الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يناير 1982 / يناير 1982- الإنسان والمنهج

يناير 1982- الإنسان والمنهج

مجلة الإنسان والتطور

عدد يناير 1982

الإنسان والمنهج

أسامة عبد الحكيم زكى

يتناول هذا المقال – من جديد – موضوع المنهج، وهو يفند كالعادة منهج التأمل الاستبطانى، والقياس السلوكى، ويؤكد على ضرورة التلاؤم بين المنهج وموضوعه، ويتركنا أمام لغز أبى الهول واعدا أن يكمل الحديث فيما بعد.

ونحن نرحب بالبداية – رغم ما بها من أعادة لما سبق تناوله على صفحات هذه المجلة – منتظرين ما وعدنا به من بقية الحديث لعل فيه اضافة أو نافذة تطل على جانب مغفل، راجين أن يعود – أن أمكن – لما سبق نشره فى هذه المجلة (1) على الأقل حتى تكون أضافته تكملة أو نقدا أو بداية حوار من زاوية أخرى.

أن علاقة الانسان بالمنهج علاقة جدلية ومتشعبة، وتأخذ هذه العلاقة صورا مختلفة باختلاف الموقف الذى يربط بين الانسان كطرف والمنهج كطرف ثان: فقد يكون الموقف فيه الانسان يبحث عن منهج ليطبقه على موضوعات بخارجه، يريد للمنهج أن يساعده على التعامل معها وفك علامات الاستفهام فيها، وقد يكون الموقف فيه الانسان يبحث عن منهج ليطبقه على ذاته، يسبر به غور نفسه ويكشف به عن مكنون ذاته.

وفى رحلة بحث الانسان عن منهج لم تبدأ المعضلات الا عندما انصرف الانسان للبحث عن منهج ليطبقه على ذاته، فها هنا تزداد الحساسية ويتوجب الحذر وتتعدد المتغيرات. ولكى تتضح هذه المحاذير كلها لنبدأ أولا من نقطة تحديد معنى المنهج :

فالمنهج – لغة – هو النهج أو السبيل الذى يصل بسالكه الى هدف يتمثل فى الكشف عن حقيقة أو اجلاء غموض وابراز ما هو كامن خفى. وطالما أن المنهج نهج سبيل أو طريق يسلكه العقل وتنتظم وفقا له الاجراءات فان شكله العام – بكل ما يحويه من ثنايا ومنعطفات – يكون ملزما فى المجال التطبيق بمعنى أن الأخذ بمنهج من المناهج فى البحث هو أخذ يسلم موضوع الدراسة لضرورة الخضوع لهذا المنهج، ومن هنا مست الحاجة – بادئ ذى بدء – لتحقيق عامل المواءمة أو التوافق بين المنهج من جهة وبين موضوعه من جهة أخرى، اذ عليك أن تتصور فداحة الغبن الذى يمكن أن يلحق بالمنهج والموضوع معا اذا لم يتحقق بين الطرفين عامل التوافق أو المواءمة: فالمنهج يفشل والموضوع لا تنجلى غوامضه.

فاذا كان عامل تحقيق الموءامة والتوافق بين المنهج وموضوعه هام بشكل عام فى مجال معرفة الأشياء بعامة، فان هذه الأهمية تزداد وتكتسب بعدا ميتافيزيقا تعمق به وتضخم اذا ما كان موضوع المنهج هو الانسان أو  الظاهرة الانسانية، ذلك لأن الحكم بالفشل على منهج لم نحقق له عامل التوافق بينه وبين الظاهرة الانسانية المدروسة سينجم عنه موجة من الشك فى امكانية المعرفة، وموجة من اليأس فى أن يمد الانسان جسور المعرفة ليكشف بها عن ذاته وهى الأقرب اليه من الطبيعة التى تحيط به من الخارج، فيضيق الانسان من الغموض الذى يحيط بذاته فيغلقها حتى دونه على نحو يتحداه، فيحده ويقلص فيه امل المعرفة عموما قياسا على المبدأ السقراطى الذى أوجب معرفة الذات أولا وقبل الطبيعة وجعل النجاح فى هذا الصدد تصريحا يجوز معه دراسة الطبيعة من بعد، وذلك استنادا الى أن الفشل فى معرفة الأقرب يعنى استحالة معرفة الأبعد، وأن الاخفاق فى سبر غور الداخل انما يعنى ضرورة تثبيط الهمة بشان ما هو خارج .

من هنا كانت مشكلة البحث عن منهج يتواءم مع الموضوع الانسانى مشكلة استلفتت حساسيتها أنظار المفكرين فراحوا يبحثون للانسان عن نهج اذا ما سار عليه أوصله الى ذاته والى اجابات تقنع العقل بحقيقتها فى مجال الظواهر الانسانية .

فكان التأمل والاستنباط – أو قل التأمل الاستبطانى – أول نهج سار فيه الانسان عساه أن يقوده الى فض مغاليق ذاته وما يصدر عن هذه الذات من ظواهر انسانية غير أن العقبة التى صدت منهج التأمل فى وجه مستعمله البشرى أنه منهج ينطوى على مفارقة تتمثل فى القول بأنه اذا كنت ترغب فى أن تعرف ذاتك فعليك الا تكون ذاتك، كيف ذلك؟….. الاجابة هى: أنه بموجب منهج التأمل ومنطقه فان على الانسان أن يحيل ذاته الى (موضوع) يعامله وكأنه منفصل عنه وكأنه يراقبه من على مسافة، صحيح أن هذه المسافة ليست مسافة فى المكان بل هى مسافة فى الشعور – أو مسافة نفسية كما يقول كاندانسكى – الا أن بعدك عن ذاتك ووضعها فى موضع (الموضوع المستقل عنك) كل هذا لا يتحقق الا اذا تحققت المفارقة القائلة بأن عليك الا تكون ذاتك اذا رغبت فى معرفة ذاتك .

فلما جاءت المدرسة السلوكية ارادت أن تحتال على الوضع السابق بحيلة تحقق من ورائها انجازين :

الأول: أن تخرج الذات الى الخارج وتتحقق على نحو يمكن معه للانسان أن يرى ذاته وقد استقلت عنه وأصبحت موضوعا خارجيا قابلا للرصد والتسجيل.

الثانى: أن تتحول الذات وهى متحققة فى الخارج الى موضوع يمكن تحجيمه وقياسه أو (تكميته) فتخرج دراسة الذات من نطاق الدراسات الكيفية الى نطاق  الدراسات الكمية، فتتحول المعرفة بها –   أى بالذات – الى (علم) بعد أن كانت فى التامل مجرد (احساس).

ولكن…. كيف همت المدرسة السلوكية أن تضرب هذين العصفورين السابقين بحجر واحد؟ وما طبيعة هذا الحجر الواحد الذى ضرب به العصفوران؟….. انه (السلوك الظاهر)؛ فالمدرسة السلوكية رأت أن التعبيرات الخارجية من انفعالات وحركات ونظرات وأقوال…. هى كلها ما يساوى حاصل جمعه الذات وقد تحققت فى الخارج وخضعت بتحققها هذا للقياس والتكمية .

فكأن المدرسة السلوكية أعطت للذات معادلة يتحدد بها معناها وفهمها وهى أن ذاتك تساوى ما يصدر عنك من سلوك ظاهر….. فهل هذه المعادلة عنوان على الحق وعلامة دالة عليه؟…… تكون هذه المعادلة صادقة بمقدار صدق الانسان مع نفسه وادراكه الواعى والارادى لكل ما يصدر عنه من سلوك ظاهر، وهذا يعنى أنه بمقدار ما يتسق فيه الانسان باطنه مع ظاهرة بمقدار ما يصدق القول بأن سلوك الظاهر يساوى الذات الباطنة، غير أن الانسان الذى يتسق فيه الظاهر مع الباطن هو الانسان الذى قد عرف نفسه تماما وعرف كيف يعبر عن نفسه تلك ذلك التعبير الذى يجئ متطابقا مع واقع ما يعبر عنه وذلك قبل أن ينتهج من المدرسة السلوكية مذهبا وطريقا موصلة الى الذات، فكأننا هنا بصدد منهج يفترض فيك انك عارف بنفسك على نحو يجعل من السلوك الظاهر – وهوتعبيرك الخارجى عن ذاتك الباطنة – صورة دقيقة التعبير عن نفسك، وذلك كله يحدث ويتحقق قبل الأخذ بمنهج، وها هنا مفارقة أخرى تخص هذا المنهج تتمثل فى القول بأنك تعرف نفسك قبل أن تشرع فى معرفتها .

وقد يعترض معترض بأن كاتب هذه السطور يضع العربة قبل الحصان حين يفترض أن المرء يعرف ذاته أولا ليعبر عنها سلوكيا من بعد ذلك على حين أنه يمكن القول بأن المرء يسلك أولا ليدرس الدارسون سلوكه ويقيسونه له  ثم يعلموه من بعد ما ذاته التى كان هذا السلوك – فى رأيهم – مؤشرا دالا عليها ….. غير أن هذا الاعتراض يفتح على المدرسة السلوكية وعلى منهجها فى تناول الذات الانسانية أبواب نقد عديدة تتمثل فيما يلى:

1- أن السلوك ليس الا افراز تفرزه الذات بعد تفاعلات داخلية شتى بحيث لا يصح – فى مجال النسبة والتناسب – أن تجعل افرازات الشئ مساوية للشئ نفسه، ومن هنا فان السلوكين يقيسون افرازات الذات الظاهرة، ثم يغفلون عن الذات نفسها ثم يجعلون هذه الافرازات  هى كل الذات .

2- ثم ان النفاذ الى الذات الباطنة عن طريق السلوك الظاهر دونه أمران :

الأول: هو ميل الذات فى مواقف عدة الى أن تنافق أو تخادع فتبدى من ظاهر السلوك ما لا يكشف عن طوايا الذات، ومن هنا جاز أن نقول أن الكشف عن الذات من السلوك الظاهر لا يؤخذ به مع منافق، وهذا شرط أخلاقى لتبرير تطبيق المنهج ….. ومن منا لا ينافق فى سلوكه ولو بدافع المجاملة.

الثانى: هو ميل الذات الى التخفى حين تشعر بأنها موضوع للمراقبة والتسجيل، وأن شئت قسرها على عدم التخفى ارتكبت أنت كباحث جرما أخلاقيا وهو أن  تتجسس بغير علم، وهكذا فان النفاذ الى الذات عبر السلوك دونه عقبتان أخلاقيتان: تجسس الباحث أو نفاق المبحوث.

وحاول أنصار المنهج التجريبى أن يكسروا حاجز النفاق وينفوا شبهة التجسس بأن يخضعوا المفحوص لفحوص اكلينيكية واختبارات معملية لا يقوى معها على أن يزور فى السلوك ثم تكون العلاقة معلنة ومكشوفة فتنتفى شبهة التجسس، وهنا يعامل الانسان بوصفه (طبيعة) تخضع للمنهج العلمى بركيزتيه فى الملاحظة والتجريب .

ولكن…… هل من فائدة ترجى وراء دراسة الانسان بوصفه (طبيعة) مع اغفال وصفه كـ (روح)؟…. اننا هنا نرضى بمعرفة الشكل دون مضمون. هذه واحدة، وأمر آخر يتمثل فى أن تمام المنهج العلمى انما يكمن فى القدرة على الانتهاء بالدارسة الى (قانون) يفسر ويتنبأ، أما من حيث التفسير فيعيبه هنا أنه تفسير للشكل دون المضمون ، وأما من حيث التنبئو فهو تعسف يغفل فى الكائن البشرى عامل (الحرية) التى من شأنها كسر كل تنبئو بمستقبل لم يتحقق بعد، ودراسة اميل دوركايم التجريبية لظاهرة الانتحار فى أوائل القرن الحالى وما أنتهت اليه من فشل شاهد كاف على ما نقول .

أضف الى ذلك كله أن التعبيرات الرياضية التى يعتمدها علماء النفس والاجتماع ليحيلوا بها الظاهرة الانسانية الى (كم) و(مقدار) و(وزن) و(عدد) انما هى تعبيرات تفقد معها الظاهرة الانسانية ديناميتها وحراكها لتستجيل الى (رمز) أجوف أو (دالة قضية) فيها ركن شاغر غاب معه (الانسانى) من الانسان.

ووقعت الدراسات الانسانية فى (أزمة المنهج) وخاف (الوعى) من (ذاته) التى استعصت على كل المناهج، وشعر الانسان بأنه لغز على نفسه وأنه تحدى (بذاته) لقواه المعرفية ….. ولا زالت علامات الاستفهام الحية تسير على قدمين، وكأن لغز أبى الهول الذى حله أوديب فى مسرحية سوفوكليس (أوديب ملكا) – كأن حل اللغز كان بداية الاشكال لا نهايته.

هذا وللحديث بقية.

[1] – عدد أكتوبر 1980 وعدد يوليو 1980 الفينومينولوجيا والبحث فى الإنسان، د. مجدى عرفة.

عدد أكتوبر 1980 الباحث أداة البحث وحقله، د. يحيى الرخاوى

عدد ابريل 1981 حول نظرية المعرفة والبحث العملى، د. محمد السماحى

عدد يوليو 1981 مخاطر الرؤية ومهارب المواجهة، وفاء خليل

عدد أكتوبر 1981 المعرفة والمنهج فى العلم الحديث … جان بياجيه (تلخيص د. هناء سليمان)

هذا فضلا عما جاء حول هذا الموضوع فى أكثر من موقع فى باب الحوار الممتد منذ صدور هذه المجلة وحتى هذا العدد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *