الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1982 / يوليو1982-على مائدة الفكر

يوليو1982-على مائدة الفكر

على مائدة الفكر

د. خالد الدش

وصلتنا هذه المحاولة من شاب مجتهد أمين مع نفسه وفكره، وعرضناها على بعض الزملاء فى هيئة التحرير فكتب إبراهيم عادل :

 – مع إعجابى الشديد بالفكرة (والحوار أيضا فى الكثير من أجزائه) إلا أنى أرى أن الحوار لم يتصاعد ولم يزدد ثراؤه بالاستمرار فيه كما كأن ينبغى لمثل هذا الحوار، بل خمد فجأة فى مصالحة مفتعلة، مع استخدام القرآن كسلطة قادرة على إنهاء أى حوار.

– الاختيار المطروح هو: أيهما أفضل ونحن بصدد فكرة جيدة كهذه الفكرة؟ هل نبدأ بنشر محاولة ناقصة وأن كانت جادة على أمل أن تكون المحاولة القادمة أكمل؟ أم نحاول استكمال أوجه النقص محاولة شديدة الجدية؟

– لا أؤيد النشر بهذه الصورة (مع أسفى لك)، وأرى ردها للكاتب لاستكمالها، أو إشراك أكثر من كاتب ليتولى كل منهم وجهة أحد المفكرين، على أن يتولى عملية السيناريو والمونتاج والإخراج كاتب قدير.

إبراهيم عادل

وقرر د. عادل مصطفى بعد نقاش حولها بين إبراهيم عادل ورئيس التحرير أن “لا” ثم بعد أيام، أن ننشرها فى  القسم الثانى.

ثم انتهى رئيس التحرير إلى قبول فكرة نشر “غير المقبول للنشر” ولو فى حيز محدود، ولو فى القسم الثانى باعتباره يمثل الفجاجة والتلقائية والاجتهاد والإبداع، لعل فى ذلك ما نستفيد منه من خلال التعرف على قارئنا ودورنا، ولعل فيه أيضاً ما يستفيد منه الكاتب الذى استطاع – رغم كل شىء – أن يأخذ أدواراً ثلاثة (مسلم ، محاور ، كاتب) فى مواجهة الأفكارالتى انتقاها، ومجرد فتح باب النقاش والتفكير فى هذه المنطقة المغلقة والمصادر عليها بالقبول الحرفى أو الرفض الاستعلائى هو مكسب للشباب خاصة، من يدرى؟.

*****

المائـدة

على مائدة للفكر جمعتنى وهؤلاء الأقطاب، دار الحوار التالى حول كتاب أريك فروم الدين والتحليل النفسى(1)

فروم: المشكلة هى أن كشوفنا العلمية وإنجازاتنا التقنية تمكننا من أن نرى رأى العين اليوم الذى يؤلف فيه الجنس البشرى مجتمعا واحدة، ولكن.. ماذا يستطيع أن يقول إذا نظر إلى نفسه؟ هل اقترب من تحقيق حلم آخر للبشر هو كمال “الإنسان”؟ الإنسان الذى يحب جاره، ويحكم بالعدل وينطق بالصدق، محققا ماهيته. وأن يكون صورة للاله. حياتنا تجتاحها الفوضى الروحية. جنون لا يشبه الجنون الهستيرى الذى وجد فى العصر الوسيط، بل جنون شبيه بانفصام الشخصية، ينعدم فيه الاتصال بالواقع الباطنى وينشق فيه الفكر عن الوجدان. الناس تسعى إلى الكنائس للاستماع إلى مواعظ تدعو إلى مبادىء الحب والإحسان. وهؤلاء الناس بالذات يعدون أنفسهم حمقى أو أسوأ من ذلك إذا ترددوا فى بيع سلعة يعلمون أن المستهلك لا يقدر ثمنها (ص 9).

أن نلقن أطفالنا أننا أكثر تقدما من أى جيل سبق، وأننا فى نهاية المطاف لن نترك فى نهاية المطاف لن نترك أمنية إلا ونحققها. ولكن…. هل سيسمع أطفالنا صوتا يرشدهم الأم يتجهون. ما الهدف الذى يعيشون من أجله؟ أنهم يشعرون على نحو ما – كما يشعر الناس جميعا . أنه لابد للحياة من معنى، ولكن ما هو؟ أنهم مشوقون إلى السعادة والحقيقة والعدالة والحب وإلى موضوع للعبادة فهل نحن قادرون على إشباع شوقهم؟ (ص 9).

الكاتب: بعد هذا التقديم الرائع لواقع المشكلة وتحليل طبيعتها. هل تراك ستقدم لنا إجابة تماثلها روعة؟

فروم : ها قد جاء فرويد الممثل العظيم الأخير لعقلانية عصر التنوير.

 وأول من أوضح ما فى هذه النزعة من أوجه قصور، وتجاسر على أن يقاطع أغانى الانتصار التى ينشدها العقل المجرد (ص 11).

فليعرض رأيه أولا ….

فرويد: إنما أثبت أن العقل قوة تميز الإنسان ولكنه عرضه لتأثير العواطف المشوه له. وفهم عواطف الإنسان الذى يمكن أن يحرر عقله لأداء وظيفته على نحو سليم، لقد كشفت عن قوة العقل الإنسانى وضعفه على السواء، “أن الحقيقة هى التى ستحررك” (ص 12).

الكاتب : مهلا أيها العالم الجليل، فما أجمل هذا الكلام … دعنى أتملى قليلا فى رنين هذه الألفاظ الضخمة الرائعة “الحقيقة”، “الحرية”.

فرويد: لقد أمكن لمنهجى فى التحليل النفسى أن يجعل دراسة الروح دراسة دقيقة حميمة أمرا ممكنا فقد أمكننى عن طريق الأحلام والتخيلات وتداعى المعانى اكتساب بصيرة تنفذ إلى الرغبات الدفينة وضروب القلق التى تنتاب المريض، لقد اكتشفت أن المرض العقلى لا يمكن أن يفهم بمنأى عن المشكلات الأخلاقية، وأن المريض عليل لأنه أهمل مطالب روحه.     (ص 12).

الكاتب: قبل أن تستطرد أيها العالم الجليل، أن لما ذكرت أهمية، بالغة فرغم اختلافى معك فى أمور أعدها جوهرية، إلا أن ما ذكرت لمن أروع إيجابياتك، وأرى أن قيمتها تكمن فى كشفك للفكر الأوربى ومن ثم العالم، بأسره بما ألقيت من أضواء على مناطق من الوعى كانت مجهولة ومظلمة.

ولكن كشفك هذا – الذى اتفق معك فيه – يمكن أن يعد منطلقا للرد عليك – فيما اختلفت فيه أى بمنطقك وسلاحك.

فقد كشفت عن الحيل النفسية ثم إذا أنت تسقط فى براثن أحداها (وهى الإسقاط : فقد أسقطت مشاكلك الجنسية الخاصة على العالم كله) وكشفت عن اللاوعى ولكنك لم  تستطع أن تمضى فى اختراقه أبعد مما وصل – (فلم تتخط الجنس وأهميته إلى ما وراءه) وأعتقد أنك لم تكن تستطيع أن تنفذ أبعد من هذا فتلك ماهيتك كما أرى أنك مضيت إلى حيث تستطيع قدرتك أن تعبر عما هو أنت.

مسلم: أرى أنه لجدير بالذكر أن أمامينا الجليلين أبا حامد الغزالى والحافظ ابن الجوزى قد تتبعا فى كتابيهما “إحياء علوم الدين” و “تلبيس إبليس” تحليلا دقيقا للنفس البشرية وما تتبع من حيل تخدع به عن نفسها بوعى، ودون وعى. مما يجعل ما جاء به فرويد – رغم ما تكثرون من تعظيم – مألوفا ومعروفا لدى صاحب الثقافة الإسلامية الأصيلة.

ومن ذا ينسى حديث إمامنا ابن القيم فى حديثه عن “النفس الأمارة بالسوء” و”النفس اللوامة” و”النفس المطمئنة” والتى تكاد تناظر – مع اختلاف المفاهيم – مستويات النفس والوعى  لدى فرويد.

الكاتب: ولكن مع تقديرى لصواب ملاحظتكم، فإن فرويد يظل صاحب الفضل فى تقديم هذا التحليل بهذه الصورة العلمية  المنهج، الواضحة والملائمة كثيرا لعصره من حيث طريقة تفكيره، إذ كان طرح الأئمة للقضية مرتبطا للغاية بقضايا التراث والدين.

فرويد: الدين! إن الدين ينبع من عجز الإنسان فى مواجهة قوى الطبيعة فى خارجه والقوى الغريزية فى داخل نفسه (ص 15).

 وبدلاً من التعامل مع هذه القوى عن طريق العقل. يتعامل معها “بعواطف مضادة” وبقوى وجدانية أخرى تكون وظيفتها هى الكبت أو التحكم فيما عجز عن التعامل معه عقلانيا.

 (ص 16).

مسلم: نعم .. ولا ، نعم هى كذلك .. يقول تعالى “بسم الله الرحمن الرحيم “حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرينصدق الله العظيم.-  يونس 22- ولا، فهى ليست كذلك فقط، فهى هذا وغيره.

المحاور: إن لفروم قيما فى هذه المسألة.

الكاتب: ليس ينقص من أمر الدين شيءا أن يكون تعبيرا عن عجز الإنسان، وها هى ذى رؤية فرويد القاصرة عن الاختراق فى العمق تنتج واحدا من سلبياتها: فالخطأ يكون من قصور الوعى – مثلما كان لدى فرويد – بطبيعة هذه القوى، طبيعية أو غريزية وعلاقتنا بها. أنه الوعى الذى يخاف (كما تعلمنا منه، فرويد) أن يواجه لاوعيه خوفا من الإيمان أو الحرية أو المسئولية..

مسلم : مسئولية الأمانة التى عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان.

الكاتب: .. إذ ذاك يكون الكبت وينتج ما ذكرت من سلبيات هأنتذا تعترف خلال هجومك “بوجود” عواطف مضادة وقوى وجدانية أخرى، وأرى أنها جزء من فطرة الله التى فطر الناس عليها، إذ تستوعب طبيعة القوى الغريزية والطبيعية فى وعى كونى شامل، فينتج نوعا من الفهم والتصالح وشبكة من العلاقات تجمعهم جميعا فى “وحدة” فتصبح كروافد كثيرة تلتقى فى مجرى لنهر واحد عظيم.

فرويد: أن الدين ما هو إلا تكرار لتجربة الطفل.

الكاتب: إن تكرار تجربة الطفل إنما يكون تكرارا أصيلا لتجربة أصيلة فى جذور الطبيعة البشرية فى كدحها الدائب نحو المطلق.

فرويد: أن تحليلى يمضى أبعد من تلك الجذور النفسية، أن “لا واقعية” التصور الألوهى يثبتها عرض هذا التصور بوصفه وهما قائما على رغبات الإنسان.

الكاتب: أن كونه كذلك أدعى للقول بأصالتها فى تركيب النفس والطبيعة الإنسانية.

فرويد: أنى لأمضى أبعد من هذا، فالدين “خطر” لأنه يميل إلى تقديس مؤسسات إنسانية سيئة تحالف معها على مر التاريخ، أن ما يقوم به الدين من تعليم الناس الاعتقاد فى وهم وتحريم التفكير النقدى، يجعله مسئولا عما أصاب الناس من إملاق، وقد بينت فى عملى أن كبت التفكير النقدى فى نقطة معينة يؤدى الى افقار قدرة الشخص النقدية فى مجالات أخرى من الفكر ومن ثم يعوق قوة العقل.

مسلم: لابد لى من وقفة تصحيح وتوضيح واعتذار، فقد تكشفت السحب وبات واضحا سبب ما بيننا من اختلاف فى وجهات النظر. أنك مصيب كل الإصابة – فى هذه – وأوفقك تماماً.

الكاتب: أن فرويد إذ يتحدث فأنه – بالضرورة – يتحدث من منطلق ثقافته التى تأثرت فكرا وتاريخا بالحضارة اليهودية – المسيحية وما شابها مما أدى لهذه السلبيات.

مسلم: ولكنى لا أجد أيا مما استنكرت فى فكر عقيدتى وتاريخه، أنى لا أريد أيها العالم الجليل تحليلا من موقع السلبيات فى الدين وفى نفسك، بل تحليلا واضحا مباشرا.

الكاتب: لعلنا نجد لدى فروم بعض هذا.

فروم: أرى أن نستمع أولا لرأى “يونج” فهو ذو قيمة فيما سأذكر من رأى.

يونج: سأبدأ بمناقشة المبادىء العامة لمنهجى.

“لقد حصرت نفسى فى ملاحظة الظواهر وامتنعت عن استخدام أى اعتبارات ميتافيزيقية أو فلسفية”.

الكاتب: أن لى تحفظا بخصوص هذه القاعدة فهذا يعنى أن النتائج التى يمكن أن تصل إليها – ايا كانت – محددة بصدق هذه الظواهر.

محاور: هذا أمر بديهى.

الكاتب: نعم أنما أردت أن ألفت النظر إليه وأثبته فى محضر المائدة كتحفظ قد نعود إليه فى حينه.

يونج: فإذا تحدث علم النفس مثلا عن الدافع لولادة العذراء لم يهتم إلا بواقع وجود مثل هذه الفكرة، ولكنه لا يهتم بمسألة ما إذا كانت هذه الفكرة صادقة أو كاذبة بأى معنى آخر، فهى صادقة من الناحية النفسية ما دامت موجودة.

الكاتب: فى هذا المجال فقط.

محاور: هذه بديهية أخرى.

الكاتب: ولكن لابد منها إذا لو اتسع مجالى إلى مجالات أخرى لوجدتها كاذبة أى أنه بهذا التعريف حدد المنطقة التى يعمل خلالها.

يونج: أن الفكرة صادقة سيكولوجيا مادامت موجودة. (ص 19).

فروم: الفكرة توجد بغض النظر عما إذا كانت هذيانا أو تناظر حقيقة واقعة ووجود فكرة ما لا يجعلها صادقة بأى معنى. (ص 20).

يونج: يمكن تلخيص رأيى فى هذه العبارة: “جوهر التجربة الدينية هو خضوع لتجربة أعلى من أنفسنا”.

الكاتب: هذا يذكرنى بمقولة ديكارت الشهيرة “أنا أفكر إذن فأنا موجود” ويذكرنى معها أيضا بكل ما كيل له من لكمات من فلاسفة ظهروا فى أثره، كل يتناولها من جانبه فيمزقها تمزيقا ليجعلها هباء منثورا، سواء كانت فى ذلك وجودبة أو براجماتية أو وضعية منطقية أوظاهراتية. وما يعنينى فى معرض حوارى هذا هو ما ذكره هوسرل ردا على ديكارت.

هوسرل: “كأنك فى جزيرة وحدك معزولا عن العالم والآخرين. من المحال أن تحدث عملية تفكير إلا إذا تعلقت بقضية معينة فالوعى عبارة عن إنتباه. من ذا يتصور الانتباه كيانا له استقلاله، وهو اتجاه، أنه كشعاع الشمس يسقط هنا وهناك فيظهر بسقوطه شىء ما، أن أهم ما يميزه هو “القصدية”، أى أنه دائما يقصد باتجاهه المعين إلى مسقط ما يسقط عليه فيدركه، أن عملية الإدراك لا تتم إلا بهذين الشقين معا، لفئة من الوعى وشىء معين تقصد إليه تلك اللفتة”.

الكاتب: يمكننى أن أعيد كل ما قال هوسرل لديكارت إلى يونج، فكأنما الخضوع كيان له استقلاله…، أهم ما يميزه هو القصد به، أى أنه خضوع لموضوع معين. ولا يتم معنى الدين إلا بهذين الشقين معا، اتجاه للعبادة وموضوع معين تقصد إليه العبادة، وقد أغفل يونج الشق الثانى وطبيعته، رغم أهميته القصوى، لأنهما معرض كل ما يلى من أخطاء فى تصويره وما يعرض فروم من سلبيات.

فروم: قد يفيدنا فى سياق تحليلنا لأنماط الخبرة الدينية محاولة الإجابة على هذا السؤال: هل نستطيع أن يكون الدين ممثلا للحاجات الدينية أم ينبغى علينا أن نفصل هذه الحاجات عن الدين التقليدى القائم حتى نمنع انهيار كياننا الأخلاقى؟ لابد بدءا أن نميز بين أنماط الخبرة الدينية وسوف أعالج تمييزا واحدا أراه أهمها: هو أن العنصر الجوهرى فى الدين التسلطى هو الاستسلام لقوة تعلو على الإنسان والفضيلة الأساسية هى الطاعة والخطيئة الكبرى هى المعصية.

الكاتب: أعتقد ما خلق مثل هذه الفجوة وأدى بك (يا فروم) إلى القول بضرورتها هو “الوعى”، فالاستلام لوعى خاطئ بالكون وعلاقتنا به هو ما يؤدى إلى مثل هذه السلبية، ولكن مع الوعى بطبيعة صورة الإنسان، وأنها أقرب أن تكون كلا واحدا يسير نفسه بنفسه (كما يقول سبيوزا) بحيث لا يملك أى جزء على حدة إلا أن يسير مع الكل فى مساره المرسوم إذ ذاك تظل الطاعة فضيلة أساسية باعتباره خطوة أولى (كما يقول إقبال).

فروم: الدين الإنسانى يدور حول الإنسان وقوته، أن التجربة الدينية فى هذا النوع من الدين هى تجربة الاتجاه بالكل القائمة على ارتباط الإنسان بالعالم ارتباطا ندركه بافكر والحب وهدف الإنسان فى الدين الإنسانى هو أن يحقق أكبر قدر من القدرة لا أكبر قدر من العجز، والفضيلة هى تحقيق الذات لا الطاعة، والإيمان هو يقين الاقتناع المؤسس على تجربة المرء فى مجال الشعور والفكر والمزاج السائد فيها هو الفرح لا الشعور بالذنب والحزن.

الكاتب: أن الشعور بالذنب – وهو قضية مرهقة جدا فى الثقافة الدينية الغربية أدت بالكثير منهم إلى البحث عن مخارج عديدة للتغلب على هذا الشعور الدائم المرهق بالتقصير والشعور بالذنب، وتظل الخطيئة أيضا هى عصيان السلطة، ولكن أى سلطة؟ – إذ تكون السلطة هى سلطة الخوف من المواجهة ويكون الشعور بالذنب نتيجة الخوف وما أرتكبه من خطأ فى حق نفسه.

مسلم: أى أنه يمكننا الاستفادة بكل ما عرض فرويد لأقصى درجة إذ فهمناه باعتباره عرضا لسلبيات فى وعينا، وقصور فيه بديننا الحنيف.

محاور: لست أفهم فيم تعصبك لدينك الحنيف؟.

مسلم: فما الذى أضفت أو فعلت؟

الكاتب: لم ألغ الدين الأدنى، أنما نرضى بالواقع كما هو أولا وننفذ من خلاله إلى التطور عن طريق تنمية عمق الوعى، ا لأمر الذى من شأنه تلقائيا أن يعيد تنظيم جل حياتنا، كذلك قال سقراط فى حوار أقريطون، وقال مثل ذلك هـ. جـ. ويلز فى يوتوبيا حديثة، والغزالى فى إحياء علوم الدين.

فرويد: أن ما أؤمن به من معايير ومثل عليا بصراحة ووضوح هو الحب الأخوى والصداقة والحرية، فالعقل والحرية – فى رايى – يعتمدان أحداهما على الآخر فإذا تخلى الإنسان عن وهمه فى إله أبوى، وإذا واجه وحدته وتفاهته فى الكون فسيكون أشبه بالطفل الذى ترك بيت أبيه، أن غاية التطور الإنسانى هى أن يتغلب الإنسان على هذا التثبيت الطفولى، وعلى الإنسان أن يعلم نفسه مواجهة الواقع فإذا علم أنه لا يستطيع الاعتماد على شىء إلا على قواه الخاصة، فسيتعلم كيف يستخدمها استخداما صحيحا، والإنسان الذى حرر نفسه من نير السلطة، السلطة التى تهدد وتحمى، هو وحدة الذى يستطيع استخدام قوة عقله، وإدارك الكون ودوره فيه إدراكا موضوعيا دون وهم، ويقدر على التطور وعلى استخدام القدرات الكامنة فيه، ولن نجرؤ على التفكير تفكيرا مستقلا إلا إذا نمونا، وكففنا عن أن نكون أطفالا نعتمد على السلطة ونهابها والعكس صحيح فلن نحرر أنفسنا من قهر السلطة إلا إذ تجاسرنا على التفكير.

مسلم: ما أروع هذا الكلام إذ نقلى به أضواء على جوانب سلبية فى ثقافتنا القرآنية ووعينا بديننا الحنيف.

محاور: هأنتذا تعود لتعصبك لدينك الحنيف.

الكاتب: أنا لا نؤمن باله أبوى نعتمد على كلية بل بصلة ديناميكية وسعى دائب إلى صميم الكون وإلا فراجع ما أفاض فيه أمامنا ابن قيم الجوزية فى مدارج السالكين عن فرق بين توكل محمود ومذموم، نعم، أن الموضوعية هى التغلب على هذا التثبيت الطفولى إلى وعى موضوعى بالله، وأن يعتمد الإنسان على قواه الخاصة أفضل ما يمكن إذ يعلم اتصالها وامتدادها إلى صميم الوجود كله. ويصبح الإنسان الحر هو الذى حرر نفسه من غير السلطة التى يتحدث عنها لا سلطة واقتحامه، إذ ذاك تصبح السلطة التى يتحدث عنها لا سلطة قهر وحد للحريات بل جزءا لا يتجزأ منا بها ومعها وإليها تتحرك مع الكون كله.

فروم: بذا نرى أن فرويد قرر أن الشعور بالعجز مضاد للشعور الدينى، بينما يرى يونج أن الشعور بالاعتماد هو لب التجربة الدينية (ص 18).

الكاتب: على ضوء ما سبق فليس فى رؤيتنا تضاد بين القولين – وإنما هو العجز عن الفهم والوعى والاختراق والمواجهة والتحدى. كما أن الشعور بالاعتماد لدى يونج مع الكل وبالكل ليس اعتمادا طفوليا بل نضجا ونموا وتطورا.

فروم: أن الإنسان فى أصله حيوان يحيا فى القطيع، ويقدر ما تكون قطيعا لا يهدد وجودنا خطر أعظم من فقدان هذه الصلة فنصبح معزولين، والصوب والخطأ والحق والباطل أمور يحددها القطيع، ولكننا لسنا قطيعا فحسب بل نحن أنسانيون أيضا نملك الوعى بأنفسنا ونملك العقل الذى هو بطبيعته ذاتها مستقل عن القطيع، ومن الممكن أن تتحدد أفعالنا بنتائج تفكيرنا بغض النظر عما إذا كانت الحقيقة يشارك فيها الآخرون أو لا يشاركون، وإزدواجية الفكر القائمة بين العقل والذهن الذى يهدف إلى التبرير هما التعبير عن الثنائية الأساسية فى الإنسان، وعن الحاجة إلى تعايش القيد والحرية وتفتح العقل وظهوره الكامل يعتمدان على بلوغ الحرية الكاملة والاستقلال وحتى يتحقق له هذا يميل الإنسان إلى قبول الحقيقة التى تقررها الغالبية العظمى من الجماعة. ما يصدره من أحكام تحدد حاجته للاتصال بالقطيع وخوفه من الانفصال عنه وقليل من الأفراد هم الذين يستطيعون احتمال هذا الانعزال، وقول الحق على ما في من خطر فقدان الصلة بالقطيع، وهؤلاء هم الأبطال الحقيقيون للجنس البشرى (2 56).

أن قطع الحبل السرى – لا بالمعنى الجسدى بل بالمعنى النفسى – هو التحدى الأكبر للنمو الإنسانى، فما دام الإنسان مرتبطا بهذه الروابط الأولية بالأم والأب والأسرة فأنه يشعر بالحماية والأمن فهو مازال جنينا لأن ثمة آخر مسئولا عنه وهو يتجنب تلك التجربة المزعجة التى يرى فيها نفسه منفصلا يحمل على عاتقه مسئولية أفعاله الخاصة، أى يأخذ حياته بين يديه، وحين يظل الإنسان طفل فأنه لا يتجنب فحسب ذلك القلق الأساسى الذى يرتبط حتما بإدراك الإنسان لنفسه بوصفه كيانا مستقلا، بل يستمتع أيضا بمشاعر الحماية والدفء والانتماء غير المسئول الذى كان يتمتع به وهو طفل ولكنه يدفع ثمنا غاليا، أنه يخفق أن يكون إنسانا كاملا، وأن ينمى قوى عقله وحبه ويظل معولا على غيره، ويستبقى شعورا بعدم الاستقرار، وهذا الشعور يظل برأسه فى أية لحظة إذ تهدد تلك الروابط الأولية خطر ما، وكل مناشطه العقلية والعاطفية تتكيف مع سطلة جماعته الأولى، ومن ثم فإن معتقداته وبصائر لي(ص 74).

الكاتب: لابد لى ها هنا أن أشهد لهذا التحليل الرائع الذى يفتح بصائرنا تماما كاشفا لنا الفجوة والازدواجية.

مسلم: ولكن أيا كانت ضخامة وبريق الألفاظ التى تستخدمها، والتى لم أعرفها فى ثقافتى، فأنا من أصحاب الثفافة القرآنية – وإذ ينقطع الحبل السرى – عندنا – إنما ينقطع لتبدأ صلة جديدة بالمجتمع الإنسانى كله، وبالبشرية جمعاء منذ بدء الخلق وحتى يوم المعاد، وبالكون كله .. وبالرحمن.

محاور: هأنتذا تعود لتعصبك.

فروم: أنى- كمحلل نفسى فى وضع يسمح لى بدراسة الانسان عبر الدين، وعبر نسق الرموز اللادينية، فالمسألة ليست هى عودة الانسان الى الدين والايمان بالله، بل أن يحيا فى الحب ويفكر فى الحقيقة، فاذا كان يفعل ذلك كان نسق الرموز التى يستخدمها ذا أهمية ثانوية، واذا لم يفعل ذلك لم يكن ذا أهمية على الاطلاق.

مسلم: هو ذا زيت الشجرة المباركة يكاد يضئ ولو لم تمسسه نار، ورغم بريق العبارة وشدة توهجها لدى القلب الصافى فانها لابد أن تضع الشاب المسلم الذى يذكر قوله تعالى” أن الدين عن الله الأسلام” أمام مفارقة شديدة، بين تأييده لأصابة الفكرة للصميم، وتنزيه كلامه سبحانه وتعالى والتعارض الشديد بينهما(آل عمران 19) ولعل هذه النقطة هى الفارق المحورى لنا مع فروم.

جـوته: من حماقة الانسان فى ديناه

أن يتعصب كل منا لما يراه، وأذا الاسلام كان معناه أن لله التسليم فأننا أجمعين نحيا ونموت مسلمين.( النور والفراشة))(2))

فرويد: أن هدف التطور الانسانى هو تحقيق هذه المثل العليا” المعرفة “(العقل. الحقيقة. اللوجوس) والحب الأخوى وتخفيف الآلام والاستقلال والمسئولية، أن هذه المثل العليا تؤلف اللباب الأخلاقى للأديان العظمى كلها(ص22).

فروم: أن الواقع الانسانى الذى يمكن وراء تعاليم بوذا أوعيسى أو المسيح أو سقراط أو سبينوزا هو فى جوهرة واحد بعينه، اذ يحدده التطلع الى الحب والحق والعدل.

الكاتب: الى الله.

اقبال: من حيث هو سعى المرء سعيا مقصودا للوصول الى الغاية النهائية للقيم(اقبال: تجديد التفكير الدينى217).

فروم: أن الحاجة الى مذهب مشترك للتوجيه والى موضوع للعبادة، هذه الحاجة تضرب بجذورها عميقا فى أحوال الوجود الانسانى، ولأنها جزء جوهرى من الوجود الانسانى فلا وجود لمصدر الطاقة للانسان أقوى من هذا المصدر،فليس الانسان حرا فلا اختيار أن تكون له ” مثل أعلى” أو لا تكون، ولكنه حر فى الاختيار بين ضروب المثل الأعلى المختلفة، بين أن يكرس نفسه لعبادة القوة أو العقل والحب.

الكاتب: وهذا هو الفرق بين انسان.. وانسان.

فروم: لو أن شخصا لم ينجح فى ادماج طاقاته فى اتجاه ذاته العليا فأنه يسيرها فى اتجاه الأهداف الأدنى، فاذا لن تكن لديه صورة عن العالم تكون قريبة من الحقيقة فانه سوف يخلق صورة وهمية يتشبث بها بنفس الاصرار الذى يؤمن به رجل الدين بمعتقداته.

الكاتب: أراك قد أصبت صميم القضية.

فروم: أن المسألة ليست دينا أو لا دين بل أى نوع من الدين، هل هو النوع الذى يساعد على تطور الانسان وعلى الكشف عن قواه الانسانية الخاصة به كانسان، أم هو من النوع الذى يصيب هذه القوى بالشلل.

الكاتب: هذا معيار فطرة انسانية سليمة وعقل سوى مستقيم، ولكن بالنظر الى تطبيقه نجد أن الحكم على مساعدته لتطور الانسان، وعلى الكشف عن قواه الخاصة به كانسان، أمر مرهون تماما بحكم التاريخ- الذى لم ينجل حكمه بعد- وبغاية التطور وأهدافه النهائية، وبالتالى بالوعى بالطبيعة الانسانية.

فروم: عاجزون عن اشباع شوق أطفالنا الى السعادة والحقيقة والعدالة والحب، والى موضوع للعبادة، بل أننا لا نعرف الاجابة لأننا نسينا حتى أن نسأل السؤال.

مسلم: أرى الكلمة الأخيرة- هنا- هى للأمام أبو على المودودى ثم لامامنا ابن القيم.

المودودى: قبل التصدى للرد أرى أن نبين العلاقة الوثيقة مع تصور الحياة فان اعتقدنا الدنيا مرعى لأنفسنا والحياة فرصة للأكل والشرب والتمتع بلذات الدنيا ومشتهياتها ومباهجها فهذا يلقى فى أذهاننا غاية حيوانية بحتة، وأن اعتقدنا أنفسنا عصاه جناه بالفطرة والنجاه هى غايتنا فاننا نعيش نكفر عن سواتنا، لكن اذا اعتقدنا الدينا أرفع من دار متعة وعذاب وأن منزلتنا الانسانية ارقى وارفع من منزلة الحيوانات والجناة معا للأبد وأن نجد أنفسنا طامحين بأبصارنا الى غاية اسمى من طلب اللذات الحسية والنجاة معا ولا نقنع أبدا بغاية من الغايات الدينية.

(الايمان بالله: أبوالأعلى 60)

ابن قيم الجوزية: قال تعالى ذكره بسم الله الرحمن الرحيم “الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح. المصباح فى زجاجة. الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غريبة يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار، نور على نور،يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شئ عليم” أى مثل نوره فى قلب المسلم، هذا هو النور الذى أودعه الله فى قلب عبده من معرفته ومحبته والايمان به وذكره وهو نوره الذى أنزل اليهم فأحياهم به وجعلهم يمشون به بين الناس واصله فى قلوبهم ثم تقوى مادته فتتزايد حتى تظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم وضرب الله مثلا لهذا النور وحامله ومحله ومادته بالمشكاة فهى مثل الصدر وفى تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج حتى شبهت بالكوكب الدرى فى بياضه وصفائه وهى مثل القلب وشبه الزجاجة لأنها جمعت أوصافا هى فى قلب المؤمن، وهى الصفاء والرقة والصلابة. ومادة نور الصباح الذى فى قلب المؤمن هو من شجرة الوحى التى هى أعظم الأشياء بركة وأبعدها عن الانحراف، بل هى أوسط الأمور واعدلها وأفضلها، لم تنحرف انحراف النصرانية ولا انحراف اليهودية بل هى وسط بين الطرفين المذمومين فى كل شئ. ولما كان ذلك الزيت قد اشتد صفاءه حتى كاد أن يضئ بنفسه ثم خالط النار فاشتدت به اضاءته وقويت مادة ضوء النارية فيه كان ذلك نورا على نور. وهكذا المؤمن له من نفسه فجاءت مادة الوحى فباشرت قلبه وخالطت بشاشته فازداد نورا بالوحى على نوره الذى فطره الله تعالى عليه فاجتمع له نور الوحى الى نور الفطرة نور على نور.

( التفسير القيم 373)

مسلم: ألا ما أصدق هذا الكلام، عليك السلام يا امامنا العظيم.

ابن القيم: فى القلب فاقة عظيمة وضرورة تابة ةحاجة شديدة لا يسدها الا فوزه بحصول الغنى الحميد الذى أن حصل للعبد حصل له كل شئ وأن فاته كل شئ. (طريق الهجرتين32) فاعلم أن حاجة العبد الى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا فى محبته ولا فى خوفه ولا فى رجائه ولا فى التوكل عليه ولا فى العمل ولا فى الحلف به ولا فى النذر له، ولا فى الخضوع له ولا فى التذلل والتعظيم والسجود والتقرب، أعظم من حاجة الجسد الى روحه والعين الى نورها. بل ليس لهذه الحاجة نظير فيقاس به فان حقيقة العبد روحه وقلبه ولا صلاح لها الا بالهها الذى لااله الا هو فلا تطمئن فى الدينا الا بذكره وهى كادحة اليه كدحا فملاقيته، ولابد لها من لقائه.

طريق الهجرتين (ص 55)

      اغاثة اللهفان (ص 31)

بسم الله الرحمن الرحيم

” قل أن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ”  (الأنعام 62،63)                           (صدق الله العظيم)

المراجـــــــع

ابن القيم- التفسير القيم – دار الكتب العلمية 1978 – ص  373

 طريق الهجرتين – المطبعة السلفية –1400هـ – ص32، 55

اغاثة اللهفان – السنة المحمدية – ص 31

أبو على الأعلى المودودى – أسس الحضارة الاسلامية الايمان بالله  وملائكنه وكتبه ورسله واليوم الآخر- دار الخلافة- ص 60

د. أحمد معوض- محمد اقبال- حياته وآثاره- ص 350 – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1980

اريك فروم- الدين والتحليل النفسى- ترجمة فؤاد كامل – مكتبة غريب 1977

محاورات أفلاطون – عربها زكى نجيب محمود – لجنة التأليف والترجمة والنشر 1966

د. زكى نجيب محمود- ثقافتنا فى مواجهة العصر- ص49 –  دار الشروق 1976

د.زكى نجيب محمود- أرض الأحلام – كتاب الهلال مايو 77( العدد 317)

د. عبد الغفار مكاوى- النور والفراشة- ص 50

(الأبيات ترجمة عبد الرحمن صدقى من كتاب الأمثال) سلسلة اقرأ 443 فبراير1979

الغزالى – احياء علوم الدين – كتاب الشعب

د.فؤاد زكريا – اسبينوزا  – دار التنوير 1981

[1] – اريك فروم، ” الدين والتحليل النفسى”، وترجمة فؤاد كامل، مكتبة غريب 1977.

[2] – جوته، بترجمة الاستاذ عبد الرحمن صدقى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *