عدد أكتوبر 1985
قصة قصيرة
مشط كبريت
وليد دوح
ترك مدينته إلى العاصمة مبتعدا عن منزله الذى نشأ فيه وتربى وخلى وراءه أصدقاء الطفولة والشباب ليحقق حلمه هكذا يقال فى الرحلة الأولى وهكذا فعل وكانت أول هجرة.
صار قطرة فى بحر المدينة الزاخرة. أقام فى شقق مشتركة مع زملاء وأقام بغرف منفردة على أسطح العمارات .مر بالتجربة، ذاق حلوها ومرها وتجاوزها لينتقل الى نمط جديد .
بدأ ينظم حياته ذات الدخل المتواضع الذى يستطيع به أن يعمل الكثير، لأنه يعرف جيدا ما هو المطلوب. وفى زحمة الحياة لاينسى أبدا زيارة والدته حتى يطمئن حنينها اليه وترضى عن ابنها المأمول، ولا يتخلى عن تقديم بعض ما توفر له من نقود متواضعة.
شرع فى عمله الذى أحبه، وكان مجدا مثابرا، واستطاع بالعمل وحده أن يعجب رؤساءه فساعدوه.
ولم يمض زمن قصير حتى سافر الى الخارج ليمثل بلاده فى مدينة النور كما يقولون. وكانت بداية تحقيق الحلم .
– 2 –
ظهرت له فى زيارة لمنزل أحد أصدقائه، وتلاقت النظرات ، وكان لقاء كتب بالرصاص على”مشط كبريت” وتم فى الميعاد المكتوب .
فى مقر عمله التقيا، كانت لحظة ارتباط حاسمة بينهما. تحقق كل ما تنص عليه نهاية الأشياء.
تقرر الميعاد وحضر أصدقاؤه الذين عرفهم فى المدينة الكبيرة، رسام صحفى ورسام أطفال وفنان نحات وصبية وبنات الجيران وأخواتها البنات والجارة.
وتم اعلان الاتفاق وكانت نهاية .
كان يعاملها كأخت وأم وكذلك صاحبها. أعطته كل ما يطلب راضية وغير راضية. وكانت كل مشروعه المطروح. عرف ألمها وعرفت عطاءه.
عواطفه كانت دعائم حزنها الذى لم يفارقها. كان كحيوان يلعق صغيره المولود ويداعبه. وكانت لها المقدرة على طرح المواقف، وشرحت له موقفها ورد عليها يأنه معها حتى النهاية .
المسار يصحح هكذا،نعم لابد من التصحيح، وتم تصحيح المسار وكالأعشاب الغريبة بدأت بينهما تنمو، لكن المشوار طويل ولا يمكن أن يتوقف من أجل ما ظهر .
– 3 –
فى طريق الحياة علامات لا مفر من تسجيلها …
كان يجلس بجوار سائق السيارة التى تجرى على طريق النيل عند عودته من عمله الى منزله. سمع نفرا من المنتظرين فى موقف المركبات العامة يصيحون، وكانت نظرة منه للجموع الواقفة، وعلى الفور أدرك، ورأى من يكاد يغرق فى عرض النهر تظهر ذراعاه فى وضع أخير.
ترك السيارة مندفعا دون أن يدرى، نازعا حذاءه وهو يلقى بنفسه الى الماء بكامل ملابسه لانقاذ الغريق.
اندفع بكل قوته حتى وصل اليه واستطاع أن يمسك به وهو فى طريق هبوطه الى أعماق النهر. جذبه حتى الشاطئ والصيحات تدعو له. خرج مبتلا كطائر باحثا عن حذائه. وعلى الشاطئ كانت عجوز تنتظرن تشبثت به وأمطرته بالداعوات وشكرها .
جلس على سور الشاطئ حتى تجف ثيابه، وحيدا مع لسعات برد خفيف ورعشة جسم مبتل… وهنا ظهر زميل عمل بين المارة صحبه الى المنزل فى سيارة أجرة. وقد وافق السائق على ركوبه هكذا عندما علم.
على سطح العمارة نشر ملابسه المبتلة واغتسل. وحضر صديقه النحات وجلسا يشربان الشاى، تتصل أصابع يده بين نظره وبين الأفق الأزرق الصافى البعيد على سطح المسكن العالى .
أين خاتم الخطوبة؟! فوجئ وفكر وراجع … ورجح أن الخاتم قد سقط فى قاع النيل عند محاولته نزع بنطلونه فى وسط النهر لأنه كان يعوقه فى السباحة.
ألم به الحزن وسكت، ثم حكى لها بالمساء ما كان …. ومرت الأيام .. وجاء عيد ميلاده وأحضرت أختها خاتما بديلا هدية له فى عيد ميلاده.
عام مضى … فقررت أن يتم الزواج، وبدون أن يبدى أعتراض تم الزواج. فى الشقة المتواضعة سكنا، وابتدات حياة .. رسمت له فى وقت الفراغ صورة زيتية أكبر من حجمه الطبيعى، وكانت آخر صورة رسمتها لانسان .
– 4 –
قالت له: خمسة عشر عاما كلها آلام، يجب الانفصال. لم يعترض ووافق على قرارها . وطلب لأن تمهله وقتا حتى ينفذ لها القرار …
صبيتان بينهما … طرف اقتحم الحاجز والآخر يواجه الصعاب للاقتحام حتى يتلاقى الطرفان. ولكنه استطاع أن يقتحم الحاجز بعد طول معاناة .
على شاطئ البحر فى عطلة الصيف كانت المجموعة تلهو سعيدة بالماء والبحر … قالت له: ليست كل الخمسة عشر عاما آلاما. فرح بالكلمة، وأمسك يدها ليساعدها على السباحة …
صرخت فجأة. وكانت يد صديقه مرفوعة الى أعلى من تحت الماء.
صديقه متعب يغالب الموج…. انطلق بكل ما يملك من قوة…. أدرك صديقه الذى كان على وجهه ملامح الموت … حاول واستطاع وأبعد صديقه عن منطقة التيار الجارف وخرج الصديق .
لكن بدأ هو يسحب الى الأعماق يجرفه التيار… حاول التغلب عليه ولم يستطع… قاوم وقاوم بكل ما يستطيع من جهد…. وشعر أن النهاية اقتربت وكاد يسلم الروح وهو فى طريقه للقاع وسمع صوتا يناديه: اتجه الى الشمال. وقد كانت الكلمة طوق النجاة. وبالقطرة المتساقطة من نهاية الأشياء اندفع يحمل جسمه ليصل الى حافة البر، وبكل ما يملك استطاع أن يلمس الأرض قرب البر وانطفأت الشمس…. ولم يدر الا أصواتا حوله على الرمال…. أرجل وأقدام فى مستوى نظره الملقى على سطح الرمال … الجميع يحمد على السلامة، وهو يحمد نفسه على السلامة .
– 5 –
وصلت المنزل مع الأطفال وقالت له : أنا لا أريد الأصدقاء، وهم سبب خراب البيت. سمع الأطفال الكلام. وفى المساء شرحت له ما فعل الأصدقاء . لكن هذا لا يغير القرار بطلب الانفصال .
– 6 –
ستة أشهر يصارع التيار ولم يمد اليه انسان يدا . أطفاله أمامه ويده مرفوعة لاينظر اليها انسان.
أسلم الروح ولم يسمع كلمة من شمال أو من يمين وأطلق الشهادة. وفى المساء رفع سماعة التليفون وتكلم بعد خمسة عشر عاما ونطق كلمة الطلاق. وفى الميعاد المحدد تمت كل الاجراءات. وزارها فى منزلها يحمل وردا. وشرب شايا معها وودعها وهو يغلق الباب خلفه بيده ، وهى تغلق مزاليج الباب بعنف ليسمعها قبل أن يغادر.