الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (72): آلام البصيرة والعلاج الجمعى

الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (72): آلام البصيرة والعلاج الجمعى

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 20-10-2013

السنة السابعة

العدد:  2241

  الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (72)

آلام البصيرة والعلاج الجمعى

(عودة إلى خبرة من “مجموعة المواجهة”)

مقدمة20-10-2013_1

الوجدان الذى يتحرك فى العلاج الجمعى هو جماع وعى حيوى ليس اسم فى الأغلب، وهو مزيج من الألم والدهشة والإقدام والنداء والجسارة والحذر والحزن والائتناس والدفء واليقين، وغير ذلك مماليس له اسم، سبق أن أشرت إلى كيف أننى فى هذا العالج – وغيره – قد أرحب بأن تغروق العينين بالدموع فى حين أتحفظ على سهولة هطول الدمع مدرارا، خاصة إذا تكرر ذلك.

(الدِّمعـة‏ ‏الحيرانة)  (1)

هذه الصورة التى التقطتها من المجموعة العلاجية، بدا لى أنها توضح بعض ذلك:

 ملاحظة بادئة:

الرؤية التعرية هنا ليست قاصرة على تعرية صعوبة العلاقات البشرية، مع أن هذه الصعوبة تقع فى بؤرتها، هى محاولة الإحاطة بما يصاحب الكشف البصيرى لحقائق الخارج والداخل عارية قادرة فى نفس الوقت، بما يصاحب ذلك من آلام اليقظة، وحيرة الوقفة أحيانا.

20-10-2013_2

تمهيد

كنت صغيرا، حين أجلس بجوار الساقية (الحلزونة) أتعجب لماذا يُحكمون الغُما (الكيس المجدول على ناحيتين لتغطية نصف وجه البقرة الأعلى، بما فى ذلك العينين) أثناء دورانها منفردة (أحيانا تدور مزدوجة فى صحبة أخرى!!) و”الناف” على رقبتها متصل بعمود محورى يقع فى مركز دائرة الساقية تماما. لم أعرف إلا مؤخرا أن حدس الفلاح المصرى قد وصل إلى أن هذه الطريقة توحى للبقرة أنها تسير قـُدُما فى خط مستقيم، فتنسى – أو هو يرجو بحدسه أن تنسى- أنها تدور فى نفس الدائرة طول الوقت، حين أدركت هذا أو تصورته، فزعت للخدعة، ورفضتها، لكننى حين عدت أتأملها، وجدت أن بها نوعا من الرحمة الخبيثة، التى يمكن أن تكون ضمن ما يسمى لؤم الفلاح المصرى (تنطق بعامية بلدنا، “لؤن”، بمعنى الذكاء الخاص!!) الذى لم أكن أتصور أنه يشمل نشاط حدسه.

كنت أشاهد أيضا تلك البقرة الأخرى المربوطة فى شجرة التوت أو الجميز، تنتظر دورها بعد أن تجهد البقرة المغماة من الدوران مغمضة العينين، فتحل البقرة المربوطة محلها، وتنتقل البقرة المربوطة إلى الساقية، فى حين تربط البقرة التى كانت مغماة فى نفس الشجرة، لتأخذ قسطها من الراحة بعد أن يفكوا عنها غماها.

هذا المنظر هو الذى أوحى لى بهذا التشكيل الشعرى، وأنا أنظر فى هذه العين (غالبا فى المرآة)

‏(1)‏

والعين‏ ‏الواعية‏ ‏الصاحية‏ ‏المليانة‏ ‏حُزْن:

‏،،، ،، ،

عمركشِى ‏شفتِ‏ ‏بقرة‏ ‏واقفةْ‏ ‏لوَحْديهَا‏،‏

مربوطة‏ ‏فْ‏ ‏شجرة‏ ‏توتْ‏، ‏جنب‏ ‏الساقية‏،‏

‏ ‏وعْنـِيهَـا‏ ‏الصاحية‏ ‏تحتيها‏ ‏دمعة‏ْْ،‏

‏ ‏لا‏ ‏بتنزلْ‏ ‏ولا‏ ‏بتجفْ‏‏؟

عمّالة‏ ‏تْبُصّ‏ ‏لزميلتْهَا‏ ‏المربوطةْ ‏ ‏فى ‏النـَّافْ‏،‏

والغُمَى ‏محبوك‏ْ ‏عالراسْ‏،‏

والحافِر‏ ‏يُحْفُرْ‏ ‏فى ‏الأرضِ ‏السكة‏ْ ‏اللِّى ‏مالهاش‏ْ ‏أوّل‏ ‏ولا‏ ‏آخـِرْ؟

مع كل أزمة نمو، أو خبرة إبداع حقيقى، تحدث مثل هذه الوقفة بوعى فائق: هى وقفة نقد يقظ، وقفة مراجعة، وقفة استعداد لبداية جديدة فى اتجاه مجهول، وهى وقفة حتمية يمر بها كل إنسان ما دام مازال حيا ينمو، لكنها قد لا تصل إلى الوعى الظاهر فى كثير من الأحيان، وإن وصلت فقد يتم محوها بعد ثوان حتى لا تجرؤ أن تطل ولو كذكرى عابرة، هذه الوقفة تتجلى أكثر وضوحا وأطول عمرا فى عملية الإبداع الحقيقى طول الوقت، وهى تحتدّ فى البداية، وإن لم تكن بالضرورة تسمى وقفة أو تدرك بما هى كما هى، لكن نتائجها تدل عليها عادة.

فى أزمات النمو، وخاصة أثناء المراهقة وأيضا أزمة منتصف العمر، بل وسائر أزمات النمو، قد تعاش هذه الوقفة بعمق كاف ومسئولية مؤلمة، فتحفز النمو، وتسهم فى إعادة إبدا ع الذات.

فى المرض، (بدايات أى مرض نفسى جسيم تقل فيه الميكانزمات فجأة) تحتد هذه الوقفة، ومن ثمَّ: تتعاظم الرؤية بشكل مضاعف حتى تصبح معجِّزة برغم نفس حدة الكشف، وعمق النقد، وبدلا من أن تكون فرصة مراجعة لبداية جديدة، تصبح سببا أو مبرر إعاقة من فرط الألم الذى عجز “الوعى/الفعل” أن يستوعبه، أو يحتويه، يحدث ذلك أكثر فى الاكتئاب الحيوى اليقظ (أسميه أحيانا الاكتئاب البيولوجى النشط تمييزا له عن عكسه تماما، الذى أسميه الاكتئاب اللزج النعّاب، وأسماء أخرى).

فى العلاج، خاصة العلاج الجمعى الذى نمارسه تتم المواجهة، باحتواء هذه الرؤية الأعمق باعتبار أنها خطوة ضرورية لا بد من دفع ثمنها إن كان العلاج هو مواكبة عملية النمو للحفز على استكمالها، وليس إجهاض نبضة النمو.

المتن هذه المرة أوضح من أن يحتاج إلى شرح.

هو يعرى الاغتراب الذى يلزم لاستمراره أن تظل الميكانزمات العامِيةْ نشطة طول الوقت، بحيث تنقلب مسيرة النمو إلى “دائرة مغلقة”، التى هى ليست إلا وقفة دائمة خادعة، وهى أكثر خداعا من “السير فى المحل”، فهى تمثل سيرا إلى الأمام، أو ما يشبه الأمام، ينتهى إلى نفس النقطة طول الوقت، طول الوقت.

هذه الرؤية الكاشفة قد تحدث تلقائيا كما ذكرنا، وقد تحدث نتيجة إفاقة تحدث كنوع من التلقى المبدع.

 تأتى الاستثارة من مُحبٍّ صادق مُواكب، أو من إبداع محرِّك، أو من علاج مغامر،

 العلاقة بين تبديل البقرة بزميلتها، لتحصل على نوبة راحتها، وهكذا، تذكرنا من جديد بطبيعة الإيقاع الحيوى، وحتمية تناوب نشاط مستويات الوعى.

لا يخفى هنا أن كلمة “الرؤية” تستعمل مجازا بشكل مبالغ فيه، الرؤية هنا مفترضة، لا تُـستنتج إلا من خلال نتائجها.

حين يقول المتن على لسان البقرة المربوطة فى شجرة التوت

“أنا كنت بالـِفّ ومش داريةْ،

كان لازمته إيه؟

بتشيلوا الغُما من على عينى، وتفكونى ليه“،

هى لا تحتج، بل تعلن ألم الكشف الذى أكد لها أنها لم تكن تسير إلى الامام، بل كانت تدور فى نفس الدائرة مثلما تدور زميلتها الآن، “والغما محبوك عالراس، والحافر يحفر فى الأرض السكة اللى مالهاش أول ولا آخر”.

فى كثير من الأحيان، إن لم يكن فى معظم الأحيان، يرجو الإنسان، ويسعى أن يرى الحقيقة عارية أكثر فأكثر، وهو يتصور أن هذا حقه من ناحية، وأنه سوف يرتاح حين يرى ما يريد أن يراه، هذه طبيعة بشرية ترتبط بأليات المعرفة المتجددة المغامرة بشكل عام، (حتى يمكن ربطها بأكل الفاكهة المحرمة)، وبقدر الحرص على رؤية ما فى “الحجرة المغلقة” المحظور فتحها، وبقدر السعى إلى اختبار ما بداخلها بالذات، تكون مفاجأة المعرفة، والأسف المبدئى الذى يلحق هذه المعرفة المفاجئة إنما يعلن رغبة شكلية فى التراجع عن هذه الرؤية، لكن من رأى، حتى لو أغمض عينيه بعدها، فسوف يظل ما رآه ماثلا أمامه، ليس ماثلا فقط، بل ومانعا له أن يرتد إلى الاغتراب العامِى من جديد.

أغلب العلاج الميكنى المخمِّد، هو نوع من “تلبيس” “الغـُمَا تانى”، وهذا هو ما جاء فى المتن حرفيا:

‏(2)‏

والبقرة‏ ‏الواقفة‏ ‏تقول‏:‏

أنا‏ ‏كنت‏ ‏بالـِفْ‏ْ ‏ومشْ‏ ‏دَاريْـَةْ‏ ‏كان‏ ‏لازْمـِتُه‏ْ ‏إيه؟

بتشيلُوا‏ ‏الغُمَا‏ ‏من‏ ‏عَلَى ‏عينِى ‏وتْفكُّونىِ ‏ليهْ؟

عَلَشانْ‏ ‏أرْتَاحْ؟!!!

هىَّ ‏دى ‏راحَـة‏ْْ ‏إنى ‏أشُـوفْ‏ ‏ده‏ ‏؟!

لو‏ ‏حتى ‏لْبِسْت‏ ‏الغُمَى ‏تانى ‏ماانـَا‏ ‏برضه‏ ‏حاشُوفْ‏.‏

وساعتها‏ ‏يا‏ ‏ناس‏:‏

مش‏ ‏حاقْـدر‏ ‏ألفّ‏.‏

‏…. ‏ما‏ ‏هو‏ ‏لازمِ ‏الواحدْ‏ ‏ما‏ ‏يشوفشِى،‏

لو‏ ‏كانْ‏ ‏حايلِفْ‏.‏

العلاج النفسى المنطلق من منظور نمائى لا يكتفى بأن يستوعب هذه الرؤية بحجمها الموضوعى، وأن يساعد المريض الذى حضر بها أو عاشها أن يحتويها، ويواكبها حتى يتجاوز آلامها دون أن يتنازل عن مواصلة مسيرته، إن العلاج الجمعى بالذات يستثير مثل هذه الرؤية بجرعات مجزأة، وذلك لمن يخشى أن يخوضها وحده، هذا النوع من العلاج لا يكتفى بالحفاظ على هذه الرؤية مع ضبط جرعة الألم، وإنما هو يعمل على ضبط جرعة التنشيط بتعرية محسوبة، بالحد من اللجوء إلى الميكانزمات تدريجيا، بحيث يسمح لمن يمر بها تلقائيا – من خلال أزمة المرض– أن يعايشها بالقدر الذى يمكن به أن يستوعبها. كما ذكرنا يتم ذلك بوجه خاص فى العلاج النفسى الجمعى.

حين تشترك المجموعة، بما فى ذلك المعالجون، فى هذا الكشف، للإقلال من الميكانزمات، يصبح الألم المصاحب أكثر احتمالا، ومن ثم يصبح حفز النمو أكثر جاهزية،

أغلب – إن لم يكن كل – ما عرضناه فى هذه النشرة خلال أكثر من عامين كعينات مما أسميناه “الالعاب النفسية”، والتى شارك فيها كثيرون من أصدقاء الموقع، كانت تقوم بدور تحفيز الرؤية حتى لو بدت مؤلمة، وليس الحد منها، الفرق بين أن تمر بهذه الخبرة من خلال مفاجأة مرعبة، وأنت وحدك تماما، وبين أن تمر بجرعة فجرعة منها، وأنت وسط آخرين يمرون بنفس التجربة، هو الفرق بين بداية ما يمكن أن يتطور إلى مرض (أو إبداع) وبين العلاج النفسى الجماعى بوجه خاص (الذى هو ضمناً: إبداع الذات ما أمكن ذلك).

كثيراً ما نعيش محاولة من أحد المرضى (أو المعالجين) لمحو الرؤية الجديدة التى مارسها أثناء العلاج الجمعى، بنسيانها، أو التراجع عنها، أو سوء تأويلها، وقد يلاحظ ذلك زميل مريض آخر، أو معالج، حين يهم أحدهم بالإنسحاب لعدم قدرته على تحمل هذه الجرعة، فيقول له: وحاتعمل إيه بعد ما اتدبست وشفت ده دلوقتى (“وماذا ستفعل بمعرفتك ورؤيتك التى مرت بك هنا الآن؟)” فيرد قائلا: “إيه يعنى، حانسى واغمض أو أطنش تانى” (سأحاول أن أنسى وأغمض عينى من جديد) ” فيسخر الأول “إبقى قابلنى“… وقد يعلق ثالث “دا بعدك“…أو “بعيد عن شنبك“، وغير ذلك من تعليقات تشير إلى أن هذه الرؤية يصعب محوها..بعد ظهورها فى هذا السياق وضبط جرعتها.

الهدف الأهم لما يسمى “العلاج النمائى التوجه” هو استيعاب هذه الرؤية للنمو من خلالها لتكملة المسيرة بإيجابياتها وآلامها.

‏ينتهى المتن بالإشارة إلى ما يصاحب هذه الرؤية، الأقرب إلى الإبداع منها إلى المرض، من سماح وصبر وأمل فى أن تكون بداية التعرف على “آخر” يصاحبه وهو يعايش هذه الخبرة عبر مسيرته، مسيرتهما، مسيرتهم، معا.

هنا تتأكد علاقة: المعرفة، بالعلاقة بالآخر، بالألم الحى الخلاق، بالحزن الإبداعى….،

 لِتَوَاجُدِنَا معاً

‏(3)‏

الله‏ ‏يسامحكم‏، ‏دلوقتى:‏

لا‏ ‏انا‏ ‏قادرة‏ْْ ‏ارتاحْ‏،‏

ولا‏ ‏قادرة‏ ‏ألفْ‏.‏

لا‏ ‏الدمعه‏ ‏بْتِـنْزلْ‏،‏

ولا‏ ‏راضيةْ‏ ‏تجفْ‏.‏

أشرت فى المقدمة كيف أن هذه الرؤية مرتبطة بشكل أو بآخر بموضوعنا الأساسى “فقه العلاقات البشرية”. الإنسان المعاصر يعيش أزمة ممتدة هى أقرب إلى ما يسمى “الموقف الاكتئابى” كما أسمته ميلانى كلاين، والذى فضلت أن اسميه “الموقف العلاقاتى البشرى” وهو الذى يحاول الإنسان المعاصر فيه أن يرسى قواعده من ألم، ورؤية، وإقدام وتحمّل، وفرحة معاً، ليكون بذلك هو النوع الأغلب فى العلاقات بين البشر، ليكونوا بشرا. الإنسان – كما ذكرنا- لا يكون إنسانا إلا إذا كان واعيا بدرجة ما بوعيه حالة كونه يتجادل (لا يتحاور فحسب) مع وعى إنسان آخر يحاول معه نفس المحاولة، هذه العلاقة الأرقى هى التى يتكون منها نوع من الحزن الذى وصفناه بأنه “حزن” “إيجابى” “نشط”، وعلى ذلك فالمفروض أن نفرح به شريطة أن تضبط جرعته، هذه الخبرة التى هى أقرب إلى ما يسمى “الحزن الصامت الأصيل، يكون فيها:

 الألم صحوة،

 والمثابرة اقترابا،

 والاحتياج طلبا شريفا،

 والعطاء فرحة

والفرحة طيبة لا تلغى ألم الرؤية،

 ولا تقف بعيدا عن الخبرة،

 ولا تتجاوز عدل التبادل العلاقاتى.

إنه ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏الألم‏ ‏الذى ‏يعانيه‏ من يمر بهذه الخبرة الرؤية الضرورية ليكون “بشرا”، فإن ذلك لا يترتب عليه سخط أو سخرية أو انسحاب، أو عدوان، بل الأرجح أنه يجذبنا إلى بعضنا البعض فى إطار من التسامح المؤلم، ‏(هنا‏ “‏الله‏ ‏يسامحكم دلوقتى. ..الخ”.‏

‏ ‏ ‏قمة‏ ‏إيجابية ‏ ‏تجربة‏ هذا ‏الحزن‏ ‏اليقظ الذى يمثله هذا الموقف تشمل‏:

‏التوقف ‏للمراجعة‏،

 والسماح للاقتراب،

 ‏والرغبة‏ ‏فى ‏”الحياة‏ ‏معا”،

مع‏ الاعتراف بالعجز المرحلى‏..،

[1] – سبق أن وردت هذه الصورة فى نشرة 2-12-2009  دون ربطها بالعلاج الجمعى بالذات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *