نشرت فى الدستور
23-1-2008
تعتعة
أحب المؤرخين، ولا أثق فى التاريخ
رحل يونان لبيب رزق
وكأنى فقدت أبى مرة أخرى، مع أنه رحل وهو يكبرنى بأربعة أيام لا غير.
كنت أحبه، مع أننى لا أحب التاريخ، أعنى لا أثق فيه، لا أعتمد عليه، لا أستشهد به، لا أفخر به إلا إذا كنت قادرا أن أمارس محاولة إحياء ما أفخر به “الآن”، أنا لا أثق إلا فى التاريخ الذى يحتويه “دنا” DNA خلايانا الآن، هذا الموقف المؤلم يشكل لى إشكالا حقيقيا مع كثير من المعلومات المحكية مهما بلغت من القداسة.
قابلته مرة واحدة، اشتركنا فى ندوة فى المجلس الأعلى للثقافة، أذكر أنها كانت عن ثقافة المرأة، أو قضية المرأة، أو إبداع المرأة، أو شىء من هذا القبيل الذى لا يصلنى منه –عادة- إلا عكس ما يزعمون أنهم يريدونه لها، لا منها !! المهم: فى تلك الندوة، تكلم هذا الراحل الكريم بعدى، وفوجئت أنه يقرأ ما أكتب هنا وهناك، لم أصدق، أنا أكتب ولا أعرف ماذا يصل إلى منْ، وإذا بهذا الرجل يبلغنى ما بلغنى مما أخجل أن أعيده، عرفت أنه قرأنى، وعرفنى، وأقرّ ما أفعل، وما أحاوله، شعرت أن أبى يباركنى ويشجعنى، ربما هذا ما يفسر شعورى عند فقده، يومها فرحت فرحة وكأننى وجدت مليارا من البشر تصلهم كلمتى.
ذات مرة قرأت وصفا له يقول: إنه إنسان يستحيل عليك أن تكرهه، اضطررت إلى الموافقة على هذا الوصف، مع أنى احترم الكره بقدر احترامى للحب، وأعتبره شرطا من شروط الحب الحقيقى، ولكن كيف يمكن أن أكره شخصا بهذه الدماثة كلها حتى وهو يكتب التاريخ الذى غالبا لا أصدقه، ربما فى عدم تصديقى هذا نوع من الكره الجميل.
آخر مرة اضطررت فيها أن أعلن أننى اختلف معه لدرجة الرفض، كان أثناء تسجيلى لحلقتين متتاليتين عن مسلسل الملك فاروق، حين أعلنت اعتراضى الشديد على تصريحه بأنه بلغه من حسن باشا يوسف وكيل الديوان الملكى،أن الملك فاروق كان عنده فصام، نبهت فى الحلقة إلى أن استسهال استعمال هذا اللفظ الغامض من مؤرخ عملاق مثل د. يونان هو تجاوز يسئ إلى العلم، وإلى الناس، وإلى صاحب السيرة، وإليه، ولا يضيف شيئا !!، كنت أدلى بشهادتى تلك على الهواء، وأنا غير مصدق أننى أتحدث عن هذا العالم الجليل الجميل النبيل، لكننى كنت مستثارا من هذه الموجة الشائعة التى تهين مرضاى قبل أن تهين من يوصف باسمهم، شعرت وأنا أعترض على رأيه هكذا أننى قد تجاوزت الحدود التى تسمح بها عاطفتى نحوه، لكننى اكتشفت فى نفس الوقت أن هذا نوع آخر من الحب.
قبل ذلك بأيام رحل إنسان مصرى آخر، جميل نبيل أيضا، هو جمال بدوى، قابلت هذا الرجل أيضا مرة واحدة، كان ذلك فى الثمانينات، فى مكتبه فى مقر الوفد القديم، كنت أحتج على تجاوز ما أصاب مقالا نشر لى بصحيفتهم، شعرت فجأة أننى فى ميدان المحطة فى طنطا، (إن كان مازال بهذ الاسم)، إذا كان قد وصلنى أن د. يونان “أبى”، فقد شعرت يومها أن جمال بدوى هو “ابن عمى”، وأننا نسير جنبا إلى جنب فى قحافة ضاحية طنطا الملتصقة. بعد رحيله، عرفت أنه من بسيون ، كان مركزنا – طفلا- السنطة ومديريتنا طنطا، قبل أن تستولى علينا إمارة المنوفية لتضمنا إلى مركز بركة السبع بدون حق تقريرالمصير، يومها اعتذر لى جمال بصدق بالغ، وقال لى كلاما قريبا مما قاله د. لبيب رزق بعد عشر سنوات، تابعته بعد ذلك فى التليفزيون، وفى المصور، مؤرخا يكتب التاريخ بتحيز طيب، ذلك التحيز المعلن الذى هو أكثر حيادا ممن يدعون الحياد، فى محادثة هاتفية معه بعد سنوات ، عبرت له عن إعجابى بدقته وإتقانه وصدقه، برغم موقفى من كتابة التاريخ، وإذا بالحديث يطول وهو يشرح لى معنى “التأصيل”، استطعت أن أستنتج أن هذا هو الذى يجعل من كتابته للتاريخ تشكيلا يصل إلى الناس أسرع وأقرب.
هكذا عرفت أكثر فأكثر الفرق بين تسجيل التاريخ، وبين إحياء التاريخ، وإبداع التاريخ، وتلفيق التاريخ، وحمل أمانة التاريخ، ومسئوليتنا “الآن” عن التاريخ.
ليس لى أصدقاء بالمعنى الشائع، لكننى انتزعت صداقة الراحليْن دون إذن، بعد (وقبل) مقابلة واحدة مع كل منهما.
وداعا صديقىّ، واطمئنا، فمصر قادرة على إنجاب من يكمل ما بدأتماه، كل بطريقته.
وداعا.
مع أننى لم أتنازل عن موقفى من التاريخ والمؤرخين.
أعمل ماذا؟