الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الدستور المصرية / تخثُّر الوعى الوطنى (والثقافة)

تخثُّر الوعى الوطنى (والثقافة)

نشرت فى الدستور

  5-3-2008

تعتعة

تخثُّر الوعى الوطنى (والثقافة)

أما قبل: ما معنى كلمة يتخثر؟

 الأسهل أن نتذكر الكلمة العامية التى تستعملها الأم الفلاحة وهى تلوم ابنتها أنها لا تعرف كيف “تغلى اللبن”، إذا استعملت ناراً هادئة، أو طريقة خاطئة، حتى تجعل اللبن يقطّع، أو “يجبّن”. الذى رأى هذا المنظر يعرف أن اللبن السائل (خاصة إذا كان دسما. من ثدى الجاموسة مباشرة) المتماسك القوام، الحاضر النكهة، الملئ بالحنان والوعد، قد انقلب إلى قطع متعددة متناثرة لا تصلح لا للشرب، ولا لأى شئ آخر، الذى خبر ذلك يعرف معنى أن “اللبن جبّن”. أحيانا تكون هذه الفلاحة أكثر حدة وهى تقول لابنتها: “الله يخيبك” والله ما انت نافعة، شوفى اللبن قطّع منك ازاى؟

تذكرت هذه الظاهرة وأنا أبحث عن أى شبكية ضامة تجمع الناس، ناس هذا البلد الكريم، إلى بعضهم البعض، هذه الظاهرة هى التى دفعتنى لاستعمال هذه الكلمة، أكثر من استعارتها من الدم حين يتخثر (يتجلط).

 كان ينبغى أن أؤكد للقارئ ابتداءً هذا المعنى الذى استلهمته من العامية المصرية “جبّن، أو قطّع” لأن المعنى بالفصحى لكلمة خثر هو “تَخُن وغلظ”، صحيح أن الوعى القومى عندنا تخن وغلظ حتى البلادة، إلا من الفقاقيع التى تظهر على سطحه، والتى قد تدل على  فساده، ولكن الذى أعنيه أكثر هو أن الوعى القومى قد “جبّن، وقطَّع” والذى كان قد كان.

اللبن حين “يتقطع” لا يعود لبنا نافعا لأى شىء، والوعى إذا تخثر لا يعود وعياً قادرا على أى شىء.

كيف يتكون الوعى العام وكيف ينمو ويتطور؟

كنت دائما أكرر توصيفا للمثقف والثقافة، أحدّثه بين الحين والحين، حين اعتبر أن المثقف (من غير صفوة المجلس الأعلى للثقافة) هو الذى يمثل جُمّاع وعى ناسه، وهو الذى – المفروض يعنى – يدفعهم إلى أحسن الممكن وما بعده، حتى لو كان أمّيا لا يقرأ ولا يكتب، تُرَى ماذا أعنى بتعبير “جُمّاع وعى ناسه”،

 هل لهذه المجموعات – الكتل المتناثرة – الآن وعى خاص يجمعهم إلى بعضهم البعض؟

 الإجابة هى “نعم طبعا”، لكل جماعة وعىٌ يجمعهم، فثقافة تصفهم.

 طيب!!، فهل يوجد وعى عام يجمع ناسنا إلى بعضهم البعض وإلى وطنهم؟

 الإجابة هذه المرة هى بالنفى؟

 ليس معنى ذلك أنه انعدم هذا الوعى المشترك، فهو يقفز رغما عنا ليثبت وجوده بين الحين والحين، مثلا: فى الحرب قبل أن تجُهض      ، وفى كأس الأمم الأفريقية حتى يهرب الحضرى وتهرب معه نوبة يقظة الوعى تسكينا.

 وغير ذلك من مثل ذلك.

ماذا يتبقى بعد فورات الكرة، وانتفاضات القتال أو الحجارة أو الجوع؟ ماذا يجمع الناس، ناسنا نحو ماذا؟ حول ماذا؟

 دعك من حكاية المشروع القومى الغائب وصحف المعارضة الصارخة ألما أو سخرية أو سخطا، ماذا يجمع الناس حول ماذا؟

أصبحنا الآن نعيش مئات الثقافات (إن لم يكن أكثر) وكل ثقافة لها عشرات التنويعات والتشكيلات لوعيها الخاص؟

 عندنا ثقافة الميكروباص، وثقافة الإدمان، وثقافة الروشنة، وثقافة الحجاب (وإن تعددت بداخلها ثقافات فرعية كثيرة) الوعى العام “جبّن”، قطّع، تخثر، أصبح قطعا غليظا مفتتة لا يجمعها إلا جدار إناء هش. خذ عندك من بعدٍ آخر:

ثقافة الساحل الشمالى، وهى تختلف عن ثقافة العين السخنة، وثقافة المنتجعات الجديدة، وثقافة المدن المستوردة البعيدة (هل لاحظت الإعلان بالانجليزية عن مدينة “كذا” فى ضواحى القاهرة مثلا: وهو يحمل كلمات تقول “عذرا ليست لكل أحد”Sorry, not for everyone، هذا تنبيه ألا تقترب بثقافتك المجهولة الهوية من الثقافة الخاصة جدا لهذا المجتمع، وذلك فى مقابل ثقافة عزبة القصيرين وثقافة حارة السكر والليمون، وثقافة قرية تَفَهْنَا العزَب،.. أو كوم يعقوب.

 على مستوى التعليم خذ عندك: ثقافة مدارس اللغات (وداخلها أيضا ثقافات متعددة) وثقافة مدارس التجهيل، وثقافة مدارس الغش الجماعى، وثقافة الجامعات الرسمية، وثقافة الجامعات الخاصة، …….إلخ ….. إلخ

كيف يمكن أن يتجمع من كل هذا ثقافة واحدة موحدة؟ وعى عام؟

كيف يتخلق من هذا وذاك ما يسمى وطنا حاضراً، وليس مجرد تاريخ؟

ما الذى يجمع كل هذه التنويعات من الثقافة والوعى فى واحد ضام يسمى “الوعى العام”، وهو غير المشروع القومى، غير الوطنية الهتافية الغنائية، وغير ادعاء المواطنة،

 ما الذى يجمعنا وقد تخثر الوعى إلى كل هذه القطع المتباعدة؟

الإعلام التشتيتى؟، الأحزاب الوهمية؟، مظاهرات الجوعى؟، نار الغلاء؟، ظلام اليأس؟ الأمل العنيد المشترك؟ الدين الرسمى؟ الدين الشعبى؟، أحزاب المعارضة؟ ربنا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *