الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كتاب: قراءة فى النفس البشرية (من واقع ثقافتنا الشعبية) الفصل العاشر: ‏‏فصل‏ ‏فى: ‏”قانون‏ ‏الواقع، ورفض النـَّـعـَـابة”

كتاب: قراءة فى النفس البشرية (من واقع ثقافتنا الشعبية) الفصل العاشر: ‏‏فصل‏ ‏فى: ‏”قانون‏ ‏الواقع، ورفض النـَّـعـَـابة”

نشرة “الإنسإن والتطور”

الأثنين: 25-3-2019

السنة الثانية عشرة

العدد: 4223

مقتطف من كتاب:

قراءة فى النفس البشرية

(من واقع ثقافتنا الشعبية)  (1)

الفصل العاشر:

‏‏فصل‏ ‏فى: ‏قانون‏ ‏الواقع، ورفض النـَّـعـَـابة (2)

 نشرة الاثنين 25-3-2019

 عـِتـِبـْت‏ ‏عالوقت‏ ‏قالـّلــِى ‏الوقت‏: ‏إيه‏ ‏مالك

عـَمـّال‏ ‏بتبكى ‏من‏ ‏الأيام‏، ‏إيه‏ ‏مالكْ

اللى ‏جرالك‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏الأصل‏ ‏إِهـْمالـَـكْ

عتبت‏ ‏ع‏ ‏الوقت‏ ‏قال‏ ‏لى ‏الوقت‏: ‏وَنَـا‏ ‏مالي

أنا‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏اعطيك‏ ‏تفضـِّى ‏الجيب‏، ‏وانا‏ ‏مالى (3)

إعمل‏ ‏لنفسك‏ “‏قانون” ‏وى بطـّل‏ ‏اهـْمالـَـكْ

 -‏1-

‏كتبنا‏ ‏فى ‏الفصل‏ ‏الرابع‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏علاقة‏ ‏المثل‏ ‏العامى ‏بأرض‏ ‏الواقع‏، ‏كما‏ ‏ننبه‏ ‏هنا‏- ‏رغم‏ ‏الشائع‏ – ‏أن الموال الحكمة: مثل المثل العامى ‏يقوم‏- ‏من‏ ‏بـُـعـْدٍ‏ ‏معين‏- “‏بشد‏ ‏أذن” ‏البنى ‏آدم‏ ‏منا‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏يمضى ‏حياته‏ ‏نـَعـَّابا‏، ‏قدريا‏، ‏معتمدا‏، ‏يشد‏ ‏أذنه‏ ‏ليذكـِّره‏ ‏أنه‏ “عيب‏ ‏عليه‏ ‏كدا‏!!”.‏

وقد‏ ‏شاعت‏ ‏فى ‏حياتنا‏ ‏مؤخرا‏ ‏الأمثلة‏ ‏القدرية‏، ‏والاستسلامية‏، ‏والتبريرية‏، ‏أو‏ ‏التى ‏تبدو‏ ‏كذلك‏، ‏وقد‏ ‏انتشرت‏ ‏حتى ‏أزاحت‏ ‏من‏ ‏الساحة‏ ‏الأمثلة‏ ‏العامية‏ ‏الواقعية‏ ‏والإيجابية‏ ‏غير‏ ‏التبريرية‏، ‏ربما لذلك وجب على ‏الدارس‏ ‏الأمين‏ ‏أن‏ ‏يهتم‏ ‏بشيوع‏ ‏أمثلة‏ ‏بذاتها‏ ‏فى ‏أوقات‏ ‏بذاتها‏، ‏لا‏ ‏أن‏ ‏يكتفى ‏بالدراسة‏ ‏الكمية‏، ‏بتفسير‏ ‏تواتر‏ ‏أمثلة‏ ‏دون‏ ‏أخرى ‏باعتبار‏ ‏عددها‏ ‏الذى ‏يدور‏ ‏حول‏ ‏معنى ‏بذاته‏، ‏فالأمثلة‏ ‏تظهر‏ ‏وتختفى ‏من‏ ‏مخزون‏ ‏ذاكرة‏ ‏التاريخ‏ ‏بتنوعها‏ ‏وتناقضها‏، ‏ونحن‏ ‏الذين‏ ‏نختار‏ ‏من‏ ‏بينها‏ ‏ما‏ ‏يناسب‏ ‏ما‏ ‏نحن‏ ‏فيه‏ ‏الآن‏، ‏إذن‏ ‏فقيمتها‏ ‏ليست‏ ‏فى ‏ذاتها‏ ‏بل‏ ‏فى ‏وجودها‏ “‏الجاهز” ‏للظهور‏ ‏بحسب‏ ‏أحوال‏ ‏اليوم‏ ‏وما‏ ‏هو‏ ‏نحن‏-‏فلما‏ ‏شاعت‏ ‏فينا‏ ‏القدرية‏ ‏والتبعية‏ ‏والتسليم‏، ‏استدعينا‏، ‏وتذكرنا‏، ‏وكررنا‏ ‏أمثال‏ ‏القدرية‏ ‏والتبعية‏ ‏والتسليم‏. ‏إذن‏ ‏فالعكس‏ ‏محتمل‏، ‏ولكن‏ ‏علينا‏- ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏وقبل‏ ‏ذلك‏- ‏أن‏ ‏نعيد‏ ‏النظر‏ ‏فيما‏ ‏تصورناه‏ ‏سلبيا‏ ‏إذ‏ ‏يبرر‏ ‏القدرية‏ ‏والاعتمادية‏، ‏فقد‏ “‏نقرأ” ‏فيه‏ “‏قولا” ‏آخر‏ ‏من‏ ‏بـُـعـْـدٍ‏ ‏آخر‏.‏

-‏2-

‏ها‏ ‏هو‏ ‏ذا‏ “‏الموال” ‏الذى ‏تـَصَدَّر هذا‏‏ ‏الفصل‏ ‏يقول‏ ‏ما‏ ‏يؤكد‏ “‏الاختيار” ‏فالمسئولية‏، ‏فاللوم‏ ‏والتقريع‏ ‏لمن‏ ‏أهـْمـَل‏ ‏أو‏ ‏تخلى ‏عن‏ ‏مسئوليته‏ ‏متهما‏ ‏الأيام‏ ‏والزمن‏، ‏ولكننا‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏سوف‏ ‏نرى ‏ما‏ ‏يبدو‏ ‏عكس‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏أمثلة‏ ‏أخرى،  ‏وكأننا‏ ‏بعرض‏ ‏هذا‏ ‏التناقض‏ ‏الظاهر‏ ‏نواجه‏ ‏كيف‏ ‏تناول‏ ‏الوعى ‏الشعبى‏ ‏مسألة‏ ‏الجبر‏ ‏والاختيار‏ ‏بمنتهى ‏الدقة‏ ‏والتكامل‏، ‏فالموال‏ ‏هنا‏ ‏قد‏ ‏أشهر‏ ‏فى ‏وجوهنا‏ ‏المسطرة‏، ‏وهو‏ ‏يستعد‏ ‏ليلهب‏ ‏بسنها‏ ‏ظهور‏ ‏أيدينا‏ ‏معلنا‏ ‏أنه لا عتاب على: “الوقت” أو سخط على الزمان والقدر، لأنك السبب فيما جرى لك: نستمع‏:‏

اللى ‏جرى ‏لك‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏الأصل‏ ‏إهمالك

لينتهى ‏آمرا‏ ‏متوعدا‏ ‏أن‏:‏

إعمل‏ ‏لنفسك‏  “‏قانون”  ‏وى .. بطـّل‏ ‏اهمالك

فهو‏ ‏بذلك‏ ‏قد‏ ‏أكد‏ ‏على ‏الاختيار‏ ‏والمسئولية‏، ‏وبالتالى ‏على ‏تحمل‏ ‏نتائج‏ ‏الإهمال‏ ‏كاملة‏ ‏غير‏ ‏منقوصة‏.‏

والآن: دعونا‏ ‏ننظر‏ ‏بنفس‏ ‏الدهشة‏ ‏إلى ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏فنجد‏ ‏عديدا‏ ‏من‏ ‏الأمثال‏ ‏تبدو – لأول وهلة- ‏ ‏وكأنها‏ ‏تؤكد‏ ‏عكس‏ ‏ذلك‏، ‏بمعنى ‏أنها‏ ‏تكاد‏ ‏تفصل‏ ‏بين‏ ‏الفعل‏ ‏ونتائجه‏، ‏بحيث‏ ‏يبدو‏ ‏الناتج‏ ‏خاضعا‏ ‏لمتغيرات‏ “‏أخري” ‏مضافة‏ ‏إلى ‏الفعل‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏بديلا‏ ‏عنه‏.‏

يقول هذا‏ ‏المثل‏ (‏مثلا‏):‏

إجرى  ‏يا‏  ‏ابن‏  ‏آدم‏  ‏جرى  ‏الوحوش

وغير‏ ‏رزقك‏  ‏لم‏ (4) ‏تحوش

فيخيل‏ ‏إلينا‏ ‏أن هذا المثل ومثله إنما ‏يوحى ‏‏أنه‏ ‏لا‏ ‏طائل‏ ‏وراء‏ ‏الجرى ‏والاجتهاد‏، ‏ما‏ ‏دام‏ ‏الرزق‏ ‏مقـدورا‏ ‏ومقدرا‏، ‏ولكن‏ ‏النظرة‏ ‏الثانية‏ ‏والمتعمقة‏ ‏توحى ‏لى ‏بأنه لا‏ ‏ينهانا‏ ‏عن‏ ‏الجرى ‏بل‏ ‏لعله‏ ‏يصر‏ ‏على ‏أن‏ ‏نواصل‏ ‏الجرى،  ‏حتى ‏لو‏ ‏كان‏ ‏الرزق‏ ‏مقدرا‏ ‏مسبقا‏، ‏ومحدد‏ا ‏ابتداءا‏، ‏وكأنه‏ ‏يأمرنا‏ ‏بأن‏ ‏نجتهد‏ ‏إلى ‏أقصى ‏المدى ‏شريطة‏ ‏ألا‏ ‏نتصور‏-‏غرورا‏- ‏أن‏ ‏جـَـرْيـِـنا‏ ‏مهما‏ ‏بلغ‏، ‏هو‏ ‏السبب‏ “‏المباشر” ‏للعائد‏ ‏منه‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏عائد‏ ‏الجرى ‏لا‏ ‏يتوقف‏ “‏فقط” ‏على ‏شدة‏ ‏الجرى ‏وسرعته‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏يتأثر‏ ‏حتما‏، ‏وربما‏ ‏أكثر‏، ‏بطبيعة‏ ‏الأرض‏ ‏التى ‏نجرى ‏عليها‏، ‏والطقس‏ ‏الذى ‏نجرى ‏فيه‏، ‏والرفيق‏ ‏الذى ‏نجرى ‏بجواره‏، ‏والآخر‏ ‏الذى ‏نجرى ‏فى ‏عكس‏ ‏اتجاهه‏، ‏وكذا الآخر‏ ‏الذى ‏يزاحمنا‏ ‏فى ‏اتجاهنا‏.. ‏ثم‏ ‏على ‏المفاجآت‏ ‏التى ‏تفوق‏ ‏حساباتنا، والمكتوبة فى لوحنا لا المفروضة علينا!!‏

وكأن‏ هذا ‏المثل‏ ‏إذ‏ ‏يؤكد‏ ‏على ‏ضرورة‏ ‏الأخذ‏ ‏فى ‏الأسباب‏ ‏بمنتهى ‏الجدية‏ ‏والعرق‏، ‏يؤكد‏ ‏أيضا‏ ‏على ‏ضرورة‏ ‏التسليم‏ ‏بالنتائج‏، ‏لا‏ ‏الاستسلام‏ ‏لها‏، ‏فالتسليم‏ ‏هو‏ ‏مبادرة‏ ‏بالتأهب‏ ‏لقرار‏ ‏جديد‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏جديد‏، ‏والرزق‏-‏ بالذات‏- ‏له‏ ‏وضع‏ ‏خاص‏ ‏فى ‏وعينا‏ ‏الشعبى،  ‏إذ‏ ‏هو‏ ‏مرتبط‏ ‏بطبيعتنا‏ ‏الزراعية‏ ‏المتصلة‏ ‏بالمناخ‏ ‏وتقلباته‏ ‏وظروف‏ ‏الفيضان‏ ‏ومفاجآت‏ ‏الآفات‏، ‏ثم‏ ‏إن‏ “‏الرزق” ‏لا‏ ‏يعنى ‏أساسا‏ “‏كـم‏ ‏الكسب” ‏كما‏ ‏يطل‏ ‏فى ‏وعى ‏الغربيين‏ ‏ومقلـِّدِيهم‏ ‏المعاصرين‏، ‏لكنه‏ ‏يتطرق‏ ‏إلى ‏خصوصية‏ ‏الاكتفاء‏  ‏الآمن‏  ‏الدافع‏  ‏إلى  ‏الرضا‏  ‏الفاعل‏.‏

فإذا‏ ‏كان‏ ‏الأمر‏ ‏كذلك‏، ‏وأصبح‏ “‏الرزق” ‏مرتبطا‏ ‏بالوعى ‏بطبيعة‏ “‏العائد” ‏وفاعليته‏ ‏للوجود‏ ‏الفردى ‏المتميز‏، ‏فإن‏ ‏هذا‏ ‏المثل‏ ‏يرشدنا‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏هذا‏ “‏الرزق” (‏بهذا‏ ‏المعنى) ‏لا يرتبط ارتباطا طرديا خطيا محسوبا‏ بالجهد‏ ‏المبذول‏ ‏فيه‏، ‏وكما أن كلمة الرزق لا تعنى الكمىّ ‏الفائض‏ ‏المغترب‏ ‏عن‏ ‏احتياج‏ ‏صاحبه‏، ‏مهما بذل صاحبه للحصول عليه من جهد، ‏والمتأمل‏ ‏فى ‏أصل‏ ‏كلمات‏ “‏السبوبة”، ‏و”‏المتسبب” المتعلقة فى ثقافتنا بما هو “الرزق”، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يلحظ‏ ‏هذا‏ ‏الاستعمال‏ ‏الخاص‏ ‏لكلمة‏ “‏السبب” ‏ومشتقاتها‏، ‏ليس‏ ‏بمعنى ‏العامل‏ ‏المـُـحـْـدِث‏ ‏للنتيجة‏، ‏وانما‏ ‏بمعنى “‏السبيل‏ ‏الميِـَسـِّـر‏ ‏لجريان‏ ‏الأقدار‏ ‏فى ‏مسارها” ‏فالبضاعة‏ ‏لدى ‏المتسبب‏ (‏المتجول‏ ‏عادة‏) ‏ليس‏ ‏لها‏ ‏قيمة‏ ‏فى ‏ذاتها‏، ‏وإنما‏ ‏هى ‏سبب‏ ‏يجرى ‏من‏ ‏خلاله‏ ‏توصيل‏ ‏الرزق‏ ‏إلى ‏صاحبه‏، ‏وبغيرها‏ ‏لا‏ ‏يصل‏ ‏الرزق‏، ‏وهى ‏-‏ فى ‏ذاتها‏-‏ لا‏ ‏تكفى ‏لأن‏ ‏تكون‏ ‏مصدرا‏ ‏للرزق‏، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏من‏ ‏بُعـْدٍ‏ ‏آخر‏، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏نلحظ‏ ‏ما‏ ‏للرزق‏ ‏من‏ ‏قوة‏ ‏جاذبة‏ ‏فى ‏ذاته‏، ‏يتوازى ‏هذا‏ ‏مع‏ ‏قولهم‏:‏

كل‏ ‏لقمة‏ ‏تنادى ‏أكـَّالها

فهذا‏ ‏المثل‏- ‏من‏ ‏حيث‏ ‏لا‏ ‏ندري‏- ‏يكشف‏ ‏عما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏علاقة‏ ‏غائية‏ ‏كامنة‏ ‏فى ‏معادلة‏ “‏السعي‏/‏الارتواء”، ‏وكأن‏ ‏فى ‏الهدف‏ ‏قوة‏ ‏موجـِّهـَة‏ ‏متناغمة‏ ‏مع‏ ‏السعى ‏إليه‏، ‏وكأن‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏الفعل‏ ‏المندفع‏ (‏جرى ‏الوحوش‏) ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏أن‏ ‏يغيب‏ ‏عنا‏ ‏تــَـوَاكـُـبـُـه‏ ‏مع‏ ‏الجذب‏ ‏الغائى (‏المـُقدَّر‏).‏

ثم‏ ‏انظر‏ ‏معنا‏ ‏إلى ‏كلمتى “‏تنادى ‏أكالها”، ‏فاللقمة‏ ‏لا‏ ‏تذهب‏ ‏إليه‏، ‏فلا‏ ‏تعفيه‏ ‏من‏ ‏السعى ‏إليها‏، ‏لكنها‏ “‏تناديه”– ‏وهكذا‏ ‏يتأكد‏ ‏لدينا‏ ‏ما‏ ‏تقصده‏ ‏هذه‏ ‏الأمثال‏ ‏من‏ ‏محاولة‏ ‏نفى “‏المباشرة” ‏بين‏ “‏السعى” ‏و”‏عائده”، ‏دون‏ ‏الإقلال‏ ‏من‏ ‏قيمة‏ ‏السعى ‏وضرورته‏، ‏ودون‏ ‏المبالغة‏ ‏فى ‏فيضان‏ ‏الرزق‏ ‏سلبيا‏، ‏فإذا‏ ‏انتقلنا‏ ‏خطوة‏ ‏أخرى ‏إلى ‏أعلى ‏لأمكن‏ ‏تصورنا‏ ‏ذلك‏ ‏القانون‏ ‏الأشمل‏ ‏الذى ‏يضـَـفـِّر‏ ‏الجهد‏ ‏مع‏ ‏عائده‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏التكامل‏ ‏فى ‏قانون‏ ‏يحتويهما‏ ‏معا‏، ‏وبذلك‏ ‏تنتفى ‏هذه‏ ‏العلاقة‏ ‏المختزلة‏ ‏التى ‏بالغ‏ ‏فى ‏قيمتها‏ ‏غرور‏ ‏الانسان‏ ‏المعاصر‏ ‏بتملكه‏ ‏آلات‏ ‏الحساب‏ ‏بتركيزه‏ ‏على ‏الجانب‏ ‏المادى ‏من‏ ‏الانتاج‏، ‏وهكذا‏ ‏ينتفى ‏التناقض‏ ‏بين‏ ‏تحذير‏ ‏الموال من وضع اللوم على “الوقت” (القدر)‏، ‏وبين‏ ‏هذا‏ ‏المثل‏ ‏العامى ‏كما‏ ‏يبدو‏ ‏لأول‏ ‏وهلة‏، وكأنه يقلل من قيمة “الجرى جرى الوحوش”، فى حين أنه يؤكد علاقة تناسب السعى بالنتيجة، بطريقة أرحب مرورا بالرازق الوهاب.

لكن‏ ‏لابد‏ ‏لى ‏أن‏ ‏أعترف‏ ‏أننى ‏عثرت‏ ‏على ‏مثل‏ ‏آخر‏، ‏كاد‏ ‏يستحيل‏ ‏أن‏ ‏أجد‏ ‏له‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏التأويل‏ ‏لكى ‏أقلب ظاهر‏ ‏سلبيته‏ ‏إيجابا‏، ‏فهو‏ يبدو لأول وهلة كأنه ‏تحد‏ٍّ ‏صارخ‏ ‏يدعو‏ ‏إلى ‏النوم‏ (‏الكسل‏) ‏فى ‏كل‏ ‏الأحوال‏.‏

“‏إن‏ ‏اقبلـتْ‏ ‏نام‏، ‏والنوم‏ ‏فيهــا‏ ‏تجـــارة‏، ‏

وإن‏ ‏أدبرتْ‏ ‏نام‏ ‏والجرى ‏فيها‏ ‏خسارة”‏

‏ ‏ولاستحالة‏ ‏تصديق‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المثل‏ ‏يعنى ‏ما‏ ‏توحى ‏به‏ ‏ظاهر‏ ‏الفاظه‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏المـَخـْرج‏ ‏الوحيد‏ ‏هو‏ ‏افتراض‏ ‏ضمنى – ‏استعملناه‏ ‏كثيرا‏- ‏بأن‏ ‏التمادى ‏فى ‏السلبيات‏ ‏هوالمخرج‏ ‏الحقيقى ‏لتعريتها‏ ‏وإيقافها‏، ‏ليخرج‏ ‏منها‏ ‏عكسها‏ ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏فى ‏الفسيولوجيا‏: ‏الكفّ‏ ‏بفرط‏ ‏الإثارة (5) ‏‏أى أنه يقوم بوظيفة تعرية هذا الكسل فى كل الأحوال حتى تنتبه إلى ما يـُـدفع فيه، وهو يترك إقبال الدنيا وإدبارها لعوامل أخرى بعيدة تماما عن ما جاء فى موّال البداية، بل لعلها عكسه، إن الدعوة إلى النوم فى كل الأحول هى تذكرة ضمنية بما ينتج من انسحاب من الحياة لو تواصل النوم فى كل الأحوال، فهو الموت، وإن كانت قد توقفت طويلا أتساءل كيف يكون النوم تجارة ومكسبا إذا أقبلت الدنيا على هذا الشخص، هذا التسليم سلبى لم أفهمه اللهم إلا إذا كان من باب السخرية كما يقول مثل آخر.

“الرزق بيستلطخ”

واللطخ بالعامية: هو البليد الكسول، ومع ذلك يأتيه الرزق دون جهد، وفى الحالية لابد أن يخرج مغزى المثل من الإخبار إلى السخرية!

-‏3-

 ‏وثـَـمَّ ‏تناقض‏ ‏مع‏ ‏موال‏ ‏آخر‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏وقفة‏ ‏أخرى،  ‏فموال التحذير من لوم “الوقت” ‏يدعو‏ ‏إلى ‏التخطيط‏ ‏تبعا‏ ‏لقانون‏ ‏يقينا‏ ‏من‏ ‏الإهمال‏، ‏يكاد‏ ‏يعارض‏-‏ ولو‏ ‏ظاهريا‏-‏تلك‏ ‏الدعوة‏ ‏التى ‏يدعو‏ ‏إليها‏ ‏مثل‏ ‏آخر ‏يقول‏: ‏

إحيينى ‏النهاردة‏ ‏وموِّتنى ‏بكره

إلا أننى رحت أتابع هذا المثل أكثر وأنا أعيشه ‏أعمق‏: ‏فوجدته‏-‏ويا‏ ‏للمفاجأة‏- ‏لا‏ ‏يطلب‏ ‏لذة‏ ‏عاجلة‏ ‏على ‏حساب‏ ‏مكسب‏ ‏حقيقى ‏آجل‏، ‏ولكنه‏ ‏يؤكد‏ ‏على ‏ضرورة‏  “‏الحياة”  ‏الآن‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏كان‏ ‏الموت‏ ‏هو‏ ‏حتم‏ (‏أو‏ ‏تهديد‏) ‏الغد‏، ‏فهو‏ ‏يعرِّى ‏هذا‏ ‏الجزء‏ ‏من‏ ‏وجودنا‏ ‏الذى ‏يؤجل‏ “‏الحياة” ‏ليربط‏ ‏بدايتها‏ ‏بتحقيق‏ ‏مكسب‏ ‏معين‏ (‏شهادة‏، ‏مال‏، ‏سفر‏..‏الخ‏) ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏السعى ‏إلى ‏الهدف‏ ‏وليس‏ ‏مجرد‏ ‏تحقيقه‏ ‏هو‏ ‏فى ‏ذاته‏ ‏حياة‏، ‏فالحياة‏ ‏هى “‏الحركة‏ ‏إلى” ‏وليست‏ “‏الوصول‏ ‏عند“- ‏فحين‏ ‏يرفض‏ ‏المثل‏ ‏تأجيل‏ ‏تعميق‏ ‏الحياة‏ ‏واستطعامها‏ ‏الآن‏، ‏تحت‏ ‏عنوان‏ ‏أنها‏ ‏سوف‏ ‏تأتى ‏غدا‏، ‏وحين‏ ‏يغامر‏ ‏بأخذ‏ ‏الفرصة‏، ‏فيعيش‏، ‏الآن‏، ‏حتى ‏لو‏ “‏هددوه” ‏بأنها‏ ‏الفرصة‏ “‏الأخيرة”; ‏حين‏ ‏يفعل‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏يمسك‏ ‏بزمام‏ ‏المبادرة‏ “‏فيعيش” “‏الآن”، ‏الذى ‏هو‏ “‏بكرة” ‏حين‏ ‏يصبح‏ “‏بكرة” ‏هو‏ “‏النهارده”!! ‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏كل‏ “‏بكرة” ‏سوف‏ ‏يصبح‏ “‏النهاردة” (6) ‏بمجرد‏ ‏أن‏ ‏نعيشه‏ ‏متى ‏حـَلّ‏، ‏ثم‏ ‏يكون‏ ‏له حينذاك‏ “‏بكره” ‏وهكذا‏، ‏وكأن‏ ‏الوعى ‏الشعبى ‏بذلك ‏- ‏قد‏ ‏ضحك‏ ‏على ‏الموت -، وكأنَّ المثل‏ ‏يرفض‏ ‏الاغتراب‏ ‏فى ‏كذبة‏ ‏الوعد‏ ‏بالتأجيل‏، إنه يرفض ‏تأجيل‏ ‏الحياة‏… ‏لا‏ ‏تأجيل‏ ‏المكسب‏ ‏أو‏  ‏اللذة‏ ‏أو‏ ‏الارتواء‏، ‏هكذا‏ ‏قال‏ ‏لى ‏المثل‏: إما‏ ‏حياة‏ “‏الآن” ‏أو‏ ‏لا‏ ‏حياة‏ ‏أبدا‏. ‏

وحتى ‏يتضح‏ ‏المعنى ‏أكثر‏ ‏فلنتصور‏ ‏عكس‏ ‏المثل‏: “‏أمـِـتنـْـى ‏اليوم‏ ‏واحـْـينـِى ‏غدا” ‏أنظر‏ ‏الخدعة‏ ‏والكذب‏، ‏إذ‏ ‏هل‏ ‏بعد‏ “‏هذا” ‏الموت‏ – اليوم – ‏حياة‏ غدًا أو أى غد، ‏الحياة‏ ‏تولـّـد‏ ‏الحياة،‏ ‏و”‏غدا” ‏هو‏ ‏الذى ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يتأجل‏ ‏لأنه‏ ‏لا‏ ‏يأتى أبدًا “‏فغدا‏ ‏هو‏: “‏النهارده” ‏فى ‏زمن‏ ‏آخر‏.‏

وثمَّ ‏ ‏بعد‏ ‏آخر‏ ‏أحسست‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏نبض‏ ‏المثل‏ ‏الأعمق‏ ‏وهو‏ ‏بُعد‏ ‏التحدى،  ‏فقد‏ ‏قرأت‏ ‏المثل‏ ‏بعد‏ ‏إضافة “هذا حقى” كما أضفت‏ ابقى قابلنى!

إحينى  ‏النهارده‏، (هذا حقى) ‏و‏موِّتنى  ‏بكره‏، (ابقى قابلنى؟)

‏-4-

 ‏ثـَمَّ‏ ‏تناقضٌ‏ ‏ثالث‏ ‏نواجهه‏ ‏ونحن‏ ‏نقرأ‏ هذا ‏الموال‏، ‏وهو‏ ‏يوصى ‏بعدم‏ “‏تفضية‏ ‏الجيب” (‏أنا‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏أعطيك‏ ‏تفضى ‏الجيب‏، ‏وأنا‏ ‏مالى) ‏يقفز فى وجوهنا التناقض ‏حين‏ ‏نقرأ‏ ‏مثلا‏ ‏يقول‏ ‏العكس‏.‏

إصرف‏ ‏ما‏ ‏فى ‏الجيب‏ ‏يأتيك‏ ‏ما‏ ‏فى ‏الغيب

وبالتمادى ‏فى ‏الدفاع‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏الشعبى ‏نرجّح‏ ‏أن‏ ‏“الصرف“‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏مرادفا‏ ‏للتبذير‏ “‏تفـَضِّى“، (كما جاءت فى الموال) ‏بل‏ ‏قد‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏تنشيط‏ ‏حركة‏ ‏القرش‏ ‏بحفزه‏ ‏إلى ‏مغامرة‏ ‏الصرف‏، ‏والتصرف‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏كان‏ ‏العائد‏ ‏فى ‏ضمير‏ ‏الغيب‏، ‏فتحريك‏ ‏رأس‏ ‏المال‏ ‏يحتاج‏ ‏دائما‏ ‏إلى ‏إتخاذ‏ ‏قرار‏ ‏محفوف‏ ‏بالمخاطر‏‏، ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يليق‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نفهم‏ ‏كلمة‏ “‏الغيب” ‏كما‏ ‏يفهمها‏ بعض ‏الغربيين‏، ‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏الغيب‏ ‏هو‏ ‏المجهول‏، ‏أو‏ ‏الخرافة‏، ‏أو‏ ‏الميتافيزيقا، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الغيب‏ ‏فى ‏الوعى ‏الشرقى ‏عامة‏، ‏والاسلامى ‏خاصة‏، ‏هو‏ “‏حقيقة” أُخرى ‏مكمـِّلة‏ ‏وفاعلة‏، ‏وفى ‏الإسلام‏ ‏يتقدم‏ ‏الإيمان‏ ‏بالغيب‏ ‏على ‏الإيمان‏ ‏بتفاصيل‏ ‏أخرى ‏ظاهرة‏ ‏للعيان‏، ‏فهذا‏ ‏الغيب‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يرسل‏ ‏لى ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏صرفت‏، ‏بل‏ ‏مقابل‏ ‏ما‏ ‏صرفت‏ ‏فهو‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏قانون‏ ‏الحياة‏ (‏الحركة‏) ‏الغيب‏ ‏إذن‏ ‏ليس‏ “‏سلبا” ‏لما‏ ‏نعرف‏ (‏كما‏ ‏يبدو‏ ‏عند أغلبهم) ‏ولكنه‏ “‏حقيقة” ‏ما‏ ‏لا‏ ‏نعرف‏، ‏وبهذا‏ ‏التفسير‏ ‏يكون‏ ‏المثل‏ ‏دعوة‏ ‏إلى ‏عدم‏ “‏التخزين”، ‏ونهى ‏عن‏ ‏حبس‏ ‏القرش‏ ‏فى ‏الجيب‏، ‏أو‏ ‏تحت‏ ‏البلاطة‏، ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏المجهول‏، ‏فيكون‏ ‏دعوة‏ ‏إلى ‏الحياة‏ ‏والحركة‏ ‏اطمئنانا‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الغيب‏ ‏هو‏ ‏فى ‏جانبنا‏-‏ جانب‏ ‏الحياة‏-‏ وليس‏ ‏ضدنا‏ ‏ولا‏ ‏هو‏- ‏دائما‏- ‏متربص‏ ‏بنا‏.!!‏

وبهذه‏ ‏القراءة‏ (‏المتحيزة‏ ‏حتما‏) ‏لا‏ ‏نرى ‏تناقضا‏ ‏حقيقيا‏ ‏بل‏ ‏تكاملا‏ ‏لقوانين‏ ‏الحياة‏، ‏وإصرارا‏ ‏على ‏دوام‏ ‏الحركة‏ ‏والمسئولية‏ ‏معا‏.‏

-‏5-

‏ينتهى‏ ‏الموال‏ بهذا الأمر: ‏إعمل‏ ‏لنفسك‏ “‏قانون”- ‏ونحن‏ ‏لا‏ ‏نتصور‏ ‏القانون‏ ‏الذى ‏يوصى ‏به‏ ‏الوعى ‏الشعبى ‏للوقاية‏ ‏من‏ ‏الإهمال‏ ‏والاتكال‏ ‏والتبرير‏- ‏لا‏ ‏نتصوره‏ ‏قيدا‏ ‏على ‏الحركة‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏نتصوره‏ ‏وعيا‏ ‏متكاملا‏ ‏بالمتناقضات‏، ‏وقد‏ ‏حاولت‏-‏لاهيا‏ ‏فى ‏البداية‏- ‏أن‏ ‏أستجيب‏ ‏للموال‏ ‏وأضع‏ ‏لنفسى “‏قانونا” ‏مناسبا‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏نبض‏ ‏الوعى ‏الشعبى ‏الذى ‏يغمرنى ‏الآن‏، ‏فجاءت‏ ‏صياغته‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى‏:‏

قانون‏ ‏أحوالى ‏الشخصية‏:‏

‏(‏حالة‏ ‏كونى ‏أعيش‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة‏)‏

‏تمهيد‏: ‏بعد‏ ‏الإطلاع‏ ‏على ‏واقع الحال ورفض ‏ادعاء‏ ‏المثالية‏، ‏وبعد الانتباه إلى احتمال مواصلة ‏التأجيل‏ ‏الممتد‏ ‏والتمحك فى أوهام‏ ‏التاريخ‏، ‏والمشاركة المحتملة حتى لو خفية فى ‏التخدير‏ ‏المنظم‏، ‏المقصود‏ ‏منه‏ ‏والعفوى،  ‏ودون‏ ‏المساس‏ ‏بالقوانين‏ ‏الأطول‏ ‏عمرا،‏ ‏ولا‏ ‏بالاستراتيجية‏ ‏الحركية‏، ‏المنطلقة‏، ‏يتنبه‏ ‏على ‏شخصِى ‏الضعيف‏، ‏مما‏ ‏وصلنى ‏من‏ ‏وعينا‏ ‏الشعبى،  ‏بما‏ ‏هو‏ ‏آت‏:‏

‏نص‏  ‏القانون‏:‏

مادة‏ (1) ‏أن‏ ‏أنكسف‏ ‏على ‏دمى،  ‏وأحسم‏ ‏أمرى ‏وأحدد‏ ‏وضعي‏: ‏الآن‏ ‏وليس‏ ‏غدا‏.‏

مادة‏ (2) ‏أن‏ ‏أقبل‏ ‏الممكن‏ ‏المتاح‏ ‏بشجاعة‏ ‏القادر‏ ‏المستمر‏ ‏الواثق‏ ‏من‏ ‏استراتيجية‏ ‏ممتدة‏.‏

مادة‏ (3) ‏أن‏ ‏أنظر‏ ‏فى ‏مرونة‏ ‏متحفزة‏ ‏إلى ‏نتائج‏ ‏الخطوات‏ ‏المتوسطة‏ ‏أولا‏ ‏بأول‏، ‏محافظا‏ ‏على ‏الإتجاه‏ ‏الأمامى ‏مع‏ ‏التعلم‏ ‏الدائم‏.‏

‏المذكرة‏ ‏التفسيرية‏ للقانون:‏

‏1- ‏بالنسبة‏  ‏للمادة‏  ‏الأولى (‏الحسم‏ ‏والوضوح‏):‏

فقد‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏أوردنا‏ ‏ما‏ ‏يؤكد‏ ‏ضرورة‏ “‏الحسم” ‏مهما‏ ‏كان‏ ‏الواقع‏ ‏مؤلما‏ ‏أو‏ ‏جاثما‏ ‏وقد‏ ‏استشهدنا‏ ‏بالمثل‏:‏

“‏اللى ‏بـِدَّك‏ ‏تمضيه‏ ‏اقضيه

واللى ‏بدك‏ ‏ترهنه‏ ‏بيعه

واللى ‏بدك‏ ‏تخدمه‏ ‏طيعه”‏

وبالنظر‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المثل‏- ‏فإننا‏ ‏نأتنس‏- ‏تفسيرا‏ ‏للمادة‏ ‏الأولي‏- ‏بالتأكيد‏ ‏على ‏الحسم‏ ‏والوضوح‏ “‏الآن” ‏وليس‏ ‏بعد‏، ‏لكننا‏ ‏نحتاج‏ ‏إلى ‏وقفة‏ ‏مؤلمة‏ ‏أمام‏ “‏إللى ‏بدك‏ ‏تخدمه‏ ‏طيعه” ‏فلماذا‏ ‏أخدمه‏ ‏ولماذا‏ ‏أطيعه؟‏ ‏وأى ‏حسم‏ ‏فى ‏هذا؟

فى ‏البداية‏ ‏نرى – ‏كما‏ ‏ذكرنا‏ ‏سابقا‏- ‏أن‏ ‏الاعتراف‏ ‏بالضعف‏ ‏هو‏ ‏الطريق‏ ‏إلى ‏القوة‏، ‏وأن‏ ‏الطفل‏ ‏الذى ‏ينافس‏ ‏أباه‏ ‏إبتداء‏ ‏ودائما‏، ‏لا‏ ‏ينمو‏ ‏أصلا‏، ‏وأخيرا‏ ‏فإن‏ ‏الأمر‏ ‏الواقع‏ ‏الذى ‏يفرض‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏معنى ‏الخدمة‏ ‏هى ‏الطاعة‏ ‏المعلنة‏، ‏هو‏ ‏إعلان‏ ‏لطبيعة‏ ‏علاقة‏ ‏صعبة‏ ‏وظالمة غالبا‏، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏الإعلان‏ ‏فى ‏ذاته‏ ‏هو‏ ‏بداية‏ ‏حركة‏ ‏جدلية‏ ‏تتجاوز‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الصعوبة‏، ‏وهذا‏ ‏الإعلان‏ ‏هو‏ ‏ضد‏ ‏العبودية‏ ‏السرية‏، ‏وأوهام‏ ‏المساواة‏، ‏فطاعة‏ ‏العبد‏ ‏للسيد‏ ‏إذا‏ ‏امتدت‏ ‏إلى ‏مداها‏، ‏فهى ‏إنما‏ ‏تحيى ‏الجدل‏ ‏الهيجلى ‏”جدل‏ ‏العبد‏ ‏والسيد”‏، ‏وحين‏ ‏يتألم‏ ‏التابع‏ ‏من‏ ‏التبعية‏، ‏لابد‏ ‏وأن‏ “‏يخطط” ‏للتخلص‏ ‏منها‏، ‏وفى ‏مثل‏ ‏تطبيقـى‏: ‏تصورت‏ ‏أننا لو‏ ‏اعترفنا‏ ‏بطبيعة أعباء‏ ‏المعونة‏ ‏الأمريكية من البداية -‏ (‏وقبل‏ ‏ذلك‏ ‏السوفيتية‏)- ‏إعترافا‏ ‏صعبا‏ ‏شريفا‏، ‏لما‏ ‏صرفنا‏ ‏مليما‏ ‏فى ‏إستهلاك‏ ‏أو‏ ‏رفاهية‏، ‏بل‏ ‏فى ‏إنتاج‏ ‏وبناء‏، ‏وهنا‏ ‏تصبح‏ ‏الطاعة‏ ‏مبعث‏ ‏الألم‏ ‏البانى ‏دون‏ ‏الإختباء‏ ‏تحت‏ ‏لافتات‏ ‏التعاون‏ ‏الدولى ‏وتبادل‏ ‏المصالح‏، ‏وهذا‏ ‏الألم‏ ‏هو‏ ‏الخليق‏ ‏بأن‏ ‏ينبه‏ ‏التابع‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يوجه‏ ‏قرش‏ ‏السيد أو الدائن‏ ‏إلى ‏تحريره‏ ‏لا‏ ‏إلى ‏تخديره‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏يقوله‏ ‏ناسنا‏ ‏سبقا‏ ‏لكل‏ ‏علوم‏ ‏الإقتصاد‏ ‏المستحدثة‏:‏

إداين‏ ‏وازرع‏ ‏ولا‏ ‏تداين‏ ‏وتبلع

 ‏2- ‏بالنسبة‏  ‏للمادة‏ ‏الثانية‏: (‏الممكن‏  ‏المتاح‏:  ‏للقادر‏  ‏الواثق‏)‏

‏ ‏لعل‏ ‏أصعب‏ ‏ما‏ ‏يعلمنا‏ ‏إياه‏ ‏المثل‏ ‏الشعبى،  ‏هو‏ ‏هذا‏ ‏التواضع‏ ‏فى ‏المطالب‏، ‏الذى ‏لا‏ ‏يبرره‏ ‏ولا‏ ‏يؤمّـنه‏ ‏إلا‏ ‏الوثوق‏ ‏بالقدرة‏ ‏المتنامية‏، ‏وحسن‏ ‏توجه‏ ‏الحركة‏، ‏مع‏ ‏اليقين‏ ‏بوصول‏ ‏الحق‏ ‏لأصحابه‏، ‏وفى ‏هذا‏ ‏يبدو وكأن‏ “‏المثل‏ ‏الشعبى” يتعارض ‏مع‏  ‏فعل‏  ‏الشعر‏: ‏فى ‏اتجاهه‏ ‏لاختراق‏ ‏المستحيل‏، ‏ولكنه‏ ‏تعارض‏ ‏مظهرى ‏ومرحلى،  ‏فقبول‏ ‏الممكن‏ ‏ليس‏ ‏بديلا‏، ‏عن‏ ‏طلب‏ ‏المستحيل‏، ‏ولكنه‏ ‏استعداد‏ ‏لخوض‏ ‏غمار‏ ‏المسئولية‏ ‏بقوة‏ ‏متنامية‏، ‏والأمثلة‏ ‏المؤكـِّدة‏ ‏لذلك‏ ‏التفسير‏ ‏تتواتر‏ – ‏كما‏ ‏سبق‏ ‏الإشارة‏ ‏إليها‏- ‏بلا‏ ‏حصر‏، ‏خذ‏ ‏عندك‏، ‏مثلا‏:‏

‏1-‏ إلعب‏ ‏بالمجرى (7) ‏لما‏ ‏يجيلك‏ ‏البندقي‏.‏

‏2- ‏إلعب‏ ‏بالمقصوص‏ ‏لما‏ ‏يجيلك‏ ‏الديواني

‏3- ‏تجمـَّــز‏ ‏بالجـِــمـِّيز‏ ‏حتـى ‏يأتيك‏ ‏التين‏  (8)

ولابد‏ ‏أن‏ ‏نلاحظ‏ ‏كلمة‏ “‏إلعب” ‏فى ‏المثل‏ ‏الأول‏ ‏والثانى،  ‏فهى ‏ليست‏ ‏كلمة‏ “‏رضا” ‏أو‏ “‏توقُّف”، ‏ولكنها‏ ‏حركة‏ ‏شطارة‏  ‏وتيقظ‏، ‏أما‏ ‏كلمة‏ “‏تجمَّز” ‏فهى ‏منحوتة‏ ‏بلا‏ ‏معنى ‏محدد‏ ‏لتترك‏ ‏لك‏ ‏أن‏ ‏تسقط‏ ‏عليها‏ ‏ما‏ ‏تشاء‏ ‏من‏ ‏معان (كما ذكرنا)‏، ‏المهم‏ ‏هو‏ ‏إرتباطها‏ ‏بكلمة‏ “‏جميز” ‏أى ‏أن‏ ‏تناول‏ ‏كل‏ ‏شىء‏ ‏يكون‏ ‏بحسبه‏ ‏تماما‏، ‏لا‏ ‏أكثر‏ ‏ولا‏ ‏أقل‏، ‏غير‏ ‏أنى ‏أرجح‏ ‏أن‏ ‏القارىء‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يشاركنى ‏رفضا‏ ‏كثيرا‏ ‏أو‏ ‏قليلا‏ ‏لاستعمال‏ ‏أفعال‏ “‏يجيلك” “‏يأتيك” ‏فهى ‏تعطى ‏شعورا‏ ‏بأن‏ “‏المسألة” ‏فى ‏يد‏ “‏آخر”، ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏أنها‏ ‏توصى ‏بقبول‏ ‏الممكن‏ ‏والصبر‏ ‏عليه‏ ‏بلا‏ ‏شروط‏، ‏ولكن‏ ‏قد‏ ‏يخفف‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الشعور‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الصيغة‏ ‏ترجح‏ “‏حتمية” ‏النتيجة‏، ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏تؤكد‏ ‏على ‏انتظار‏ “‏فاعل” ‏قادم‏ ‏بالحل‏ ‏السهل‏، ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏ما‏ ‏دمت‏ ‏قد‏ ‏رضيت‏، ‏وقدرت‏، ‏ولعبت‏، ‏وتحركت‏، ‏فى ‏إطار‏ ‏الواقع‏ ‏الحالى،  ‏فطبيعى ‏أن‏ ‏ينتج‏ ‏منه‏ ‏ما‏ ‏تريد‏، ‏يأتيك‏ ‏نتاجا‏ ‏لصبرك‏ ‏النشط‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أسميه‏: ‏الانتظار‏ ‏الفاعل‏، ‏أو‏ ‏الصبر‏ ‏الحركى،  ‏وهو‏ ‏نوع‏ ‏الصبر‏ ‏الذى ‏هو‏ ‏على ‏يقين‏ ‏من‏ ‏النتيجة‏ ‏النهائية‏ ‏ويتمثلها‏ ‏ويعلنها‏ ‏بهدوء‏ ‏وتحد‏ ‏مهما‏ ‏اختفت‏ ‏معالمها‏ ‏خلف‏ ‏سحب‏ ‏الشك البدئى‏ ‏وأوهام‏ ‏المثالية الهروبية‏، ‏وهو‏ ‏الصبر‏ ‏الذى ‏يزيح‏ ‏الدخيل‏ ‏من‏ ‏طريقه‏، ولو ‏بالمقاومة‏ ‏السلبية‏، ‏والإهمال‏.‏

إصــبر‏ ‏على ‏جارك‏ ‏السو

يا‏ ‏يرحل‏ ‏يا‏ ‏تجيله‏ ‏مصيبة‏ ‏تاخذه

فالدخيل‏-‏ محتلا‏ ‏أو‏ ‏حاكما‏ ‏ظالما‏- ‏لا‏ يمكن أن ‏يبقى إلى الأبد ‏على ‏قلب‏ ‏شعب‏ ‏رافض‏، ‏يقظ‏، ‏ساخر‏، ‏متحفز‏، ‏ولعل‏ ‏هذا‏ ‏الأسلوب‏ ‏الواثق‏، ‏مضروبا‏ ‏فى ‏نتاج‏ ‏حصيلة‏ ‏الزمن‏ ‏الممتد‏، ‏هو‏ ‏سر‏ ‏ثبات‏ ‏الشعب‏ ‏المصرى ‏فى ‏مواجهة‏ ‏محتلـِّيه‏ ‏والمستبدين‏ ‏به‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء (9)،  ‏وكأنى ‏بهذا‏ ‏الشعب‏ ‏المصرى ‏يجرب‏ ‏حكامه‏ ‏مثلما‏ ‏يجرب‏ ‏أحذيته‏، ‏وكأنى ‏به‏ ‏يستعملهم‏ ‏وهم‏ ‏يتصورون‏ ‏العكس‏.‏

“‏إلبس‏ ‏خف‏ ‏واقلع‏ ‏خف‏ ‏لما‏ ‏يجيلك‏ ‏خف”

فصبر‏ ‏الشعب‏ ‏المصرى ‏هو‏ ‏حركته‏ ‏فى ‏الممكن‏ ‏المتاح‏، ‏وثقته‏ ‏بالحق‏ ‏الراسخ‏، ‏وصداقته‏ ‏للزمن‏ ‏الممتد‏، ‏الزمن‏ ‏الذى ‏طوعه‏ ‏لإرادته‏ ‏بترسيخه‏ ‏لفكرة‏ ‏الخلود‏، ‏وعظمة‏ ‏الهرم‏ ‏الأكبر‏-‏ عندى‏-‏ هو‏ ‏أنه‏ ‏ذلك‏ ‏الاعلان‏ ‏الماثل‏ ‏أمام‏ ‏وجدان‏ ‏البشرية‏ ‏أن‏ ‏وحدة‏ ‏الزمن‏ ‏عندنا‏ ‏ليست‏ ‏هى “‏ساعة‏ ‏الحظ”، ‏ولا‏ “‏انتخابات‏ ‏الرياسة” ‏ولكنها‏ ‏وحدة‏ ‏الحركة‏ ‏المتواصلة‏ ‏بين‏ ‏الأجيال‏، ‏بل‏ ‏بين‏ ‏الأحياء‏، ‏ولا‏ ‏أنكر‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏مرت‏ ‏بى ‏أمثلة‏ ‏أخرى ‏لا‏ ‏تـُطـَمْنـِن‏، ‏ولا‏ ‏تسمح‏ ‏لى ‏بالتمادى ‏فى ‏هذه‏ ‏الحماسة‏ ‏الدفاعية‏، ‏فليس‏ ‏من‏ ‏الصبر‏ ‏النشط‏، ‏ولا‏ ‏من‏ ‏التحفز‏ “‏المتحرك‏ ‏فى ‏الممكن” ‏أن‏ ‏يقبع‏ ‏الواحد‏ ‏منا‏ ‏ساكنا‏ ‏فى ‏كمون‏ ‏لا‏ ‏يستجيب‏ ‏إلا‏ ‏لفعل‏ ‏فاعل‏ ‏خارجى،  ‏كما‏ ‏يوحى ‏المعنى ‏الظاهر‏ ‏للمثل‏ ‏القائل‏:‏

خليك‏ ‏فى ‏عِشـَّـك‏ ‏لما‏ ‏ييجى ‏حد‏ ‏ينشك

فإذا‏ ‏تماديت‏ ‏فى ‏الدفاع‏، ‏فأنا أقرأ‏ ‏هذا‏ ‏المثل‏ ‏باعتبار‏ ‏أنه‏ ‏تحذير‏ ‏من‏ ‏فساد‏ ‏السكون‏، ‏وإنذار‏ ‏بأن‏ ‏الهرب‏ ‏الساكن‏ ‏لا‏ ‏يدوم‏، ‏إذ‏ ‏لابد‏ ‏سيأتى ‏من‏ ‏يقتحمه‏، ‏فتواجه‏ ‏مصيرك‏ ‏بضعف‏ ‏الخائب‏، ‏ما‏ ‏لم‏ ‏تستعد‏ ‏لهذه‏ ‏اللحظة‏ ‏أو‏ ‏تغامر‏ ‏بالسبق‏ ‏إلى ‏المبادرة‏، ‏ومن‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏الدفاعى ‏أقرأ‏ ‏هذا‏ ‏المثل‏ ‏هكذا‏:‏

خليك‏ ‏فى ‏عشك‏، (‏ولن‏ ‏تقدر‏) ‏لأنه‏ ‏سوف‏ ‏يأتى ‏-‏ حتما‏- ‏من‏ ‏ينشك (فهـَيـَّا انطلق)‏ (10)

إن ثقة هذا الشعب بالزمن تصلنى أنه لا يهمد حتى لو بدا ساكنا، وأنه دائم البحث عما يناسبه حتى لو تأخر، وأنه مادام لا يكف عن البحث فهو سوف يجد ضالته، يتجسد ذلك حين يأتى مثل يجعل الإناء مهما بـّدا ساكنا هو الذى فى حالة بحث عن غطاء له، يقول المثل:

“تنِّ الحـُق يدوَّر على غطاه لما إلتقاه

والحـُقّ هو العلبة الصغيرة التى توضع فيها الأشياء الثمينة، أو الهلامية أو مساحيق التجميل، وله غطاء محكم عادة (11)

3- ‏بالنسبة‏  ‏للمادة‏  ‏الثالثة: (‏مرونة‏  ‏التعلم‏  ‏ودوام‏  ‏التقدم‏)‏

وهنا‏ ‏أدرج‏ ‏فى ‏المذكرة‏ ‏التفسيرية‏ ‏للقانون‏ ‏ما‏ ‏يكمل‏ ‏المادة‏ ‏الثانية‏، ‏إذ‏ ‏لا‏ ‏يجعل‏ ‏الإنتظار‏ (‏بالحركة‏ ‏فى ‏الممكن‏) ‏آمـِنـًا‏ ‏لمجرد‏ ‏أنه‏ ‏يقظ‏ ‏أو‏ ‏متحفظ‏ ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏خطوة‏ ‏ضمن‏ ‏استراتيجية‏ ‏طويلة‏ ‏معروفة‏، ‏ولكنه‏ ‏انتظار‏ ‏يحمل‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏التعلم‏ ‏من‏ ‏نتاج‏ ‏الخطوات‏ ‏الوسطى،  ‏والأهداف‏ ‏الجزئية‏، ‏فحين‏ ‏أتجمز‏ ‏بالجميز‏، ‏وألعب‏ ‏بالمجرى،  ‏لا‏ ‏أفعل‏ ‏ذلك‏ ‏لاهيا‏ ‏أو‏ ‏مستلقيا‏ ‏مطمئنا‏ ‏إلى ‏حسن‏ ‏النية‏ ‏وسلامة‏ ‏العاقبة‏، ‏فالتين‏ ‏لا‏ ‏يأتى،  ‏والبندقى ‏لا‏ ‏يظهر‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الفعل‏ ‏المستمر‏ ‏مهما‏ ‏بدا‏ ‏صغيرا‏، ‏والتأكيد‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏الأمثلة‏ ‏العامية‏ ‏ ‏مثل‏:‏

الأرض‏ ‏مـِشّ‏ ‏شهاوى    ‏دى ‏ضرب‏ ‏عالكلاوى

فالأرض‏ ‏هنا‏ ‏هى ‏الزراعة‏، ‏والضرب‏ ‏على ‏الكلاوى ‏هو‏ ‏وجع‏ ‏الظهر‏ ‏من‏ ‏طول‏ ‏الانحناء‏ ‏للرى ‏والعزق‏…‏الخ

والمسألة‏ ‏لا‏ ‏تحتاج‏ ‏فقط‏ ‏للجهد‏ ‏والتعب‏، ‏ولكن‏ ‏أيضا‏ ‏للحذق‏ ‏الماهر‏، ‏ماذا‏ ‏وإلا‏……‏

كما‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏، ‏هذه‏ ‏المسألة‏ ‏بالذات،‏ ‏ليست‏ ‏بالحظ‏ ‏بل‏ ‏هى ‏بالجهد‏ ‏المثابر‏، ‏والرعاية‏ ‏المنتظمة‏.‏

كـل‏ ‏شىء‏ ‏بالبـــخت‏    ‏إلا‏ ‏القلقاس‏ ‏مية‏ ‏وفحت‏  (12)

فإن‏ ‏تحقق‏ ‏الهدف‏ ‏الوسيط‏- ‏بالجهد‏ ‏والتعب‏ ‏والحذق‏ ‏والمهارة‏- ‏إستمرت‏ ‏المسيرة‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الاتجاه‏، ‏وأسرعت‏ ‏الخطى،  ‏وإن‏ ‏أخطأت‏ ‏الهدف‏ ‏فلا‏ ‏مفر‏ ‏من‏ ‏المراجعة‏ ‏بكل‏ ‏الألم‏ ‏والحرص‏ ‏على ‏التعلم كما تـُعـَـلـِّـمـُـنـَا الأمثال التالية‏:‏

أ- إن‏ ‏طاب‏ ‏لك‏، ‏طاب‏ ‏لك‏، ‏

وإن‏ ‏ما‏ ‏طاب‏ ‏لك‏ ‏حوِّل‏ ‏طـَـبـْـلك‏.‏

ب‏- ‏ إن‏ ‏كان‏ ‏فى ‏العمود‏ ‏عيب‏ ‏يبقى ‏ما‏ ‏الأساس‏.‏

جـ‏- ‏إن‏ ‏كنتم‏ ‏نسيتوا‏ ‏اللى ‏جرى،  ‏هاتوا‏ ‏الدفاتر‏ ‏تتقرا‏.‏

ومع‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏التعلم‏ ‏بمرونة‏، ‏والتقدم‏ ‏بإصرار‏، ‏فلابد‏ ‏من‏ ‏تحديد‏ ‏علامات‏ ‏على ‏الطريق‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏يسرقنا‏ ‏الزمن‏، ‏فالانتظار‏ ‏المتحرك‏ ‏فى ‏الممكن‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يسحبنا‏ ‏مخدرين‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏لا‏ ‏نهاية‏، ‏فثمة‏ ‏علامات‏ ‏تفرق‏ ‏بين‏ ‏إيجابية‏ ‏التحرك‏ ‏فى ‏الممكن‏، ‏وخدعة‏ ‏التأجيل‏ ‏العاجز‏.‏

إن‏  ‏كانت‏  ‏ندِّتْ‏  ‏كانت‏  ‏ندِّت‏  ‏مالعـَصْر

فالسماء‏ ‏الخالية‏ ‏تماما‏ ‏من‏ ‏السحاب‏ ‏الواعد‏، ‏فى ‏جو‏ ‏قائظ‏، ‏لا‏ ‏يـُـرتجى ‏منها‏- ‏فى ‏بلادنا‏ ‏خاصة‏- ‏أن‏ ‏ترسل‏ ‏الغيث‏ ‏بلا‏ ‏علامات‏، ‏وبالتالى ‏فإن‏ ‏طال‏ ‏الإنتظار‏ ‏ولم‏ ‏تظهر‏ ‏العلامة‏ (‏ولكل‏ ‏موقف‏ ‏علامة‏) ‏فلا‏ ‏مفر‏ ‏من‏ ‏التغير‏ ‏والتحرك‏ ‏وإعادة‏ ‏الحساب‏، ومن ثم تغيير الخطة إذا لزم الأمر والانطلاق إلى وجهة أخرى أو إلى المرحلة التالية (حوّل طـَـبـْـلك).

 

[1] –  المقتطف: من الفصل العاشر: فصل‏ ‏فى: ‏قانون‏ ‏الواقع، ورفض النـَّـعـَـابة (من ص: 99-إالى ص 114) كتاب (“قراءة فى النفس البشرية” من واقع ثقافتنا الشعبية) (الطبعة الأولى 2017)، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب يوجد فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

[2] – مجلة الإنسان والتطور عدد أكتوبر 1986- مثل وموّال: “من الجبر  والإختيار  إلى الحسابات والتعلم”

[3] – “‏أنا‏ ‏مالى” ‏هنا‏ ‏تفيد‏ “‏أنا‏ ‏أملأ” (‏جيبك‏) ‏وهى ‏غير‏ ‏أنا‏ ‏مالى ‏الأولى ‏ التى قالها عن الوقت وهى التى ‏تعنى “‏ليس‏ ‏من‏ ‏شأنى” ‏أن‏ ‏أتحمل‏ ‏مسئوليتك‏ ‏نيابة‏ ‏عنك.

[4] – لاحظ‏ ‏استعمال‏ ‏حرف‏ “‏لم” ‏وليس‏ “‏لن” ‏للمستقبل‏، وهذا الاستعمال صحيح ومألوف فى العامية المصرية.

[5]  – Supramaximum inhibition

[6] – فى إحدى الأراجيز التى كتبتها للأطفال قلت:

ييجى بكره، يلاقى نفسه: إلنهارده بتاع “غداً”

يا حلاوة، تبقى مليان باللـى جَـىّ مقدِّماً

– يحيى الرخاوى: “أغانى مصرية: عن الفطرة البشرية للأطفال <=> الكبار وبالعكس” مركز الحضارة للنشر – الطبعة الأولى 2017.

[7] – المجرى ‏والمقصوص‏ ‏نوعان‏ ‏من‏ ‏الدنانير‏ ‏أدنى ‏من‏ ‏البندقى ‏والديواني‏.‏

[8] – سبق الاستشهاد بهذ المثل (ص 58) وألحقنا له هامشا عن الفرق بين الجميز والتين.

[9] – هناك‏ ‏مثل‏ ‏أقل‏ ‏تصويرا‏ ‏لهذه‏ ‏الثقة‏، ‏وأقل‏ ‏إشارة‏ ‏إلى ‏إيجابية‏ ‏الصبر‏ ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏يحمل‏ ‏نفس‏ ‏الاتجاه‏.‏

‏ ‏أصبرى ‏يا‏ ‏ستيت‏ ‏لما‏ ‏يـِـخـْـلـَـى لـِـكْ‏ ‏البيت

[10] – هذا‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏هذا‏ ‏المثل‏ ‏يؤكد‏ ‏على ‏فائدة‏ ‏الكمون‏ ‏الاختياري‏، ‏وترجيحى ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يفعل‏ ‏ذلك‏، ‏لأن‏ ‏الكمون‏ ‏الاختيارى ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏لمن‏ ‏يقطع‏ ‏حضانته‏ (‏بأن‏ ‏يهشه‏)- ‏لذلك‏ ‏فالموقف‏ ‏التحذيرى ‏هو‏ ‏الأقرب‏ ‏للتفسير‏ ‏الذى ‏أرتضيته‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏هناك‏ ‏مثل‏ ‏آخر‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏السكون‏ ‏والتسكين‏ ‏والإنسحاب‏ ‏يقول‏:‏

من‏ ‏خرج‏ ‏من‏ ‏داره‏ ‏ينـقل‏ ‏مقداره، وهو ما لا أستطيع الدفاع عنه.

[11] – للأسف قرأت  تفسيرا من باحثة جامعية لهذا المثل وهى تقرأ الحـُق على أنه الحـَـقَّ ورجحتُ أنها قاهرية محدثة لم تسمع عن الحـُق وغـَطـَاه من الأصل؟ ودعوت لها!

[12] – كتبت‏ ‏شعرا‏ ‏عاميا‏ (‏موازيا‏) ‏يخاطب‏ ‏إحدى ‏الصديقات‏  ‏التى ‏كانت‏ ‏تمارس‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الرقة‏ ‏المحبـه الناعمة التى بدت لى سلبية حتى‏ ‏أزعجتنى ‏حتى ‏الرفض‏، ‏فقلت فيها‏: ‏

والنظره‏ ‏إللى ‏بتغمر‏ ‏الكون‏ ‏بالحنان‏ ‏من‏ ‏غير‏ ‏حساب‏ ‏بتقول‏:

                                               “‏حرام‏..، ‏ياناس‏ ‏حرام‏،

‏أرض‏ ‏الشراقى ‏مشققة‏ ‏جاهزه‏، ‏بلاش‏ ‏نجرح‏ ‏شعورها‏ ‏بالسلاح‏…” ‏

يا‏ ‏ناس‏ ‏يا‏ ‏هوه‏!! ‏بقى ‏دا‏ ‏كلام؟‏ ‏بقى ‏دا‏ ‏حنان‏؟

 “‏الزرع‏ ‏لازم‏ ‏يتروى”

‏أيوه‏ ‏صحيح‏، ‏بس‏ ‏كمان‏.. ‏الزرع‏ ‏لازم‏ ‏يتزرع‏ ‏أول‏،

‏ماذا‏ ‏وإلا‏ ‏البذرة‏ ‏حاتنبت‏ ‏وبس‏ ‏

(إلى أن قلت!)

‏إوعى ‏يكون‏ ‏حبك‏ ‏طريقه‏ ‏للهرب‏ ‏من‏ ‏ماسكة‏ ‏المحرات‏،

‏وصحيانك‏ ‏بطول‏ ‏الليل‏ ‏ليغرق‏ ‏زرعنا‏.

– يحيى الرخاوى ديوان “أغوار النفس” 2017   قصيدة ” الترعة‏ ‏سابت‏ ‏فى ‏الغيطان” الطبعة الثالثة 2017.

 

 

النشرة السابقة 1النشرة التالية 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *