الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الدستور المصرية / عولمة الطب النفسى سبقت، وأفسدتْ (تعتعة نفسية)

عولمة الطب النفسى سبقت، وأفسدتْ (تعتعة نفسية)

نشرت فى الدستور

4-1-2006

عولمة الطب النفسى سبقت، وأفسدتْ

حين كنت فى فرنسا 1968/1969 كان الأستاذ الدكتور بيير بيشوا مهتما أشد الاهتمام بمقارنة التشخيصات المختلفة فى الاتجاهات الطبنفسية المختلفة، كانت الاتجاهات ثلاثة أساسية : الطب النفسى الأوربى، كما يتجلى فى معظم دول أوربا الغربية فيما عدا دول الشمال الغربى، والطب النفسى الأنجلوساكسونى، ويتمثل فى الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا، والطب النفسى الإسكندنافى ويتمثل فى دول الشمال الغربى السويد والنرويج وما إليهما، وكانت ثمة محاولة لتقسيم فرنسى رائع (1968)  وضع – مثلا- الاكتئاب غير النموذجى تحت فئة الفصام ، مما له  دلالة علاجية خاصة (عندى نسخة على الآلة الكاتبة، لأن التقسيم  لم ينشر أبدا بعد الهجمة الأمريكية) . منذ ذلك الحين، أغارت أمريكا على كل التقسيمات، (بما فى ذلك التقسيم المصرى العربى الذى لم يحتمل غلوة)، بما سمى التقسيم الأمريكى الثالث، ثم الرابع، والبقية تأتى. الإغارة امتدت حتى التقسيم العالمى العاشر، وإن كان القائمون عليه قد حاولوا الحركة بعيدا عنه إلا قليلا.

هذه العولمة الطبنفسة سبقت موجة العولمة السياسية أو الاقتصادية ثم واكبتها، وهى مثل العولمات المطروحة جميعا، ظاهرها الرحمة، وباطنها من قبله العذاب. الرحمة كانت تحت شعار: لا بد لأطباء النفس والعلماء أن يتكلموا لغة واحدة حتى يمكن التفاهم فيما بينهم، خاصة فى الأبحاث العلمية، الانتشارية منها بالذات. أما حقيقة ما جرى فهو لخدمة شركات الدواء بعد أن فرضت مفهوما غبيا اسمه “الخوارزمية” (نسبة إلى الخوارزمى)  يوصى بالتسلسل بالأدوية تسلسلا تدريجيا لكل مرض بحسب جدول محكم قد يؤاخذ (أو يحاكم) الطبيب إذا خالفه. الخطر الذى لحق بالممارسة الطبية من جراء هذه العولمة الطبنفسية  أصاب صغار الأطباء أكثر حين أصبح كل همهم، وواقع امتحاناتهم فى الشهادات العليا، أغلب نقاشاتهم شبه العلمية، لا تدور إلا حول محاولة تمييز مئات التشخصيات من بعضها البعض، بديلا عن الاهتمام بالصياغة المتكاملة لأبعاد كل حالة على حدة بما يرشد إلى أنجع طرق علاجها بالذات.

الحصيلة الختامية أن الاهتمام بالفروق الثقافية تراجع تدريجيا حين توقف الأطباء الممارسون عن ممارسة فن التطبيب وحرفة المواساة والمداوة واستغرقوا فى شق الشعرة التشخيصية إلى ذرات تكاد لا تنفع إلا للترويج لأدوية بذاتها، تُعطى لأمراض بذاتها، بترتيب بذاته،  ماذا وإلا.

وعقبال السياسة والاقتصاد بالسلامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *