نشرت فى وجهات نظر
عدد يناير 2003
أعظم ما نقدمه لشيخنا الجليل.. العمل الجاد
قراءة فى “آحلام” نجيب محفوظ
الحلم وعى آخر، والإبداع الحقيقى واقع أعمق وأبعد مدى من كل واقع. الواقع الإبداعى هو أكثر موضوعية من الواقع الظاهر، والإنسان هو الكائن الحى الوحيد – من بين ما نعرف – الذى يستطيع أن يتجول فى ذاته الممتدة خارجه، كما أنه يستطيع أن يحتوى الخارج فى طبقات وعيه، وأن يبرمج المكان فى الزمان، وبالعكس، ثم هو يعيد تشكيل وجوده والعالم بلعب جميل، أو استشراف مخترق، أو كشف مرعب، أو حتى شواش يتخلـق.
استجابة لدعوة “وجهات نظر” الغراء، قررت أن تكون هديتى لشيخى الجليل فى هذه المناسبة هى أن أنهل من عطائه أكثر، ثم أحمل بعض ما وصلنى منه – آخطأت أم أصبت ـ إلى أصحابه، لعل فى ذلك تحقيقا لما قلته فى نفس المناسبة: “.. لو أن كل من يحب هذا الرجل.. يزيد من عمله الجاد أكثر، ويسمح لوعيه أن يتسع أكثر.. لكان هذا أعظم ما يمكن أن نقدمه لهذا الشيخ الجميل”.
إن شيخنا يتأسف مكررا على تواضع الحركة النقدية التى بغيرها يسير الأدب والإبداع على ساق واحدة، هذا بعض ما”ناقشته”. يوم عيد ميلاده مع الفنان ممدوح الليثى والمبدع محسن زايد. من هنا انتبهت إلى ما يمكن أن أستجيب به لهذه الدعوة الكريمة، فرحت أطرق أبواب بعض “آحلام فترة النقاهة”، خاصة وأنها كانت مثارا للجدل بشكل طيب، وغير ذلك.
إن المتابع لما كـتب عن عودة نجيب محفوظ إلى الكتابة بعد نوبل، وبعد الحادث الآثم، لابد أن يتوقف كثيرا أو قليلا وهو يتساءل عن الدافع، والمغزى والهدف. نجيب محفوظ لا يعيش إلا مبدعا. لا يمكن أن يستمر إلا مبدعا هذه الحقيقة بلغت من القوة والحضور مبلغا تكاد لا تصبح معه اختيارا مطروحا، هى حقيقة ماثلة. إبداع نجيب محفوظ يتجلى فى حياته كما يتجلى فى إنتاجه. إن احتفاظه بالقدرة على الدهشة، والشغف بالتعلم، والجدية فى الإنصات، ثم امتلائه بكل ما يصله ليدعه يتحرك فى رحابة وعيه بهذه السلاسة المتجددة، هو إبداع طول الوقت. حتى وهو يحلم، راح يبدع فى الحلم، ثم يلتقط بعض ما تبقى ليعيد صياغته وتشكيله وتأصيله فيما يطل علينا فيما أسماه “أحلام فترة النقاهة”. لم يكفه أن يقوم بإعادة تخليق مريديه من حوله يوما بعد يوم، ذلك الإبداع الذى أسميته يوما فى مثل هذه المناسبة “إبداع:د حى*=* حى.(قياسا على صواريخ أرض أرض). البشر يتخلقون من جديد من علاقتهم بعضهم ببعض، فما بالك وهم فى حضور هذا الكيان الفذ الذى يفجرنا إلينا!! إن من لا يخرج من مجلس هذا الرجل مختلفا هو الآنية والكراسى. حتى الآنية والكراسى رأيتها مرة وقد فرحت به، وهى ترقص على كلماته.
ثمة قصة لا يعرفها الكثيرون تفصيلا عن كيفية ظهور هذه الأحلام أصلا، لا من حيث المضمون والنشر ولكن من حيث إمكانية كتابتها أصلا. شيخنا لا يعرف الإملاء. لم يعتده، وقد رفضه المرة تلو المرة ونحن نعرض عليه احتماله. وهو لا يعرف التسجيل ويرفضه أيضا. حدث ما حدث من غدر جبان وشيخنا فى حال حرم معها من القراءة، ومن مشاهدة التلفزيون والمسرح والسينما، وهو القارئ النهم، والمشاهد المندهش المنتظم. أضاف الحادث إلى ذلك عجزه أن يمسك بالقلم، مجرد إمساك. وهو لا يستطيع أن يعيش إلا إذا أمسك به وخط ما عنده. فما العمل ؟ لم يكن عند أحد منا أى احتمال لأى جواب، لكن يبدو أنه هو وحده الذى كان يعرف الجواب. ظل شيخنا يدرب نفسه كل يوم طوال ست سنوات حتى استطاع أن يكتب بضع كلمات مفهومة فى الصفحة الواحدة، كانت البداية لا تقرأ أصلا، ثم نجح أن يخط حرفا واحدا فى الصفحة كلها، ثم كلمة، ثم بضع كلمات، حتى استعاد هذا النبش الذى تظــهره: نصف الدنيا” مشكورة جنبا إلى جنب مع النص المطبوع (ولكن يبدو أن هذا التصوير الأمين لم يكن أبدا دافعا كافيا لتحرى الدقة، ومقارنة النص المصور بما ينشر تحته مطبوعا، لست أدرى لماذا؟).المهم أنه قبيل، أو ربما بعيد كتابة أول حلم (دون علمنا) لاحظنا أن شيخنا يلوح فى أفق وعيه الكامن ضوء فجر جميل، قلنا إنه ينوى خيرا جديدا. ربما أنه بعد أن وثق أنه يستطيع أن يخط بضع كلمات بجوار بعضها سوف يفعلها. سألته فأطرق قائلا فى تواضع متردد:د “يعنى..، باين فيه “نغبشة كده بتشاور عقلها”. ثم تبين أن هذه “النغبشة” كانت الحمل الذى أخرج لنا هذا العمل الجديد غير المسبوق. صحيح أن أصداء السيرة الذاتية كانت الحدس الباكر لهذا النوع من الكتابة، لكن الأرجح أنه لولا الإعاقة والحدود والإصرار وإلحاح الإبداع وحب هذا الرجل للناس والحياة، ما كان يمكن أن يعاود أو يحاول من جديد هذا النوع الخاص جدا من الكتابة.
العجيب أن كثيرين تصوروا أن هذه الأحلام هى أحلام فعلا تحدث أثناء نوم شيخنا، وأنه لا يفعل إلا أن يرصدها مثلما يحكى أى منا حلمه، وقد نفى شيخنا ذلك عدة مرات، كما نبه إلى أن بعض ما يتبقى من أحلامه عند اليقظة يصبح المادة الخام التى ينسج منها إبداعات الأحلام المكتوبة. إن الإبداع هو الإبداع، سواء كانت مادته أو مثيراته حلما، أم ذكرى، أم حادث أم شخص أم لا شئ.
هناك خطأ نقدى شائع حين يسارع البعض باختزال هذا العمل (أو غيره) إلى رموز لها دلالتها، من أول حميدة فى زقاق المدق، حتى سماره فى ثرثرة فوق النيل. صحيح أن نجيب محفوظ يغلب على وعيه الإبداعى أحيانا مثل هذا الإصرار على الترميز، لكن الصحيح أكثر أنه لا ينبغى أن يعمم النقاد هذا الموقف خصوصا على أحلام فترة النقاهة، ومن قبل “رأيت فيما يرى النائم” (وقد سبق أن تناولت هذا الأمر فى نقد هذا العمل السابق).
المتابع لتطورات علم المعرفة Cognitive Science لا بد أن يبلغه كيف تراجع موقع الرمز والمنطق الخطى المسلسل عن دوره الطاغى فى التفكير واللغة لحساب التشكيلات الكلية والصورة. هذا ما حدث أيضا بالنسبة لقراءة الأحلام والإبداع. إن الدراسات الأحدث قد تجاوزت كل الشائع عن الحلم سلفيا (إبن سيرين كمثال ) أو تحليلا نفسيا (فرويد، كمثال). إن نفس هذا العلم المعرفى راح يؤكد كيف أن التفكير يتم فى اللاشعور أساسا، بل وفى الجسد وبالجسد. حين اخترق هذا العلم تقديس الرمز اعتبرت هذه الاختراقة هى “الهرطقة الأولى”، وحين تجرأ هذا العلم على نفى الدماغ (المخ) كعضو أوحد للتفكير اعتبرت هذه الحركة هى “الهرطقة الثانية”. إذا كان ذلك كذلك بالنسبة للتفكير العادى، فهو أولى أن يكون مدخلنا لقراءة الحلم “صورة ماثلة مكثفة بما هى” دون الإسراع إلى اختزاله رمزا متعسفا. أيد هذا الاتجاه (ترجيح حضور الصورة التمثيلية قبل الرمز) زيادة الاهتمام بنوعية عمل النصف غير الطاغى من المخ، مما لا مجال لتفصيله هنا الآن.
ولكن كيف أختار ما يناسب من هذه الأحلام؟ وأنا لم أقرأها مجتمعه؟ وإن كنت قد عايشت الحمل بها حتى ولادتها؟ انحل هذا الإشكال فجأة بنوع من القرعة هدتنى إلى البدء بثلاثة أحلام متتالية، الحلم 25، 26، 27، وقد تصدروا لى فى بداية المجموعة الثانية التى أصدرتها مجلة نصف الدنيا. لا يوجد أى سبب واضح لهذا الاختيار. تذكرت كيف سجلت قراءتى لأصداء السيرة الذاتية فقرة فقرة، قبل أن أبدأ فى القراءة المشتملة. قلت لعل هذا هو السبيل المناسب لقراءة مثل هذا العمل المكثف واحدة واحدة أيضا، ثم بعد ذلك قد تلوح الفرصة لاستلهام العمل كله. وهاكم ما جرى:
الحلم ] 25، رأيتها فى الحجرة معى. ولا أحد معنا، فرقص قلبى طربا وسعادة، وكنت أعلم أن سعادتى قصيرة. وأنه لن يلبث أن يفتح الباب ويجئ أحد.. وأردت أن أقول لها أن جميع الشروط التى أبلغت بها على العين والرأس، ولكن تلزمنى فترة من الزمن ولكنى فتنت بوجودها فلم أقل شيئا، وناديت رغبتى فخطوت نحوها خطوتين، لكن الباب فتح ودخل الأستاذ وقال بحدة إنك لا تفهم معنى الوقت واقتلعت نفسى، وتبعته إلى معهده القائم قبالة عمارتنا، وهناك قال لى أنت فى حاجة إلى العمل عشر ساعات يوميا حتى تتقن العزف”. ودعانى للجلوس أمام البيانو فبدأت التمرين وقلبى يحوم فى حجرتى، وسرعان ما انهمكت فى العمل. وعندما سمح لى بالذهاب كان المساء يهبط بجلاله. وبادرت أعبر الطريق على عجل. ولكن لم يكن ثمة أمل فى أن تنتظرنى مدة غيابى. وإذا برجل صينى طويل اللحية بسام الوجه يعترض سبيلى ويقول: كنت فى المعهد وأنت تعزف، ولا شك عندى أنه ينتظرك مستقبل رائع وانحنى لى وذهب وواصلت سيرى وأنا مشفق مما ينتظرنى فى مسكنى من وحشة.
المتابع لأحلام فترة النقاهة لابد قد لاحظ كيف أن علاقة محفوظ “بالأماكن” مازالت تمثل المعمار الذى ينطلق منه وبه فى معظم إبداعاته. هذا ليس جديدا طبعا، إلا أنه فى أحلام النقاهة أصبح للمكان حضور أقوى وأكثر مثولا. قلت فى نفسى: لعل هذا هو التعويض الإبداعى لما لحق بالبصر من كلال، وهو نفس التفسير الذى جاءنى حين رصدت عنده يقظة وغلبة نشاط النصف غيرالطاغى من الدماغ (المختص بالتصور الكلى، والإيقاع المتداخل، والتكثيف الضام..إلخ) ربما حدث ذلك لشيخنا نتيجة لتناقص فرص تدريب النصف الطاغى لمواصلة طغيانه بالمنطق الخطى والتسلسل التربيطى المتتالى، حدث هذا بعد الإعاقات الحسية المتزايدة التى امتحن بها شيخنا. هل هذا هو ما جعل للمكان كل هذا الحضور الغالب المتزايد فى هذا العمل؟ ذلك الحضور الذى تزيد من الإحساس به سرعة الحركة، وتداخل النقلات بفجائية تحافظ على الدهشة وتجددها؟
الحجرة هنا هى المشهد الأول الذى جمعه معها وحدهما، وقبل أن يعلن فرحته، أو يرصدها، قفز إليه الزمن يشكك فى الاستمرار. منذ البداية، قبل ومع الفرحة، لاح له التهديد بالفراق “…كنت أعلم أن سعادتى قصيرة، وأنه لن يلبث أن يفتح الباب”. الزمن الملاحق هنا “لن يلبث” أن يكسر خصوصية المكان بفتح الباب، فيختفى وتختفى معه رقصة القلب وسعادة اللقاء. بدا فتح الباب كأنه انتهاك، فإلغاء لهذه الحميمية الواعدة. لم يترك له شعوره بالزمن المهدد بالنهاية فرصة أن يعلن قبوله لكل شروطها.
هنا يقفز زمن آخر زمن الحسابات الخطى التتبعى حين يقترن قبوله شروطها بضرورة الانتظار “فترة من الزمن”. الزمن الأول كان ذاتيا محيطا “.. أعلم أن سعادتى قصيرة” أما هذا الزمن المحسوب فهو زمن الساعة ذات العقارب الدوارة والأرقام المتدرجة (فترة من الزمن). من فرط حرصه وفتنته بوجودها لم يعلن موافقته المرتبطة بفترة السماح المحسوبة. استبدلها بأن “نادى رغبته”. كيف ينادى الواحد رغبته؟ يقولها محفوظ هكذا ببساطة وكأنها(الرغبة) كانت تنتظر – فى حجرة مجاورة – نتيجة حسم المعركة بين الأزمان. زمن التوجس بسرعة اختفاء السعادة، ثم زمن الانتظار “فترة ” حتى يحقق طلباتها. يبدو أن نداءه رغبته كان نوعا من طلب النجدة ليكف عن الحسابات. وبدلا من أن تستجيب الرغبة لندائه يدخل الأستاذ وهو يحمل معه معنى ثالثا لما هو “زمن”. يؤنبه الأستاذ مباشرة على ضياع الوقت “أنت لا تفهم معنى الوقت” وكما نادى الراوى رغبته وكأنه ينادى الحاجب، “اقتلع نفسه” وكأنه ينقلها نقلا من مكانها، وتبع الأستاذ إلى الجانب الآخر “قبالة عمارتنا”. أى وقت يعنيه الأستاذ بسؤاله ؟ الوقت الذى استجابت فيه الرغبة إلى دعوته حتى عجز أن يعلن قبول شروط الحبيبة؟ أم الوقت الذى يحتاجه لإعداد نفسه للوفاء بطلبات المحبوبة، والذى أسماه “فترة من الزمن” حتى يمكنه أن يحقق طلباتها؟ أم الوقت الذى تمنى أن يطول بصحبتها وهما وحدهما وقلبه ممتلئ فرحا وسعادة ؟
نلاحظ هنا، قبل أن نستطرد، قدرة محفوظ على التجول بين حالات ذاته (ذواته)، فاختياره لتعبيرى “ناديت رغبتي” و “اقتلعت نفسي” يشير إلى ذات محورية axon self ( مستعيرين أبجدية ساندور رادو Sandor Rado) وهى الذات التى تتمحور حولها الكيانات (الذوات) الأخرى الداخلية. الرغبة هنا تبدو مشخصنة فى “ذات” وليست مجرد عاطفة.
المهم أنه ما إن اقتلع نفسه وتبع آستاذه حتى وجد نفسه فى حال آخر تماما، لا هو الحال الذى رقص قلبه فرحا بها، ولا هو الحال الذى أنساه أن يعلن قبوله شروط حبيبته، وجد نفسه فى حال الإبن المطيع، أو الطالب النجيب المجتهد. شعر هنا باستجابة طيبة لحرص آستاذه على تنبيهه لمعنى الوقت، ثم مبادرته بالتدريب الجاد على دروس البيانو (وليس حثه على حفظ جدول الضرب مثلا: أنظر حلم 27). من هذا المنطلق بدأ التدريب على الفور باجتهاد شهد له الحكيم الصينى فيما بعد. إن البديل هنا كان ملء الوقت بتدريب مهارات إبداعه، لم ينسه هذا البديل نبض قلبه فى حجرة اللقاء الطروب، لكن هذا الشوق بدا وكأنه حافز لمواصلة التدريب، وليس صراعا معه ضد مواصلة التدريب.
هذه اللقطة تشير إلى أن محفوظا فى هذا الحلم لم يلجأ إلى الاستقطاب الشائع بين القلب والعقل، بين سعادة الحب وضرورة الواجب، بين الواقع والحلم، بل هو قدم بديلا محيطا لملء الوقت بما يجعل له معنى “إنك لا تفهم فى معنى الوقت”، بديلا يحتو ى طاقة الوجدان فى تشكيل الجمال بالتزام مثابر (التدريب على البيانو). وهكذا انهمك الراوى فى مهمته غير مقهور.
لكن الحسبة لم تكن سهلة، فبالرغم من أنه يمارس ما رضى أن يستوعب طاقة وجدانه، وليس فقط ما يؤكد تفوقه أو نجاحه، إلا أن قلبه ظل يحوم حول حجرة اللقاء. صحيح أن التدريب على البيانو (الإبداع المثابر الذى اشتهر به شخص محفوظ بالذات) يمكن – من حيث المبدأ – أن يحتوى الجمال ويطرب له القلب والعقل معا، لكن صحيح أيضا أن القلب الطفل لا يستطيع أن ينتظر حتى تنصقل العواطف وتشحذ الأدوات ليحتوى نبضاته إيقاع الإبداع، فيستغنى به عن جوعه العاطفى، وحنينه إلى الوليف ليعيش معه الفرح والسعادة بلاحسابات.
هنا تقفز الحكمة فى صورة الرجل الصينى طويل اللحية تبارك اجتهاده وتطمئنه على مستقبله. هل يكفى تشجيع هذا الحكيم (الصيني) وتنبؤه له بالتفوق أن يحققا التوازن الذى يحتوى جوعه العاطفى الرقيق؟ لا يبدو أن الأمر كذلك. فمع هذا الإنجاز الواعد، يرجع الراوى إلى نفسه ليواصل سيره إلى مسكنه (لا إلى حجرتهما-لا يوجد دليل على أن حجرة اللقاء كانت إحدى حجرات مسكنه)، يرجع وهو منغمر ببصيرة النضج، راض عن الثمن الذى دفعه فى تحقيق الولاف الصعب، متقبل لما ينتظره من وحده، فهو الذى اختارها فى نهاية النهاية حين رضى أن يجعل للوقت معنى بأن يصقل أدوات الإبداع الواعدة باحتواء دفق عواطف طفولته الجائعة، وتشكيل إيقاع نبضات وجدانه الغض فى ضربات البيانو وهو يعزف، كل ذلك على حساب عاطفته الجياشة الجائعة، فليكن انتظار الوحشة هو الثمن. لينتهى الحلم وهو يمضى فرحا بإنجازه متقبلا للوحشة (ولو مؤقتا).
الحلم ] 26،
جمعنا مقهى بلدى، وقص علينا صاحبى قصة بوليسية من تأليفه.. وقبيل الختام دعانا إلى الكشف عن القاتل. ومن (يفز يعفى من)* دفع ثمن طلبه، ووفقت إلى الإجابة الصحيحة وحدث بذلك غاية السعادة. وبعد ساعة استأذنت فى العودة إلى بيتى. ولانشغالى بنجاحى تهت فسرت فى طرق حتى وجدت نفسى أخيرا أمام المقهى مما أثار ضحك الجميع، وتطوع أحدهم فأوصلنى إلى بيتى وودعنى وانصرف. وبيتى مكون من طابق واحد وحديقة صغيرة وشرعت فى خلع ملابسى ولما صرت بملابسى الداخلية لاحظت أن خطا من التراب يتساقط من أحد أركان الغرفة.. وكان هذا المنظر قد ورد فى القصة التى ألفها صاحبنا وكان نذيرا بسقوط البيت على من فيه فبكيت أن بيتى الصغير سينقض فوق رأسى. وملكنى الفزع فغادرت البيت بسرعة ولهوجة واستزادة فى الأمان انطلقت بعيدا عن البيت بأقصى سرعة فى الهواء الطلق.
المكان هذه المرة هو مقهى بلدى (لاحظ البداية بتحديد المكان فى كل مرة) والبداية بقصة بوليسية يحكيها مؤلفها(يبدو أنه ألفها لتوه) وهو أحد الأصدقاء فنستنتج أنها قصة سطحية للتسلية، وينجح الراوى (الحالم) فى حل اللغز (من القاتل)، ومع أن الجائزة تبدو تافهة (ثمن ما شرب) إلا أنه يبدو أن نشوة النجاح فى ذاتها كانت غامرة حتى أسكرته فكاد يفقد وعيه وتاه عن بيته ودار حول نفسه حتى عاد إليهم فى نفس المكان مما اضطر أحد أصحابه أن يوصله إلى بيته.
نكتشف من البداية كيف أن نشوة النجاح الذاهلة هذه لا تتناسب مع حقيقة المكسب (ثمن المشاريب)، ومع ذلك، فالنجاح هو النجاح، والتنافس هو التنافس، والجوائز هى الجوائز،، والنشوة هى النشوة حتى الذهول.
حين يعو د صاحبنا إلى نفسه (بيته) ويتعرى إلا قليلا (بقيت الملابس الداخلية) ينقلب الخيال إلى واقع حتى تكاد القصة – على تفاهتها – تصبح حقيقة، وهنا يقفز إلينا سؤال آخر غير سؤال القصة اللغز، سؤال يقول “من القتيل؟” (لا من القاتل؟ ). التعرى بعد ذهول الفوز على تفاهة الجائزة أمكن أن ينبه الراوى أنه: إذا كان شخصه بهذه الهشاشة، تسكره نشوة فوز لا قيمة له، فهو مقتول بأى فوز تافه يغرقه فى اغترابه حتى الذهول.
هكذا فجأة يضعنا محفوظ أمام التساؤل عن معنى النجاح ومعنى التنافس، ومعنى الفوز. يعلن محفوظ أن تمثيلية النجاح التى نمثلها جميعا هى دوامة فراغ، وأن سعار الفوز الذى يسكرنا برغم تفاهة الجائزة هو الضياع ذاته. إن الراوى برغم فوزه بمكأفاة حل اللغز هو هو القتيل بسكره بتافه الفوز، وهو – برغم فوزه، أو حتى بسبب فوزه هذا ـ يواجه انهيار وجوده الهش الذى يعلنه تساقط التراب من أحد أركان الغرفة. فهو الفزع من خدعة فوز لا قيمة له حيث لم يمنع انهيار وجود كان هشا طول الوقت، ولم ينتبه صاحبه إلى هشاشته إلا حين غمره ذهوله بفوزه الخائب، فوجب الهرب.
لكن هل ثم سبيل إلى الإصلاح أو التعديل أو الإفاقة أو البدء من جديد؟ يترك محفوظ النهاية مفتوحة، يترك صاحبنا وهو يبحث عن الأمان بعد أن تيقن من قرب انهيار وجوده (بيته الصغير)، راح يبحث عن الأمان خارج ذاته فهو يعدو بعيدا عن بيته. يجرى بأقصى سرعة فى الهواء الطلق، يجرى من نفسه (لأن بيته هو نفسه)، وهذا الهواء الطلق لا يعد بشيء إلا مواصلة الجرى.
(ملاحظ هامشية:د فى الحلم الأول توجه الراوى إلى بيته وهو يستشعر ما ينتظره من وحشة، لكنه توجه مسئولا، وحيدا، مبدعا، ماهرا (عازفا للبيان) رغم الوحدة. أما هنا فالراوى هارب من بيته الوشيك على الانهيار إلى الخلاء، لعل وعسى !!
الحلم ] 27،
فى سفينة عابرة للمحيط أجناس من كل لون ولغات شتى. وكنا نتوقع هبوب ريح وهبت الريح واختفى الأفق خلف الأمواج الغاضبة،إنى ذعرت ولكن أحدا لم يكن يعنى بأحد. وقال لى خاطر إننى وحيد فى أعماق المحيط. وأنه لا نجاة من الهول المحيط إلا بأن يكون الأمر كابوسا وينقشع بيقظة دافئة بالسرور. والريح تشتد والسفينة كرة تتقاذفها الأمواج. وظهر أمامى فجأة حمزه أفندى مدرس الحساب بخيرزانته وحدجنى بنظرة متسائلة عن الواجب. كان الإهمال الواحد بعشرة خيرزانات تكوى الأصابع كيا. وازددت كرها من ذكريات تلك الأيام. (وقال لى الرجل سوف تكتب “….” عن “….” *) وهممت بدق عنقه ولكنى خفت أن يكون أى خطأ سببا فى هلاكى فسكت على الذل وتجرعته رغم جفاف ريقى. ورأيت حبيبتى فهرعت نحوها أشق طريقا بين عشرات المذهولين. ولكنها لم تعرفنى وتولت عنى وهى تلعن ساخطة وجرت نحو حافة السفينة ورمت بنفسها فى العاصفة واعتقدت أنها تبين لى طريق الخلاص فجريت متعثرا نحو حافة السفينة ولكن مدرس الحساب القديم اعترض سبيلى ملوحا بعصاه.
المكان هذه المرة متحرك، لكنه مكان محدد يسمح بالتجمع والتجمهر والانتقال، فقط هو محاط بالمحيط، فلا مجال للهرب إلى المنزل مع الرضا بالوحشة مثلا، ولا مهرب إلى الهواء الطلق قبل انهيار البيت الصغير (نهاية الحلمين 26.25). وكما بدأ حلم “25” بتوقع قصر عمر السعادة، يبدأ هذا الحلم بتوقع العاصفة، “وكنا نتوقع هبوب الريح، وهبت الريح” (لاحظ اختفاء أى برهة زمنية بين التوقع والواقع).
ومع أن السفينة بها أجناس من كل لون ولغات شتى، إلا أن الراوى يشعر بالوحدة ” وقال لى خاطر أننى وحيد”، هذا الخاطر نقله فجأة من السفينة إلى أعماق المحيط. فتمنى بأن يكون هذا الذى يعيشه كابوسا. بدت هذه الأمنية لى وكأنها جذب العودة إلى الرحم الحانى هربا من احتمال الغرق فى المحيط الهادر، إنها أمنية نكوصية واضحة. لو أحسنا قراءة تعبير “يقظة دافئة بالسرور” هذا تعبير نادر. اليقظة عادة تكون نقلة من الدفء إلى النشاط، من سكينة النوم إلى دفع الحركة، لكن هذا الدفء الذى يصف اليقظة بأنها “دافئة بالسرور” لم يحضر إلى وعيى إلا خدر الإحاطة بالسائل الأمنيتونى داخل الرحم والجنين مازال “يبلبط” فى الداخل بعيدا عن العواصف والأنواء. لم يدم هذا الخاطر الهروبى طويلا وحل محله واقع أظهر (كما فى الحلم الأول 25) المعلم هنا من نوع آخر “مدرس حساب قديم”. هذا المدرس لا يسأل أو يتساءل عن:د “معنى الوقت” مثل أستاذ البيانو (حلم 25) ، وهو لا يدعو فى حزم إلى تدريب على مهارة (البيانو). هو مدرس جاف لا يتكلم إلا بلغة الواجب، والإهمال، وليس عنده إلا العقاب. المواجهة هنا مع الخيرزانة لا أكثر ولا أقل، فكانت استجابة الراوى هى الرغبة فى قتله. وحين تبين عجزه، استشعر الذل وابتلعه وهو خائف من أن يضبطوه متلبسا بالشروع فى القتل، ثم كان رد فعل القتل إلى ذاته، فهو الخوف من الهلاك.
مازلنا فى السفينة، ومازالت العاصفة تحيط بها، وظهور معلم الحساب (الأب القاهر الجاف) لم يكن بديلا إيجابيا ليحتوى الفن الرغبة، بل إن هذا المدرس لم يكن واقعا أصلا، كان مجرد تجسيد لذكرى (وازددت كرها من ذكريات تلك الأيام)
يبدو أن الحبيبة التى ظهرت هنا كانت ضربا من الخيال. هى لم تحضر. هو الذى جسدها بخياله ثم راح يشق طريقه إليها (بعد أن فشل فى الهرب إلى الرحم) وهى لا تعرفه، فتولت وهى تلعن ساخطة (لم يقل تلعن من)، ثم إنها اختفت (هل زال الخيال) بأن رمت نفسها فى العاصفة (لم يقل فى المحيط)، فكاد يتبعها وهو يتصور أنها بفعلتها تلك إنما تشير إليه أن هذا هو الحل: إفناء الذات.
الذى حال دون إتمام استجابته لهذه الدعوة هو مدرس الحساب، والصورة التى يقدمها محفوظ تشير إلى أن هذا المدرس لم يكن حريصا على إنقاذه بمعنى دعوته إلى بديل محيط راق مثابر (مثل معلم البيانوا فى حلم 25 ) وإنما الإنقاذ هنا كان أيضا بالتهديد بالعقاب (اعترض سبيلى ملوحا بعصاه). وكأن الدافع لاستمرار الحياة هنا هو الخوف من العقاب الذى ينتظر المنتحر (كما يقول النص الدينى) وليس قبول تحدى الحياة بخوض تجربتها.
ينتهى هذا الحلم دون أن نعرف ماذا حدث للراوى ولا للمدرس ولا للباقين لينطلق خيال المتلقى كيفما شاء.
فماذا بعد؟
أولا: إن تحية هذا الرجل الجميل، الذى بلغ الواحدة والتسعين من عمره منذ أسابع، والذى يعانى من كل ما نعرف وما لا نعرف، لا تكون إلا بأن نأخذ حياتنا مأخذ الجد، مثلما يفعل، نقف عند كل كلمة قالها، أو خطها، حتى تلك التى لم نستطع قراءتها، ونحاول أن نجد موضعها فى وعينا، وأن نتعلم من حفزها لنا. أن نقابلها بمثلها، ونكون عند مسئولية حفزها. هذا هو الاحتفال بمثل هذا الإبداع وهذا المبدع.
ثانيا: إن الاقتصار على ثلاثة أحلام متتالية، لم أتعمد اختيارها، هو خطأ نقدى جسيم، إنه لا يعدو أن يكون دعوة للاجتهاد لأخذ هذه النصوص الظاهرة مأخذ الجد مهما بدا الأمر صعبا.
ثالثا: إننى أتصور أن السبيل لاستكمال هذه القراءة إنما يكون بنفس النهج الذى سلكته فى قراءة أصداء السيرة، وبالتالى يؤجل الربط الشامل للخطوط العامة والأعماق المحورية إلى ما بعد الانتهاء من القراءة المنفصلة حلما حلما.
رابعا: إن ما ذهبت إليه من قراءة، لم يكن تفسيرا لحلم بالبحث عما يرمز إليه، بل كان محاولة كشف لتركيب النص، وبعض تركيب الكاتب، فمثلا المعلم فى الحلم “25” ليس رمزا لسلطة جادة بقدر ما هو إعلان حضور مثل هذه “الذات” الوالدية فى ثنايا التركيب المكثف للنفس البشرية (مما يحتاج إلى تفصيل لاحق) وهكذا.
خاتمة
يا شيخنا الجليل، ما زلت آمل أن يتبنى أهل الحل والربط الفكرة التى اقترحتها بعد تشريفك لنوبل بإنشاء دورية تختص بنقد أعمالك، ليس لى اعتراض على نصب أو تمثال أو جدارية يقيمونها لك فى الميادين، نفخر بها، ونشرف بانتمائنا إليك إذ تذكرنا بك. لكننى أتصور أن الاحتفال الأبقى عاما بعد عام، فى أعياد الميلاد وغيرها، هو أن تصدر دورية باسم “نقد نجيب محفوظ”، دعنا نبدأها دورية سنوية، تقوم بجمع النقد الجارى، ثم ما سبق نشره هنا وهناك، ثم نضيف ما تيسر، ثم يكون نقد النقد، ثم معاودة النقد. ولا نتوقف أبدا.
لقد سبق أن أرسلت هذا الاقتراح إلى أ.د. عز الدين اسماعيل رئيس تحرير مجلة فصول (فى: 11/11/1988) بعد تشريفك لنوبل، وشرحت تصورى وأملى أن الحوار سيكون شديد الثراء، وأن هذه الدورية سوف تكون بداية نهضة نقدية شاملة، لا تقتصر على أعمالك، وهى خليقة أن تنعش جو الإبداع وتثرى حياتنا، وتكشف إمكاناتنا.
فإذا كانت الدولة لم تستجب لهذا الاقتراح طوال أربع عشرة سنة، فهل تستجيب له دار الشروق؟ أو الشركة المصرية للنشر العربى والدولى؟ أو أى ممن يهمه الأمر، ويحبك؟ يا ليت.
أدعو الله أن ترى هذا الأمل يتحقق وأنت بيننا، وكل عام وأنت بخير.