الرئيسية / أسئلة وأجوبة / أسئلة وأجوبة حول السياسة

أسئلة وأجوبة حول السياسة

أسئلة حول السياسة

مع أ. د. يحيى الرخاوى

ـــــ

الحكام المستبدون

– الحكام المستبدون غالبا ما ينتحرون.. هل هو الخوف من عقاب الجماهير أم ماذا، ولماذا لم يضع حاكم العراق السابق نهايته بيديه؟

– لا توجد قاعدة اسمها “على المستبد أن ينتحر”، والخوف من المحاكمة أو عقاب الجماهير ليس كافيا لقرار الانتحار، الأرجح عندى أن صدام حسين فاقد البصيرة فى الواقع منذ زمن طويل، طويل، وفقد البصيرة أيام حرب الكويت كان أفظع، حين اعتبر نفسه إلهاً (وليس فقط مدعوما بالله) وبالتالى فلم يضع الهزيمة فى الاعتبار.

لم أهتم به أو بنهايته كما لا أهتم بنهاية بوش الذى لا يقل عَمًى عن صدام، هذه عينات بشرية يستوى فيها الانتحار أو الاستمرار إذا حاسبناها من منظور تاريخى، هؤلاء بشر يحمل مقومات هدم انفسهم، وهم يتصورون أنهم قادرون على هدم الناس. إن صدام حسين قاتل نفسه وقاتل للناس منذ أن فقد بصيرته، وسيلحقه بوش حين يقبض عليه التاريخ، أو شعبه، أو الله سبحانه.

– كيف ترى حقيقة الجدل الدائرى الآن حول ضرورة الإصلاح وهل ما نحتاجه هو اصلاح سياسى فى المقام الأول أم اقتصادى أم نفسى مجتمعى يتجه نحو إعادة القيم التى تاهت بفعل التطور نحو… المخدر؟؟

الإصلاح هو الإصلاح، وهو شامل لكل المجالات، وبالتالى نحن نحتاجه فى كل المجالات معا وبشكل شامل وجذرى، وقد تاهت القيم ليس بفعل التطور نحو المخدر، وإنما بفعل التآكل والكذب والغش والتأجيل واحتقار السلطة للناس، ومن ثم احتقار الناس لأنفسهم وللقيم معا.

ربما تسألين عن “من أين نبدا”، وليس بالضرورة عما نحتاجه أكثر. إن هذا يذكرنى بكتاب المرحوم خالد محمد خالد منذ أكثر من نصف قرن بعنوان “من أين نبدأ؟”.

أظن أن المسائل تداخلت فى بعضها البعض بحيث أصبح من الصعب الإجابة على هذا السؤال “من أين نبدا” أكثر فأكثر.

نأخذ مثلا تتجلى وتتزايد ظاهرة “الغش” فى مجتمعنا المعاصر. هذه قيمة سلبية كادت تصبح سمة من السمات المجتمعية المصرية الحادثة. تعالو ننظر فيما فعلته أجهزة رسمية أثناء زيارة السيدة لورا بوش قرينة الرئيس الأمريكي للإسكندرية‏.، رتبت لها السلطات زيارة إلي مجمع لمدارس البنات بالإسكندرية بمنطقة العوايد / أم القرى، ثم قامت المحافظة باستعارة طاقم التدريس وكل التلميذات من إحدي المدارس التجريبية الراقية‏، ‏ وإحلالهم محل هيئة تدريس وتلميذات مجمع أم القري‏.‏ إلخ. ما هى الرسالة التى تصل إلى المدرسين والطلبة وأولياء الأمور من هذا الإجراء ؟ إنه إعلان فعلى على أرض الواقع بمشروعية الغش وعلى أخطر مستوى وهو المستوى التربوى. لا يمكن بعد ذلك أن نتناول ظاهرة الغش إلا وهى تشمل فى نفس الوقت كلا من: الغش فى امتحانات الإعدادية، و الغش فى الانتخابات الرئاسية أو النيابية، و الغش التجارى فى قطع غيار السيارات المزيفة، و حتى الغش الدينى فى تصور غفران كسب المال الحرام بعمرة “مضروبة مقدما” إنها ظاهرة واحدة تتجلى فى كل المجالات بصور مختلفة. لا أريد أن أصعب الأمور، لكن لاينبغى أن نبحث الأمر باعتباره ظاهرة نفسية تحتاج إلى تحليل تبريرى خائب.

– فى مقال لكم عن تحسين الصورة أم تحسين الأصل، ذكرتم أن القوة والإبداع هما وسيلتنا لصورة حسنة قادرة على كسب الأحترام.. كيف يتسنى لنا ذلك فى ظل مناخ يرفض الإبداع وينبذ الأختلاف؟

لن يتسنى ذلك ونحن كذلك، لكن ما ذا أفعل أنا غير أن أعلن ما أراه؟ ومع كل هذا فأنا أنذر السلطات جميعا، وأولها السلطة الدينية الرسمية، أن الله خلقنا مبدعين بالطبيعة، وأنهم إذ يحولون دون ذلك، يشوهون خلقة ربنا حتى لو زعموا أن ذلك يتم بفتوى دينية، كما أبلغ نفسى ومن يهمه الأمر أن الإبداع بمعنى إعادة النظر، وفريضة التفكير فى كل ما يصلنى، هو ما سوف يحاسبنى الله عليه، وأننى لو قصرت فى استعمال حقى فى التفكير وإعادة النظر، أو احتججت بقهر الحكومة أو غباء الفتوى الجاهزة. فلن يرحمنى ربى أننى أهملت الانتفاع بحقى فى الرؤية المسؤولة المرة تلو المرة. من هنا: أبدأ بنفسى وأهب عملى إلى ربى وبنى وطنى وجنسى،ثم ما قدر يكون، وليبدأ كل من حيث هو، دون أن يكون هذا هو الحل، لكنه إبراء ذمة، وأيضا عبادة.

– ما تنقله لنا نشرات الأخبار هذه الأيام من مجازر وأعمال عنف تثير الكثير من المشاعر السلبية التى تقود إلى الإكتئاب.. كيف ترى طريقة التعامل معها، هل بالتجاهل والهروب أم بالإصرار على التفاعل رغم الألم.. ربما يحرك ما فينا من قدرة على الفعل والرفض أو الرفض ثم الفعل؟؟

أعترف أننى توقفت عن متابعة ما يسمى مجازر منذ تشويه اغتيال محمد الدرة، لقد كاد الإلحاح على عرض هذه المشاهد أن يستنزف طاقة وجدانى دون فعل،. أنا لا أعتبر هذا تجاهلا أو هربا، لكن أنبه على أن تناسب الألم مع الفعل هو الذى يحافظ على إيجابية دور الألم. إن هذا الإلحاح الدموى الإعلامى هو نوع من التخدير الذى يسمى فسيولوجيا (وليس فقط نفسيا): الاستجابة النقيضية العكسية للإثارة المفرطة، supra-maximal inhibition. لا ينبغى ان ننتظر الإذن حتى نفعل. اليوم 24 ساعة، وعلينا أن نعرف أن هذه الساعات نحن نملك أغلبها دون إذن من أحد، ثم على كل منا أن يبدأ الآن وليس بعد. أنا لا أدعو لحل فردى لكننى أنبه إلى ضرورة التوقف عن التبرير التبرير التبرير، ولتكن البداية فردية، فجماعات صغيرة وهكذا، إلى أن يتراكم الفعل على الفعل على التنظيم إلى القدرة على إزاحة الإعاقة والمعيق خارجنا، ما دمنا نحجنا وننج فى التعامل مع الإعاقة داخلنا

– كيف نعيش متوازيين نفسيا وسط كل هذا العنف والقتل والظلم؟

ولماذا نعيش متوازنين نفسيا وسط كل هذا ؟ هذه الإشاعات التى يطلقها الأطباء النفسيون أمثالى ينبغى أن نأخذها بحذر، ما ذا يعنون بمتوازنين نفسيا ؟ المفروض أن نعيش متفاعلون مؤثرون نابضون فعليا، التوازن النفسى فى عصر اللاتوازن عبر العالم عبث وخداع. كيف ندع القلق فى عصر نحكم فيه بقوى لا نعرفها وكأننا نحكم بحكومات أشباح فى بورصات سرية، كيف لا نخاف والحكومات “الديمقراطية ” تمارس قتل الأبرياء دون محاكمة وتعلن ذلك فى اجتماعات مجلس الوزراء، كل هذا ينبغى أن يفهمنا أن تعبير متوازن نفسيا هو تعبير تسوياتى خائب، التوازن النفسى يقاس بموضوعية الفعل، والقدرة على الاستمرار وسط الآلام على أرض الواقع دون الشكوى ونعابة التبرير.

– التطرف هو سمة غالبة عندنا نحن أبناء الشرق – ربما لأن “دمنا حامى” – وكذلك رفض الآخر الذى لا يقف عند النقطة التى نقف فوقها.. هل لذلك علاقة بتاريخ التعامل مع الإستعمار الذى ظل طويلا حافزاً على المواجهة والرفض؟

من قال إن “دمنا حامى”؟ هذه إشاعة أخرى ينبغى مراجعتها، بل إن دمنا لم يعد حتى “خفيفا”، لم نعد نحسن التنكيت واكتفينا بالتبكيت. ثم إننى أحب أن أكرر ما سبق أن أعلنته من أنه ينبغى علينا أن نفرق بين التعصب والجمود، وهو ما يترتب عليه التفجر والعدم والإعدام، نفرق بين ذلك وبين التطرف الذى يعنى عندى التمسك بوضوح الموقف على أقصى الطرف الذى أمثله، ليكون انطلاقى منه، حتى إلى نقيضه، التطرف المعلن المسؤول هو بداية حركة جدلية جادة خلاقة. إن رفض التطرف بشكل عام دون التمييز بين أنواعه المتعددة يؤدى بنا إلى القبول بالميوعة والحلول الوسط التى تنتهى إلى الكذب والجمود، لا أكثر ولا أقل.

التعامل مع الاستعمار لم يؤد إلى الى سلبية فى نظرى، بل لعله حدد لنا هدفا قوميا مشتركا وهو التحرير، نعم ظل حافزا على المواجهة والرفض لأنه حدد لنا عدوا مثيرا متحديا وهو المحتل، إننا لم نرفض المستعمر لأنه آخر، بل لأنه مستعمر، نحن رفضنا الآخر حين تصورنا أننا نملك الحقيقة الدينية الفريدة، ولأننا ورثة التاريخ الذى ليس كمثله شىء، ثم توقفنا تماما فى المحل، وراح “الآخر” يعدو إلى الأمام، فرفضناه عجزا لا حِمْـية.

– على ذكر الإستعمارـ لم يستطيع أى استعمار أن يؤثر فى الثقافة المصرية على طول تاريخها.. ولكن الثقافة الخليجية استطاعت أن تفرض نفسها على المجتمع المصرى مع روح المصريين للعمل هناك منذ السبعينيات، ترى ما الأسباب النفسية والمجتمعية لذلك، وكذلك النتائج؟

من قال إن الاستعمار لم يؤثر فى الثقافة المصرية، الحقيقة أنه أثر وتأثر بشكل إيجابى وسلبى معا، أما مسألة تأثير الثقافة الخليجية فهذه حقيقة أخرى لابد من الاعتراف بها.

ندع جانبا حكاية الأسباب النفسية التى نتمحك فيها عادة، الأسباب هى الأسباب، فلماذا نسميها نفسية وكأننا نبحث عن مبرر مرضى لنعذر أنفسنا. الأرجح عندى أن الإنسان المصرى حين افتقد ما ينتمى إليه، ومن ينتمى إليه، وأيضا حين افتقد من يحترمه ومن يؤمنه، لم يعد أمامه إلا أن يحمى نفسه وعائلة بأبسط مقومات الأمان وهو “القرش”. المصرى العادى، إذا لم يكن لصا شاطرا، يصعب عليه جدا، لدرجة الاستحالة، أن يحصل على مقومات مادية تحفظ كرامته، وتؤمن عيشه، إلا إذا انتسب بعض الوقت إلى من يعطيه القرش مقابل عرقه أو مهارته. هذا هو ما يجده المصرى المسافر عند المستندين إلى الخزائن من الخليجيين الذين قلبوا الليل نهارا، وقلبوا الاقتصاد استهلاكا، ودمتم.

مع طول مدة الفراغ السياسى، والإبداعى، والإيمانى، حل محل كل ذلك ميكروفونات الخطابة من أعلى، وفتاوى الدين الشكلى تصدر من سلطة وليس من الله، وتقليد الإبداع وكأنه هو. كل ذلك هو بعض مظاهر “ثقافة الاستهلاك والتحوصل” (وهو تعبير أحب أن أعتبره مرادفا للثقافة الخليجية) وهى الثقافة التى طرحت على وعى ناسا على مدى عشرات السنين.

– الحراك السياسى فى مصر الذى بدأت بوادره واضحة منذ زمن ليس ببعيد ترك بالتأكيد علامات وظواهر على المجتمع المصرى منها الإيجابى ومنها السلبى منها المتوقع وغير المتوقع.. هذه هى القضية الرئيسية للحوار.. كيف تأثرت سلوكيات المواطن المصرى بهذا الحراك الحادث فى المشهد العام؟

أظن أن الإجابة على هذا السؤال يحتاج كتابا كاملا، ومع ذلك فأنا لم أكتب إلأ منه – تقريبا- فى أغلب مقالات الدستور (مرسل طية)، وبعض مقالات الاهرام (مرسل بعضه) – ولا أجد ما أضيفه إلا أخر مقال سوف يظهر فى الدستور فى نفس يوم الانتخاب 7/9/2005.

إننى أحذر من التعميمات التى تتحدث عن “كيف تأثرت سلوكيات المواطن”؟ سلوكيات المواطن تختلف إختلافا جذريا بحسب الفروق الفردية، والثقافة الفرعية (أهل عزبة القصيرين غير أهل رشيد غير أهل بنى مزار غير أهل جاردن سيتى) – مثل هذه الأسئلة لو أجبنا عليها وخصوصا تحت إدعاء ما هو نفسيه تصبح تجهيلا، وليست علما.

– كيف تقرأ “حلم الرئيس” الذى جعل عدد كبير من المصريين سيقومون للترشيح ما بين ربة بيت، سمكرى، صول سابق فى الجيش، أستاذ جامعة يعيش فى الخارج، معوق، خريجة جامعية حديثة؟

– كيف تقرأ فى تركيبه هؤلاء البشر.. هل هى رغبة فى الشهرة، أو التنفيس خاصة وأنهم يدركون أن الشروط لا تنطبق على أى واحد منهم هل هذا مؤشر على زيادة الحرية؟

هذا وقد سبق أن أجبت عن هذه الأسئلة جميعا (تقريبا مع مجلة الأهرام العربى، مكان ذلك قبل أن يتاح لى فرصة لقاء بعض المرشحات الفاضلات فى برنامج البيت بيتك، وقد أشرت إلى ذلك فى مقال لاحق).

عموما لا ينبغى الحكم على المرشحين بأى شكل عشوائى، فهم مهما كان الدافع مشاركون كل بطريقته أفضل من التأكيد على السلبية طول الوقت.

– هل وجود 10 مرشحين يتنافسون على استرضاء المواطن المصرى.. هل هذا خلق حالة لدى المواطن بأهمية دوره وأعاد له جزء من كرامته المفقودة فى حياته اليومية، واحساسه الدائم باستهانة الحكومة به، ورؤيته لمحدودية دوره أو تاثيره المتواضع على مجريات الأمور فى المجتمع؟

لا طبعا، لا أهمية ولا يحزنون (أنظرى مقال: حتى لا نسكب اللبن)، الشعور بالأهمية هو أمر لاحق للشعور بالتزام السلطة كانت تحتقر المواطن قبل هذه الحفلة الصاخبة متهمشة، والانتخاب (يعنى ملء الأوراق) نيابة عنه، أما الآن فالسلطة (ومنافسيها) يعاملون المواطن بسطحية منقطعة النظير، وكأنه متخلف عقليا، أو مجرد جائع ملهوف. إن هذا نوع آخر من عدم الاحترام (أو ربما الاحتقار فعلا) الكرامة ستظل مفقودة مادام الفن والكذب هما الأصل، وما دامت القوانين تستعمل بشكل انتقائى.

– هل شهية المصريين انفتحت للحرية بعد أن رأوا على شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد شعارات لم يلقوها من قبل مثل “اتخنقنا” التى يرفعها نعمان جمعه أو غيره.. هل هذه الشهية التى أصبحت نهمه لمزيد من الحرية سوف تأتى بممارسات جديدة لم نعتدها -لمجتمع عاش لسنوات متعطشا لمثل هذه المشاهد؟

سؤال شهية مصر والحرية أيضا يصور لنا الحرية على أنها وجبة يمكن أن تكون شهية وممكن أن يكون الشعب “مالوش نفس دلوقتى”، ولا مؤاخذة.

الممارسات الجديدة واردة، لكنها: لا هى مضمونة ولا هى قادرة فى المرحلة الحالية – المسألة كلها تتوقف على حركية الناس وقدرتهم على الضغط الحقيقى المستمر.

الخوف من الحرية (علميا) أهم وأخطر وأكثر رسوخا من الرغبة فى الحرية، هذا إذا عرفنا ما هو الحرية.

– ظهور بعض التجمعات داخل المجتمع المدنى فى الفترة الأخيرة مثل “شايفنكم” لمراقبة الانتخابات وغيرها من الحركات المستحدثة فى المشهد المصرى هل هى افراز طبيعى للحراك السياسى أم هى مجرد صور استعراضية لفئة داخل النخبة المثقفة، وستبقى فى هذا الإطار دون أن تنضم إليها شرائح اجتماعية مختلفة كانت بعيدة عن العمل العام؟

طبعا، افراز جيد، ومن الوارد أن تنقلب إلى مجرد صياح وسفارات وصور استعراضية، المسألة تحتاج زمنا طويلا مليئا بالممارسات الجادة، وكذا بالأخطاء الضرورية، التى علينا أن نتحمل مسئوليتنا عنها لنستفيد منها.

– البعض لا يرى فى الانتخابات الرئاسية سوى تمثيلية محكومة الأبعاد من جانب النظام ويرى البعض الآخر أن التمثيلية انقلبت من هزل إلى جد.. وأن تحولا حقيقيا قد حدث جعل بعض الناس تتوقع بالفعل حدوث مفاجأت. ولم يعد أمر الفوز محسوما كما كان من قبل.. هل فى حالة فوز الرئيس مبارك بنسبة كبيرة سيصيب الناس بالإحباط من فكرة التغيير التى صدقوها مما يدفعهم إلى العودة مرة أخرى لحالة السلبية المعتادة؟

التمثيلية جارية طول الوقت، وهذا ليس عيبا فى ذاته، فالحياة نفسها – من منطلق فلسفى بعينه – يمكن أن تؤخذ على أنها تمثيلية. المهم أن نصدق التمثيلية، إننا حين….. ما يسمى تمثيل درامى نفسى فى العلاج الجمعى، نصر أن يقوم المريض الدور حتى لو لم يكن مقتنعا به، وكثيرا ما نفاجأ المريض أن الذى كان غير مقتنع به، وأنه تمثيل فى تمثيل، هو قالع حقيقة وفعلا داخل نفسه، وأن التمثيل لم يكن تمثيلا وإنما هو كشف عن جانب آخر من وعيه.

السليم أقرب إلى ذلك من المريض وإن كان أصعب.

لعل الشعب بدوره، وهو يمثل يكتشف أنه لا يمثل. هل هذا يعنى أن المسألة أنقلب جد؟ لا أطن الاستنتاج يكون بهذه البساطة، لأن كثيرا مما أقرأه (لا أشاهده، فأنا لا أشاهد التليفزيون) هو نوع من “النكت البايخة” لا هى تمثيل ولا هى جد، هى أقفه من هذا وذاط، سواء صدرت من الحزب الوطنى أو من منافسية.

أما حكاية إصابة الناس بالإحباط فى حالة فوز الرئيس مبارك فهى غير واردة، لأن كل الناس دون استفتاء يعرفون النتيجة مسبقا، فمن أين يأتى الاحباط، الاحباط يأتى حين نأمل فى شئ ولا يتفق، الناس لا يأملون فى أن يسقط الرئيس مبارك، وإنما لاح الأمل أن تستمر حياتهم بقدر ما من الأحترام والكرامة، وهذا وارد، برغم أنه احتمال ضعيف، حتى مع فوز الرئيس مبارك، لكنه يتوقف على تمسك الناس بالأمل ومشاركتهم فى تحقيق وليس انتحار المعجزات.

الاحباط الأخطر يأتى من أن يصدق الناس الوعود التى ظهرت فجأة وكان كل مرشح بما فى ذلك قد عثر على الخاتم خاتم سليمان، وهو كرسى الرئاسة، الذى بمجرد أن يجلس عليه، الرئاسة ضغط على زر من الجانب الأيمن، فيظهر له الجان العملاق قائلا شبيك عبدك وبن ايديك، فيقول له، يا جان هات لنا وظايفه كثير، يا جان هات لنا فدادين كثير، يا جان هات لنا مدارس كثير – هل هذا كلام؟ لو صدق الناس – بجوعهم و…. هذا الكلام، فهم سيحبطون، ونحن – الناس – نستأهل العقاب بالاحباط إذا اتخذنا هذا الموقف.

– بعد أن فتحت الحملة الانتخابية الباب أمام الحديث عن الظلم والفساد والبطالة.. هل سيصبح المواطن المصرى بعد انتهاء الانتخابات على نفس نهجه فى عدم المشاركة فى الحياة السياسية و يقبل من الحكومة ما كان يقبله منها من قبل. أم أن تحولا قد حدث فى سلوكه ولن يعود عنه؟

لا شئ يستقر على حال، النكسة واردة منذ سنة 1954، والطفرة واردة، ولا داعى للتعجل فى الحكم وعلى كل من السبعين مليون أن يساهم فى إحياء الطفرة ووأد النكسة.

– المظاهرات فى الشوارع والتى أصبحت مشهدا يومياً معتادا ومألوفا.. هل هى فوره مؤقتة بين الناس أو كيف تقرأها؟

هذا يتوقف على تغير القوانين، وساحة السماح، وخوف الحكومة، وإصرار الناس.

– كتابة الشعارات على الحوائط فى الشوارع والميادين وعلى المنازل والتى أصبحت بمثابة حوار سياسى بين فئات المجتمع.. هل هذا دليل كبت أم حرية؟ وهل سيتحول الناس عن ممارسة حريتهم على الحوائط إلى ممارسة الحرية من خلال الأحزاب السياسية والتجمعات؟

لا طبعا، هذا ليس دليل حرية، لكنه إشارة صارخة إلى احتمال ما يشبه الحرية.

هذا ولا توجد أحزاب حقيقية بعد فى الحياة السياسية المصرية بما فى ذلك الحرب الوطنى.

***

الزعامة‏ ‏حالة‏ ‏نفسية

‏- ‏ ‏هل‏ ‏ممكن‏ ‏أن‏ ‏تؤدى ‏العوامل‏ ‏النفسية‏ ‏إلى ‏إتخاذ‏ ‏مواقف‏ ‏سياسية؟

طبعا‏ ‏يمكن‏، ‏وهل‏ ‏الموقف‏ ‏السياسى ‏إلا‏ ‏موقف‏ ‏شخصى ‏على ‏صلة‏ ‏وثيقة‏ ‏وفاعلة‏ ‏بالموقف‏ ‏العام؟‏ ‏وهل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ذلك‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏العوامل‏ ‏النفسية؟

 – على ‏وجه‏ ‏الخصوص‏ ‏ظاهرة‏ ‏الرغبة‏ ‏فى ‏الزعامة‏ ‏التى ‏نراها‏ ‏فى ‏الجماعات‏ ‏الدينية‏ ‏المتطرفة‏ ‏وهل‏ ‏تفسر‏ ‏الانشقاقات‏ ‏العديدة‏ ‏بينهم‏، ‏وهل‏ ‏الرغبة‏ ‏فى ‏الزعامة‏ ‏مرض‏ ‏نفسي؟

‏المسألة‏ ‏ليست‏ ‏مسألة‏ ‏رغبة‏ ‏فى ‏الزعامة‏ ‏أو‏ ‏رغبة‏ ‏عن‏ ‏الزعامة‏، ‏هناك‏ ‏دوافع‏ ‏عميقة‏، ‏وسمات‏ ‏خاصة‏ ‏تحدد‏ ‏أدوار‏ ‏الأفراد‏ ‏فى ‏الجماعة‏، ‏فكل‏ ‏جماعة‏ ‏تفرز‏ – ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ديناميكياتها‏ – ‏قائدا‏ ‏أو‏ ‏زعيما‏ ‏لها‏، ‏وهذا‏ ‏الزعيم‏ ‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏أحسن‏ ‏الجماعة‏ ‏أو‏ ‏أكثرهم‏ ‏تفوقا‏ ‏فى ‏كل‏ ‏أو‏ ‏معظم‏ ‏الجماعات‏، ‏وكذلك‏ ‏لا‏ ‏يتحدد‏ ‏هذا‏ ‏الإفراز‏ ‏بمجرد‏ ‏رغبة‏ ‏فرد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏زعيما‏، ‏وإنما‏ ‏تتفاعل‏ ‏احتياجات‏ ‏وسمات‏ ‏كل‏ ‏الأفراد‏ ‏مع‏ ‏بعض‏ ‏المؤهلين‏ ‏للزعامة‏ ‏وتكون‏ ‏النتيجة‏ ‏أن‏ ‏يتولى ‏الأكثر‏ ‏تناسبا‏ ‏لناتج‏ ‏هذا‏ ‏التفاعل‏ ‏زعامة‏ ‏الجماعة‏، ‏وما‏ ‏يسرى ‏على ‏الجماعة‏ ‏الصغيرة‏، ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينطبق‏ ‏على ‏ما‏ ‏هو‏ ‏زعامات‏ ‏كبيرة‏، ‏ولكن‏ ‏بتحويرات‏ ‏مناسبة‏.‏

‏ –  ‏وما‏ ‏تفسير‏ ‏وجود‏ ‏هذه‏ ‏الرغبة‏ ‏بين‏ ‏أشخاص‏ ‏عاديين‏ ‏مثلا؟

‏يا‏ ‏سيدي‏، ‏الزعيم‏ ‏شخص‏ ‏عادى ‏له‏ ‏سمات‏ ‏خاصة‏ ‏تفاعلت‏ ‏مع‏ ‏مرحلة‏ ‏تاريخ‏ ‏معينة‏ ‏وسط‏ ‏ناس‏ ‏محددين‏ ‏فصار‏ ‏زعيما‏، ‏وأحيانا‏ ‏ما‏ ‏تأتى ‏الظروف‏ ‏بشخص‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏أى ‏مؤهلات‏ ‏الزعيم‏ ‏لنضعه‏ ‏على ‏رأس‏ ‏أمة‏ ‏أو‏ ‏جماعة‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏معينة‏، ‏فإذا‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الممارسة‏ ‏وغيرها‏ ‏يكتسب‏ ‏صفات‏ ‏الزعامة‏، ‏المسألة‏ ‏تفاعل‏ ‏وتدريب‏ ‏وظروف‏ ‏وتاريخ‏ ‏وجماعة‏ ‏فى ‏فرد‏، ‏وفرد‏ ‏فى ‏جماعة‏، ‏ثم‏ ‏يخرج‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏: ‏الزعيم‏..‏

‏- ‏طبيب‏ ‏يقول‏ ‏انه‏ ‏يحتاج‏ ‏لجماهير‏ ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏الفكر‏ ‏الذى ‏يقدمه‏ ‏لهم؟‏

‏إن‏ ‏محتوى ‏الفكر‏ ‏أو‏ ‏المذهب‏ ‏عادة‏، ‏وخاصة‏ ‏فى ‏البلاد‏ ‏المتخلفة‏ – ‏يأتى ‏لاحقا‏ ‏للجلوس‏ ‏على ‏كرس‏ ‏الزعامة‏، ‏وهذا‏ ‏ليس‏ ‏سيئا‏ ‏على ‏طول‏ ‏الخط‏ ‏فصاحب‏ ‏الفكر‏ ‏السابق‏ ‏الجاهز‏ ‏قد‏ ‏يجد‏ ‏السبيل‏ ‏لأن‏ ‏يكون‏ ‏زعيما‏ ‏نظريا‏، ‏لكنه‏ ‏يظل‏ ‏صاحب‏ ‏فكر‏ ‏مثالى ‏فى ‏العادة‏، ‏وهو‏ ‏يفشل‏ ‏عادة‏ ‏عند‏ ‏التطبيق‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏يصف‏ ‏بعض‏ ‏زعماء‏ ‏الماركسية‏، ‏وبعض‏ ‏زعماء‏ ‏الحركات‏ ‏الدينية‏.‏

وهذا‏ ‏الطبيب‏ ‏الذى ‏يشير‏ ‏إليه‏ ‏السؤال‏ ‏أكثر‏ ‏واقعية‏ – ‏رغم‏ ‏ما‏ ‏يبدو‏ ‏من‏ ‏انتهازيته‏، ‏من‏ ‏هؤلاء‏ ‏الزعماء‏ – ‏المثاليين‏ ‏فهم‏ ‏زعماء‏ ‏مع‏ ‏وقف‏ ‏التنفيذ‏.‏

‏- ‏هل‏ ‏ترجع‏ ‏هذه‏ ‏الرغبة‏ ‏فى ‏الزعامة‏ ‏إلى ‏عقد‏ ‏نقص‏ ‏معينة‏ ‏خاصة‏ ‏بالحالة‏ ‏الثقافية‏ ‏والمعيشية‏ ‏أم‏ ‏هى ‏رغبة‏ ‏فى ‏السلطة‏ ‏أم‏ ‏فراغ‏ ‏داخلي؟‏ ‏

أولا‏: ‏أنا‏ ‏لا‏ ‏احب‏ ‏أن‏ ‏أفسر‏ ‏سلوك‏ ‏الناس‏ ‏بما‏ ‏يسمى ‘‏عقد‏ ‏نقص‏’، ‏هذه‏ ‏وصاية‏ ‏شبه‏ ‏علمية‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏هى ‏اختزال‏ ‏النفس‏ ‏البشرية‏.‏

ثانيا‏: ‏طبعا‏ ‏الحالة‏ ‏الثقافية‏ ‏والمعيشية‏ ‏تؤثر‏ ‏فى ‏التوجهات‏ ‏والميول‏، ‏لكنها‏ ‏ليست‏ ‏السبب‏ ‏المباشر‏ ‏لظهور‏ ‏زعامات‏ ‏معينة‏ ‏أو‏ ‏قيادات‏ ‏بذاتها‏.‏

ثالثا‏: ‏الرغبة‏ ‏فى ‏السلطة‏ ‏هى ‏نزعة‏ ‏إنسانية‏ ‏عادية‏ ‏ولها‏ ‏أشكال‏ ‏مختلفة‏ ‏عن‏ ‏مختلف‏ ‏الأفراد‏.‏

رابعا‏: ‏الفراغ‏ ‏الداخلى ‏هو‏ ‏صدى ‏للفراغ‏ ‏الخارجى ‏وبالعكس‏، ‏وهذا‏ ‏وذاك‏ ‏يدفع‏ ‏الانسان‏ ‏علنه‏ ‏بما‏ ‏يفيد‏، ‏أو‏ ‏بما‏ ‏يضر‏، ‏والزعامة‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏هذا‏ ‏أو‏ ‏ذاك‏.‏

‏ – ‏هل‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏منتشرا‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏أم‏ ‏هناك‏ ‏أسباب‏ ‏فى ‏المجتمع‏ ‏دفعته‏ ‏للظهور؟

‏إن‏ ‏حب‏ ‏الظهور‏ ‏والتوجه‏ ‏للقيادة‏ ‏سمة‏ ‏بشرية‏ ‏على ‏مر‏ ‏العصور‏ ‏عند‏ ‏كل‏ ‏البشر‏، ‏لكن‏ ‏الذى ‏تغير‏ ‘‏قواعد‏ ‏اللعبة‏’، ‏فحين‏ ‏تكون‏ ‏القواعد‏ ‏سليمة‏ ‏والمجتمع‏ ‏صحيحا‏ ‏وعاملا‏، ‏فإن‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏المجتمع‏ ‏يفرز‏ ‏من‏ ‏يغذى ‏احتياجاته‏ ‏ويستجيب‏ ‏لمطالبه‏، ‏وأما‏ ‏حين‏ ‏يكون‏ ‏المجتمع‏ ‏متخلفا‏ ‏واعتماديا‏، ‏فإنه‏ ‏يفرز‏ ‏من‏ ‏يلغيه‏ ‏وينفيه‏ ‏تحت‏ ‏زعم‏ ‏أن‏ ‏الزعيم‏ ‏قادر‏ ‏على ‏كل‏ ‏شيء‏.‏

‏ ‏وهل‏ ‏هذه‏ ‏الرغبة‏ ‏فى ‏الزعامة‏ ‏شيء‏ ‏طبيعى ‏فى ‏العالم‏ ‏كله؟

‏ ‏طبعا‏ ‏هى ‏شيء‏ ‏طبيعى ‏فى ‏العالم‏ ‏كله‏، ‏ونظرة‏ ‏واحدة‏ ‏إلى ‏الديانات‏ ‏الجديدة‏، ‏والكنائس‏ ‏المنشقة‏ ‏فى ‏الولايات‏ ‏المتحدة‏ ‏الأمريكية‏ ‏حيث‏ ‏تبلغ‏ ‏المئات‏ ‏تظهر‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الزعامات‏ ‏الصغيرة‏ ‏ليست‏ ‏قاصرة‏ ‏على ‏البلاد‏ ‏المتخلفة‏، ‏أو‏ ‏الجماعات‏ ‏الاسلامية‏.‏

‏-‏ ‏هل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يروج‏ ‏الزعيم‏ ‏لافكار‏ ‏غير‏ ‏مقتنع‏ ‏بها‏ ‏لمجرد‏ ‏تحقيق‏ ‏رغبته‏ ‏فى ‏الزعامة؟

‏طبعا‏ ‏يمكن‏، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏يحدث‏ ‏عادة‏ ‏بعد‏ ‏ركوب‏ ‏المحمل‏، ‏فالزعيم‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏مخلصا‏ ‏لمبادئه‏ ‏مقتنعا‏ ‏بها‏ ‏أثناء‏ ‏سعيه‏ ‏إلى ‏كرسى ‏العرش‏، ‏ولمجرد‏ ‏أن‏ ‏يغوص‏ ‏فى ‏الكرسي‏، ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏افتقر‏ ‏إلى ‏فرص‏ ‏المراجعة‏ ‏والحوار‏، ‏لا‏ ‏يتمسك‏ ‏إلا‏ ‏بالكرسى ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏الأفكار‏ ‏والمباديء‏ ‏التى ‏أتت‏ ‏به‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏الكرسي‏، ‏وهذا‏ ‏موقف‏ ‏انتهازى ‏آخر‏ ‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏يصف‏ ‏كل‏ ‏الزعماء‏.‏

‏- ‏هل‏ ‏يشكل‏ ‏هؤلاء‏ ‏الزعماء‏ ‏خطر‏ ‏على ‏المجتمع‏ ‏؟‏ ‏وكيف‏ ‏يمكن‏ ‏مواجهة‏ ‏زعماء‏ ‏الجماعات‏ ‏الدينية‏ ‏التى ‏تروج‏ ‏لأفكار‏ ‏خرافية‏ ‏كما‏ ‏فى ‏حادث‏ ‏المنصورة‏ ‏الأخيرة‏ ‏لأب‏ ‏وأم‏ ‏قتلا‏ ‏طفلتهما؟

‏لا‏ ‏طبعا‏، ‏كيف‏ ‏ذلك‏ ‏وكل‏ ‏مجتمع‏ ‏أيا‏ ‏كان‏ ‏يحتاج‏ ‏لمن‏ ‏يقوده‏ ‏ويتحمل‏ ‏مسئولته‏ ‏ذلك‏.‏

أما‏ ‏عن‏ ‏مواجهة‏ ‏زعماء‏ ‏الجماعات‏ ‏الدينية‏ ‏التى ‏تروج‏ ‏لأفكار‏ ‏خرافية‏ ‏فهذا‏ ‏أمر‏ ‏يرجع‏ ‏إلى ‏مواجهة‏ ‏التخلف‏ ‏عامة‏، ‏وفرص‏ ‏تنمية‏ ‏الحوار‏، ‏وهى ‏مازالت‏ ‏قليلة‏ ‏تماما‏ ‏فى ‏مجتمعاتنا‏ ‏حتى ‏الآن‏.‏

– ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏نجد‏ ‏على ‏النقيضين‏ ‏ظاهرة‏ ‏الأنقياد‏ ‏لهؤلاء‏ ‏الزعماء‏ ‏وقد‏ ‏يكون‏ ‏الأنقياد‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏إناس‏ ‏مثقفين‏ ‏مهندسين‏ ‏وأطباء‏… ‏فما‏ ‏تفسير‏ ‏ذلك؟‏ !‏

‏ظاهرة‏ ‏الانقياد‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏غالبة‏ ‏على ‏جماعة‏ ‏ما‏ ‏هى ‏التى ‏تفسد‏ ‏الزعماء‏، ‏والانقياد‏ ‏صفة‏ ‏من‏ ‏صفات‏ ‏التخلف‏ ‏وعدم‏ ‏النضج‏، ‏والمثقفين‏ ‏مثل‏ ‏المهندسين‏ ‏أو‏ ‏الأطباء‏ ‏ليسوا‏ ‏بالضرورة‏ ‏ناضجين‏، ‏فبعضهم‏ ‏متعلمون‏ ‏حاصلون‏ ‏على ‏شهادة‏، ‏وهذه‏ ‏ليست‏ ‏ثقافة‏ ‏فى ‏ذاتها‏ ‏أو‏ ‏نضجا‏، ‏ولذلك‏ ‏يسرى ‏عليهم‏ ‏ما‏ ‏يسرى ‏على ‏قطاعات‏ ‏الشعب‏ – ‏حسب‏ ‏مرحلة‏ ‏نضجه‏.‏

***

اشتغال‏ ‏طلبة‏ ‏الجامعة‏ ‏بالسياسة

ما رأى سيادتكم فى اشتغال طلبة الجامعة بالسياسة؟

يختلف‏ ‏معنى ‏العمل‏ ‏بالسياسة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏فئة‏ ‏عن‏ ‏أخرى ‏وفى ‏كل‏ ‏زمان‏ ‏عن‏ ‏آخر‏، ‏ولا‏ ‏يملك‏ ‏الانسان‏ ‏فى ‏العصر‏ ‏الحاضر‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يعمل‏ ‏بالسياسة‏، ‏مجرد‏ ‏أن‏ ‏تشاهد‏ ‏برنامجا‏ ‏تليفزيونيا‏ ‏يعرض‏ ‏مشكلة‏ ‏عامة‏، ‏أو‏ ‏مسلسلا‏ ‏يتخذ‏ ‏جانبا‏ ‏محددا‏، ‏فتأخذ‏ ‏منه‏ ‏موقفا‏ ‏ما‏، ‏ويترتب‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏أن‏ ‏تقول‏ ‏أو‏ ‏أن‏ ‏تفعل‏… ‏فأنت‏ ‏تعمل‏ ‏بالسياسة‏ ‏والطالب‏ ‏الجامعى ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏له‏ ‏موقف‏ ‏تجاه‏ ‏كل‏ ‏القضايا‏ ‏العامة‏، ‏وهو‏ ‏إما‏ ‏أن‏ ‏ينكر‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏على ‏نفسه‏ ‏أو‏ ‏ننكره‏ ‏عليه‏، ‏فينضم‏ ‏إلى ‏الأغلبية‏ ‏الصامتة‏، ‏فنعقده‏، ‏وإما‏ ‏أن‏ ‏يعلنه‏ ‏فى ‏حجرة‏ ‏مغلقة‏ ‏أو‏ ‏على ‏ثلة‏ ‏محدودة‏، ‏فيقع‏ ‏فريسة‏ ‏الاختناق‏ ‏أو‏ ‏التعصب‏، ‏وإما‏ ‏أن‏ ‏يجهر‏ ‏به‏ ‏ويتحمل‏ ‏مسئوليته‏، ‏والموقف‏ ‏الأخير‏ ‏هو‏ ‏الاشتغال‏ ‏بالسياسة‏.‏

بقى ‏أن‏ ‏نعلم‏ ‏أن‏ ‏الاشتغال‏ ‏بالسياسة‏ ‏سنة‏ 1994 ‏بدون‏ ‏إنجليزى ‏محتل‏، ‏وبدون‏ ‏فلسطين‏ ‏مشتعلة‏، ‏وبدون‏ ‏أحلام‏ ‏يسارية‏ ‏مثالية‏ ‏براقة‏ ‏وبدون‏ ‏نعرة‏ ‏قومية‏ ‏واعدة‏، ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يختلف‏ ‏عن‏ ‏ذى ‏قبل‏، ‏هذا‏ ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏العالم‏ ‏كله‏ ‏يتشكل‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏بعد‏ ‏إنتهاء‏ ‏الحرب‏ ‏الباردة‏ ‏وبزوغ‏ ‏نظام‏ ‏عالمى ‏غامض‏.‏

واقع‏ ‏الأمر‏ ‏أننا‏ ‏نحتاج‏ ‏إلى ‏مشاركة‏ ‏كل‏ ‏وعى ‏نشط‏ ‏مهما‏ ‏أخطأ‏ ‏أو‏ ‏أصاب‏.‏

الاشتغال‏ ‏بالسياسة‏ – ‏للشباب‏ ‏خاصة‏ – ‏هو‏ ‏دعوة‏ ‏للانتماء‏ ‏وليس‏ ‏تشجعيا‏ ‏للرفض‏، ‏هو‏ ‏احتياج‏ ‏للمشاركة‏ ‏وليس‏ ‏جوعا‏ ‏للخطابة‏، ‏وهو‏ ‏تحريك‏ ‏للوعى ‏وليس‏ ‏رشوة‏ ‏للمشاعر‏.‏

ولابد‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏أن‏ ‏نتحمل‏ ‏بعض‏ ‏المضاعفات‏ ‏وأن‏ ‏نتجاز‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏الأخطاء‏ ‏وأن‏ ‏نصبر‏ ‏بعد‏ ‏طول‏ ‏صمت‏ ‏حتى ‏ننضج‏ ‏جميعا‏ ‏شبابا‏ ‏وحكاما‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏.‏

وأخيرا‏ ‏فليس‏ ‏معنى ‏الاشتغال‏ ‏بالسياسة‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏ ‏خاصة‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏ندغدغ‏ ‏المشاعر‏ ‏الدينية‏، ‏وأن‏ ‏نخلط‏ ‏بين‏ ‏إيحاءات‏ ‏نص‏ ‏مقدس‏، ‏وبين‏ ‏اتجاهات‏ ‏بشر‏ ‏يحاولون‏ ‏فيخطئون‏ ‏أو‏ ‏يصبون‏.‏

كل‏ ‏المحاذير‏ ‏قائمة‏، ‏ولن‏ ‏نتجاوزها‏ ‏بالإنكار‏، ‏بل‏ ‏بفتح‏ ‏النوافذ‏ ‏والمواجهة‏.‏

***

الإرهاب‏ ‏والعنف‏ ‏على ‏شاشة‏ ‏التليفزيون

‏- ‏ما‏ ‏تأثير‏ ‏الإرهاب‏ ‏والعنف‏ ‏على ‏شاشة‏ ‏السينما‏ ‏والتليفزيون‏ ‏على ‏الأطفال‏ – ‏الكبار‏- ‏الشباب؟

أولا‏ ‏هناك‏ ‏فارق‏ ‏بين‏ ‏الإرهاب‏ ‏والعنف‏، ‏فالإرهاب‏ ‏لفظ‏ ‏له‏ ‏استعمالات‏ ‏سياسية‏ ‏حديثة‏، ‏ونادرا‏ ‏ما‏ ‏نراه‏ ‏على ‏الشاشة‏ ‏الصغيرة‏ ‏أو‏ ‏الكبيرة‏ ‏إلا‏ ‏لشجبه‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏أنه‏ ‏تطرف‏ ‏مرذول‏، ‏أما‏ ‏العنف‏ ‏فهذا‏ ‏هو‏ ‏الموضوع‏ ‏الذى ‏أظن‏ ‏أن‏ ‏السؤال‏ ‏يعنيه‏ ‏أساسا‏،‏

وعندنا‏ ‏أنواع‏ ‏من‏ ‏العنف‏، ‏من‏ ‏أول‏ ‏الكاراتيه‏ ( ‏وهذا‏ ‏أخف‏ ‏وأسلم‏ ‏الأنواع‏) ‏حتى ‏الإيذاء‏ ‏القاسى ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏التعذيب‏: ‏سواء‏ ‏ظهر‏ ‏هذا‏ ‏التعذيب‏ ‏من‏ ‏مجرم‏ ‏أو‏ ‏من‏ ‏انحراف‏ ‏رجل‏ ‏أمن‏، ( ‏وهذا‏ ‏أخطر‏ ‏وأقبح‏ ‏الأنواع‏)- ‏وهناك‏ ‏عنف‏ ‏ثالث‏، ‏عنف‏ ‏مشروع‏ ‏لكنه‏ ‏سخيف‏، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏المصارعة‏ ‏الحرة‏، ‏وأحيانا‏ ‏الملاكمة‏، ‏وكل‏ ‏هذه‏ ‏الأنواع‏ ‏لها‏ ‏تأثير‏ ‏سيء‏ ‏حتما‏ ‏على ‏جميعالأعمار‏، ‏وبالذات‏ ‏على ‏الأطفال‏، ‏وأرى ‏أننا‏ ‏لا‏ ‏نحترم‏ ‏غريزة‏ ‏العدوان‏ ‏فى ‏داخلنا‏، ‏وخاصة‏ ‏الجانب‏ ‏الإيجابى ‏منها‏، ‏فنوع‏ ‏تربيتنا‏ ‏لأولادنا‏ ‏الآن‏، ‏ونوع‏ ‏حياتنا‏ ‏المعاصرة‏ ‏تجعلنا‏ ‏نبدو‏ ‏أعجز‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏نعبر‏ ‏عن‏ ‏أنفسنا‏ ‏بصراحة‏، ‏أو‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏نهاجم‏ ‏أو‏ ‏نحط‏ ‏من‏ ‏القديم‏ ‏المعوق‏، ‏أو‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏نعيش‏ ‏روعة‏ ‏الدهشة‏ ‏وإقدام‏ ‏المغامرة‏، ‏فاستبدلنا‏ ‏عجزنا‏ ‏هذا‏ ‏بأن‏ ‏اكتفينا‏ ‏بعرض‏ ‏العدوان‏ ‏المصور‏ ‏والمتحرك‏، ‏لنــسقط‏ ‏عليه‏ ‏عدواننا‏ ‏المكبوت‏ ‏لا‏ ‏أكثر‏.‏

‏-هل‏ ‏استمرار‏ ‏عرض‏ ‏الإرهاب‏ ‏على ‏الشاشة‏ ‏يولد‏ ‏المزيد‏ ‏من‏ ‏الإرهاب؟

استمرار‏ ‏السيء‏ ‏أسوأ‏ ‏طبعا‏، ‏مع‏ ‏التذكرة‏ ‏أننى ‏أتكلم‏ ‏عن‏ ‏العنف‏ ‏وليس‏ ‏عن‏ ‏الإرهاب‏، ‏وإن‏ ‏كنت‏ ‏أحب‏ ‏أن‏ ‏أستدرك‏، ‏فقد‏ ‏يكون‏ ‏عرض‏ ‏مشاهد‏ ‏العنف‏ ‏هكذا‏ ‏لتصبح‏ ‏فى ‏متناو‏ ‏ل‏ ‏اشباب‏ ‏قد‏ ‏يسهل‏ ‏على ‏الشاب‏ ‏الذى ‏أضله‏ ‏فكر‏ ‏منحرف‏ ‏أن‏ ‏يعبر‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الفكر‏ ‏بالإرهاب‏ ‏بالقشوة‏ ‏حتى ‏قتل‏ ‏الأبرياء‏، ‏فهو‏ ‏يصبح‏ ‏بسهولة‏ ‏أعمى ‏لدرجة‏ ‏أن‏ ‏ينقل‏ ‏آلة‏ ‏جهنمية‏ ‏لا‏ ‏تدرك‏ ‏ماذا‏ ‏تفعل

‏- ‏هل‏ ‏يزيد‏ ‏عرض‏ ‏الإرهاب‏ ‏على ‏الشاشة‏ ‏من‏ ‏سمة‏ ‏العدوانية‏ ‏لدى ‏أفراد‏ ‏المجتمع؟

أعتقد‏ ‏أن‏ ‏فيما‏ ‏مضى ‏إجابة‏ ‏على ‏هذا‏ ‏السؤال

‏- ‏هل‏ ‏هناك‏ ‏ضرورة‏ ‏لدراسة‏ ‏حالة‏ ‏الإرهابيين‏ ‏النفسية‏ ‏ومحاولة‏ ‏علاجهم؟

أولا‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏حق‏ ‏أحد‏ ‏أن‏ ‏يصف‏ ‏آخر‏ ‏بالمرض‏ ‏النفسى ‏لمجرد‏ ‏أنه‏ ‏مختلف‏ ‏معه‏، ‏هذا‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏، ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏وصل‏ ‏الأمر‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏غير‏ ‏مفسرة‏ ‏بالمنطق‏ ‏العادى، ‏فقد‏ ‏يكون‏ ‏ذلك‏ ‏مدعاة‏ ‏للنظر‏، ‏فقتل‏ ‏الأبرياء‏، ‏والعلميات‏ ‏الانتحارية‏ ‏بلا‏ ‏مبرر‏ ‏واضح‏، ‏كلها‏ ‏أعمال‏ ‏تبومن‏ ‏القسوة‏ ‏على ‏الذات‏، ‏وعلى ‏الآخر‏ ‏بما‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏دراسة‏ ‏فعلا‏، ‏لكن‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏الدرساة‏ ‏عادلة‏، ‏وموضوعية‏، ‏بلا‏ ‏تحيز‏ ‏سياسى ‏أو‏ ‏ديني‏، ‏تضع‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏أزمة‏ ‏هؤلاء‏ ‏المندفعين‏ ‏العميان‏، ‏والأخطار‏ ‏التى ‏تقع‏ ‏على ‏ضحاياهم‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت

‏- ‏ما‏ ‏هى ‏المظاهر‏ ‏السلبية‏ ‏والإيجابية‏ ‏المستقبلية‏ ‏والحالية‏ ‏لاستمرار‏ ‏العنف‏ ‏والإرهاب‏ ‏فى ‏شتى ‏وسائل‏ ‏الإعلام؟

أظن‏ ‏أن‏ ‏المظاهر‏ ‏الإيجابية‏ ‏قليلة‏ ‏جدا‏، ‏ومنها‏ ‏ألا‏ ‏نضع‏ ‏رأسنا‏ ‏فى ‏الرمال‏، ‏وأن‏ ‏نفهم‏ ‏الإنسان‏ ‏فى ‏براءته‏ ‏وفى ‏قسوته‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏وأن‏ ‏ننتبه‏ ‏إلى ‏حجم‏ ‏الظاهرة‏، ‏أما‏ ‏المظاهر‏ ‏السلبية‏ ‏فهى ‏بلا‏ ‏حصر‏ ‏فعلا‏ ‏من‏ ‏أول‏ ‏تسهيل‏ ‏إيذاء‏ ‏الغير‏ ‏حتى ‏تدعيم‏ ‏فكرة‏ ‏أن‏ ‏الأقوي‏- ‏بدنا‏ ‏لا‏ ‏عقلا‏ – ‏هو‏ ‏الأقدر‏ ‏والأنجح‏ ‏

‏- ‏هل‏ ‏لعرض‏ ‏الإرهاب‏ ‏مردود‏ ‏سلبى ‏على ‏جملة‏ ‏العمليات‏ ‏التربوية‏ ‏فى ‏العملية‏ ‏التعليمية؟

أحب‏ ‏أن‏ ‏أنبه‏ ‏ابتداء‏ ‏أن‏ ‏العملية‏ ‏التعليمية‏ ‏فى ‏العالم‏ ‏أجمع‏، ‏وفى ‏العالم‏ ‏العربى ‏خاصة‏ ‏تتعرض‏ ‏لمخاطر‏ ‏كثيرة‏، ‏أهمها‏ ‏أن‏ ‏المدرسة‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏مجتمعا‏ ‏تربويا‏، ‏بل‏ ‏مكانا‏ ‏لملء‏ ‏وعاء‏ ‏العقل‏ ‏بكم‏ ‏من‏ ‏المعلومات‏، ‏فإذا‏ ‏أضفنا‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏هذه‏ ‏الملاحقة‏ ‏بالجانب‏ ‏الآخر‏ ‏من‏ ‏القسوة‏ ‏واللاعلاقة‏، ‏اختفت‏ ‏كلمة‏ ‏المجتمع‏ ‏المدني‏، ‏وأصبحنا‏ ‏نزين‏ ‏لأولادنا‏ ‏المعنى ‏المعاصر‏ ‏للغابة‏ ‏التكنولوجية‏ ‏التى ‏عدنا‏ ‏نعيش‏ ‏فيها‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏ندرري

‏- ‏هل‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نطالب‏ ‏بالإقلال‏ ‏من‏ ‏نسبة‏ ‏عرض‏ ‏الإرهاب‏ ‏بالقدر‏ ‏الممكن؟

المسألة‏ ‏ليست‏ ‏مسألة‏ ‏كمية‏ ‏من‏ ‏شيء‏ ‏بذاته‏ ‏فنستطيع‏ ‏أن‏ ‏نقللها‏ ‏أو‏ ‏نزيد‏ ‏منها‏، ‏المسألة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏موقف‏ ‏مختلف‏ ‏جذريا‏ ‏من‏ ‏النظر‏ ‏إلى ‏طبيعة‏ ‏البشر‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏وإلى ‏مفهوم‏ ‏التربية‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخري‏، ‏ثم‏ ‏يأتى ‏دور‏ ‏الإعلام‏ ‏المرئى ‏بالذات‏ ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏، ‏الأمر‏ ‏برمته‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏إنشاء‏ ‏وتدعيم‏ ‏قيم‏ ‏متكاملة‏ ‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏الوعى ‏بطريقة‏ ‏تنميتها‏، ‏وليس‏ ‏إلى ‏إقلال‏ ‏جرعة‏ ‏السم‏ ‏الذى ‏ندسه‏ ‏فى ‏الدسم‏، ‏إذ‏ ‏سيظل‏ ‏سما‏ ‏مهما‏ ‏ضؤل‏، ‏وبتراكم‏ ‏تعاطيه‏ ‏سوف‏ ‏يقتل‏ ‏صاحبه‏ ‏آجلا‏، ‏فالتقليل‏ ‏هرب‏ ‏غبى ‏لا‏ ‏أكثر

‏- ‏هل‏ ‏يمكن‏ ‏الاكتفاء‏ ‏بعرض‏ ‏الأخبار‏ ‏فقط‏ ‏أم‏ ‏يمتد‏ ‏المنع‏ ‏إلى ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالإرهاب؟

يا‏ ‏سيدى ‏كلمة‏ ‘‏منع‏ ‘ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏واردة‏ ‏فى ‏عصرنا‏ ‏الحاضر‏، ‏فأنت‏ ‏تمنع‏ ‏هنا‏، ‏وهم‏ ‏يحصلون‏ ‏على ‏ما‏ ‏يريدون‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏مكان‏، ‏من‏ ‏الفيديو‏ ‏ومن‏ ‏الدش‏ ‏ومن‏ ‏السينما‏، ‏المسألة‏ ‏هى ‏تغيير‏ ‏موقف‏ ‏سياسى ‏وتربوى ‏يليق‏ ‏بما‏ ‏امتلك‏ ‏الإنسان‏ ‏من‏ ‏أدوات‏، ‏نحن‏ ‏نحتاج‏ ‏إلى ‏ثورة‏ ‏كاملة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏شيء‏، ‏ساعتها‏ ‏ستصبح‏ ‏جرعة‏ ‏عرض‏ ‏العنف‏ ‏جزء‏ ‏ضرورى ‏فى ‏سياق‏ ‏مواجهة‏ ‏الحقيقية‏، ‏سواء‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏بالخبر‏ ‏أم‏ ‏بالفن‏ ‏أم‏ ‏بغير‏ ‏ذلك‏.‏

-ما‏ ‏هو‏  ‏التأثير‏ ‏النفسى ‏لأزمة‏ ‏الخليج‏ ‏على ‏المواطن‏ ‏والشعوب‏ ‏العربية‏ ‏خاصة‏ ‏فى ‏منطقة‏ ‏الأزمة‏؟

مما‏ ‏لا‏ ‏شك‏ ‏فيه‏ ‏أن‏ ‏التأثير‏ ‏يتوقف‏ ‏على ‏موقع‏ ‏كل‏ ‏فرد‏، ‏وكل‏ ‏وطن‏ ‏من‏ ‏الأزمة‏: ‏جغرافيا‏، ‏وسياسيا‏، ‏واقتصاديا‏.‏

بل‏ ‏إن‏ ‏نفس‏ ‏الوطن‏ ‏ونفس‏ ‏المواطن‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يختلف‏ ‏تأثره‏ ‏النفسى ‏حسب‏ ‏مرحلة‏ ‏معايشته‏ ‏للأزمة‏: ‏فالكويت‏ ‏المنسحق‏ ‏غير‏ ‏الكويت‏ ‏المستجير‏، ‏غير‏ ‏الكويت‏ ‏المهاجر‏، ‏غير‏ ‏الكويت‏ ‏المنتصر‏، ‏غير‏ ‏الكويت‏ ‏العائد‏، ‏غير‏ ‏الكويت‏ ‏المتمزق‏ ‏غير‏ ‏الكويت‏ ‏المنتقم‏ ‏غيرالكويت‏ ‏المتحفز‏ ‏غير‏ ‏الكويت‏ ‏الآمل‏ ‏المعمر‏. ‏

وعلى ‏الجانب‏ ‏الآخر‏، ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏العراق‏ ‏الطامع‏، ‏غير‏ ‏العراق‏ ‏المخدوع‏، ‏غير‏ ‏العراق‏ ‏المهان‏، ‏غير‏ ‏العراق‏ ‏المنسحب‏، ‏غير‏ ‏العراق‏ ‏الممزق‏ ‏المهزوم‏.‏

وكل‏ ‏فرد‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مرحلة‏ ‏هو‏ ‏قضية‏ ‏قائمة‏ ‏بذاتها‏، ‏وحالة‏ ‏نفسية‏ ‏تحتاج‏ ‏لدراسة‏ ‏وتتبع‏ ‏مدة‏ ‏طويلة‏.‏

ولكن‏ ‏الشيء‏ ‏الذى ‏يحتاج‏ ‏للإشارة‏ ‏فى ‏الإجابة‏ ‏على ‏هذا‏ ‏السؤال‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تختزل‏ ‏إلى ‏حالة‏ ‏نفسية‏، ‏ذلك‏ ‏أننى ‏أرى ‏أن‏ ‏جواهر‏ ‏الأشياء‏ ‏ورواسخ‏ ‏القيم‏، ‏وأمهات‏ ‏القضايا‏ ‏قد‏ ‏اهتزت‏ ‏من‏ ‏جذورها‏. ‏

وحين‏ ‏تهتز‏ ‏الأمور‏ ‏فإن‏ ‏الأمر‏ ‏يحتمل‏ ‏نتاجين‏:‏

‏ ‏فإما‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏إعلان‏ ‏عن‏ ‏ضياع‏ ‏فعدم‏، ‏وإما‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏تحريكا‏ ‏لجمود‏ ‏طال‏ ‏حتى ‏أعاق‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏يكون‏ ‏إرهاصات‏ ‏بعث‏ ‏شعب‏ ‏أو‏ ‏أمة‏ ‏رغم‏ ‏آلام‏ ‏المخاض‏ ‏الجديد‏.‏

– وهذه‏ ‏الحرب‏ ‏بالذات‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏فيها‏ ‏أنها‏ ‏هزت‏ ‏أغلب‏ ‏السائد‏ ‏من‏ ‏قيم‏ ‏وأثارت‏ ‏وحركت‏ ‏كل‏ ‏القضايا‏:‏

فهى ‏ليست‏ ‏حربا‏ ‏بمعنى ‏صراع‏ ‏القوى ‏الذى ‏ألفناه‏ ‏عبر‏ ‏التاريخ‏، ‏ولكنها‏ ‏كانت‏ ‏كشفا‏ ‏لموقف‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏، ‏وخاصة‏ ‏الإنسان‏ ‏العربي‏، ‏من‏ ‏قضايا‏ ‏جوهرية‏ ‏ترتبط‏ ‏بنوع‏ ‏وجوده‏، ‏وتسهم‏ ‏فى ‏تحديد‏ ‏مستقبله‏، ‏وعلى ‏سبيل‏ ‏المثالفقد‏ ‏عرت‏ ‏هذه‏ ‏فقد‏ ‏واجهنا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذه‏ ‏الحرب‏ ‏بشكل‏ ‏مباشر‏ ‏ومتحد‏، ‏ما‏ ‏كنا‏ ‏نتناوله‏ ‏فى ‏مجالس‏ ‏الترفيه‏ ‏وجلسات‏ ‏المعقلنين‏، ‏واجهناه‏ ‏واقعا‏ ‏ماثلا‏ ‏يتحدى ‏ويلزم‏ ‏بحلول‏، ‏ومثال‏ ‏ذلك‏ ‏مسألة‏ ‏قيمة‏ ‏الإنسان‏ ‏العادي‏، ‏وثمن‏ ‏الحرية‏، ‏و‏ ‏الكيل‏ ‏بمكيالين‏، ‏و‏ ‏الكذب‏ ‏العام‏ ‏والكذب‏ ‏الخاص‏، ‏و‏ ‏استغلال‏ ‏الدين‏ ‏فى ‏الشيء‏ ‏ونقيضه

وحين‏ ‏تثار‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏القضايا‏ ‏مرة‏ ‏واحدة‏ ‏يصبح‏ ‏تأثر‏ ‏الناس‏ ‏ليس‏ ‏بحالة‏ ‏الحرب‏ ‏نفسها‏، ‏وإنما‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏الرسائل‏ ‏المتضمنة‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏الوجودى ‏الخطير‏. ‏

ما‏ ‏هى ‏المسارات‏ ‏النفسية‏ ‏العربية‏ ‏تجاه‏ ‏العرب‏ ‏بعضهم‏ ‏البعض‏، ‏وتجاه‏ ‏الدول‏ ‏الأخري؟

لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏أن‏ ‏الانقسام‏ ‏العربى ‏موجود‏ ‏وخطير‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏وحرب‏ ‏الخليج‏ ‏لم‏ ‏تعلنه‏، ‏بل‏ ‏لعلها‏ ‏أعلنت‏ ‏خطورته‏، ‏ومهما‏ ‏كانت‏ ‏النتائج‏، ‏فهذا‏ ‏النقسام‏ ‏مقضى ‏عليه‏، ‏فلو‏ ‏أن‏ ‏العرب‏ ‏يستحقون‏ ‏الحياة‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏يريدونها‏ ‏ويصرون‏ ‏عليها‏، ‏فهم‏ ‏سيتحدون‏ ‏أقوى ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏الاتحاد‏، ‏وسينتجون‏ -‏معا‏- ‏أوفر‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏الإنتاج‏، ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏حدث‏، ‏بل‏ ‏بسببه‏.‏

كما‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏نعرف‏ ‏أن‏ ‏الانقسام‏ ‏الصريح‏، ‏هو‏ ‏أقوى ‏من‏ ‏الإجماع‏ ‏الزائف‏.‏

والانقسام‏ ‏الصريح‏ ‏أشرف‏ ‏من‏ ‏التعاون‏ ‏الاقتصادى ‏المخلخل‏.‏

‏ ‏وأعتقد‏ – ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏المصائب‏ ‏والضحايا‏ – ‏أن‏ ‏الوضع‏ ‏لن‏ ‏يستمر‏ ‏طويلا‏: ‏عربى ‏فى ‏مواجهة‏ ‏عربى، ‏لأن‏ ‏ذلك‏ ‏ضد‏ ‏طبيعة‏ ‏الأشياء‏.‏

أما‏ ‏إسرائيل‏ ‏فهى ‏كيان‏ ‏زائف‏، ‏مرتزق‏، ‏زائل‏، ‏متخلف‏، ‏مهما‏ ‏حافظت‏ ‏على ‏عضلاتها‏ ‏العسكرية‏، ‏أو‏ ‏جمعت‏ ‘ ‏العادة‏’ ‏من‏ ‏الخبثاء‏ ‏أو‏ ‏أصحاب‏ ‏المصالح‏ ‏العنصرية‏ ‏أو‏ ‏الانتخابية‏ ‏الذين‏ ‏يتسولون‏ ‏رضاها‏ ‏ويحاربون‏ ‏بالنيابة‏ ‏عنها‏.‏

لكن‏ ‏الواقع‏ ‏الأبقى، ‏والأكثر‏ ‏قدرة‏ ‏على ‏الاستمرار‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏العالــم‏ ‏وإسرائيل‏ ‏نفسها‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏تتعرى ‏أمامهم‏ ‏دناءة‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏التاجر‏ ‏الجبان‏ ‏الذى  ‏تقفه‏ ‏الدولة‏  ‏العبرية‏، ‏وهى ‏تتسوق‏ ‏من‏ ‏ببيع‏ ‏الجثث‏ ‏فى ‏الخارج‏ ‏والداخل‏.‏

أما‏ ‏الاتجاهات‏ ‏النفسية‏ ‏العربية‏ ‏تجاه‏ ‏العالم‏، ‏خاصة‏ ‏بعد‏ ‏الحرب‏، ‏فهذا‏ ‏أمر‏ ‏لا‏ ‏ينفصل‏ ‏عما‏ ‏يسمونه‏ ‏النظام‏ ‏الجديد‏ ‏للعالم‏، ‏وهناك‏ ‏آمال‏ ‏تعقد‏ ‏حول‏ ‏هذا‏ ‏النظام‏، ‏لكن‏ ‏الخوف‏ ‏كل‏ ‏الخوف‏ ‏أن‏ ‏يتمخض‏ ‏هذا‏ ‏النظام‏ ‏عن‏ ‏تحويل‏ ‏العالم‏ ‏إلى ‏مدرسة‏ ‏للمتخلفين‏ (‏تسمى ‏تخفيفا‏: ‏للتربية‏ ‏الفكرية‏ !!!) ‏لها‏ ‘ ‏أبلة‏ ‏الناظرة‏’ (‏أمريكا‏)، ‏وضابطة‏ ‏ألعاب‏ ‏ـ‏0(‏إنجلترا‏) ‏وأمين‏ ‏صندوق‏ (‏اليابان‏ ‏وألمانيا‏) ‏وسكرتير‏ (‏فرنسا‏ ‏وإيطاليا‏) ‏وفراشين‏ ‏وسعاة‏ (‏المعسكر‏ ‏الاشتراكى ‏سابقا‏) ‏ثم‏ ‏يقودونا‏ ‏نحن‏ ‏المتخلفين‏ ‏على ‏قدر‏ ‏عقولنا‏ ‏بلا‏ ‏أمل‏ ‏فى ‏تعليم‏ ‏ممتد‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏إتقان‏ ‏حرفة‏ ‏ممكنة‏.‏

بل‏ ‏إن‏ ‏صورة‏ ‏أقبح‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏خطرت‏ ‏ببالى ‏خوفا‏ ‏مما‏ ‏يسمى ‏النظام‏ ‏العالمى ‏الجديد‏، ‏وهى ‏أن‏ ‏ينقلب‏ ‏العالم‏ ‏إلى ‏سيرك‏، ‏نقوم‏ ‏نحن‏ ‏فيه‏ ‏بدور‏ ‏الحيوانات‏ ‏التى ‏كانت‏ ‏مفترسة‏ (‏بحكم‏ ‏بدائيتها‏) ‏ثم‏ ‏أصبحت‏ ‏مروضة‏ ‏بحكم‏ ‏قهرها‏، ‏ونزغع‏ ‏أنيابه‏، ‏تمهيدا‏ ‏لعملها‏ ‏فى ‏السيرك‏ ‏الجديد‏، ‏ومن‏ ‏يسعده‏ ‏الحظ‏ ‏منا‏ ‏يقوم‏ ‏بدور‏ ‏المهرج‏ ‏بين‏ ‏فقرات‏ ‏الحرب‏ ( ‏أقصد‏ ‏بين‏ ‏فقرات‏ ‏العرض‏ !!!)‏

والرد‏ ‏على ‏الجزء‏ ‏الأخير‏ ‏من‏ ‏السؤال‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏علاقات‏ ‏العرب‏ ‏بالعالم‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏وأن‏ ‏ترتبط‏ ‏بمدى ‏وعينا‏ ‏بما‏ ‏يسمى ‏النظام‏ ‏العالمى ‏الجديد‏ ‏حتى ‏نشارك‏ ‏فى ‏صنع‏ ‏الأحداث‏ ‏بما‏ ‏ينفعنا‏ ‏وينفع‏ ‏الناس‏، ‏ولا‏ ‏نكتفى ‏بدور‏ ‏المروضين‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏والمهرجين‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخري‏.‏

‏ ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نصل‏ ‏إلى ‏مفهوم‏ ‏عربى ‏للأمن‏ ‏النفسى ‏؟

أحذر‏ ‏ثم‏ ‏أحذر‏ ‏أن‏ ‏نتبع‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مرحلة‏ ‏من‏ ‏تطورنا‏ ‏بدعة‏ ‏جديدة‏ ‏تلهينا‏ ‏عن‏ ‏حقيقة‏ ‏المسار‏ ‏وحتميات‏ ‏العمل‏.‏

‏ ‏فمفهوم‏ ‏أمن‏ ‏المنطقة‏ ‏الذى ‏يتردد‏ ‏حاليا‏ ‏قد‏ ‏ينقلب‏ ‏إلى ‏شعار‏ ‏خاو‏ ‏أو‏ ‏مضلل‏، ‏وهو‏ ‏يبدأ‏ ‏بإعادة‏ ‏محاولات‏ ‏تكديس‏ ‏السلاح‏، ‏ثم‏ ‏ينتقل‏ ‏إلى ‏فعل‏ ‏السياسة‏ ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏من‏ ‏تربيطات‏ ‏القوى ‏وتوازن‏ ‏المحاور‏.‏

وعلى ‏ذلك‏: ‏أحب‏ ‏أن‏ ‏أنبه‏ ‏أنه‏ ‏لن‏ ‏يتحقق‏ ‏الأمن‏ ‏النفسى ‏بمزيد‏ ‏من‏ ‏السلاح

ولا‏ ‏بمزيد‏ ‏من‏ ‏الصياح

ولا‏ ‏بمزيد‏ ‏من‏ ‏التتعصب‏ ‏واستعمال‏ ‏الدين‏ ‏من‏ ‏الظاهر

ولا‏ ‏بمزيد‏ ‏من‏ ‏توزيع‏ ‏الطمأنينة‏ ‏والرفاهية‏ ‏بالوعود‏ ‏فى ‏الدنيا‏ ‏والآخرة‏ ‏دون‏ ‏إبداع‏ ‏أو‏ ‏إنتاج‏.‏

إنما‏ ‏يتحقق‏ ‏الأمن‏ ‏حين‏ ‏تتحقق‏ ‏القوة‏ ‏والنظام‏ ‏على ‏أرض‏ ‏الواقع‏، ‏القوة‏ ‏المتثلة‏ ‏فى ‏الانتاج‏ ‏الفعلى ‏والإبداع‏.‏

وإنما‏ ‏يتحقق‏ ‏الأمن‏ ‏حين‏ ‏يكون‏ ‏ثمة‏ ‏نظام‏، ‏مستقر‏، ‏معروفة‏ ‏قواعده‏، ‏لا‏ ‏يعتمد‏ ‏كلية‏ ‏أوأساسا‏ ‏على ‏زعامات‏ ‏فردية‏، ‏يتوقف‏ ‏مسار‏ ‏الأمة‏ ‏إزاءها‏ ‏بما‏ ‏يعن‏ ‏لها‏ ‏من‏ ‏أخيلة‏ ‏وشطحات‏ ‏مزاج‏.‏

وإنما‏ ‏يتحقق‏ ‏الأمن‏ ‏النفسى، ‏حين‏ ‏نتحقق‏ ‏من‏ ‏الوسيلة‏ ‏التى ‏نغير‏ ‏بها‏ ‏رؤساءناوحكوماتنا‏ ‏فنفرح‏ ‏بالرؤساء‏ ‏ذوى ‏المدة‏ ‏المحدودة‏، ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏نعبد‏ ‏زعماء‏ ‏لهم‏ ‏صفات‏ ‏ألوهية‏.‏

وإنما‏ ‏يتحقق‏ ‏الأمن‏ ‏النفسى ‏حين‏ ‏نحاور‏ ‏الحضارات‏ ‏الأخرى ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏الإسهام‏ ‏المشترك‏ ‏أو‏ ‏المتبادل

‏ ‏حين‏ ‏نعرف‏ ‏كيف‏ ‏نحسن‏ ‏اختيار‏ ‏التوقيت‏، ‏فلا‏ ‏نرجع‏ -‏بعد‏ ‏فوات‏ ‏الأوان‏- ‏لقبول‏ ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏رفضناه‏ ‏لمجرد‏ ‏العناد‏ ‏البدائى، ‏وغرائز‏ ‏المباهاة‏ ‏دون‏ ‏فعل

وإنما‏ ‏يتحقق‏ ‏الأمن‏ ‏النفسى ‏حين‏ ‏نمارس‏ ‏علاقتنا‏ ‏بربنا‏ ‏لتحقيق‏ ‏أعلى ‏قدر‏ ‏من‏ ‏نفع‏ ‏الناس‏ ‏ودفعهم‏ ‏إلى ‏الأرق‏، ‏وأن‏ ‏نكف‏ ‏عن‏ ‏تسويق‏ ‏ديننا‏ ‏حسب‏ ‏العرض‏ ‏والطلب‏ ‏فى ‏صوق‏ ‏الغرائز‏ ‏السياسية‏.‏

***

التطرف الدينى

‏ ‏بماذا‏ ‏تعلل‏ ‏ظاهرة‏ ‏التطرف‏ ‏الدينى ‏فى ‏مصر‏ ‏خاصة‏ ‏فى ‏السنوات‏ ‏الأخيرة‏؟‏ ‏وهل‏ ‏العنف‏ ‏من‏ ‏سمات‏ ‏المصرى؟

بصراحة، ‏أنا‏ ‏ليس‏ ‏لى ‏أن‏ ‏أعمم، ‏ولكننى ‏من‏ ‏موقعى ‏المتواضع‏ ‏كمواطن‏ ‏له‏ ‏فرصة‏ ‏الملاحظة‏ ‏أثناء‏ ‏ممارسته‏ ‏حرفتـى ‏التدريس‏ ‏والعلاج‏ ‏لعدد‏ ‏غير‏ ‏قليل‏ ‏من‏ ‏الشباب‏ ‏المصرى، ‏فإننى ‏أبدأ‏ ‏بإعلان‏ ‏شهادتى ‏بالنفى، ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏توجد‏ ‏ظاهرة‏ ‏اسمها‏ ‏العنف‏ ‏فى ‏الشعب‏ ‏المصرى, ‏ولا‏ ‏بين‏ ‏الشباب‏ ‏المصرى، ‏حقيقة‏ ‏توجد‏ ‏حالات‏ ‏فردية، ‏أو‏ ‏توجد‏ ‏بعض‏ ‏الثلل‏ ‏المتفرقة‏ ‏التى ‏قد‏ ‏تمارس‏ ‏العنف‏ ‏بعض‏ ‏الوقت، ‏ولكن‏ ‏لكى ‏نعتبر‏ ‏سلوكا‏ ‏معينا‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏أصبح‏ ‏ظاهرة‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏قد‏ ‏شاع‏ ‏وتواتر‏ ‏بين‏ ‏نسبة‏ ‏كبيرة‏ ‏من‏ ‏مجتمع‏ ‏ما‏ (‏تحسب‏ ‏إحصائيا‏), ‏وأن‏ ‏يكون‏ ‏مكررا‏ ‏فى ‏معظم‏ ‏الوقت‏ (‏بنسبة‏ ‏تحسب‏ ‏إحصائيا‏ ‏أيضا‏), ‏ونحن‏ ‏لم‏ ‏نصل‏ ‏أبدا‏ ‏إلى ‏أى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏بالنسبة‏ ‏للعدد، ‏أوبالنسبة‏ ‏لتواتر‏ ‏حوادث‏ ‏العنف، ‏مقارنة‏ ‏بأى ‏من‏ ‏الدول‏ ‏الأخرى ‏التى ‏تسمى ‏نفسها‏ ‏متحضرة‏ ‏مثلا، ‏فمازال‏ ‏الإنسان‏ ‏المصرى ‏وغير‏ ‏المصرى ‏يسير‏ ‏فى ‏شوارع‏ ‏القاهرة‏ ‏فى ‏الساعة‏ ‏الثانية‏ ‏صباحا‏ ‏آمنا‏ ‏مطمئنا، ‏ولا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يفعل‏ ‏ذلك‏ ‏أحد‏ ‏فى ‏نيويورك‏ ‏بعد‏ ‏الثامنة‏ ‏مساء،

– فكيف‏ ‏نتهم‏ ‏أنفسنا‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏بانتشار العنف‏ ‏أو‏ ‏ما‏ ‏شابه؟

‏ ‏أما‏ ‏الشق‏ ‏الثانى ‏من‏ ‏السؤال‏ ‏الذى ‏يطرح‏ ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏العنف‏ ‏من‏ ‏سمات‏ ‏الشعب‏ ‏المصرى، ‏فأعتقد‏ ‏أننى ‏ضمنت‏ ‏إجابته‏ ‏فيما‏ ‏سبق، ‏فقط‏ ‏أحب‏ ‏أن‏ ‏أضيف‏ ‏البعد‏ ‏التاريخى، ‏فأقول‏ ‏إن‏ ‏للشعب‏ ‏المصرى ‏عبر‏ ‏تاريخه‏ ‏كله‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏عنيفا‏ ‏أبدا‏ ‏ظاهرا‏ ‏وباطنا‏, ‏حتى ‏فى ‏الحروب‏ ‏فإن‏ ‏شعبنا‏ ‏كان‏ ‏دائما‏ ‏إما‏ ‏يدافع‏ ‏عن‏ ‏نفسه، ‏أو‏ ‏يشارك‏ ‏فى ‏تحرير‏ ‏بنى ‏جنسه‏ ‏لا‏ ‏أكثر‏ ‏ولا‏ ‏أقل‏..‏

وقد‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏فسرت‏ ‏ذلك‏ ‏بارتباط‏ ‏الشعب‏ ‏المصرى ‏مبكرا‏ ‏بوادى ‏النيل‏ ‏والصحراء‏ ‏من‏ ‏حوله، ‏فالزراعة‏ ‏تعلم‏ ‏الإنسان‏ ‏الاستجابة‏ ‏المؤجلة‏, ‏وهذا‏ ‏أول‏ ‏درس‏ ‏ضد‏ ‏العنف‏.‏

‏ ‏والصحراء‏ ‏تعلم‏ ‏الإنسان‏ ‏الخطو‏ ‏الهادئ، ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏صحراء‏ ‏تحيط‏ ‏بواد‏ ‏أخضر‏ ‏يشقه‏ ‏نيل‏ ‏راسخ‏, ‏فهى ‏ليست‏ ‏مجرد‏ ‏صحراء‏ ‏توحى ‏باللا أمن، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏التوجس‏ ‏والعنف، ‏وإنما‏ ‏هى ‏صحراء‏ ‏منبسطة‏ ‏على ‏جانبى ‏واد‏ ‏تجرى ‏به‏ ‏الحياة‏ ‏بإيقاع‏ ‏منتظم‏ ‏ومضمون، ‏وأكيد‏.‏

– ‏بماذا‏ ‏تعلل‏ ‏التطرف‏ ‏الدينى ‏فى ‏مصر‏ ‏خاصة‏ ‏فى ‏السنوات‏ ‏الأخيرة‏؟

هنا‏ ‏أقول‏ ‏نعم‏ ‏يوجد‏ ‏تطرف‏ ‏دينى، ‏ويعتبر‏ ‏ظاهرة، ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏الموجة‏ ‏بدأت‏ ‏تنحسر‏ ‏قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا‏ ‏فى ‏الفترة‏ ‏الأخيرة، ‏وينبغى ‏أن‏ ‏نفرق‏ ‏ابتداء‏ ‏بين‏ ‏التطرف‏ ‏الدينى ‏وبين‏ ‏التدين، ‏وأنا‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏إن‏ ‏التطرف‏ ‏الدينى ‏كما‏ ‏ظهر‏ ‏مؤخرا‏ ‏لا‏ ‏يحمل‏ ‏دلالة‏ ‏واحدة، ‏بل‏ ‏أكاد‏ ‏أقرأ‏ ‏فيه‏ ‏عدة‏ ‏دلالات‏ ‏من‏ ‏بينها‏ ‏مثلا‏: ‏

‏1- ‏إن‏ ‏الشباب‏ ‏يفتقد‏ ‏إلى ‏المشروع‏ ‏القومى ‏الذى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينتمى ‏إليه، ‏فبعد‏ ‏انحسار‏ ‏الاستعمار‏ ‏العسكرى، ‏وبعد‏ ‏خفوت‏ ‏الغزو‏ ‏الثقافى (وإن‏ ‏كان‏ ‏مستمرا‏ ‏بأساليب‏ ‏استهلاكية‏ ‏سرية‏ ‏أخطر‏), ‏وبعد‏ ‏ابتعاد‏ التحدى ‏الحربى ‏الإسرائيلى، ‏وجد‏ ‏الشاب‏ ‏المصرى ‏نفسه‏ ‏فى ‏فراغ‏ ‏كيانى ‏لم‏ ‏يشده‏ ‏منه‏ ‏إلا‏ ‏هذا‏ ‏الانتماء‏ ‏لدرجة‏ ‏التطرف‏ ‏إلى ‏القيمة‏ ‏الدينية، ‏حتى ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏قيمة‏ ‏زائفة‏ ‏أو‏ ‏مغتربة‏ ‏بعض‏ ‏الأحيان‏.‏

‏2-‏إن‏ ‏شعور‏ ‏الشباب‏ ‏بالإغارة‏ ‏المستمرة‏ ‏من‏ ‏العالم‏ ‏الغربى (‏والشرقى ‏الشمالى‏) ‏قد‏ ‏أثار‏ ‏فيه‏ ‏نزعة‏ ‏انطوائية‏ ‏جعلته‏ ‏يهرب‏ ‏من‏ ‏المواجهة‏ ‏إلى ‏التحوصل‏ ‏والتعصب‏, ‏والنظر‏ ‏فى ‏الماضى ‏يستنجد‏ ‏به، ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يفرض‏ ‏نفسه‏ ‏على ‏الحاضر‏ ‏بطرق‏ ‏أكثر‏ ‏بناء‏ ‏واختراقا‏ ‏وأنا‏ ‏أشير‏ ‏بذلك‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التطرف‏ ‏هو‏ ‏نزعة‏ ‏ضد‏ ‏التغريب‏ ‏والإغارة‏ ‏الحضارية‏ ‏الكاسحة، ‏لكنها‏ ‏للأسف‏ ‏نزعة‏ ‏اجترارية‏ ‏هروبية‏ ‏حين‏ ‏غلب‏ ‏عليها‏ ‏التعصب‏ ‏والتطرف‏ ‏جميعا‏, ‏وذلك‏ ‏لأننا‏ ‏لم‏ ‏نمتلك‏ ‏بعد‏ ‏الوسائل‏ ‏الكافية‏ ‏لمواجهة‏ ‏الإغارة‏ ‏الغربية‏ ‏بالتحدى ‏المنافس‏ ‏البناء‏.‏

‏3- ‏إننا‏ ‏نفتقر‏ ‏حقيقة‏ ‏وفعلا‏ ‏إلى ‏الحوار‏ ‏السياسى ‏والثقافى ‏على ‏حد‏ ‏سواء، ‏وحتى ‏شبه‏ ‏الحوار‏ ‏الذى ‏يجرى ‏إنما‏ ‏يجرى ‏على ‏مستوى ‏ظاهرى ‏بين‏ ‏القديم‏ (‏شيوخ‏ ‏المفكرين‏) ‏والحديث‏ (متطرفى ‏الشباب‏) ‏وللأسف‏ ‏فإن‏ ‏الأدوار‏ ‏قد‏ ‏انعكست، ‏فأصبح‏ ‏من‏ ‏يمثل‏ ‏الفكر‏ ‏الشاب‏ ‏القوى ‏المتحرر‏ ‏هم‏ ‏الأكبر‏ ‏سنا، ‏وأصبح‏ ‏من‏ ‏يمثل‏ ‏التمسك‏ ‏بحرفية‏ ‏الماضى ‏هم‏ ‏الأصغر، ‏وبالتالى ‏فإنه‏ ‏لا‏ ‏حوار، ‏فقد‏ ‏انقلبت‏ ‏المسألة‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يشبه‏ ‏النصح‏ ‏من‏ ‏الكبار، ‏و‏ ‘‏الركل‏ (‏الترفيس‏) ‏من‏ ‏الصغار‏, ‏وحيث‏ ‏يخفت‏ ‏الحوارالحقيقى، ‏ينمو‏ ‏التطرف‏.‏

***

‏ ‏التطرف‏ ‏فى ‏حياتنا‏ ‏الفكرية

ما هو التطرف فى حياتنا الفكرية؟

التطرف‏ ‏هو‏ ‏نقطة‏ ‏قصوى ‏فى ‏حركة‏ ‏مستمرة‏، ‏وهو‏ ‏بذلك‏ ‏ضرورة‏ ‏حتمية‏ ‏كنقطة‏ ‏فى ‏حركة‏، ‏ولكنه‏ ‏يمكن‏ ‏ان‏ ‏يكون‏ ‏كارثة‏ ‏مخيفة‏ ‏كنهاية‏ ا‏لمطاف‏، ‏والحالة‏ ‏الأخيرة‏ ‏هى ‏التعصب‏ ‏والجمود‏.‏

وفرط‏ ‏هجومنا‏ ‏على ‏التطرف‏ – ‏مع‏ ‏ضرورته‏ ‏المرحلية‏ -‏قد‏ ‏يحمل‏ ‏معانى ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏الأختلاف‏ ‏أساسا‏، ‏فالحوار‏ ‏يحتاج‏ ‏الى ‏طرفين‏: ‏طرف‏ ‏أول‏، ‏وطرف‏ ‏آخر‏، ‏اذن‏ ‏فكل‏ ‏منهما‏ ‏يقف‏ ‏على ‏طرف‏ ‏القضية‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏مثرية‏، ‏وهذا‏ ‏أساس‏ ‏مبدئى ‏لبداية‏ ‏الحوار‏.‏

فالتطرف‏ ‘‏حركة‏’‏و‏ ‘‏آخر‏’، ‏أما‏ ‏التعصب‏ ‏فهو‏ ‘‏جمود‏ ‘ ‏و‏’‏انفراد‏ ‘.‏

والتطرف‏ ‏عادة‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏بالنسبة للمواقف‏ ‏و‏ ‏الأهداف‏ 00‏أما‏ ‏التعصب‏ ‏فهو‏ ‏عادة‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏بالنسبة‏ ‏للوسائل‏ ‏و‏ ‏الأشخاص‏ 00 ‏نبينا‏ ‏الكريم‏ ‏كان‏ ‏متطرفا‏ ‏حين‏ ‏قال‏ ‏معنى: ‏والله‏ ‏لو‏ ‏وضعوا‏ ‏الشمس‏ ‏فى ‏يمينى ‏والقمر‏ ‏فى ‏يسارى على ‏ان‏ ‏أترك‏ ‏هذا‏ ‏الأمر‏ ‏أو أهلك‏ ‏دونه‏ ‏ما‏ ‏فعلت‏، ‏ولكنة‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏متعصبا‏ ‏حين‏ ‏قال‏:..‏ومن‏ ‏دخل‏ ‏بيت‏ ‏أبى ‏سفيان‏ ‏فهوآمن‏..‏ اذن‏ ‏فمن‏ ‏الشرف‏ ‏والفخر‏ ‏ان‏ ‏أتطرف‏، ‏ومن‏ ‏الجبن‏ ‏والعار‏ ‏أن‏ ‏أتعصب‏: ‏من‏ ‏الشرف‏ ‏ان‏ ‏أتطرف‏ ‏فى ‏توحد‏ ‏اتجاهى ‏إلى ‏وجه‏ ‏الله‏ ‏أويقينى ‏بحتم‏ ‏الايمان‏ ‏ضرورة‏ ‏بيولوجية‏، ‏ومن‏ ‏العمى ‏أن‏ ‏أتعصب‏ ‏لطقوس‏ ‏مذهب‏ ‏دينى ‏بذاته‏ ‏باعتباره‏ ‏الصواب‏ ‏الأوحد‏ ‏فى ‏كل‏ ‏زمان‏ ‏ومكان‏، ‏وكذلك‏ ‏من‏ ‏الشرف‏ ‏ان‏ ‏أتطرف‏ ‏فى ‏تحيزى ‏للحركة‏ ‏المتصاعدة‏ ‏ضد‏ ‏السكون‏ ‏الميت‏ ‏المستسلم‏، ‏ولكن‏ ‏من‏ ‏العار‏ ‏أن‏ ‏أعتبرالحركة‏ ‏المادية‏ ‏كما‏ ‏وصفها‏ ‏ماركس‏ ‏وطبقها‏ ‏ستالين‏ ‏هى ‏الطريق‏ ‏الوحيد‏ ‏الموصل‏، ‏وعلى ‏نفس‏ ‏القياس‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏من‏ ‏الكرامة‏ ‏أن‏ ‏أتطرف‏ ‏فى ‏دفاعى ‏عن‏ ‏الحرية‏ ‏ضد‏ ‏ماسواها‏، ‏ولكن‏ ‏من‏ ‏الغباء‏ ‏أن‏ ‏أرى ‏الحرية‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏ديمقراطى ‏صورى ‏كل‏ ‏مايفعله‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏يتيح‏ ‏الفرصة‏ ‏لأى ‏كلام‏ ‏فى ‏أى ‏مكان‏ ‏و‏.. ‏ودمتم‏.‏

وقد‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏عبر‏ ‏أستاذنا‏ ‏العقاد‏ ‏عن‏ ‏روعة‏ ‏التطرف‏ ‏وجمال‏ ‏وهجه‏ ‏الباعث‏ ‏للحياة‏ ‏حتى ‏ولو‏ ‏كان‏ ‏تطرفا‏ ‏فى ‏التشاؤم‏، ‏وذلك‏ ‏وهو‏ ‏يدافع‏ ‏عن‏ ‏سوداوية‏ ‏المعرى ‏وشوبنهور‏ ‏بالمقارنة‏ ‏بالبلادة‏ ‏وعدم‏ ‏الأكتراث‏ ‏اللذين‏ ‏يسودان‏ ‏العصر‏.‏

وعلينا‏ ‏إذن‏ ‏أن‏ ‏نراجع‏ ‏حماسنا‏ ‏لمسآلة‏’‏خير‏ ‏الأمور‏ ‏الوسط‏’، ‏فمنطقة‏ ‏الوسط‏ ‏ليست‏ ‏منطقة‏ ‏استقرار‏ ‏ولكنها‏ ‏منطقة‏ ‏انطلاق‏، ‏حتى ‏فى ‏لعب‏ ‏الكرة‏ ‏فأن‏ ‏قيمتها‏ ‏تتوقف‏ ‏على ‏صناعة‏ ‏الألعاب‏ ‏التى ‏تتجه‏ ‏الى ‏المرمى ‏حتما‏ ‏أما‏ ‏الأحتفاظ‏ ‏بالكرة‏ ‏فيها‏ ‏فلايمكن‏ ‏أن‏ ‏يحقق‏ ‏شيئا‏ ‏فأى ‏مرمى ‏هو‏ ‏فى ‘‏طرف‏’ ‏الملعب‏ ‏هنا‏، ‏أو‏ ‏هناك‏ (‏أليس‏ ‏كذلك؟‏).‏

ولكن‏ ‏دفاعى ‏هذا‏ ‏عن‏ ‏التطرف‏ ‏لايعنى ‏فتح‏ ‏الباب‏ ‏للصياح‏ ‏أو‏ ‏التشنج‏ ‏فما‏ ‏أرجوه‏ ‏من‏ ‏خلاله‏ ‏هو إعلان‏ ‏ضرورة‏ ‏تحديد‏ ‏الملامح‏ ‏كبداية‏ ‏لجدوى ‏الحوار‏، ‏كما‏ ‏أعلن‏ ‏به‏ ‏حتمية‏ ‏الحركة‏ ‏دفعا‏ ‏للنمو‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏خطورة‏ ‏السكون‏ ‏و‏ ‏الجمود‏،‏سواء‏ ‏سكون‏ ‏بركة‏ ‏الميوعة‏ ‏أم‏ ‏تصلب‏ ‏عمى ‏التعصب‏.‏

والجمال‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏أحيان‏ ‏كثيرة‏ ‏من‏ ‏وضوح‏ ‏معالم‏ ‏الملامح‏ ‏نتيجة‏ ‏لتحديد‏ ‏التضاد‏، ‏فالحسان‏ ‏اللائى ‏فى ‏عيونهن‏ ‏حور‏ (‏شدة‏ ‏سواد‏ ‏وبياض‏ ‏العين‏ ‏معا‏) ‏يقتلن‏ ‏بنظراتهن‏ ‏عشاق‏ ‏الجمال‏ ‏أما‏ ‘‏زرق‏ ‏العيون‏ ‏عليها‏ ‏أوجه‏ ‏سود‏ ‘ ‏فهو‏ ‏التلفيق‏ ‏القبيح‏.‏

ولا‏ ‏بد‏ أن‏ ‏نعترف‏ ‏أن‏ ‏مرحلتنا‏ ‏السياسية‏ ‏الراهنة‏ ‏قد‏ ‏اضطرتنا‏ ‏الى ‏القبول‏ ‏باعلاء‏ ‏قيمة‏ ‘‏الوسط‏ ‘ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏استطاع‏ ‏أن‏ ‏يعطى، ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏نتوقع‏ ‏أنه‏ ‏متى ‏أتيحت‏ ‏فرصة‏ ‏أكبر‏، ‏فأن‏ ‏التفاعل‏ ‏الحى ‏سيفرز‏ ‏من‏ ‏الوسط‏ ‏ما‏ ‏يميز‏ ‏المسيرة‏ ‏ويسمح‏ ‏بالحوار‏، ‏فلاشك‏ ‏أن‏ ‏مسيرتنا‏ ‏الديمقراطية‏ ‏فى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مجال‏ ‏تفتقر‏ ‏الى ‏وهج‏ ‏التطرف‏ ‏كمرحلة‏ ‏أكثر‏ ‏عطاء‏ ‏من‏ ‏ميوعة‏ ‏الوسط‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الخطر‏ ‏كل‏ ‏الخطرهو‏ ‏تصور‏ ‏التطرف‏ ‏على ‏أنه‏ ‏التشنج‏ ‏أو‏ ‏الصياح‏ ‏أو‏ ‏الادعاء‏.‏

وانى ‏أعترف‏ ‏بصعوبة‏ ‏توضيح‏ ‏هذه‏ ‏الفروق‏ ‏بدرجة‏ ‏تمنع‏ ‏الخلط‏، ‏حيث‏ ‏تعودت‏ ‏عقولنا‏ ‏الانتقال‏ ‏من‏ ‏التعصب‏ ‏إلى ‏اللامبالاة‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏الحركة‏ ‏البناءة‏ ‏هى ‏الانتقال‏ ‏من‏ ‏الموقف‏ ‏الأدنى ‏الى ‏الموقف‏ ‏الأعلى ‏نتيجة‏ ‏الدفع‏ ‏المتصاعد‏ ‏الناتج‏ ‏عن‏ ‏وضوح‏ ‏معالم‏ ‏الأطراف‏. ‏

وبألفاظ‏ ‏أخرى ‏لابد‏ ‏من‏ ‏الأعتراف‏ ‏بأن‏ ‏الانسان‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏ما ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يكون‏ ‏متحيزا‏ ‏الى ‏جانب‏، ‏ما‏، ‏وعى ‏بذلك‏ ‏أم‏ ‏لم‏ ‏يع‏، ‏ومادام‏ ‏الأمر‏ ‏كذلك‏ ‏فالأفضل‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏يعرفه‏ ‏فيعلنه‏ ‏ليستطيع‏ ‏أن‏ ‏يتقدم‏ ‏الى ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏أبعاده‏.. ‏وعلى ‏نقيضه‏ ‏بالضرورة‏، ‏وهنا‏ ‏يصبح‏ ‏تحركه‏ ‏منه‏ ‏محتملا‏ ‏ورائعا‏ ‏وبهيجا‏.. ‏ومؤلما‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏أنكر‏ ‏تحيزه‏ – ‏على ‏نفسه‏ ‏أساسا‏ – ‏فالخوف‏ ‏كل‏ ‏الخوف‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ذلك‏ ‏تكنه‏ ‏لأن‏ ‏يتمسك‏ ‏بهذا‏ ‏التحيز‏ ‏فى ‏الخفاء‏ ‏فينسحب‏ ‏من‏ ‏الالتزام‏، ‏ويصير‏ ‘‏كل‏ ‏الناس‏ ‏حلوين‏’ ‏وتموت‏ ‏الحركة‏ ‏تحت‏ ‏وهم‏ ‏الحياد‏.‏

إذن‏ ‏فالمطلوب‏ ‏أن‏ ‏نفرق‏ ‏بين‏ ‏التطرف‏ ‏والتعصب‏ ‏أولا‏، ‏والأكرم‏ ‏أن‏ ‏نحدد‏ ‏موقفنا‏ ‏أمام‏ ‏أنفسنا‏ ‏على ‏الأقل‏ ‏بأكبر‏ ‏درجة‏ ‏من‏ ‏الوضوح‏، ‏فيكون‏ ‏الأمل‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏، ‏إذ‏ ‏تتطرف‏، ‏أن‏ ‏نكون‏ ‏قادرين‏ ‏على ‏تغيير‏ ‏مواقفنا‏ ‏و‏ ‏مواقعنا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تطرف‏ ‏الطرف‏ ‏الأخر‏.‏

وبعد‏:‏

فدعونا‏ ‏نتمنى ‏حوار‏ ‏لا‏ ‏يأخذ‏ ‏فيه‏ ‏طرف‏ ‏السلطة‏ (‏أى ‏سلطة‏) ‏تميزا‏ ‏يسحق‏ ‏به‏ ‏الطرف‏ ‏الأخر‏ ‏تحت‏ ‏ستار‏ ‏شجب‏ ‏التطرف‏ ‏دون‏ ‏تمييز‏ ‏بينه‏ ‏وبين‏ ‏التعصب‏.‏

ودعونا‏ ‏نأمل‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏حية‏ ‏خارج‏ ‏عباءة‏ ‏الشمول‏ ‏المحتوى ‏لاختلاف‏ ‏الفرق‏، ‏حتى ‏لاتضيع‏ ‏طاقة‏ ‏التطرف‏ ‏اللازمة‏ ‏لدفع‏ ‏العجلة‏ ‏تحت‏ ‏وهم‏ ‏التلفيق‏ ‏التصالحى.‏

ودعونا‏ ‏نعترف‏ ‏أنه‏ ‏طريق‏ ‏صعب‏ ‏بعد‏ ‏طول‏ ‏ما‏ ‏رزحنا‏ ‏تحته‏، ‏طريق‏ ‏مؤلم‏ ‏بعد‏ ‏فرط‏ ‏ما‏ ‏خفنا‏ ‏منه‏، ‏طريق‏ ‏خطر‏ ‏بعد‏ ‏الخلط‏ ‏الهائل‏ ‏بين‏ ‏الصوت‏ ‏العالى ‏وشرف‏ ‏تحديد‏ ‏المواقع‏، ‏بين‏ ‏أمانة‏ ‏توضيح‏ ‏المعالم‏ ‏وبريق‏ ‏التعصب‏ ‏المسنون‏.‏

إن‏ ‏المسآلة‏ ‏لصعوبتها‏ ‏لاتحلها‏ (‏أو‏ ‏حتى ‏توضحها‏) ‏مقالة‏ ‏مشحونة‏ ‏بصدق‏ ‏الأمانى ‏ومهما‏ ‏أعدت‏ ‏وكررت‏ ‏فانى ‏أشعر‏ ‏بمشقة‏ ‏أن‏ ‏أوصل‏ ‏فى ‏سطور‏ ‏قليلة‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏الحل‏ ‏وسط‏ ‏واللامبالاة‏ ‏فى ‏ناحية‏، ‏وبين‏ ‏تحمل‏ ‏الغموض‏ ‏والتحام‏ ‏المتناقضات‏ ‏فى ‏ناحية‏ ‏أخرى‏، ‏لأن‏ ‏الشبه‏ ‏بينهما‏ ‏شديد‏ ‏من‏ ‏الظاهر‏ ‏رغم‏ ‏أن‏ ‏الفرق‏ ‏بينهما‏ ‏فى ‏حقيقة‏ ‏الأمر‏ ‏هو‏ ‏فرق‏ ‏بين‏ ‏السماء‏ ‏والأرض‏.‏

ومع‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏فلابد‏ ‏من‏ ‏بداية‏‏ ولتكن‏ ‏هذه‏ ‏الكلمات‏ ‏مجرد‏ ‏بداية‏.‏

***

الإنسان‏ ‏المصرى‏ ‏والحذر‏ ‏من‏ ‏التطبيع‏ ‏مع‏ ‏إسرائيل

‏ – ‏لليهودى ‏صورة‏ ‏محفورة‏ ‏فى ‏أذهان‏ ‏عامة‏ ‏المصريين‏ ‏تدفعهم‏ ‏لرفض‏ ‏الدخول‏ ‏فى ‏علاقات‏ ‏دافئة‏؟‏

لا‏ ‏أظن‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التعميم‏ ‏صحيح‏، ‏فالمصريون‏ ‏الذين‏ ‏عاشروا‏ ‏اليهود‏ ‏المصريين‏ ‏حتى ‏أواخر‏ ‏الأربعينات‏، ‏ليس‏ ‏عندهم‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الصورة‏ ‏التى ‏تشير‏ ‏إليها‏، ‏فمازالت‏ ‏جارتنا‏ “‏رينيه‏” ‏صديقة‏ ‏أختى ‏التى ‏كانت‏ ‏تعيش‏ ‏معنا‏ ‏فى ‏الأربعينات‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏الجديدة‏ ‏تمثل‏ ‏لى ‏فى ‏ذكرياتى ‏ما‏ ‏يعنى ‏ما‏ ‏هو‏ ‏صدق‏ ‏الجوار‏ ‏ودفء‏ ‏التراحم‏، ‏وما‏ ‏زال‏ “‏يحيى ‏راغب‏ ‏المصري‏” ‏زميلى (‏اليهودى) ‏يحضر‏ ‏فى ‏وعيى ‏فأتذكره‏ ‏وهو‏ ‏جالس‏ ‏بجوارى ‏فى ‏معمل‏ ‏الباثولوجيا، ‏نتبادل‏ ‏المحاضرات‏ ‏التى ‏غاب‏ ‏أحدنا‏ ‏عن‏ ‏حضورها‏، ‏ولكن‏ ‏الأمر‏ ‏اختلف‏ ‏حين‏ ‏قامت‏ ‏إسرائيل‏ ‏ونشأ‏ ‏جيل‏ ‏تال‏ ‏يرادف‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏يهودى ‏وما‏ ‏هو‏ ‏إسرائيلي‏، ‏قامت‏ ‏حروب‏، ‏وزرع‏ ‏ثأر‏، ‏ولعب‏ ‏الإعلام‏ ‏بعبته‏، ‏وشوه‏ ‏التعصب‏ ‏الدينى ‏حس‏ ‏الناس‏ ‏المصريين‏ ‏خاصة‏ ‏فبدا‏ ‏الأمر‏ ‏كما‏ ‏تقول‏، ‏وأظن‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نصف‏ ‏به‏ ‏المصرى ‏المعاصر‏، ‏لكنه‏ ‏ليس‏ ‏كل‏ ‏الحكاية

ثم‏ ‏أتذكر‏ ‏أننى ‏حين‏ ‏كنت‏ ‏فى ‏فرنسا‏ ‏كان‏ ‏التشابه‏ ‏بين‏ ‏اليهودى ‏والمصرى ‏يلفت‏ ‏نظر‏ ‏الفرنسيين‏ ‏أنفسهم‏، ‏فمحلات‏ ‏اليهود‏ ‏فى ‏الحى ‏الثامن‏ ‏عشر‏ ‏فى ‏باريس‏: ‏أغلب‏ ‏روادها‏ ‏من‏ ‏المصريين‏ ‏والعرب‏، ‏واليهود‏ ‏لا‏ ‏يأكلون‏ ‏لحم‏ ‏الخنزير‏، ‏والمصرى ‏المسلم‏ ‏يأكل‏ ‏مما‏ ‏يذبحه‏ ‏اليهودى ‏لأنه‏ ‏يذكر‏ ‏إسم‏ ‏الله‏ ‏عليه‏، ‏والحلاوة‏ ‏الطحينية‏ ‏وأحيانا‏ ‏الطعمية‏ ‏يبيعها‏ ‏اليهود‏ ‏للمصريين‏ ‏خاصة‏ ‏وهكذا‏ ‏

فأين‏ ‏هذه‏ ‏الصورة‏ (‏البغيضة‏) ‏المحفورة‏ ‏فى ‏أذهان‏ ‏المصريين‏ ‏التى ‏يتحدث‏ ‏السؤال‏‏؟‏ ‏إنها‏ ‏لا‏ ‏توجد‏ ‏بالشكل‏ ‏الذى ‏طرحته‏ ‏إلا‏ ‏عند‏ ‏أجيال‏ ‏أصغر‏ ‏منى، ‏وهى ‏لم‏ ‏تظهر‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏القهر‏ ‏والظلم‏ ‏والإغارة‏ ‏التى ‏فرضها‏ ‏قيام‏ ‏دولة‏ ‏إسرائيل‏ ‏على ‏حساب‏ ‏العرب، ‏وعلى ‏حساب‏ ‏الحق‏، ‏وعلى ‏حساب‏ ‏العدل‏.‏

‏- فما‏ ‏هى ‏الخيوط‏ ‏التى ‏تشابكت‏ ‏لترسم‏ ‏هذه‏ ‏الصورة‏ (‏التى ‏تكونت‏ ‏ولو‏ ‏عند‏ ‏المصرى ‏الأصغر‏ ‏إن‏ ‏سلما‏ ‏بفرضيتك‏ ‏الأولى)‏؟

أظن‏ ‏أن‏ ‏الخيوط‏ ‏التى ‏تشابكت‏ ‏هى: ‏الحرب‏ ‏والعنصرية‏ ‏والظلم‏ ‏والغطرسة‏ ‏والغرور‏ ‏والشطارة‏ ‏والاستهانة‏ ‏التى ‏تمارسها‏ ‏الدولة‏ ‏العبرية‏، ‏ومن‏ ‏ورائها‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏النظام‏ ‏العالمى ‏الجديد‏ (‏وهو‏ ‏إسم‏ ‏الدلع‏ ‏للولايات‏ ‏المتحدة‏ ‏الأمريكية‏)‏

‏-  80 ‏عاما‏ ‏قضاها‏ ‏الأنجليز‏ ‏فى ‏مصر‏.. ‏و6‏ سنوات‏ ‏قضاها‏ ‏اليهود‏ ‏فى ‏سيناء‏ ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏أصبحت‏ ‏علاقة‏ ‏المصريين‏ ‏بالأنجليز‏ ‏دافئة‏… ‏فى ‏حين‏ ‏أنها‏ ‏باردة‏ ‏مع‏ ‏اليهود‏… ‏فهل‏ ‏هناك‏ ‏خصوصية‏ ‏ميزت‏ ‏سنوات‏ ‏الأحتلال‏ ‏اليهودى ‏عمـقت‏ ‏من‏ ‏هوة‏ ‏الشرخ‏ ‏فى ‏الجدار‏ ‏العربى ‏الأسرائيلي؟

‏- ‏طبعا‏، ‏الفرق‏ ‏شاسع

الإنجليز‏ ‏احتلوا‏ ‏مصر‏، ‏فحضورهم‏ ‏بين‏ ‏أفراد‏ ‏الشعب‏ ‏المصرى ‏كان‏ ‏عيانيا‏ ‏مثيرا‏، ‏مثيرا‏ ‏للرفض، ‏ومثيرا‏ ‏للحوار‏، ‏وفرصة‏ – ‏بالتالى – ‏للاختلاف‏ ‏والمواجهة، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏أمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏هناك‏ ‏تسوية‏ – ‏فى ‏نهاية‏ ‏الأمر‏- ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تعتبر‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏: ‏تسوية‏ ‏حضارية‏ ‏لصالح‏ ‏الشعبين‏ ‏رغم‏ ‏بشاعة‏ ‏الفترة‏ ‏وقهر‏ ‏الاحتلال‏ (‏هذا‏ ‏مع‏ ‏تحفظى ‏على ‏أن‏ ‏الإنجليزى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعمل‏ ‏علاقة‏ ‏دافئة‏ ‏بالشكل‏ ‏الذى ‏بدا‏ ‏لى ‏من‏ ‏السؤال‏)‏

أما‏ ‏اليهود‏، ‏فقد‏ ‏احتلوا‏ ‏سيناء‏ ‏كالشبح‏ ‏أو‏ ‏الجنى ‏الذى ‏يلبس‏ ‏الممسوس‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يراه، ‏فالمصرى ‏العادى ‏قبل‏ 1967 ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يعلم‏ ‏عن‏ ‏سيناء‏ ‏شيئآ‏ ‏يذكر‏، ‏وقحين‏ ‏تحتل‏ ‏إسرائيل‏ ‏جزءآ‏ ‏مجهولا‏ ‏لنا‏ ‏أصلا‏ ‏يصبح‏ ‏الأمر‏ ‏مثل‏ ‏الجنى ‏الذى ‏يلبس‏ ‏لا‏ ‏شعور‏ ‏الممسوس‏ ‏ثم‏ ‏لا‏ ‏يشعر‏ ‏الممسوس‏ ‏إلا‏ ‏بآثاره‏ ‏مع‏ ‏أقل‏ ‏القليل‏ ‏من‏ ‏فرص‏ ‏المواجهة‏، ‏فظل‏ ‏اليهودى ‏المحتل‏- ‏بالتالى‏- ‏يحتفظ‏ ‏بصورته‏ ‏التى ‏رسمها‏ ‏خيال‏ ‏المصرى ‏العائد‏ ‏من‏ ‏سيناء‏ ‏منكسر‏ ‏النفس‏، ‏مجروح‏ ‏الكرامة، ‏مكذوب‏ ‏عليه‏ ‏ممن‏ ‏وثق‏ ‏فيه‏ ‏وسلم‏ ‏لهم‏ ‏قيادته‏، ‏وهى ‏صورة‏ ‏العدو‏ ‏المتغطرس‏ ‏القادر‏ ‏على ‏الإذلال‏ ‏والتفوق‏ ‏والسحق، ‏ولا‏ ‏تثير‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الصورة‏ ‏سوى ‏غرائز‏ ‏الانتقام‏.‏

وحين‏ ‏جاء‏ ‏السلام، ‏هبط‏ ‏علينا‏ – ‏نحن‏ ‏المصريين‏- ‏من‏ ‏فوق‏ ‏أيضا‏، ‏ذلك‏ ‏لأنه‏ ‏هبط‏ ‏بمبادرة‏ ‏قيادية‏ ‏مبدعة‏، ‏بعد‏ ‏حرب‏ ‏ثأرية‏ ‏محدودة‏، ‏فهذا‏ ‏السلام‏ ‏المصرى ‏الإسرائيلى ‏لم‏ ‏يمر‏ ‏بالمراحل‏ ‏التى ‏مر‏ ‏بها‏ ‏تحقيق‏ ‏السلام‏ ‏مع‏ ‏المحتل‏ ‏الإنجليزي‏، ‏لم‏ ‏نسم‏ ‏الاحتلا‏ ‏الإسرائيلى ‏احتلالا‏ ‏بل‏ ‏نكسة‏، ‏ولم‏ ‏نخرج‏ ‏نهتف‏ ‏الجلاء‏ ‏بالدماء‏، ‏ولم‏ ‏نتحاور‏ ‏بحرية‏ ‏كافية‏ ‏لتكوين‏ ‏وعى ‏يدافع‏ ‏عن‏ ‏حريته‏ ‏ويقبل‏ ‏سلاما‏ ‏ناضجا‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏الممارسة، ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏حدث‏ ‏فى ‏الشارع‏ ‏المصرى ‏قبل‏ ‏إخراج‏ ‏الإنجليز‏- ‏فالإنجليز‏ ‏حرجوا‏ ‏نتيجة‏ ‏طبعية‏ ‏لكفاح‏ ‏شعبى ‏متواصل‏ ‏جعل‏ ‏المعتدى ‏والمحتل‏ ‏يتحاوران‏ ‏فى ‏دائرة‏ ‏علنية، ‏أما‏ ‏الإسرائيليون‏ ‏فخرجوا‏ ‏نتيجة‏ ‏خبطة‏ ‏مبدعة‏ ‏لقائد‏ ‏ألهمه‏ ‏حدس‏ ‏بصدق‏ ” ‏أن‏ ‏هكذا‏ ‏أحسن‏”، ‏وبارك‏ ‏هذا‏ ‏الحدث‏ ‏عراب‏ ‏المنح‏ ‏الدولارية‏ ‏السيد‏ ‏الأمريكى، ‏فقال‏ ‏الشعب‏ ‏المصرى: ‏أهكذا‏ ‏ترى ‏يا‏ ‏عمدتنا‏ ‏الملهم‏ ‏ويا‏ ‏خواجا‏ ‏يا‏ ‏ممول‏: ‏إذن‏ ‏على ‏خيرة‏ ‏الله‏ (‏ما‏ ‏يضرش‏) ” ‏أظن‏ ‏الفرق‏ ‏واضح‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏يرد‏ ‏على ‏سؤالك‏.‏

ثم‏ ‏خذ‏ ‏عندك‏ ‏التغذية‏ ‏الإعلامية‏ ‏المستمرة‏ – ‏من‏ ‏خلال‏ ‏أنباء‏ ‏الانتفاضة‏ ‏والقهر‏ ‏المقابل‏- ‏وهى ‏التغذية‏ ‏التى ‏تحافظ‏ ‏على ‏درجة‏ ‏غليان‏ ‏المصرى ‏حقدا‏ ‏وألما‏ ‏وتعاطفا‏ ‏وغيظا‏، ‏فالمصرى – ‏رغم‏ ‏ما‏ ‏لحقه‏ ‏من‏ ‏إنكار‏ ‏لفضله‏ ‏وتضحياته‏، ‏لا‏ ‏يملك‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يشعر‏ – ‏حتى ‏بعد‏ ‏السلام‏- ‏أنه‏ ‏مسئول‏ ‏أول‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الظلم‏ ‏والقهر‏ ‏الذى ‏يلحق‏ ‏بالأبرياء‏ ‏العرب‏ ‏فى ‏الأرض‏ ‏المحتلة.

– هل‏ ‏هناك‏ ‏علاقة‏ ‏بين‏ ‏طبقية‏ ‏المجتمع‏ ‏المصرى ‏ودرجات‏ ‏الرفض‏ ‏للتطبيع؟

لم‏ ‏أفهم‏ ‏السؤال‏ ‏جيدا‏، ‏ولكننى ‏أرجح‏ ‏أنك‏ ‏تسأل‏ ‏عن‏ ‏أى ‏طبقة‏ ‏فى ‏المجتمع‏ ‏المصرى ‏هى ‏أكثر‏ ‏رفضا‏ ‏للتطبيع‏ ‏أو‏ ‏حذرا‏ ‏منه‏، ‏وأحسب‏ ‏أننى ‏لست‏ ‏فى ‏موقع‏ ‏يسمح‏ ‏لى ‏بإجابة‏ ‏موضوعية‏، ‏فالمسألة‏ ‏لا‏ ‏تتعلق‏ ‏بطبقة‏ ‏بذاتها‏، ‏وإنما‏ ‏هى ‏مرتبطة‏ ‏بدرجة‏ ‏الوعي‏، ‏وتحمل‏ ‏التناقض‏: ‏فالمثقفون‏ ‏الناصريون‏ ‏مازالوا‏ ‏يعيشون‏ ‏فى ‏جو‏ ‏الحلم‏ ‏القومى، ‏وهم‏ ‏لا‏ ‏يمثلون‏ ‏طبقة‏ ‏بذاتها‏، ‏بل‏ ‏فئة‏ ‏محددة‏، ‏والفلاح‏ ‏المصرى ‏أو‏ ‏العامل‏ ‏المصرى ‏لا‏ ‏يهمه‏ ‏الأمر‏ ‏مباشرة‏ ‏حيث‏ ‏إن‏ ‏إسرائيل‏ ‏لا‏ ‏تمثل‏ ‏له‏ ‏مجالا‏ ‏مباشرا‏ ‏للعمل‏ ‏يحفزه‏ ‏على ‏إعادة‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏علاقته‏ ‏العاطفية‏ ‏من‏ ‏القضية‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏تؤثر‏ ‏على ‏فرص‏ ‏رزقه‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏إسرائيل‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏تمثل‏ ‏له‏ ‏أيضا‏ ‏أى ‏تحد‏ ‏مباشر‏ ‏يهدد‏ ‏أكل‏ ‏عيشه‏ ‏اليومى، ‏أما‏ ‏الطبقة‏ ‏المتوسطة‏ ‏فأعتقد‏ ‏أنها‏ ‏تنقسم‏ ‏حسب‏ ‏مراحل‏ ‏العمر‏: ‏الأكبر‏ ‏سنا‏ – ‏مثل‏ ‏حالاتى‏- ‏يحسبها‏ ‏موقفا‏ ‏بموقف‏ ‏ولا‏ ‏ينسى ‏التاريخ‏، ‏والجيل‏ ‏الأوسط‏ ‏الذى ‏حارب‏ ‏فعلا‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏ينسى (‏حتى ‏بعد‏ ‏النصر‏ ‏والسلام‏) ‏القهر‏ ‏والإذلال‏، ‏وكثير‏ ‏من‏ ‏الأصغر‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏يهمه‏ ‏لا‏ ‏إسرائيل، ‏ولا‏ ‏مصر‏ ‏ولا‏ ‏مؤاخذة‏.‏

‏- الأردنيون‏ ‏حاربوا‏ ‏اليهود‏ ‏وعقدوا‏ ‏معهم‏ ‏إتفاقات‏ ‏سلام‏ ‏وقبلوا‏ ‏التطبيع‏.. ‏فما‏ ‏هى ‏الخصوصية‏ ‏التى ‏تميز‏ ‏المصريين‏ ‏عن‏ ‏الأردنيين؟

إن‏ ‏رفض‏ ‏أو‏ ‏تأجيل‏ ‏التطبيع‏ ‏ليس‏ ‏محل‏ ‏فخر‏ ‏فى ‏ذاته‏، ‏فالمسألة‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏مسألة‏ ‏عواطف‏ ‏وانفعالات‏، ‏وقد‏ ‏أخذها‏ ‏الأردنيون‏ ‏على ‏ما‏ ‏يبدو‏ ‏بشكل‏ ‏عملى ‏نفعى ‏مباشر‏، ‏فما‏ ‏دام‏ ‏سلام‏ ‏فليغتنموا‏ ‏منه‏ ‏أكبر‏ ‏قدر، ‏وليسبقوا‏ ‏ليحصلوا‏ ‏على ‏صفقة‏ ‏كاملة‏، ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نعتبر‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏موقفا‏ ‏انتهازيا‏ ‏أو‏ ‏أن‏ ‏نحتقر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏صفقة‏، ‏فالسياسة‏، ‏كل‏ ‏السياسة‏: ‏ليست‏ ‏إلا‏ ‏صفقات‏ ‏محسوبة‏، ‏والأشطر‏ ‏والأذكى ‏هو‏ ‏الذى ‏يقبض‏ ‏الثمن‏ ‏كاملا، ‏وكبيرا‏، ‏وليس‏ ‏هذا‏ ‏عيب‏، ‏وأظن‏ ‏أن‏ ‏رافض‏ ‏التطبيع‏ ‏المصرى ‏هو‏ ‏أحد‏ ‏ثلاثة‏:(1) ‏عاطفى ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏ينسى، ‏أو‏ (2) ‏مثالى ‏مازال‏ ‏يحلم‏ ‏بالحلم‏ ‏القومى ‏مدفوعا‏ ‏بدوافع‏ ‏كره‏ ‏هدف‏ ‏مشترك‏، ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يصنعه‏ ‏بحساب‏ ‏المنفعة‏ ‏الإيجابية‏ ‏فى ‏المشاركة‏ ‏الآنية‏ ‏للإنتاج‏ ‏والإبداع‏، (3) ‏أما‏ ‏الثالث‏ ‏فهو‏ ‏راقص‏ ‏على ‏السلم‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏يوافق‏ ‏على ‏السلام‏ ‏ولا‏ ‏يوافق‏ ‏على ‏متطلباته‏، ‏وعندنا‏ ‏فى ‏بلدنا‏ ‏مثل‏ ‏خارج‏ ‏أحوره‏ ‏تلطفا‏ ‏كالتالي‏: ‏نفسها‏ ‏فى ‏الزواج‏ ‏وخائفة‏ ‏من‏ ‏الحمل‏، ‏وأحسب‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏موقف‏ ‏لا‏ ‏يسر‏ ‏من‏ ‏يقفه‏، ‏ولا‏ ‏أريد‏ ‏أن‏ ‏أعمم، ‏ولكن‏ ‏هذا‏ ‏الصنف‏ ‏الأخير‏ ‏المتردد‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يوصف‏ ‏بأنه‏: ‏نفسه‏ ‏فى ‏السلام‏ ‏وخائف‏ ‏من‏ ‏التطبيع‏.‏

إن‏ ‏التحدى ‏الملقى ‏على ‏المواطن‏ ‏العربى ‏عامة‏ ‏والمصرى ‏خاصة‏ ‏هو‏ ‏تحد‏ ‏حضارى ‏من‏ ‏نوع‏ ‏جديد‏، ‏وهو‏ ‏لا‏ ‏يقاس‏ ‏بالتطبيع‏ ‏ولا‏ ‏بالسلام‏ ‏ولا‏ ‏حتى ‏بالنصر‏ ‏فى ‏معركة‏ ‏حربية‏ ‏أو‏ ‏عدة‏ ‏معارك‏، ‏وإنما‏ ‏يقاس‏ ‏بدرجة‏ ‏الوعى ‏وتوجه‏ ‏الحركة‏ ‏ووفرة‏ ‏الإنتاج‏ ‏وأصالة‏ ‏الإبداع، ‏وهذه‏ ‏القيم‏ ‏هى ‏التى ‏تبقى ‏وتنتصر‏ ‏فى ‏حساب‏ ‏الزمن‏، ‏ومن‏ ‏يقدر‏ ‏عليها‏ ‏ويتحمل‏ ‏مسئوليتها‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يقتحم‏ ‏غابة‏ ‏ملأى ‏بالوحوش‏ ‏وهو‏ ‏واثق‏ ‏من‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏ترويضها‏، ‏أما‏ ‏من‏ ‏لا‏ ‏يسعى ‏إلى ‏امتلاك‏ ‏وسائل‏ ‏المواجهة‏ ‏الحضارية‏ ‏والتاريخية‏ ‏فسيظل‏ ‏يحارب‏ ‏طواحين‏ ‏الهواء‏، ‏ويفخر‏ ‏بمثالية‏ ‏معطلة، ‏فينهزم‏ ‏مكررا‏ ‏رغم‏ ‏ما‏ ‏يصله‏ ‏من‏ ‏تصفيق‏ ‏من‏ ‏يقفون‏ ‏موقفه‏ (‏وهم‏ ‏كثر‏) ‏يصفقون‏ ‏لبعضهم‏ ‏البعض‏.‏

‏ ‏إذن‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نحذرأن‏ ‏نتصور‏ ‏أن‏ ‏المصريين‏ ‏ذوو‏ ‏موقف‏ ‏واحد‏ ‏متحفظ‏ ‏على ‏التطبيع، ‏وكذلك‏ ‏أن‏ ‏نحذر‏ ‏تصور‏ ‏أن‏ ‏الذين‏ ‏يرفضون‏ ‏أو‏ ‏يؤجلون‏ ‏أو‏ ‏يتحفظون‏ ‏على ‏التطبيع‏ ‏يفعلون‏ ‏ذلك‏ ‏لنفس‏ ‏الأسباب

أما‏ ‏المقارنة‏ ‏التى ‏طرحها‏ ‏السؤال‏ ‏بين‏ ‏المصرى ‏والأردنى ‏فهى ‏مقارنة‏ ‏ذكية‏، ‏وأحسب‏ ‏أن‏ ‏الأردنى ‏ومنذ‏ 1948، ‏يحسبها‏ ‏بطريقة‏ ‏أخرى ‏غير‏ ‏التى ‏يحسب‏ ‏بها‏ ‏المصرى ‏القضية‏، ‏وهى ‏طريقة‏ ‏أخف‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏توصف‏ ‏به‏ ‏أنها‏: ‏عملية، ‏نفعية، ‏ذكية، ‏مرنة‏ (‏حلال‏ ‏عليهم، ‏أولاد‏ ‏عمومة‏ ‏شطار‏ !!!)‏

‏- اليهود‏ ‏حاربوا‏ ‏وانهزموا‏.. ‏ويندفعون‏ ‏نحو‏ ‏علاقات‏ ‏حميمة‏ ‏بالمصريين‏.. ‏فما‏ ‏هى ‏دوافعهم‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏ذلك؟

إبتداء‏:‏لا‏‏بد‏ ‏أن‏ ‏نعترف‏ ‏أن‏ ‏اليهود‏ ‏حاربو‏ ‏وانتصروا‏، ‏ثم‏ ‏حاربوا‏ ‏وانتصروا‏، ‏ثم‏ ‏حاربوا‏ ‏وانهزموا، ‏وانتصروا‏ ‏أيضا‏، ‏أما‏ ‏تبسيط‏ ‏المسألة‏ ‏هكذا‏ ‏فهو‏ ‏بداية‏ ‏الخداع‏، ‏ثم‏ ‏إننى ‏لا‏ ‏أرى ‏أن‏ ‏اليهود‏ ‏يندفعون‏ ‏نحو‏ ‏علاقات‏ ‏حميمة‏ ‏هكذا‏ ‏دون‏ ‏قيد‏ ‏أو‏ ‏شرط‏، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏اليهود‏ ‏المصريين‏ ‏الذين‏ ‏اضطروا‏ – ‏من‏ ‏داخلهم‏ ‏أو‏ ‏من‏ ‏خارجهم‏- ‏أن‏ ‏يتركوا‏ ‏بلدهم‏ ‏مصر‏، ‏فهم‏ ‏مصريون‏ ‏قبل‏ ‏وبعد‏ ‏ما‏ ‏كان‏، ‏أشعر‏ ‏بهم‏ ‏أحيانا‏ ‏مصريين‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏كثيرين‏ ‏ممن‏ ‏يحملون‏ ‏هذه‏ ‏الصفة‏ (‏مصرى) ‏على ‏جواز‏ ‏سفرهم‏، ‏وفيما‏ ‏عدا‏ ‏هؤلاء‏ ‏اليهود‏ ‏المصريين‏ ‏الذين‏ ‏تأسرؤوا‏ ‏رغم‏ ‏أنوفهم‏ ‏فإننى ‏لا‏ ‏أرى ‏فى ‏المسألة‏ ‏علاقات‏ ‏حميمة‏ ‏ولا‏ ‏سليمة‏، ‏هناك‏ ‏مصالح‏، ‏وبعد‏ ‏نظر‏، ،‏فرص‏ ‏متعددة‏ ‏وجديدة، ‏لا‏ ‏أكثر‏، ‏وهم‏ ‏يقبلون‏ ‏على ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏بذكاء‏ ‏عملى ‏محسوب‏، ‏

ولا‏ ‏داعى ‏لذكر‏ ‏الدوافع‏ ‏النفسية‏ ‏ابتداء‏ ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏إن‏ ‏كانت‏ ‏الدوافع‏ ‏النفعية‏ ‏والعملية‏ ‏والاقتصادية‏ ‏والتاريخية‏ ‏لا‏ ‏تكفى ‏لتفسير‏ ‏ظاهرة‏ ‏ما‏ ‏

‏- ما‏ ‏هى ‏رؤيتكم‏ ‏لمستقبل‏ ‏العلاقة‏ ‏النفسية‏ ‏بين‏ ‏الطرفين‏ ‏فى ‏ظل‏ ‏المتغيرات‏ ‏الراهنة‏ ‏وهل‏ ‏سيكون‏ ‏المستقبل‏ ‏لصالح‏ ‏التطبيع‏ ‏ام‏ ‏ضده؟‏.‏

لا‏ ‏يوجد‏ ‏شيء‏ ‏إسمه‏ ‏التطبيع‏، ‏وشيء‏ ‏إسمه‏ ‏السلام‏، ‏هذه‏ ‏شعارات‏ ‏تظهر‏ ‏مصادفة‏ ‏أو‏ ‏قصدا‏ ‏لتشويش‏ ‏العقول‏ ‏وتمييع‏ ‏المواقف‏، ‏وقد‏ ‏تعودنا‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏بشكل‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏مراجعة، ‏نسمى ‏هزيمة‏ 1967 ‏أزمة‏ ‏الشرق‏ ‏الأوسط‏، ‏ونسمى ‏الصلح‏ ‏الإجرائى ‏العملى: ‏تطبيعا‏، ‏وهكذا، ‏القضية‏ ‏واحدة‏ ‏سلام‏ ‏أم‏ ‏حرب‏، ‏ولكل‏ ‏منها‏ ‏خطوات‏ ‏محسوبة‏: ‏إعداد‏، ‏واتفاق‏، ‏وعقد‏، ‏وتنفيذ‏ ‏اختبارى‏، ‏ومراجعة‏، ‏وصفقات‏ ‏محسوبة‏، ‏ومصالح‏ ‏مطروحة‏ ‏على ‏الجانبين‏..‏إلخ‏، ‏والأولى ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نأخذ‏ ‏كل‏ ‏جزئية‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الجزئيات‏ ‏مستقلة‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نضعها‏ ‏جميعا‏ ‏بانفعال‏ ‏بدائى ‏فى ‏سلة‏ ‏واحدة‏ ‏نسميها‏ ‏التطبيع‏.‏

ثم‏ ‏إن‏ ‏الرؤية‏ ‏المستقبلية‏ ‏تعتمد‏ ‏على ‏متغيرات‏ ‏كثيرة‏ ‏ليس‏ ‏فى ‏الإمكان‏ ‏تحديد‏ ‏حجمها‏ ‏بدقة‏ ‏فى ‏الوقت‏ ‏الحاضر، ‏أسئلة‏ ‏كثيرة‏ ‏تطرح‏ ‏نفسها‏ ‏ويتوقف‏ ‏المستقبل‏ ‏على ‏مدى ‏القدرة‏ ‏على ‏إجابتها، ‏خذ‏ ‏مثلا‏: ‏من‏ ‏سيحكم‏ ‏إسرائيل‏ ‏فى ‏الأربع‏ ‏سنين‏ ‏القادمة‏؟‏ ‏إلى ‏أى ‏مدى ‏تستطيع‏ ‏الجماعات‏ ‏الإسلامية‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏اللعب‏ ‏على ‏وتر‏ ‏التطبيع‏ ‏وقلته‏ ‏؟‏ ‏إلى ‏أى ‏مدى ‏تتوقف‏ ‏زيادة‏ ‏فرص‏ ‏العمل‏ ‏الحقيقية‏ ‏والمجزية‏ ‏للعامل‏ ‏المصرى ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏تم‏ ‏تطبيع‏ ‏حقيقى ‏مبنى ‏على ‏تبادل‏ ‏المصالح‏ ‏لا‏ ‏على ‏تبادل‏ ‏خطابات‏ ‏الحب‏ ‏والصداقة‏ ‏والحميمية‏ ؟‏ ‏إلى ‏أى ‏مدى ‏سينجح‏ ‏الخطباء‏ ‏فى ‏نبش‏ ‏الماضى ‏والتخويف‏ ‏من‏ ‏المستقبل‏ ‏وهم‏ ‏يرزحون‏ ‏تحت‏ ‏شعور‏ ‏بالنقص‏ ‏وخوف‏ ‏من‏ ‏التحدى ‏الحضارى ‏؟‏ ‏وهكذا‏.‏

أظن‏ ‏أن‏ ‏مستقبلنا‏ ‏نحن‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏موضع‏ ‏الاهتمام‏ ‏الأول، ‏وإسرائيل، ‏وعلاقتنا‏ ‏معها‏: ‏تطبيعا‏ ‏أو‏ ‏تمييعا‏ ‏أو‏ ‏تسميعا‏ ‏هى ‏جزء‏ ‏محدود‏ ‏من‏ ‏مستقبلنا، ‏مستقبلنا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏نفعله‏ ‏الآن‏ ‏لنا‏ ‏دون‏ ‏نسيان‏ ‏أو‏ ‏إهمال‏ ‏أو‏ ‏إغفال‏ ‏من‏ ‏حولنا‏، ‏معنا‏ ‏أو‏ ‏ضدنا‏، ‏إسرائيل‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏إسرائيل‏، ‏وهذا‏ ‏الموقف‏ ‏يسمح‏ ‏لنا‏ ‏بتطبيع‏ ‏علاقتنا‏ ‏مع‏ ‏الشيطان‏ ‏نفسه‏ ‏دون‏ ‏خوف‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يغوينا‏ ‏بل‏ ‏لعلنا‏ ‏نهديه‏ (‏نهدى ‏الشيطان‏ ‏شخصيا‏) ‏إلى ‏طريق‏ ‏ينفعه، ‏من‏ ‏يدرى‏.‏

 ****

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *