نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين:10 -6-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4300
قراءة فى النفس البشرية (1)
(من واقع ثقافتنا الشعبية)
الفصل الخامس عشر:
فصل فى: المؤسسة الـزواجية فى الوعى الشعبى
المثل الرئيس:
“خدتك عـُـواز خدتك لــُــواز،
خدتك أكيد العوازل كدت انا روحى”
*****
خدتك عـُوَازْ خدتك لـُـوَازْ، خدتك أكيد العوازل كدت انا روحى (2)
المؤسسة الزواجية من أقدم المؤسسات الاجتماعية والدينية، وقد استطاعت أن تحافظ على استمراريتها وصلابتها ووظيفتها عبر الزمن، ومع ذلك فلا هى أصبحت ناجحة بالمعنى الذى يتناسب مع تطور الإنسان المعاصر وطموحاته، ولا هى حتى استمرت نافعة بالقدر المناسب لأغراض تحمى طفولة الإنسان وحاجته إليها عددا أكبر من السنين إذا قورن بطفولة الأحياء الأخرى وخاصة الثدييات.
بعد الحرب العالمية الثانية، ومع اهتزاز كل القيم الثابتة، اهتزت هذه المؤسسة ضمن ما اهتز، وعرضت البدائل، ومورست الكوميونات، وقفزت أحلام اليوتوبيات الغامضة، وبالنسبة للطب النفسى هوجمت المؤسسة الزواجية ضمن ما هوجم من دعاة الحركة المناهضة للطب النفسى التى تردد صداها ما بين أوربا وأمريكا (لانج، وكوبر فى إنجلترا، وبازاجليا فى إيطاليا، زاس فى الولايات المتحدة..إلخ) وكان من أصرح من كتب فى ذلك مباشرة “دافيد كوبر”، فى كتابه “موت الأسرة” (3)، ولم تستطع هذه الحركة بصفة عامة أن تؤثر فى استمرارية أو صلابة أو ضرورة حضور المؤسسة الزواجية.
ولن نتطرق إلى إشكالة التحدى التى مازالت تواجه عمل علاقة بين البشر على مستوى من النضج يسمح بصدق الاقتراب، وعمق التواصل، وفى نفس الوقت يسمح بدرجة من الحرية واختبار الاختيار.
ونبدأ بضرورة التفرقة بين عدة أمور جاهزة للخلط والتشويش:
1- فثم فرق بين الحاجة إلى الآخر، وبين حب الآخر (والفرق لا يعنى الفصل أو النفى، فالتداخل وارد ومقبول ومطلوب).
2- وثم فرق بين الحاجة للآخر، وبين الحاجة إلى “حاجة الآخر لى” ”أنا نـِفـْسَى حد يعوزْنى، وأعوز عوزانه”، وهو ما شرحناه قبلا (ص69).
3- وثم فرق بين صفقة معلنة من الاعتماد المتبادل وبين اعتماد خفى من جانب واحد، حتى لو بدا هو الجانب المتسلط الطاغى ظاهرا (الرجل عادة) .
4- وثم فرق بين علاقة يجمع بين أطرافها ضغط المجتمع الخارجى، وعلاقة يجمع بين أطرافها جذب طرفيها إلى بعضهما البعض من الداخل
5- وثم فرق بين مؤسسة ثنائية لايحافظ على استمرارها إلا طرف ثالث (الأولاد مثلا)، وبين علاقة تستمر لأن العقد يتجدد تلقائيا بوعى وحرية معلنة ومختبرة مدعمة بالمجتمع من خارجها الأدنى فالأدنى.
ولن نتناول كل هذه الجوانب الآن، لكن دعونا نبدأ بقراءة المثل:
خدتك عُـوَاز خدتك لــواز، (4)
خدتك أكيد العوازل كدت انا روحى
عقدت هذه الصفقة الزواجية ابتداءً (ملحوظة كلمة صفقة هى كلمة واقعية كريمة!!) على أساس واضح تماما: فالزوجة (الشجاعة هنا) تعلن آمالها التى كانت قد عقدتها على هذه العلاقة، وأن الزواج قد تم، من وجهة نظرها ليحقق ثلاثة طلبات، أو احتياجات، أو آمال.
(1) الحاجة، (العوزان): ونذكر أنه فرق بين “الحاجة إلى“، و”الـرغبة فى” و”الـحضور مع” و”الانضمام إلى“، وكل هذه التعبيرات تختفى كثيرا تحت مسمى شائع يقال له “الحب”، وأحيانا ينتطم فيما يسمى الزواج، وهى صفقة مشروعة، وإنسانية، وطبيعية، لكنها على المستوى البشرى هى ”بداية علاقة محتملة”، وليست ”غاية سعى عطشان أو جائع.”
والمثل هنا ينبه أن المرأة تبينت أنها كانت “تحتاج إلى شريك”، لا لتبدأ معه، ولكن لتهدأ عنده (وصلنى ذلك لأول وهلة: بمعنى التوقف)، [خدتك عـُوَازْ].
(2) الملاذ (من لاذ): وهذا أمر مشروع تماما ووارد طول الوقت فى عمق الصفقة الزواجية، بل وصفقات الحب كذلك، وبالنسبة للمرأة بوجه خاص وفى مجتمعنا نحن بوجه أخص، فالمرأة تعتبر أن من أهم ما يحقق لها الأمان، (وأحيانا يصبرها على الهوان) أن تتزوج من يمنحها هذا الملاذ أو المأوى،، أو حتى يعد بذلك (ضمنيا عادة)، أو تأمل فيه على الأقل، وهذا مصداقا للمثل الآخر القائل:
”ضـِلّ راجل ولا ضـِلّ حيطة”
والمرأة عندنا – غالبا أو عادة - تستظل بالرجل فى صورة معلنة، يراها الجميع، إذ يقوم رجل ظاهرللعيان، فى مواجهة شمس الواقع الحارق والمُلاَحـِق، فيلقى بظله أمام الجميع، فتستظل به هذه المرأة التى أعلنت أنه هكذا أفضل من “حيطة”، وقد خطر ببالى أن أقارن بين الظلين، ولماذا يُـفـَضـَّلُ ظل هذا الرجل على ظل الحيطة، فخطر ذلك ببالى وأنا أشاهد هذه البدعة الجديدة المسماة الدِّشَ (طبق الاستقبال الهوائي) وهى تتكيـّف لتلتقط الإشارات من العالم، ووجدت لها ظلا جميلا قادرا على التكيف مع المتطلبات، خطـَـرَ لى أن ظل الرجل لكى يظل أفضل من ظل الحائط لا بد أن يكون مرنا هكذا فى مواجهة ضغوط الحياة وألعاب المجتمع من حوله، وبالتالى يصلح ملاذا للمرأة التى تحتمى به، أكثر من ظل حائط ثابت لا يحمى إلا من يكمن بجواره.
(3) المـِلـْكية: ولن أطيل هنا فى شروط الملكية والتخصيص فى المؤسسة الزواجية، لكنها من أهم الشروط غير المعلنة فى هذه المؤسسة، وهى ممارسة قديمة وأساسية تدخل فيها كل قيم ورموز التملك عموما وعادة ما يحتدّ التملك كلما زادت قيمة الممتلكات مثل العربات الفارهة، والمجوهرات الباهظة، والمقتنيات النادرة، وكلها ليس لها وظيفة فى كثير من الأحيان إلا أن تعلن قدرة من يمتلكها على امتلاكها، وقد بلغنى من تعبير”أكيد العوازل” أنه بمثابة إعلان أن هذا الرجل (المـُتـَميـِّز بكذا وكيت) هو ملكى أنا، وهذه الظاهرة – فى المؤسسة الزواجية خاصة، نجدها عند الرجل الذى يحرص على إظهار جمال زوجته (أو صاحبته) أمام الآخرين، لا ليعرضه للفرجة، أو لكى لا يحرم الآخرين من متعة النظر إلى التناسق الجميل، وإنما ليعلن ضمنا “أن هذا الجميل جداً هو ملكى أنا، ولى وحدى حق الاستمتاع به”!، ولعل هذا ما تضمنه بالقياس قول الزوجة – بدورها- هنا فى المثل “أكيد العواذل”
فإذا كانت هذه هى شروط هذه الصفقة الزواجية، وهى شروط عادة لا تتبينها صاحبتها بوعى كاف، ولكنها عادة ما تكـتشـفـها بعد اختبار احتمال تحقـقها بعد عقد الصفقة، فإن المثل يعلن أن أيا منها لم يتحقق: فلا الزواج سد الحاجة، ولا الملاذ كان آمـِنـًا، ولا صفات “البضاعة” المـُمـْـتـَـلـَـكة كانت كافية لكيد العواذل، والنتيجة هى الإحباط:”كدت انا روحى” وهوالتعبير المرادف لـ”إديت نفسى مقلب“. “وثمَّ تعبير أقسي” أنا اللى خـَوْزقت نفسي“.
على أن الإحباط لا يأتى من أن شروط الصفقة الزواجية لم تكن صالحة للتطبيق على أرض الواقع، أو لأنها شروط مجحفة أو حتى لأنها شروط “سرية”، على الرغم من أن كل هذا يسرع بالإحباط ويفسره جزئيا، وإنما قد تأتى لأن الممارسة الزواجية قد تظهر أنها كانت مبنية على أحلام، أو أفكارٍ آمـِـلـَـة أو تمنيات خيالية، وبالتالى جاء الواقع يعريها.
والأخطر من ذلك - وهو متواتر بشكل أو بآخر- أن الأزواج، حتى الذين يلوحون بتحقيق هذه الشروط قبل الزواج يرسبون فى أول (أو عاشر أو …الخ) اختبار، فكثيرا ما تجد الزوجة التى أمـِلـَتْ فى تحقيق احتياجها للزواج بهذه الصفقة أن الزوج هوالذى أخذها يسد بها ضعفه واحتياجه، ويستعملها لرى عطشه دون حتى النظر إلى عطشها، وأيضا يمكن أن يقوم بسد احتياجها فى البداية، أو هى تتصور ذلك، لكن غلبة الأنانية، وفرط الغرور، وتعرى الشروط وحـِدَّةُ احتياجه، كل ذلك يوقف هذه العملية وينكشف العمرالقصير عاجزا عن الوفاء بهذاه الشروط.
وحين تكتشف الزوجة أنها هى ملاذ زوجها وليس العكس، قد ترضى بهذا الدور وتفرح به وتصبح هى بمثابة الرجل وتستمر الحياة، وقد ترفضه بعد فترة تطول أم تقصر لأنه يكاد يكون عكس ما حلمت به أو تصورته أو أمـِلـَتْ فيه، كما يقول المثل.
وأخيرا فإنه قد يثبت - بعد المعاينة! ـ أن الميزات التى كانت تتصورها، أو تقدرها، والتى كانت تصلح للمباهاة، ولكيد العواذل، لم تثبت أنها ميزات حقيقية، وبالتالى فبماذا تكيد العوذال، أو ما يقوله مثل آخر:
“طـِلـِع نـَقـْبـِك على شونة“ (5)
وكل هذا إفشال من الواقع نتيجة لأنه حتى التوقعات المبدئية لم تثبت صحتها، والنهاية [كـِدْت انا روحي].
****
ثَمّ مثل آخر يغوص فى مستويات أعمق فى الحياة الزوجية وهو لا يعلن الحاجة إلى منظومة محكمة فحسب بل ينذر بملامح دالة على اهتزاز هذه المنظومة وعيوب التهاون إزاءها .
هذا المثل يتناول تعرية المقارنة بين: الزوج الطرى والعشيق الحمش (6)
يقول المثل:
جوزى ما حـَـكـَـمـْـنـِـى، دار عشيقى ورايا بالنـَّـبـُّـوت
ماذا يقول هذا المثل؟
أولا، هو مثل يشير – بكل الشجاعة – إلى العلاقات خارج مؤسسة الزواج إشارة واقعية وليست فقط من منطلق النهى الأخلاقى.
ثانيا: هو ينبه- ضمنا – إلى بعض ما يجعل الزوجة تتخذ عشيقا قويا حاسما، ليس لأنها تريد من رجلها (بدءا بزوجها) أن يستعبدها (ما حكمني)، فأن يحكم الزوج زوجته ليس معناه أن يقهرها، ولكن المثل يشير بشكل رقيق إلى أن بعض الأزواج يبلغون من الضعف والسلبية ما لا يملأ عين زوجاتهم، وبالتالى تبحث الزوجة عن هذا السند الرجولى القوى يملأ وعيها، ويغذى احتياجها، بل إن الحاجة إلى شريك قوى لا تقتصر على المرأة، فالرجل أيضا يحتاج إلى شريكة، حبيبة، زوجة، قوية، ظهر ذلك منذ عمر ابن أبى ربيعة وهو يتمنى أن تستبد به هند، ولو مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد،
“…واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد”.
بل إن قولا صعيديا ساخرا يشيرإلى حاجة الرجل أحيانا أن يجد امرأة قوية بجواره حتى لو ضربته على قفاه وقالت “كذا”، إذن فحاجة الإنسان إلى دعم يسنده، أو قائد يحكمه ليست خاصة بالنساء، ولا هى دليل على السلبية والاستكانة من جانب الرجل فحسب، بل هى إعلان أن المرأة تريد شريكا حاضرا، يقظا، منتبها، يقول لها رأيه بحسم، مثلما تفعل هى معه بدورها إذا أتقنا سماح تبادل الأدوار، وأن ما يرضى المرأة من شريكها ليس فقط الود والعطف والتفويت وإنما الانتباه واليقظة والوضوح، وأن يحكم الزوج زوجته (وبالعكس) لا يعنى أن يفرض عليها أحكامه، ولكن أن يكون بجوارها بإيجابياته المتميزه، وحتى بخطئه المحدد، والزوجة بدورها تحضر فى وعى زوجها بنفس الحضور الإنسانى الصادق، وإلا فالنتيجة واحدة.
وهذا الزوج الذى لا يحكم زوجته قد يكون ضعيفا من البداية، أو معتمدا فى سرية أو علنية عليها، أو مستفيدا من صفقة سرية أو معلنة من هذه العلاقة ومن موقف الاعتماد المعلن أو الخفى، وقد يكون مثل هذا الزوج – إذا انبهر بقيم مستوردة- مخدوعا بما يسمع عن الحرية الواجب توافرها لسلوك الزوجة فى خروجها، ودخولها، واهتماماتها وصداقاتها، وهو يتمادى فى هذه الطنبلة (7)(هذا “الطـَّـنـَـاش”) تحت زعم الحرية، فى حين أنه من عمق آخر، يعفى نفسه من مسئولية علاقة حقيقية بشريكته.
وحين تستشعر الزوجة مثل هذا فى زوجها، وربما تحاول أن تصلحه فلا ينصلح، أو تنبهه إلى المخاطر المحيطة به فلا ينتبه، فإن الأمور قد تتمادى حتى تعوِّض هذا النقص بعلاقة خارج المؤسسة الزوجية ( أو العشيق).
لكن موقف العشيق هنا يحتاج إلى عدة قراءات :
فلماذا جرى- أو يجرى- وراءها بالنبوت؟ وما دلالة ذلك؟ وهل هذا مطلب، أو وصف، أو شكوى؟
ولتعدد الإجابات وجب تعدد القراءات:
الاحتمال الأول: (وهو الأضعف) هو أن الجملة تشير إلى أنه: لأن زوجها لم يحكمها ذهبت إلى نقيضه الذى لا يكتفى بأن يحميها بل هو يطاردها ليس فقط لاقتناصها بل ربما لحسابها أيضا.
الاحتمال الثانى: (وهو ضعيف أيضا) ألا يكون هناك ارتباط سببى، بمعنى أن الجملة “دار عشيقى ورايا بالنبوت” هى مقارنة بين زوج سلبى، وعشيق حاسم (حمش)، وبالتالى فالزوجة قد فضلت العشيق الحاضر الذى له موقف، عن الزوج المتنحى (الطناش).
الاحتمال الثالث :(وهو ليس احتمالا قويا جدا رغم وجاهته) هو أن عشيقها يتمادى فى لى ذراعها، أو حتى إخضاعها، حين يتأكد من استمرار رفضها المعلن أو الخفى لليونة زوجها وسلبيته، وكلما تمادى هذا الزوج فى ذلك، تمادى العشيق بدوره فى الشعور بقيمته، وبالفرق بينه وبين الزوج الطرى المخدوع، ومن ثم راح يحافظ على العلاقة بهذا الحضور المـُلاحـِق جريا وراءها بالنبوت.
تعقيبات أخرى إضافية:
1- إن الحياة الزوجية إشكالة خاصة من إشكالات العلاقات البشرية، ونحن حين ندرسها، خصوصا فى مجتمعنا هذا، ندرسها من زاوية أخلاق الطبقة الوسطى أكثرمن دراستنا لها فى الطبقات الأعلى والأدنى، والتى تتمتع بمساحات من الحركة (ولا أقول الحرية) فى الداخل (فى النفس) والخارج (فى السلوك) أكثر مما نحسب أو نتصور. وهذا المثل يشير إلى بعض ذلك فى هذه الموضوعات.
2- إن صعوبة الحياة الزوجية ليست قاصرة على طبقة دون الأخرى، ولا على مجتمع دون الآخر، بل إن المجتمعات الغربية ربما تعانى أكثر من مجتمعاتنا فى هذه المنطقة، و زيادة نسب الطلاق، وتفكك الأسر هناك – على حساب الأولاد طبعا-هما إعلان لهذه الصعوبة المتزايدة.
3- إن البدائل المطروحة للحياة الزوجية، مثل العقود المؤقتة، والعلاقات الحرة على إطلاقها، والزواج الجماعى ، وغير ذلك مما شاع فى العالم الغربى، كلها حلول ليست أسهل، ولا هى نجحت كبديل، وبعض ما نجح منها كان على حساب الأسرة والأطفال حتى لو أغنى الكبار مؤقتا، وهى حلول لم تستطع أن تثبت نجاحها أمام اختبار الزمن، وإن كانت المحاولات الفردية مستمرة. (8)
4- إن العلاقات البشرية، وخاصة فى إطار المؤسسة الزواجية تحتاج إلى جهد مثابر، ومراجعة، وحرية حقيقية، وعدل، وحركة، وإعادة تعاقد، وشروط طيبة معلنة متبادلة، وكل هذا هو ما يمكن أن نفهمه من قول المثل “جوزى ما حكمني”، أى أنه لم يبذل الجهد الكافى لإرساء قواعد ضابطة محددة (حاكمة) للعلاقة الزوجية، وليس مجرد أن الزوجة (والمرأة ) تحتاج إلى القهر والتبعية.
وبعـد
خلاصة القول: أن المثل الأول إذ يصرخ هكذا لا يريد أن ينكر حاجة المرأة (والرجل) لأن يطلب من شريكه أن يسد حاجته، أو يكون ملاذا آمنا له، أو أن يفخر بميزاته أمام المجتمع والناس، ولكنه - حسب قراءتنا له- يعلن أن كل هذا مقبول كخطوة تتلوها خطوات، وأن الاقتصار على توظيف العلاقة الإنسانية، حتى فى أكثر أشكالها شيوعا وهو الزواج، لمجرد سد الحاجة، والاعتمادية (من جانب واحد)، والتباهى بالامتلاك، هو الخسار بعينه، أما إذا وُظـِّف كل هذا فى طريق النمو العلاقاتى بارساء قواعد لهذه المؤسسة يحكمها الأطراف بالتبادل عدْلا (ماذا وإلا!!” الانهيار أو المثل الثانى) فإن الفرص تتزايد لانجاح هذه العلاقة بتوفير الفرص المناسبة للحفاظ عليها وتجديدها لتصبح حقلا للنمو وليست ملجأ للاختبار، ولا استسلاما للقهر.
ولتفصيل ذلك نقول:
مراحل النمو المأمولة لهذه المؤسسة:
إن للعلاقات الإنسانية مسارا للنمو، ومسارا للتدهور على حد سواء، مثلها مثل النمو الجسدى، والنمو المعرفى، ودعونا ننظر فى ما كان يمكن أن تتطور إليه هذه الاحتياجات المشروعة لتجنب مثل هذا الإحباط، أو الاضطرار إلى الانحراف، فنقول إن المنتظر، انطلاقا من هذه الإشارات الواردة فى هذه الأمثال ومثلها – فى المؤسسة الزواجية كمثال – أن يتطور الأمر على الوجه التالى:
1- الانتقال من “الحاجة إلى” إلى “الحضور مع”، ومن “الحضور مع” إلى “التوجه سويا إلى”، فإن ما يجمع البشر بعضهم إلى بعض جمعا قابلا للنماء ليس علاقة “القفل والمفتاح” كما تتصور الغالبية، وإنما أن يكون حضور الواحد هو إثراء لحضور الآخر، وأن تتفجر قدرات الواحد فى كنف تفجر قدرات الآخر، وأن يتعمق وعى الواحد بتعمق وعى الآخر، وهذا لا يتطلب الزعم الشائع عن مسألتى الحوار والحرية المزعومتين، فلا “حضور معا” إلا بحوار لا يقتصر على الكلمات والمناقشات، ولا “حضورمعا” إلا بانتقاصٍ من حرية كل من الطرفين (عكس الحرية الدفاعية المقتصرة على الذات)، ثم حين يتعمق هذا الحضور معا، دون نفى الآخرين، لا تتوقف المسيرة عند ذلك بل تصبح حركة كل واحد على حدة تسير فيما أطـْرَحُ له تسمية “التوجـُّه الضـّامَ”.
2- الانتقال من “الملاذ الآمن” وهو ما أتصوره أنه أمان، من الخطرالخارجى، من العدوان المباشر وغير المباشر، من تقلبات الزمن..، وكلها مخاطر حقيقية تحتاج إلى دفاعات مشروعة، كما نحتاج إلى الاستعانة بالآخر، ولكن أن ينقلب الحال إلي:الوقوف عندها والاعتماد كلية على الآخر لمواجهتها دون مشاركة فهذا هو الذى يجعلها لا تصلح، وهو الذى ينتهى بها إلى الإحباط، الانتقال من كل ذلك - دون تجاوزه- إلى “الأمان معا”، ثم “الأمان إلى دوائر أكبر فأكبر” هو ما يؤكد نضج الملاذ إلى أن يكون فرصة لممارسة الفعل الإيجابى الخلاق، وبمعنى آخر، إن أمان الهجوم والدفاع، أمان الكر والفر، هو الذى يحتاج إلى مثل هذا الملاذ [خدتك لواز]، لكن ثمة وسيلة أخرى للحصول على أمان أرقى، وهو أمان القدرة على التغيير (ثم نضيف) “معا”، فلا يزيل الخطر أن تقف فى مواجهته هجوما ودفاعا، ولكن يزيله أكثر وأدوم أن تتجاوزه فتـُفـْشِله أن يكون خطرا أصلا، والفعل الإيجابى قادر على طرد الجمود السلبى حتما، وبالتالى فإن أى علاقة لا تساعد على الانتقال من “الملاذ الآمن من الخطر”، إلى “الفعل القادر على الخطر “هى علاقة نهايتها الإحباط كما ينبهنا المثل.
3- الانتقال من الملكية للمباهاة إلى الائتناس بالمشاركة: أولا فيما بينهما، ثانيا إلى الدوائر الأوسع فالأوسع. ومسألة الملكية فى المؤسسة الزواجية هى من أكثرالشروط المعلنة (أوالخفية) – كما ذكرنا- وقد يبدو ذلك ضرورة مقبولة فى البداية، ولكن ليس معنى ذلك أن تنقلب المؤسسة الزوجية إلى صكوك ملكية مطلقة، تحجر حتى على المشاعر الغيرية تجاه كل من هو خارج أسوارها، كذلك ليس معنى ذلك أن تتساوى كل الأطراف فى حق، ومدى ممارسة هذه الملكية الاستحواذية المتباهية بما تملك، وإنما ترتبط مشاعية العواطف – والممارسة – بدرجة النضج والمسئولية، فإذا تجاوزنا هذه النقطة الآن لطول الكلام عنها، فلا أقل من أن ننتبه إلى ما ينبهنا إليه المثل، من أنه إذا كان ولا بد من الملكية، ولتكن متبادلة، ولتكن بداية الطريق لما يجمعنا، ليس فقط بأولادنا، ولكن بالناس “إليه”.
[1] – الفصل من كتاب “قراءة فى النفس البشرية” (من واقع ثقافتنا الشعبية) (ص 146- ص 159) (الطبعة الأولى 1992، والطبعة الثانية 2017) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – “مثل وموال” مجلة الإنسان والتطور عدد 64 يناير – مارس 1999
[3] – The Death of The Family, David Cooper, Penguin, 1971
[4] – لاذ به: لاذ بالشئ لوذا ولياذا، لجأ إليه واستتر به وتحصن، ويقال : لجأ إليه، واستغاث به وامتنع، ولاوذ: بالشئ لواذا، وملاوذة: لاذ، وهذا ما فهمته من كلمة لواز هنا، وهى أقرب إلى الفصحى منها إلى العامية، وقد تحققت من فهمى هذا بعد مناقشة بعض العجائز اللائى أحبهن ويحببننى ومن أهمهم الحاجة وجيدة من أوسيم أطال الله عمرها.
[5] – يقال هذا المثل عندنا فى الأرياف حين ينقب اللصوص حائط حظيرة ليسرقوا البهائم، وإذا بهم يكتشفون أنه حائظ مخزن غلال (شونة) يخزن فيه الحبوب وليس حظيرة بها البهائم، فيعلن فشل مهمتهم، وقد تفضحهم خيبتهم حين يتسرب مخزون الغلال متدفقا عليهم من الشق الذى نقبوه، فيرتبكون، فيقبضون عليهم دون أن يحققوا ما أرادوا، وبالتالى ينتهى “نقبهم” إلى هذه النهاية الفاشلة!.
[6] – طرى طراوة وطراة: كان غضا لينا، وطرو طراوة. صار لينا
حمش فلان حمشا: غض، وأحمش النار الهبها وقواها بالحطب
[7] – طنبل: بالعربية الفصحى تعنى: تـَحـَامـَقَ بعد تعامـّل، وهو ما يقابل “طنـَّـش” بالعامية المصرية.
[8]- بدأ مؤخرا التفتيش فى بعض الفتاوى الدينية التى تبرر مثل هذه العلاقات المؤقتة، والمتعددة على أساس دينى.