الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1981 / يوليو1981- المأزق والتحدى

يوليو1981- المأزق والتحدى

المآزق‏ …‏والتحدى

 ‏نظرة‏ ‏فى ‏النفس‏ ‏والزمن‏ ‏والتطور

‏ ‏إبراهيم‏ ‏عادل‏ ‏حسن

بعد‏ ‏أن‏ ‏ألقى ‏كاتب‏ ‏هذا‏ ‏المقال‏ ‏-‏ ‏من‏ ‏موقع‏ ‏غير‏ ‏متخصص‏ ‏-‏ ‏القفاز‏ ‏فى ‏وجوهنا‏ ‏فى ‏عدد‏ ‏أكتوبر‏ 1980 ‏فوضعنا‏ ‏أمام‏ ‏تحديات‏ ‏الكلمة‏ ‏ومشاكل‏ ‏الواقع‏ ‏وفضائل‏ ‏الصمت‏ ‏فى ‏آن‏ ‏واحد‏, ‏عاد‏ ‏يشارك‏ ‏طرفا‏ ‏واعيا‏ ‏فى ‏معركة‏ ‏التطور‏, ‏فيلقى ‏هذه‏ ‏المرة‏ ‏فى ‏بؤرة‏ ‏وعينا‏ ‏تحديات‏ ‏وجودنا‏ ‏جميعا‏ ‏وكأنها‏ ‏مسئولية‏ ‏الفرد‏ ‏العادى ‏فى ‏سعيه‏ ‏الى ‏اللقمة‏ ‏والمسكن‏ ‏دون‏ ‏تأجيل‏, ‏وهو‏ ‏يهددنا‏ ‏بالفناء‏ ‏النووى ‏ثم‏ ‏يفتح‏ ‏أبواب‏ ‏الأمل‏ ‏-‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏ننتحر‏ ‏كفرا‏ ‏وغباء‏ ‏- ‏أن‏ ‏نكون‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏موقع‏ ‏صدق‏ ‏شخصى ‏وترجمة‏ ‏وعى ‏مسئول‏ ‏أكثر‏ ‏منه‏ ‏من‏ ‏موقع‏ ‏استرجاع‏ ‏تراث‏ ‏واستدلال‏ ‏علمى ‏جاف‏.‏

أنا‏ ‏الانسان‏ ‏الموجود‏ ‏الآن‏, ‏أشعر‏ ‏بنفسى ‏فى ‏حالة‏ ‏حضور‏ ‏مستمر‏, ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏أنى ‏أقسم‏ ‏الزمن‏ ‏الى ‏الماضى ‏والحاضر و المستقبل فأنا الآن فى الحاضر‏, ‏وبعد‏ ‏لحظة‏ ‏سيصبح‏ ‏الحاضر‏ ‏ماضيا‏ ‏ويصبح‏ ‏المستقبل‏ ‏حاضرا‏, ‏الا‏ ‏أننى ‏أشعر‏ ‏أن‏ ‏فى ‏الأمر‏ ‏خدعة‏ ‏ما‏, ‏وأن‏ ‏هذه‏ ‏الخدعة‏ ‏أنما‏ ‏فرضتها‏ ‏ضرورة‏ ‏التعبير‏ ‏وقصور‏ ‏اللغة‏ ‏عن‏ ‏تجسيم‏ ‏الواقع‏ ‏الحقيقي‏, ‏ففكرة‏ ‏أن‏ ‏الماضى ‏قد‏ ‏ذهب‏ ‏وانقضى ‏وبالتالى ‏فهو‏ ‏غير‏ ‏موجود‏, ‏وأن‏ ‏المستقبل‏ ‏لم‏ ‏يأت‏ ‏بعد‏ ‏ولذلك‏ ‏فهو‏ ‏غير‏ ‏موجود‏ ‏أيضا‏, ‏تحصر‏ ‏الوجود‏ ‏فى ‏نفطة‏ ‏واحدة‏ ‏النقطة‏ = ‏صفر‏, ‏وهذه‏ ‏النقطة‏ ‏لا‏ ‏معنى ‏لها‏ ‏على ‏الاطلاق‏ ‏أن‏ ‏لم‏ ‏ترتبط‏ ‏بما‏ ‏سبقها‏ ‏وما‏ ‏يتلوها‏, ‏فنحن‏ ‏حين‏ ‏نستمع‏ ‏الى ‏مقطوعة‏ ‏موسيقية‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏للنغمة‏ ‏الواحدة‏ ‏أى ‏معنى ‏مستقلة‏ ‏عن‏ ‏المقطوعة‏ ‏الموسيقية‏, ‏والواقع‏ ‏أن‏ ‏المقطوعة‏ ‏بأكملها‏ ‏هى ‏التى ‏لها‏ ‏معني‏, ‏وهى ‏التى ‏توجد‏ ‏فى ‏داخلنا‏ ‏حين‏ ‏نستمع‏ ‏الى ‏التغمة‏, ‏فأنا‏ ‏تلك‏ ‏النغمة‏ ‏التى ‏تكون‏ ‏مع‏ ‏غيرها‏ ‏من‏ ‏النغمات‏ ‏موسيقى ‏الوجود‏, ‏والتى ‏تحمل‏ ‏داخلها‏ ‏معنى ‏الموسيقى ‏بالكامل‏, ‏والتى ‏لن‏ ‏تكون‏ ‏ثمة‏ ‏موسيقى ‏بدونها‏, ‏لست‏ ‏واثقا‏ ‏أنى ‏أحسنت‏ ‏التعبير‏ ‏عما‏ ‏آريد‏ ‏ولكنى ‏أكاد‏ ‏أؤكد‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏أردت‏ ‏التعبير‏ ‏عنه‏ ‏موجود‏ ‏داخل‏ ‏كل‏ ‏منا‏ ‏حتى ‏ولو‏ ‏لم‏ ‏نشعر‏ ‏به‏, ‏وأكاد‏ ‏أجزم‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الأمر‏ ‏حقيقة‏, ‏وبالرغم‏ ‏من‏ ‏أنى ‏لا‏ ‏أملك‏ ‏برهانا‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الحقيقة‏ ‏الا‏ ‏أنى ‏أعلم‏ ‏أنه‏ ‏لو‏ ‏وجد‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏البرهان‏ ‏لكان‏ ‏برهانا‏ ‏متعسفا‏, ‏أذ‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الحقيقة‏ ‏تسبق‏ ‏جميع‏ ‏البراهين‏, ‏بل‏ ‏أنها‏ ‏تكاد‏ ‏تكون‏ ‏أهم‏ ‏حقيقة‏ ‏على ‏الاطلاق‏, ‏فهى ‏التى ‏تجعلنى ‏أرى ‏أننى ‏لست‏ ‏فقط‏ ‏جزءا‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الكون‏ ‏ولكننى ‏أيضا‏ ‏وجه‏ ‏من‏ ‏وجوهه‏, ‏وهى ‏التى ‏تجعل‏ ‏لى ‏موضعا‏ ‏فى ‏الأيدية‏ ‏حيث‏ ‏لا‏ ‏زمان‏ ‏ولا‏ ‏مكان‏, ‏بل‏ ‏هى ‏التى ‏تجعل‏ ‏وجودى ‏واجبا‏ ‏حتى ‏يكون‏ ‏ثمة‏ ‏وجود‏.‏

أنا‏ ‏الانسان‏ ‏الموجود‏ ‏الآن‏ ‏والطفل‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏والانسان‏ ‏الذى ‏سيكون‏, ‏وأنا‏ ‏أيضا‏ ‏ذلك‏ ‏الانسان‏ ‏البدائى ‏الذى ‏عاش‏ ‏العصر‏ ‏الحجرى ‏منذ‏ ‏عشرة‏ ‏آلاف‏ ‏عام‏ ‏كما‏ ‏أنى ‏انسان‏ ‏المستقبل‏ ‏الذى ‏سيكون‏ ‏بعد‏ ‏عشرة‏  ‏آلاف‏ ‏عام‏, ‏وأنا‏ ‏ذلك‏ ‏القرد‏ ‏البشرى ‏الذى ‏انحدر‏ ‏منه‏ ‏الانسان‏ ‏منذ‏ ‏نصف‏ ‏مليون‏ ‏عام‏, كما أنى ذلك الإنسان الأعلى الذى سيكون بعد نصف مليون عام، ‏بل‏ ‏إلى ‏تلك‏ ‏المادة‏ ‏الأولية‏ ‏التى ‏كانت‏ ‏منذ‏ ‏الأزل‏ ‏والتى ‏نشأت‏ ‏عنها‏ ‏الحياة‏ ‏وكذلك‏ ‏أنا‏ ‏ذلك‏ ‏الذى ‏يتجه‏ ‏الى ‏الله‏ ‏ساعيا‏… ‏ليلاقيه‏.‏

فى ‏البدء‏ ‏كان‏ ‏النسيج‏ ‏الذى ‏تكونت‏ ‏منه‏ ‏جميع‏ ‏العناصر‏, ‏ولكن‏ ‏متى ‏كان‏ ‏البدء‏..‏؟‏ ‏وما‏ ‏هذا‏ ‏النسيج‏..‏؟‏ ‏كهارب‏ ‏موجبة‏ ‏وأخرى ‏سالبة‏..‏؟‏ ‏هل‏ ‏لها‏ ‏كتلة‏.‏؟‏ ‏هل‏ ‏لها‏ ‏حجم‏.‏؟‏ ‏هل‏ ‏لها‏ ‏سرعة‏. ‏؟‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الأسئلة‏ ‏تحمل‏ ‏بما‏ ‏فيها‏ ‏من‏ ‏آيجاب‏ ‏وسلب‏ ‏وحجم‏ ‏وسرعة‏ ‏طابع‏ ‏الزمان‏ ‏والمكان‏, ‏ولكن‏ ‏البدء‏ ‏موجود‏ ‏وهو‏ ‏الذى ‏يكون‏ ‏مع‏ ‏الحاضر‏ ‏والمستقبل‏ ‏الوجود‏ ‏واستمراره‏, ‏أما‏ ‏النسيج‏ ‏فهو‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏الكون‏ ‏جمعيا‏ ‏ونحن‏ ‏فيه‏, ‏وهو‏ ‏يتضمن‏ ‏ما‏ ‏لانهاية‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏احتمالات‏ ‏التنوع‏ ‏والاختلاف‏, ‏والتطور‏ ‏هو‏ ‏القانون‏ ‏الذى ‏يتم‏ ‏بمقتضاه‏ ‏اختيار‏ ‏أفضل‏ ‏هذه‏ ‏الاحتمالات‏ ‏ليبقي‏, ‏وهو‏ ‏قانون‏ ‏باطن‏ ‏فى ‏الكون‏ ‏ويعمل‏ ‏فيه‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ ‏وقبل‏ ‏نشأة‏ ‏الحياة‏, ‏بل‏ ‏هو‏ ‏اقانون‏ ‏الذى ‏نشأت‏ ‏الحياة‏ ‏نفسها‏ ‏من‏ ‏عمله‏ ‏فى ‏نسيج‏ ‏هذا‏ ‏الكون‏, ‏والاختلاف‏ ‏هو‏ ‏أحد‏ ‏قطبى ‏عملية‏ ‏التطور‏ ‏والتشابه‏ ‏هو‏ ‏القطب‏ ‏الآخر‏, ‏والتطور‏ ‏هو‏ ‏عملية‏ ‏دائبة‏ ‏الحركة‏ ‏تحمل‏ ‏طابع‏ ‏الحوار‏ ‏بينهما‏, ‏فهو‏ ‏حوار‏ ‏بين‏ ‏مشابهتنا‏ ‏للأسلاف‏ ‏بما‏ ‏يحملوت‏ ‏من‏ ‏صفات‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏استمرار‏ ‏الحياة‏ ‏فى ‏البيئة‏ ‏وبين‏ ‏مغامرتنا‏ ‏بالاختلاف‏ ‏واكتساب‏ ‏صفات‏ ‏جديدة‏, ‏وهو‏ ‏حوار‏ ‏متصاعد‏ ‏بين‏ ‏الحياة‏ ‏المحدودة‏ ‏بما‏ ‏فيها‏ ‏من‏ ‏حركة‏, ‏وبين‏ ‏الموت‏ ‏اللانهائى ‏بما‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏عدم‏, ‏متصاعد‏ ‏نحو‏ ‏خلود‏ ‏حى ‏ولا‏ ‏نهائي‏, ‏مما‏ ‏يجعل‏ ‏التطور‏ ‏ضرورة‏ ‏حتمية‏ ‏باطنة‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ ‏فى ‏عمليتى ‏الحياة‏ ‏والموت‏ ‏المتناقضتين‏ ‏وبدونه‏ ‏لن‏ ‏يكون‏ ‏لأى ‏منهما‏ ‏أى ‏معني‏.‏

لا‏ ‏تعى ‏ذاكرتنا‏ ‏هذا‏ ‏البدء‏, ‏كما‏ ‏لا‏ ‏تعى ‏ملايين‏ ‏السنين‏ ‏التى ‏مضت‏ ‏منذ‏ ‏نشأة‏ ‏الحياة‏ ‏حتى ‏أصبحنا‏ ‏كما‏ ‏نحن‏ ‏الآن‏. ‏عبر‏ ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏كان‏ ‏البقاء‏ ‏للأصلح‏ ‏وكان‏ ‏من‏ ‏صفات‏ ‏الصلاحية‏: ‏القوة‏ ‏البدنية‏, ‏السرعة‏ ‏فى ‏العدو‏ ‏لاقتناص‏ ‏الأعداء‏ ‏أو‏ ‏للفرار‏ ‏منهم‏, ‏القدرة‏ ‏على ‏تحمل‏ ‏قسوة‏ ‏الطبيعة‏, ‏حدة‏ ‏الحواس‏. ‏وقد‏ ‏تملكنا‏ ‏قدرا‏ ‏متوسطا‏ ‏من‏ ‏بعض‏ ‏هذه‏ ‏الصفات‏ ‏وقدرا‏ ‏ضئيلا‏ ‏من‏ ‏البعض‏ ‏الآخر‏, وتفوق غيرنا علينا فى كثير منها،  ‏بل‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏بعض‏ ‏الأنواع‏ ‏تمتاز‏ ‏بقدرات‏ ‏لا‏ ‏نعلم‏ ‏عنها‏ ‏شيئا‏ ‏مثل‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏الاهتداء‏ ‏الى ‏الاماكن‏ ‏البعيدة‏, ‏والقدرة‏ ‏على ‏التنبؤ‏ ‏بالزلازل‏ ‏والبراكين‏, ‏ولا‏ ‏شك‏ ‏أننا‏ ‏بأجسامنا‏ ‏الناعمة‏ ‏العارية‏ ‏من‏ ‏الشعر‏ ‏وأبصارنا‏ ‏القصيرة‏ ‏وآذاننا‏ ‏الصغيرة‏ ‏وأنوفنا‏ ‏القاصرة‏ ‏نعتبر‏ ‏مخلوقات‏ ‏تدعو‏ ‏للرثاء‏ ‏لمن‏ ‏لا‏ ‏يعرفنا‏ ‏حق‏ ‏المعرفة‏, ‏ولكننا‏ ‏تفوقنا‏ ‏بالتدريج‏ ‏وعبر‏ ‏الملايين‏ ‏من‏ ‏السنين‏ ‏على ‏جميع‏ ‏ما‏ ‏عدانا‏ ‏من‏ ‏المخلوقات‏ ‏فى ‏صفة‏ ‏واحدة‏ ‏هى ‏الذكاء‏, ‏ومخنا‏ ‏الانسانى ‏وهو‏ ‏أداة‏ ‏هذا‏ ‏الذكاء‏ ‏جهاز‏ ‏شديد‏ ‏التعقيد‏ ‏هائل‏ ‏الامكانيات‏ ‏لدرجة‏ ‏يصعب‏ ‏تصورها‏, ‏لقد‏ ‏تمكنا‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏القرن‏ ‏من‏ ‏صناعة‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالعقول‏ ‏الإلكترونية‏, ‏وبالرغم‏ ‏من‏ ‏تعقيد‏ ‏تركيب‏ ‏هذه‏ ‏العقول‏ ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏تعتبر‏ ‏شيئا‏ ‏شديد‏ ‏السذاجة‏ ‏وأشبه‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏بلعب‏ ‏الأطفال‏ ‏بالنسبة‏ ‏لمخنا‏ ‏الانسانى ‏الذى ‏يولد‏ ‏معنا‏ ‏منه‏ ‏مئات‏ ‏الآلاف‏ ‏كل‏ ‏يوم‏, ‏وإذا‏ ‏كان‏  ‏هناك‏ ‏بالنسبة‏ ‏لى ‏أشياء‏ ‏تحتاج‏ ‏الى ‏وقفة‏ ‏عند‏ ‏تفسيرها‏ ‏بقوانين‏ ‏النشوء‏ ‏والارتقاء‏ ‏والانتخاب‏ ‏الطببعى ‏وحدها‏, ‏فأن‏ ‏تركيب‏ ‏وامكانيات‏ ‏المخ‏ ‏الانسانى ‏يقع‏ ‏على ‏رأس‏ ‏قائمة‏ ‏تلك‏ ‏الأشياء‏, ‏فمن‏ ‏وجهة‏ ‏النظر‏ ‏المورفولوجية‏ ‏لا‏ ‏يختلف‏ ‏مخنا‏ ‏الانسانى ‏اليوم‏ ‏عما‏ ‏كان‏ ‏عليه‏ ‏منذ‏ ‏عشرة‏ ‏الآف‏ ‏عام‏, ‏ومن‏ ‏الصعب‏ ‏على ‏أن‏ ‏أعتقد‏ ‏أننا‏ ‏كنا‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏الى ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الجهاز‏ ‏الهائل‏ ‏حتى ‏نتمكن‏ ‏من‏ ‏البقاء‏ ‏والمنافسة‏ ‏مع‏ ‏غيرنا‏ ‏من‏ ‏الأنواع‏, ‏وأن‏ ‏كنا‏ ‏فى ‏أشد‏ ‏الحاجة‏ ‏إليه‏ ‏حتى ‏نكون‏ ‏بشرا‏.‏

من المرجح أن فترات الدعة والاستقرار واعتدال المناخ وتوفر الغذاء فى تاريخنا الطويل ليست هى الفترات المسببة لنمو ذكائنا الى هذه الدرجة ومن المحتمل أن الحقب الثلجية المتتالية التى اجتاحت الأرض جارفة أمامها كل حياة وما يصاحبها من صعوبة المناخ وندرة الغذاء هى التى ساعدتنا، ففى مثل هذه الظروف التى يسقط فيها الضعفاء ولايبقى الا الأقوياء تظهر قيمة الذكاء كعنصر حاسم للبقاء،ومن المحتمل أن هذه الظروف القاسية هى التى ظهرت فيها قدرتنا على ابتكار أدوات الصيد وهى التى أدت الى ظهور التعاون والاتصال بين أفراد الأسرة، ولعل قدرتنا على النطق بالكلام قد نشأت فى هذه الظروف،ولا شك أن الأسر والجماعات التى كانت أقدر على التفاهم فيما بينها هى التى هيئت لها الفرص الأكبر للبقاء، ولكن كيف يمكن تفسير ذاكرتنا الهائلة وقدرتنا على التصور المجرد؟ ومخيلاتنا الواسعة التى يمكننا بها أن نتصور الأحداث دون أن تقع؟.

وقدرتنا على التخطيط البعيد للمستقبل؟ وهل كنا حقا فى حاجة اليها للفرار من أعدائنا أو اقتناص فرائسنا؟ أن بعض ما نتميز به كبشر على غيرنا من الأنواع هو قابليتنا لأن يقاتل بعضنا البعض، ولا أعلم أن هناك أنواعا أخرى غيرنا يمكن لجماعات فيها أن تقاتل جماعات أخرى وتبيدها على هذا المستوى الواسع مثلما نفعل نحن،ويبدو أن هذه الصفة قديمة  فينا قدم النوع الإنسانى نفسه، ومع كلب ما فى هذه الصفة من وحشية ظاهرة نحب أن نتبرأ منها الا أنه يبدو أنها ساعدتنا حتى نكون بشرا، فعندما يصطدم الذكاء بالذكاء فى القتال لا يبقى الا الأكثر ذكاء، ولا شك أن الذين امتازوا بالذاكرة الأقوى للاستفادة من الحروب الماضية، والذين تفوقوا فى سعد الخيال والقدرة على التصور والتخطيط للحروب هم الذين كتب لهم البقاء وهلك من دونهم فى ذلك، ولا شك أن التناحر على البقاء داخل النوع الواحد، وهى صفة تفوقنا فيها على من عدانا قد زادت من حدة الانتخاب داخل نوعنا الانسانى ومكننا من أن نصبح اكثر انسانية، ومع ذلك فكيف نفسر قدرتنا على الرمز للمعانى المجردة؟ ولماذا وجدت عواطفنا وتذوقنا للجمال، وأين دور قدراتنا الفنية الخلاقة؟ وماهو مكان ايماننا بالقيم وطاقاتنا الروحية الهائلة من هذا كله؟ وكيف ظهرت فى قواميس لغاتنا كلمات: الحق والحب والخير والجمال؟ أن هذه القيم هى التى جعلتنا بشرا فهل كنا فى حاجة اليها… أن الفارق بين النبى والسفاح هو هذه القيم، ولا شك أن مجتمعا يمتلك أفراده هذه القدرات العقلية الهائلة مع تلك الطباع العدوانية كان سائرا الى اهلاك بعضه البعض الآخر ما لم يحكمه قانون أخلاقى، ولاشك أن مصيرنا كان الانتحار كفرا ما لم نؤمن بهذه القيم “وأذ قال ربك للملائكة انى جاعل فى الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء.. قال أنى أعلم ما لا تعلمون”.

آل الينا ميراث هذا الكوكب بعد أن تمكنا من قلب ميزان الحياة عليه، وولى زمان الانتخاب الطبيعى بيننا وبين غيرنا منذ بضعة مئات من السنين، واليوم لا يكاد يحيا فوق هذه الأرض حيوان أو نبات الا ما نرغب نحن فى حياته، وماعدا ذلك فقد أبدناه او نحن فى طريقنا الى ابادته. فقد حلت النباتات المزروعة من السلالات التى انتقيناها محل النباتات الطبيعية، وتبقى بعض الغابات والمراعى المتناثرة،ابقينا عليها أما للاستفادة من أخشابها أو لتغذية حيواناتنا، ولكننا سنقضى عليها عندما يصبح القضاء عليها مناسبا لنا، وحلت الانسال المنتقاة من حيواناتنا محل الحيوانات البرية التى انقرضت، وابقينا على البعض منها للدراسة أو بدعوى حمايتها من الانقراض، والواقع أن نباتاتنا وحيواناتنا التى تنتشر فى الأرض اليوم لم تكن لها أى فرصة فى البقاء فى الظروف البرية، ولم تكن لتصمد أمام ظروف الانتخاب الطبيعى، واذا اعتبرنا ما نملكه من نبات وحيوان منتميا إلينا فأنه لا يبقى على هذه الأرض إلا نحن البشر، أما ما عدانا فقد انقرض أو هو فى حكم المنقرض، وباختصار لقد أصبحنا أصحاب هذه الأرض وخلفاء الله فيها، وعظمة هذه الحقيقة هى على قدر ثقلها.

عندما بدانا فى الوعى كبشر لم يكن ميزان الحياة فى يدنا، وكانت كمية المادة العضوية والأكسجين التى تنتجها الحياة النباتية تكفى احتياجات الحياة الحيوانية للغذاء والتنفس، وكانت كمية ثانى أكسيد الكربون الناتج من حرق الحياة الحيوانية للمادة العضوية لانتاج الطاقة اللازمة للحركة تعادل ما تستهلكه الحياة النباتية من ثانى أكسيد الكربون، أما الآن فقد أصبحنا مسئولين عن هذا الاتزان ضمن مسئولياتنا الأخرى، فنحن مسئولون أيضا عن ارتقاء درجة الحرارة الذى ينتج من المعدل المتزايد لاحراقنا للوقود، ونحن مسئولون كذلك عن كمية المياه النقية الموجودة فى الأرض اللازمة لاستمرار حياتنا وحياة نباتاتنا وحيواناتنا، كما أننا مسئولون ايضا عن مستوى الاشعاعات النووية ومسببات التلوث الأخرى التى قد تنهى كل حياة على هذه الأرض أن لم نأخذ ذلك فى حسابنا.

منذ زمن غير بعيد كان أغلب الطاقة التى نستخدمها هى طاقتنا وطاقات حيواناتنا العضلية،وعلى مدى قرن واحد أصبح أغلب طاقتنا مستمدا من البترول والباقى من الفحم أو الطاقة النووية علاوة على القدر القليل من مصادر الطاقة المتجددة، وقد اصبح معدل الاستهلاك المرتفع للطاقة من سماتنا المميزة، وبالرغم من ان المصدر الأول والوحيد للطاقة على هذا الكوكب هو الشمس، إلا أن معدل استهلاكنا للطاقة يفوق بكثير معدل ما نستخلصه من الشمس، ولذلك فنحن نستهلك البترول دون أن نفكر فى أننا نسنهلك مخزون الأرض لملايين السنين من هذه المادة ولقد بدأنا منذ قليل نفكر فى الاقتصاد فى استهلاكنا للبترول، ولكن سواء اقتصدنا أم لم نقتصد فان هذا الحلم البترولى القصير على وشك الانتهاء باسرع مما نتصور، وسواء أتت هذه النهاية بعد عشرات السنين أوبعد مئاتها فليس هناك فارق كبير، فهل سيقف تطورنا أو يبطئ من معدلة بنهاية البترول؟ أغلب ظنى أن عقولنا سوف تسعفنا فى الوقت المناسب بوسائل فعالة لاستخلاص الطاقة المتجددة من أمنا الشمس، وقد نستطيع قريبا أن نحاكى التمثبل الضوئى الذى يحدث فى النبات على مستوى صناعى واسع، ولكننى أظن أيضا أن معدل ما سوف نستطيع استخلاصه من الطاقة سوف يقل عما نستهلكه اليوم، ومن المؤكد أن نمط حياتنا سوف يتغير عما هو الآن، ودون أن أملك ما يكفى من البرهان فأنى أحب أن أعتقد أن هذا النمط سوف يتسم بنظافة أكثر وإيقاع أهدأ، وأن ذلك سوف يعطينا فرصا أكبر للتأمل والحكمة.

على مدى بضعة مئات من السنين تضاعفت أعدادنا عدة مرات، ويميل بعض علمائنا الى تشبيه وضعنا على هذه الأرض بوضع زوج من الأرانب أطلق فى حقل محدود من الأرض المزروعة، وكيف سينعم هذا الزوج وبضعة أجيال بعده بالغذاء الوفير، ولكن لن تمضى بضعة أجيال أخرى حتى تتزايد الأرانب بشكل سريع وتأتى على كل أخضر فى الحقل، ثم لا تلبث أن تهلك جميعها جوعا، ويزيد من حدة هذا التشبيه أن تاريخ الحياة على هذه الأرض لم يعرف قبل ذلك ان تهيأ لنوع ما غذاءه  دون وجود أى أعداء له تفترسه لبضعة أجيال متعاقبة، ويبدو أن ذلك بعض مشاكل أبطال مفعول الانتقاء الطبيعى، ونلاحظ هنا أن الشعوب المتقدمة علميا وماديا، قد توقفت تقريبا عن التكاثر ووقفت تنظر فى فزع الى ما يسمى بالشعوب النامية وهى تتكاثر بما يشبه الانفجار، والسؤال الآن الى أين نحن سائرون؟ هناك احتمال أن نزداد حكمة بنفس المعدل الذى نزداد به عددا فنستطيع أن نضبط أعدادنا بالقدر الذى تتحمله هذه الأرض وهناك احتمال آخر أن نستمر فى التكاثر بدون ضابط، ويزداد بالتالى فقراؤنا فقرا وجوعا، وتبقى منا قلة متميزة بالعلم والغنى، وقد يحدث العنف نتيجة لذلك وحينئذ لن ننقسم الى معسكر شرقى ومعسكر غربى، بل سننقسم الى أقلية متميزة وأكثرية جوعى، وقد تجد أقليتنا المتميزة الحل الحاسم فى أبادة الأقلية نوويا، وقد يخرج الأمر عن سيطرتنا فتصاب الأرض بما عليها من أقلية وأكثرية بالدمار، وقد يتم ضبط الجرعات النووية بحيث يبقى الأقوياء، ويزيد الأمر تعقيدا عندما نلاحظ أن بعضا من الأغلبية الفقيرة بدات فى امتلاك الأسلحة النووية ولن نلبث جميعا أن نملكها، وقد يكون ذلك أدعى للظن أن ميزانا نوويا سيقوم فلا يلجأ فريق الى اغراق السفينة بمن عليها، كما قد يكون أدعى للظن أن النهاية النووية آتية،وأغلب الظن أن بعضنا سوف ينجو من الموت أو التشويه بعد هذه النهاية،وقد نحمل معنا من عظة الكارثة ما يجعلنا أكثر حكمة،أما اذا لم يبق أحد منا فسوف تستمر الحياة بدوننا وقد تبدأ من جديد،وسوف يكون هذا وزرنا وعلينا تحمل نتائجه،أغلب الظن أنه لن يمضى وقت طويل حتى يحدث التوازن بين عددنا وبين امكانيات هذه الأرض فى أعاشتنا، وأن هذا التوزان لن يكون توازنا تلقائيا، بل أن مسئوليته تقع على عاتقنا، ولابد لاحداثه من وعينا وأرادتنا، كما لابد لنا جميعا من أن نشترك فى اقراره.  وتتضح هنا ضرورة أن يشملنا جميعا نحن سكان هذه الأرض نظام واحد ينسق بيننا، وقد يسبق استقرار هذا النظام مزيد من الاختلاط بين شعوبنا وأجناسنا ومزيد من التقارب بيننا فى اللغة والمعتقدات وأسلوب المعيشة، بل وفى الآمال والأحلام، وتتملكنى رغبة قوية فى الظن أن هذا النظام لن يكون نظاما يستأثر فيه فرد أو مجموعة من الأفراد بالقرار وتمحى فيه فرديتنا، فقد تعلمنا وسوف نتعلم أن مثل هذا النظام لن يدوم طويلا، وقد نبتكر نظاما يصبح لكل فرد منا فيه فرديته ودوره فى اتخاذ القرار، ولعله يكون نظاما متسقا مع طبيعتنا الانمسانية، ولعله يكون مستمدا من قيمنا وأدياننا.

علينا وحدنا تتوقف الاجابة على هذا السؤال: هل سننقرض ويذكر ظهورنا واختفاؤنا من على هذه الأرض كما يذكر مرض جلدى عابر ألم بقشرتها ثم برئت منه؟. أم سنبقى عليها ونستكمل خلافتنا فيها؟.

بعد العديد من السنين سوف يأتى زمن تتحد فيه الأسطورة مع الحقيقة مع الحلم، وعندئذ ستتسع قلوبنا لرعشة الفرح وألم البكاء معا، ويصبح واقعنا مزيجا متجانسا من العمل والرقص والتصوف .

وسوف نكتشف عوالم أخرى وشموسا أخرى…. وعندما تخبو شمسنا المضيئة وتتحول الى قزم بارد…. سنكون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *