الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / …. قبل وبعد التعازى والأحضان

…. قبل وبعد التعازى والأحضان

نشرت فى الوفد

20-1-2010

مقالة الوفد

…. قبل وبعد التعازى والأحضان

المسألة عميقة الجذور ليست فقط فى مصر، وإنما بالنسبة لمرحلة الانتقال التى يمر بها البشر وهم يبحثون عن قيم صالحة لاستمرار بقاء الجنس البشرى، الحل السهل الذى همّش الدين تحت شعارات مختلفة هو إسعاف ضرورى لدرء خطر السلطات الدينية ووصايتها على عقول وحياة البشر، هذا الحل تمادى تحت أسماء وشعارات حديثة رشيقة حسنة السمعة: مثل العلمانية – “الدين لله والوطن للجميع”، – “مالله لله وما لقيصر لقيصر” – المواطنة – المساواة..إلخ، وهات يا ترديد، وهات ياتقديس وكأنهم وجدوا الحل الأمثل .

كلما قمت بنقد هذه الشعارات، واللافتات، والمبادىء، ووجهتُ بمقاومة شديدة حتى الرفض، من التنويريين، وأغلب المثقفين، ورعاة المجتمع المدنى، وفى نفس الوقت لا يرحمنى، من النقد والرفض وربما ما هو أكثر من ذلك، سلاطين السلطة الدينية والمفتون والأوصياء على وحى الله سبحانه وتعالى؟.

الجارى عبر العالم، يعلن بوضوح أن هذه الحلول مؤقتة، وأن هذه الشعارات غير قادرة على حفز الإنسان المعاصر أن يواجه معضلة الاختلافات الفردية والإثنية والعقائدية، هى مجرد فض اشتباك بين  قوى متصارعة على السلطة، لا أكثر. هى حلول تسكينية، نجحت فى أن تستبعد الكنيسة بعيدا عن الحكم بدءا من القرون الوسطى، ثم حذا حذوهم ناس آخرون لهم أديان أخرى، ومنها الإسلام، كانت قد تحولت عندهم السلطة الدينية أيضا إلى كنيسة القرون الوسطى. لكن الذى حدث أنهم وهم يستبعدون السلطة الدينية استبعدوا الدين كله وهمشوه وجعلوه مثل كماليات العربات (أوبشن)، ونسوا أن الدين – لا رجال الدين – هو الذى صنع حضارات وارتقى بالإنسان عبر التاريخ، بمعنى أنهم “ألقو السلة بالطفل الذى بها”، فاستحال الدين فى أحسن صوره إلى ممارسات أخلاقية دمثه، والتزامات معاملاتية، وعبادات سرية، أو اجتماعات طقوسية أقرب إلى الاحتفالات الاجتماعية، أما الدين الذى هو واجهة الإيمان فى تطور البشر والارتقاء بنوع وجودهم فلم يعد له مكان يذكر بعد هذه التقسيمات التعسفية بين ما لله، وما للوطن، وما لقيصر ..إلخ.

هذا الفصل الشكلى لم يمنع أبشع أنواع التعصب الدينى أن تتمادى تحت لافتات أخرى فى مجالات السياسة المختلفة بما فيها الحروب، فظهرت الأحزاب الأصولية فى العالم الغربى نفسه، لتمارس التمييز بكل بشاعته تحت أسماء سياسية، وكان من أفضح ما فضحهم هكذا هو أنهم أقاموا ودعموا تلك الدولة العبرية المسماة إسرائيل على أساس دينى بمنتهى البجاحة، ثم تلك الحروب الاستغلالية والاستباقية بدوافع استعمارية تحمل (أو تخفى) لافتات دينية صليبية، كذلك طنبلوا على أن يتم القتل الفردى دون محاكمة لشيخ عاجز (الشيخ يس) بقرار من مجلس وزراء دولة تقول عن نفسها أنها مثال للديمقراطية والعلمانية ..إلخ

أكتفى فى مقالى هذا بالتركيز على التصرفات الإجرامية التى تبدو فردية، فى حين أنها تكشف عن الوعى الجمعى الذى أفرزها، من أول قتل مصلي الفجر فى المسجد الإبراهيمى، إلى قتل د. مروة الشربينى فى ألمانيا فى قاعة المحكمة، إلى أحداث نجع حمادى الأخيرة.

لو أنك تصورت أقصى درجات الرحمة، فالله سبحانه أرحم من تصورك، لأنه أرحم من امرأة ترفض أن تلقى بولدها إلى النار وهى تقدر على ذلك!! (أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟قُلْنَا: لا وَاللَّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى ألا تَطْرَحَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَلَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا“.). هل لاحظت أن الحديث الشريف لم يقل إن الله أرحم بالمسلمين، وإنما أرحم بعباده، كيف بعد ذلك لا أخجل – من ربنا- وأنا أقول لابنى أو ابنتى فى البيت أو المدرسة، أن الله سوف يلقى  بزميله الذى يجالسه على نفس المقعد فى الفصل فى النار، لأن اسمه رياض، وأمه اسمها حنينة، ثم هذا الطفل رياض نفسه يقول له أهله أو مدرسه فى حصة الدين المجاورة، أو القس فى الكنيسة أن زميله محمد ابن طنط فاطمة سوف يُلقى به فى “جهنم” لأن طنط فاطمة – أم محمد- على غير دينه، فتبعها ابنها؟ دعك من الإجابات الكاذبة التى يرد بها الأهل والمدرسون على هؤلاء الأطفال أمام الأغراب، ثم يسحبونها وهم مع بعضهم البعض أو فى دور العبادة، بل إنهم ينكرون هذه الإجابة نفسها حتى على أنفسهم!!

لى إبنة معالجة نفسية، ذكرت لى أن خادم الكنيسة رائدها شاب مدرس طب نفسى فى الجامعة معى وهو من أطيب وأنبه تلاميذى، يستشهد فى عظاته فى الكنيسة بما أقوله فى دروسى الإكلينيكية عن الوعى الكونى، والهارمونى، وكيف لا يمكن أن تقوم علاقة بين اثنين من البشر إلا تحت مظلة الله سبحانه،  يجتمعان عليه ويفترقان عليه، وكلام من هذا، قلت لها مداعبا: هل يرضيك يا فلانة بعد ذلك أن تتركينى أذهب إلى النار؟ قالت: مستحيل، ثم ذهبت تسأل أبونا عن مصيرى، وكان أبونا طيبا، وتعاطف معها، وذكر رحمة ربنا بى وبأمثالى، وأن الرب هو الحكم النهائى، وكلام من هذا، ففرحت ابنتى واطمأنت على مصيرى، لكن أبونا ألحق فتواه، بأمانة رجل الدين الملتزم قائلا “لكن لو يعنى….”، ولم تقل لى ابنتى المسيحية نص استدراكه،… وفهمت.

وبعد

طالما نحن لم نعلنها صريحة فى المساجد قبل الكنائس، فى البيوت قبل المدارس أن ربنا لن يدخل أحدا النار لمجرد أنه على دين غير ديننا، نعلنها بيقين يستلهمه كل منا من نصوص دينه، وسوف يجد ما يؤيده إن لم يكن دينه قد شوهته الكنيسة القبطية أو الكنيسة الإسلامية، ما لم نعلن ذلك، بيقين مطلق ثقة فى عدل ربنا ورحمته، ثم نوصل كل هذه الحقيقة (الفتوى) مجردة إلى الجميع منذ الطفولة، فلن نحل الاشكال بهذه السياسة النعامية، بأن أمسح دينى من على بطاقتى وكأنى بذلك حققت منتهى الحرية، ناسين أن الذى يقتل من هو على غير دينه، لا يطلب منه تحقيق شخصيته قبل أن يطلق عليه النار!! أو قبل أن يدخله النار!!!

إما أن نستوعب عمق برامج الإيمان البيولوجية فى تركيبنا البشرى، وهى التى تتجلى عبر التاريخ فى تشكيلات الأديان المختلفة بفضل الله ووحيه، فلن يُحَل الإشكال أبدا، وسوف تتكرر المسألة سواء من قاتل مأجور فى نجع حمادى، أو رئيس أصولى يعلنها حربا صليبية، أو متعصب ألمانى يقتل د. مروة الشربينى، أو دولة رسمية تقتل دون محاكمة وبقرار وزارى الشيخ يس بعد صلاة الفجر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *