“يومياً” الإنسان والتطور
10-7-2008
العدد: 314
أحلام فترة النقاهة “نص على نص”
نص اللحن الأساسى (حلم 71)
كان أجمل ما فى عهد شبابنا صديق نادر المثال. آية فى خفة الروح وحلاوة النكتة ورشاقة القفشة وبراعة القافية وثراء الحكايات، والنوادر وإلى ذلك كله لم يكن يضن علينا عند الطلب بالغناء والرقص وسائر فنون اللهو. هكذا أمتعنا دهرا حتى وقع عليه الاختيار لشغل وظيفة مرموقة عرفت فى بلادنا بالجلال والوقار. وتوجسنا خيفة، و سرعان ما تحقق تخوفنا فقال لنا وكأنه يرد عنا إنه قرر تغيير حياته من الألف إلى الياء ولم يراجعه أحد وسلمنا أمرنا لله.
وكان إذا قابلنا فى مناسبة حيانا بوقار شديد يعمق شعورنا بالغربة والأسى.
ووهنت العلاقة الحميمة وقاربت التلاشى، ولم نعد نسمع عنه إلا فى نشرة التنقلات والترقيات. وأخذنا نتناسى حتى نسيناه أو كدنا. وباعد الزمن بيننا وبينه حتى شاء القدر أن نلتقى على غير ميعاد ذلك عندما احتفلت البلاد بعيدها القومى الجديد. خرجنا للمشاركة والفرحة.
وعزفت الموسيقى النحاسية ودقت الطبول. وتقدمت فرقة من الجيش تبعتها فرقة من الشرطة تبعتها سيارات الصفوة وهنا طالعنا صديقنا القديم ولكن على حال لم تجئ لنا فى خاطر. رأيناه يمتطى حمارا. ويتجلى التناقض صارخا بين تفاهة موكبه وفخامة ملبسه. وكان يثير الضحك أينما ظهر. لكنه والحق يقال لم يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا حاد شعرة عن وقاره.
التقاسيم
….. تابعت الموكب من بعيد دون شماته، بل بدرجة من الأسى الغامض، وكأنى فهمت ما لا يُفُهم، لكن سرعان ما غمرتنى الدهشة المتوقعة، فرحت أتلفت حولى بين الحين والحين أحاول أن أبحث عن دهشة فى وجوه الناس مثل الدهشة التى اعترتنى، أو حتى عن دهشة أصدقائنا الذين نعرفه معا، فلا أجد شيئا من ذلك، وكأن هذه الفقرة الغريبة وسط المهرجان المتكامل هى أمر طبيعى، أو كأننى الوحيد الذى لاحظتها بهذا الوضوح فالاستغراب الممتزج بالتوجس الذى حل محل الأسى الغامض.
وبرغم علمى عن تغيره الطارد لأى اقتراب، تحاملت على نفسى وذهبت نحوه بعد انتهاء الموكب، فقال بنفس الصَّلف: ماذا تريد؟ قلت له: لا شئ، فقط أحببت أن أعرض عليك خدماتى بحق الصداقة القديمة وأربط الحمار بعيدا قليلا بعد انتهاء الاحتفال بعيدنا القومى الجديد، وعلمنا المتميز الجميل.
قال بنفس اللهجة: أى حمار تعنى؟ هل أصاب عقلك مس؟
فأمسكت بلجام الحمار وأنا أملس على رقبته غير مصدق وقلت: هذا الحمار.
فقال: لولا أننى احترم العشرة القديمة، لقلت لك إذهب عنى فلا يوجد حمار غيرك.
فانصرفت أتلفت وأنا أشك فى عقلى،
وأترحم على أيام النكتة والقفشة والقافية، والنوادر، والرقص والغناء.
****
نص اللحن الأساسى (حلم 72)
امتلأ البيت القديم بالعباسية بالطيور المهاجرة من الإخوة والأخوات فى اليوم المتفق عليه لزيارة الوالدة، وطلبوا منى إعداد أكلة سمك من سماك العباسية المشهور. ذهبت من فورى إلى المطعم وطلبت الطلب ووجدت جميع الموائد مشغولة إلا المائدة التى تلى الباب مباشرة فذهبت إليها وجلست على كرسى فى طرفها أنتظر. وجاءت سيدة فى الستين مصطحبه معها فتاة فى العشرين وجلستا إلى المائدة، وجاء النادل بالأطباق والطواجن. وعلى خلاف المعهود دعتنى السيدة لمشاركتهما الطعام، وبخلاف المتوقع لبيت الدعوة صامتا وبدأت فى تناول الطعام، وسرعان ما جاء النادل باللفافة المعدة للمنزل فتناولتها وأنسحبت من المائدة دون اعتذار أو شكر وخرجت من المطعم فرأيت على بعد ذراع صديقى المرحوم ع . ش وسررت برؤياه سرورا كبيرا. وعلى سبيل المجاملة قدمت له اللفافة لكنه أخذها بلهفة ومضى دون أن ينبس بكلمة إلى باب مفتوح فدخله وأغلقه. وأدهشنى بتصرفه ولكنى لم أجد مناصا من تجديد الطلب فرجعت إلى المطعم وجددت الطلب. وكان النادل يحمل الحلوى إلى السيدة والفتاة. ودعتنى للمشاركة فذهبت دون تردد، وهنا قالت السيدة أنها ترغب فى الذهاب إلى شارع بين السرايات ولكنها لا تدرى كيف السبيل إليه، فتطوعت بتوصيلها وسار ثلاثتنا فى شارع العباسية. وتم التعارف بالشكر وتفرع الحديث بنا واستحوذ على حتى أنى مررت بشارع بين السرايات دون أن أنتبه لذلك، كما نسيت الطعام الذى يجهز لى فى المطعم وكما نسيت المنتظرين والمنتظرات فى البيت القديم بالعباسية.
التقاسيم
…فجأة تميزت ملامح قادم من الناحية الأخرى فى مواجهتنا وتعجبت ما الذى أرجع المرحوم ع.ش. إلى طريقنا من جديد، وكان مازال يحمل اللفافة، وتصورت أنه عاد يشكرنى أمامهم، مما يفسر عودتى إليهم، وإذا به حين اقترب بدرجة كافية يقذف اللفافة فى وجهى وهو يقول: أهكذا. تعطينى سمكا نتنا تكاد رائحته تصل إلى ميدان التحرير؟ التفتُّ إلى السيدة والبنت فوجدتهما تنظران إلىّ شذرا وكأنهما فقدتا الثقة فىّ بغير أمل فى تصحيح، فقررت أن أعلن حقيقته أمامهما حفظا لماء وجهى، فقلت له بأعلى صوتى: إنها ليست رائحة السمك بل رائحة القبر الذى هربتَ منه، ولم تفهم السيدة والفتاة ما أعنى إلا حينما تغيرت ملامح وجهه فغارت عيناه وخدّاه وبرزت العظام لتحدد معالم جمجمة مفزعة، وحين صرخت السيدة والفتاة معا عرفت أننى لا أتخيل.
… حين عدت إلى البيت القديم بالعباسية وجدته قد خلا من كل الطيور المهاجرة، لكن ما أن فتحت حجرة الاستقبال حتى فوجئت بالسيدة والفتاة تجلسان متجاورتان على الأريكة الممتدة فى انتظارٍ قادم يعرفانه، ثم سرعان ما تبينت أنه “أنا”، فراحت السيدة ترحب بى فى أدب جم، وتسألنى عن أمى وأخوالى وأحوالى، ثم أضافت فجأة فى لهجة اعتذار طيب:
– كان من عينىّ يا حبيبى، يا ابن الغالية، لكنها يا ابنى مخطوبة له منذ ولدت.
فرحت أسائل نفسى سرًّا: ففيم كانت كل تلك الوعود؟
ثم التفت لهما فى تسليم قائلا:
– كل شئ قسمة ونصيب!
وإذا بالبنت ترتفع فينفتح السقف لتختفى فى ثنيات السماء.
ثم يغلق السقف وأنا فى حال.
[ولم أستطع أن أتحمل نشيج الأم المكتوم
فإنصرفت مهرولا لا ألوى على شيء]