قـراءة فى: تعدد الذوات
حوار، أم صراع. أم تبادل أدوار: نحو ولاف محتمل ؟
(من وحى “قصيد درامى”: للشاعر د. أحمد تيمور )
تعدد حالات الذات Ego States (الذوات، المنظومات الدماغية) هو مفتاح فهم النفس البشرية، والتركيب الحيوى الهيراركى للدماغ.
هذه الحقيقة ليست جديدة، وليست ثانوية. هى حقيقة تمارس أكثر منها تــنظر، وقد تناولتها هذه المجلة منذ أكثر من خمسة عشرة سنة فى مداخلة بعنوان”الوحدة والتعدد فى الكيان البشري”(الإنسان والتطور، السنة الثانية، العدد الرابع، أكتوبر-ديسمبر 1981).
لم يعد الأمر فرضا يحتاج إلى إثبات. تأثير هذا المدخل قد يمتد إلى كل مظاهر الحياة المعاصرة، من أول هز صنم الديمقراطية حتى فهم عالم الجان والأرواح، وقد يمتد الطموح المعرفى فى هذا المجال، ليفتح آفاقا رحبة أمام استيعاب الخبرات الصوفية والإيمانية فى مسارها نحو تكامل الكل فى واحد نحو وجه الله تعالي.
المداخلة الحالية ليست تنظيرا مثل سابقتها المشار إليها حالا، إنها تطبيق نقدى – إن صح التعبير – على “قصيد درامي”، للشاعر د.أحمد تيمور الذى قدمنا فى هذا العدد لمحات لما دار” فى ندوة يونيو الشهرية للجمعية ، تناولت مقتطفات من ديوانى “شجن شجر الشوارع”. و “البراكين الـطيبة (أنظر ص 284 من هذا العدد).
ينتمى هذا المدخل إلى ما يسمى الآن “التحليل التركيبي”Structural Analysis، وهو ما أوليناه أكبر جانب من العناية والتطبيق فى كثير من الدراسات النقدية التى قام بها الكاتب، ونشرت فى هذه المجلة وغيرها(1). كما أنه يعتبر المحور النظرى الذى تدور حوله التطبيقات الإكلينيكية التى تمارس فى ظل الفكر الإيقاعى التطورى خاصة فى العلاج الجمعي.
بدت ملامح هذا النموذج التفسيرى، والنقدى، فى كثير مما نشر فى باب “حالات ووأحوال”فى هذه المجلة، وقد تجلى كذلك فيما يظهر فى العدد الحالى، فى ما نشر من مقتطف العلاج الجمعى (حالات وأحوال، ص 125) وسوف يزداد الأمر بيانا فى العدد القادم الذى سوف نخصصه، أو نخصص أكبر جزء منه لظاهرة التعدد وخاصة فى حضورها المرضى، الذى يتبدى فى مجتمنا أكثر فأكثر فيما يطلق عليه العامة، “لبس الجان”، و “المخاوية”، و اللمس”، الأمر الذى يندرج تحت أسماء مرضية مختلفة.
سوف نقتصر فى المداخلة الحالية على قراءة هذا القصيد الدرامى (مونودراما الممثل) لعرض وجهة نظر فى مسألة علمية، تربوية ، نقدية، تطورية، نرى أنه قد آن الأوان لتناولها بما تستحق، كما تستحق. هذه المسألة تدور حول الصراع الأبدى بين الأقدم والأحدث، بين القاهر والمقهور، بين الوالد والإبن، بين الطاغى والمستسلم. لم تعد مسألة الصراع بنفس المصداقية التى كانت تتمتع بها من قبل. العلاقة بين المنظومات، بين القوى، بين المتغيرات المختلفة، أصبحت أكثر عمقا وتكثيفا وتداخلا وتعقيدا من مجرد الصراع. اختزال علاقات التوتر بين قوتين هو موقف استقطابى لم يعد يتفق مع تطور العلوم والفنون. فرويد مسئول جزئيا – مع تناسب فكره مع زمنه – عن مثل هذا الاستقطاب فى فهم النفس الإنسانية، استقطاب بين الأنا الأعلى والهو، بين اللذة والواقع، بين الابن والأب تنافسا على الأم (أوديب)، وفى الفكر السياسى والاقتصادى، يمكن أن نعلن أيضا أن تسطيح معظم الأفكار الاشتراكية المتعلقة بصراع الطبقات، وأيضا التوقف عن مرحلة مواجهة الاستعمار، كانا من أهم عوامل تعميق مسألة التركيز (الاستبعادى أحيانا) على الصراع البشرى (فى داخل النفس وخارجها)، دون النظر فى احتمالات الحوار والجدل والولاف الأخري.
على نفس المستوى، مر الإبداع الأدبى (بما فى ذلك الشعر) بنفس الطور، وإن لم تطل وقفته عنده، مثلما حدث بالنسبة للفكر النظرى والعلمى، ربما لتحرر الإبداع من قيود المنهج العمياء، وقدرته على تجديد منهجه باستمرار. الإبداع التشكيلى باللون والنحت كان أسبق فى التخلص من سطحية هذا الاستقطاب بين السلطة والعامة، بين القاهر والمقهور.
هذا “القصيد الدرامي”(كما أسماه الشاعر)، يحكى خبرة شخص قرر -ذات ليلة- أن يتحرر من ذلك الآخر الذى تلبسه طوال سنوات عمره، حتى تلك الليلة. راح يكتشف أنه لم يكن نفسه أبدا، وأنه قد آن الأوان ليسترد ذاته، ويخلع أقنعته التى فرضها ذلك الآخر عليه، وأن يصارع من أجل حقه أن يمارس دوره هو، لا أن يمثل ما فرض عليه.
هذه مسألة قديمة قديمة ، وقد بالغ القصيد فى تعميقها فى نفس الاتجاه السائد قبله، الأمر الذى انتبه إليه الناقد المتابع د. ماهر شفيق فريد، وقارن بينها وبين أعمال موازية سابقة، دارت حول مسألة الصراع هذه فى تجلياتها الاغترابية، والبرجوازية والفلسفية بصفة عامة. ولو كان الأمر كذلك فقط ، كما يبدو من إصرار الشاعر على تعميق هذا البعد، لما احتاج الأمر إلى مزيد من التعليق والتعقيب، لكننى وجدت أن الشاعر – بوعى أو بتجاوز لما أراد دون قصد – قد لمس ما هو أعمق من هذا الاستقطاب، ورأيت من المناسب أن أقدم قراءة مختلفة ، بهدف الاستفادة من حدس الشاعر فى تعميق طبيعة العلاقات، بين هذه الكيانات المتعددة التى نتكون منها وبها.
المسألة موضوع هذه القراءة، هو التنبيه على أنه لا يوجد شيء اسمه “تحقيق الذات”، لا يوجد جزء من الذات، مهما كان قاهرا، يمكن أن يعتبر زائدا أو فائضا أو غريبا، لا توجد حالة من حالات الذات يمكن أن تحتكر ما هو “أنا”، مستبعدة كل ما هو “ليس أنا”. إن الحديث عن “تحقيق الذات”، وعن ‘ الأقنعة”، وعن “الاغتراب عن الذات”، وعن”الحرية”، وعن ‘ صراع الأجيال”، كل هذا قد أخذ نمطا مختزلا (كثير منه مستورد ومعاد) . إن هذا المنظور قد ركز جهد التطور البشرى فى محاولة نصرة ما يتصور أنه “أنا”، فى مقابل نفى أو هزيمة ما هو “ليس أنا”.
إنه لا توجد لأى منا ذات جاهزة نبحث عنها، ولا يوجد فينا من هو “أصلي”، ومن هو “تقليد”. لا يوجد نموذج مسبق لكل منا، علينا أن نسعى لتحقيقه أثناء رحلتنا فى الحياة. إن ذات كل منا هى ‘ مشروع يعد بالتحقيق”، الذات هى “عملية فى تحقق”وليست كيانا يفضل على ما يدخل عليه، أو يقحم فيه، أو يغيره. ذات كل منا هى مشروع وجوده الذى يتخلق طول الوقت.
من هنا تأتى أهمية قراءة هذا القصيد الدرامى، فى محاولة إظهار خطورة التمادى فى تعميق الصراع بين ما نتصور أنه الذات الأصيلة، وما نحسب أنه “الذوات المفروضة ، أو الأقنعة”. إن كل قناع ألبسه هو جزء من مشروعى، مع أنه يخفينى، وهو ليس أنا حتما.
إن مجرد الاعتراف بأحقية كل ما هو أنا فى أن يسهم فيما هو أنا، هو بداية تحقيق مشروع وجودى ، وهو المشروع الذى يتحقق بمجرد السير فيه، لا الوصول إلى غايته. لم يظهر هذا البعد فى هذا القصيد إلا تلميحا، ثم وعدا غامضا فى النهاية.
ليس معنى ذلك أن ندافع عن الاغتراب أو نتمسك بالأقنعة، ولا معناه أن نقبل بتسوية مائعة تلغى الصراع لحساب السكون الخامد. إن رفض الاستقطاب فى صراع ثنائى خطى هو دعوة لتحريك كل القوى والمنظومات بشكل حيوى، لتسهم فى السعى نحو مشروع الذات الذى هو هو نفسه -دون أن يتحقق- ماهية الذات فى حركيتها الأبدية.
النصر الحقيقى ليس فى إعلان الثورة على الجزء القاهر، ولا فى خلع الأقنعة القناع تلو القناع، ولا فى العودة إلى الطفولة النقية، تلبس أثواب الطهر الزائف. النصر الحقيقى هو فى الحفاظ على استمرارية الجدل الحيوى، ليحتوى كل غريب وغريم باعتباره إسهاما فى تحريك تفاعلات الصراع، والتبادل والتضفر والحوار فالجدل نحو الولاف .
إن النصر المطلق لأحد شقى الصراع فى الداخل، هو تقزيم للذات وتشويه للوجود. كما أن التركيز على الصراع إذ يسقط فى الخارج وهو يتمثل فى “قتل الوالد”(مثلا) لأسباب أوديبة (أو أى تفسيرات أسطورية أخري) هو أيضا تحذير لاستحالة النمو من خلال التخلص من مكونات منظومات الصراع الضرورية مهما بدا تنافرها.
مونودراما الممثل بالغت فى تصوير القهر، وهذا واجب وبديهى، كما بالغت فى تمزيق الأقنعة، وهذا وارد وطبيعى، لكنها كادت تغرى بالتصفيق لحل لم يعد مناسبا فى تصوير رحلة الإنسان بأبعادها الأعمق. دور النقد إزاء نص بهذا الحماس والتحديد هو أن يغوص وراء ظاهره ليكتشف ، ربما رغم أنف كاتبه، أنه أعمق مما بدا ووعد.
ينهى د. ماهر شفيق نقده بأن الممثل قد قتل أحمد تيمور، ويستشهد بـ إليوت باعتبار أنها “تضحية مستمرة بالذات وإفناء لها”
مفتاح القراءة الحالية هى أن “المشروع”أحمد تيمورالإنسان، يهم بقتل الشاعر أحمد تيمور (“لابد سأقتل”= لم يقتله بعد)، وهو يفعل ذلك بقبوله دور الممثل، لا برفضه، (الليلة بالفعل أمثل). إن أحمد تيمور الإنسان يحاول أن يستعيد الإمساك بمقود وجوده على حساب أحمد تيمور الشاعر، إنه بذلك يستولى على شعره بدلا من أن يكون شعره.
هو يخلق ذاته، فيسترد بها شعره المرسل، لم يعد يكفى أن “يكون”من خلاله، بديلا عنه. قرر أن “يكون”ليفرز شعره، لا أن يكون هو شعره .
فهل يستطيع؟ وهل نستطيع؟
[1] – رايت فيما يرى النائم، نجيب محفوظ، قراءة: يحيى الرخاوى السنة الرابعة، العدد السادس عشر، أكتوبر 1983 قراءة فى ليالى ألف ليلة لـ: نجيب محفوظ، د. يحيى الرخاوى السنة الخامسة، العدد التاسع عشر، يوليو – سبتمبر 1984.
تقاسيم على أصداء نجيب محفوظ، الإنسان والتطور، العدد 59 – 62 لسنة 1997 – 1998.