خروج، فليكن على قدر أولى العزم، فهنا قدر كبير من الواقعية بل والنفعية”.
أنتهى كلام وتعليق د. أحمد حربى
***
ولنا وقفة
فاما أن المثل يعرف طبيعة النفس
فنعم.
وأما أن القائل عالى الهمة، فشك كبير فى ذلك
وأما أنه واضح الطريق، فهو كذلك
وأما أن هنا قدرا كبيرا من الواقعية، فلابد من إعادة تعريف للواقعية نفصله بعد قليل.
وأما أن ثمة قدرا كبيرا من النفعية ،فنعم والمثل يضرب ما هو أخلاق
ولكن اى أخلاق؟! أن صح أنه يضرب ما هو أخلاق اصلا؟ وما زالت مشكلة الأخلاق لم تحل حلا يرضى الجميع، أو حتى تتفق عليه الغالبية.
– فثمة أخلاق العبيد … حيث تعلو القيمة الخلقية بقدر الطاعة والاذعان.
– وثمة أخلاق التجار حيث يحسب رصيد الأخلاق ضمن حسابات الأرباح وميزانيات العام، أو ميزانيات العمر، حتى فى الآخرة.
– وثمة أخلاق الكتبة: حيث الأخلاق ألفاظ شبقة مرصوصة، ومثاليات حاملة مكتوبة (لم تختبر).
– وثمة أخلاق الخطباء والساسة: حيث الأخلاق صفقات معلنة، ووعود مشروطة، ورشاو محسوبة، و”على ما ينقطع الجريد يفعل الله ما يريد”.
– وثمة أخلاق الجبن والسلامة: وأنه بقدر ما “لا تفعل” “تسلم” …. الخ .. الخ.
فاى أخلاق يا صديقنا د. حربى يضربها هذا المثل؟
دعنا نزعم ابتداء أن:
” الأخلاق:هى الفطرة فى جدل مبدع“
فإذا كان الأمر كذلك فهذا المثل لا يضرب الأخلاق، ولا يدعو الى السرقة، ولكنه يكشف الخبئ، ويعرى للمواجهة، فكأنه يقول: أن كنت ولابد سارقا كجزء من طبيعتنا الداخلية، ثم اضطررت أن تعيها فتطلقها: فلتقدم بقدر ما يحمل قرارك من مسئولية المخاطرة، وأن كنت ولابد عاشقا (بالمعنى الموازى للسرقة من مغامرة، وتخط للحواجز، وتدبير للوصال…الخ) فلتفعلها بما يبرر اقتحامك وجسارتك .. هنا يضرب المثل التردد، واحتمال المخاطر بدون مقابل، ويقول لنا: تحمل مسئولية قرارك، وعمق فعل ارادتك، وحدد ابعاد فعلك حتى تستبين أين أنت،و الى اين، ولكاذا، فاذا دفعت ثمن كل هذا، كان الثمن على قدر البضاعة، أما أن تكون سارقا سريا مدعيا الغفة فيسرق “لا شعورك” وأنت ترفع شعارات الفضيلة، أو تكون عاشقا مع وقف التنفيذ ترضى من القليل اقله، فسوف تدفع ثمنا غاليا دون مقابل، وسوف تخدع نفسك مغتربا غير فاضل ولا واع بدخيلة خبثك، ولا مسيطر على ناتج فعلك.
والسرقة الخفية ابشع أنواع السرقة، تجدها فى اعلانات السياسة، كما تجدها فى مناهج البحث العلمى، وتجدها فى رشاوى مسطحى الأديان، كما تجدها فى العقاقير المزركشة المصقولة لشركات لشركات الأدوية القوية، والذى يخفى لافتة “حرامى” من فوق كل هذه النشاطات ثلاثة أمور:الأول: لبس ثوب العصرية والتحلى بأرقام الاحصاء والتكنولوجيا، والثانى: أن الذى يقوم بها هم غالبية بشكل يصعب تصورهم جميعا لصوصها، والثالث: اذعان المجنى عليهم واستسلامهم فى تخدير منبهر، وأكاد أتصور أن المثل اصدق واصرح اذ يسمى الأشياء باسمائها، فالسرقة فيه سرقة، ليست اقتباسا، ولا شركة أموال، ولا بنك استثمار،… الخ، والجمل فيه جمل ظاهر للعيان،،و كأنى به يقول: فلنكن صرحاء ونعلنها، ليس فقط لكى نجعل المخاطرة “تساوى”، ولكن ايضا وقبلا لنجعل الناس يعينوننا على عكسها اذا كان فى الأمر مجال لحوار او فرصة لمراجعة، أو سبيل لتعويض معلن.
ووقفة من بعد آخر تجاه الشطر الثانى من المثل تنبهنا الى أن الدعوة الى عشق من هى “كالقمر” بحيث تستأهل ما يبذله العاشق فى سبيلها ليست هى القاعدة دائما فى الحس الشعبى، فالجمال وحده ليس هو مؤهلات الحب دائما ابدا، فالحب اينما توجه، يبرر نفسه بنفسه حتى لو لم يكن المحبوب فيه ما يبهر من ظاهر ما يلفت الانتباه، وفى هذا يقول مثل آخر:
حبيبك حب، ولو كان دب
ولكن يبدو أن علينا أن نفرق بين الحب، والعشق، وان نتذكر ان “ضرب التردد” هو الذى يجمع بين شطرى المثل أساسا، فالنقد الشعبى للموقف المائع شائع دائما، ومرفوضة تلك التى:
” نفسها فى ” الحب”(1)…. وخايفة مالحبل”
كذلك على المرء أن يكون محددا فى اختياراته ومواقفه وأن يتحمل نتاج أعلان رأيه، ثم أقدام فعله، أليس هذا هو المراد من:
” أن خفت ما تقوليش
وأن قلت ما تخافش”
***
ونحن نشكر ضيف هذه الحلقة د. حربى، ونأمل مواصلة الحوار مع المؤلفين الحقيقيين لأمثالنا، وهم هم مستعملوها، ومستوعبوها، ونعتذر هذا العدد عن مواكبة هذا المثل مواز أو مناقض.
[1] – فى أصول الحكى الشعبى كلمة أكثر صراحة ودلالة من كلمة الحب تشير الى الفعل الجنسى الصريح، وكنا نتمنى أن نذكرها كما هى حتى لا نساير هذا التشويه المنظم لتراثنا تحت دعاوى أخلاق سطحية ولكن احتراما للمرحلة حورناها بما لا نرضى عنه، فعذرا مؤقتا ولنا عودة.