الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / مائدة الرحمن فى العيد: تشكيلات من “الفرح”

مائدة الرحمن فى العيد: تشكيلات من “الفرح”

نشرت فى الوفد

8-9-2010

 تعتعة الوفد

مائدة الرحمن فى العيد: تشكيلات من “الفرح”

للصائم فرحتان، إحداهما فرحته بالعيد،

 فهل نستطيع أن نفرح فعلا فى هذه الظروف؟

 كيف؟

ولم لا؟

ثم هل الفرحة واحدة أم هى أكثر من نوع وشكل؟

وهل هناك فرق بين الفرحة والضحك والقهقهة؟

 وهل الفرحة تظهر دائما فى سلوكك الظاهر أو على وجهك؟ أم أنها يمكن أن تملأك دون إعلان؟ وأسئلة أخرى كثيرة تحتاج وقفة وتأمل.

ثمة تجليات لما هو فرح إيجابى ثروة بشرية ونعمة من الله، وما هو فرح سلبى يواكب الغرور، والتعالى، والخيلاء، الله سبحانه يعلمنا أن الفرحة ليست واحدة، وهو تعالى يفرح : يفرح بنا، ويفرح لنا. فى الحديث الشريف: “لله أشد فرحة بتوبة عبده”

 نبدأ بما ينبهنا إليه سبحانه، حين يوصينا أن نرفض من يفرح بكنوزه فرحة التكاثر والتباهى،

جاء ذلك على لسان قوم قارون (وهو من قوم موسى) “إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ.

هذا النوع من الفرح المنهى عنه هو فرح كل مختال فخور ” لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ”

وثم فرح مغترب خائب هو فرح الذى يسعده أن يعيش على عرق غيره، يكثر به أمواله، وهو يسرق جهد سواه وينسبه إلى نفسه فيُحمد بما لم يفعل ” لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ”، فأى فرحة هذه التى يكون جزاؤها هذا العذاب الأليم.

ثم خذ عندك، فرحة أخرى خبيثة ينهى ربنا عنها أيضا، وهى فرحة الجبان المتخلف عن الجهاد، فرحته بسلامته لأنه مع القاعدين دون المجاهدين “فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”

ثم إنه يبدو أن المرح هو الصورة السطحية المليئة بالغرور والزهو للفرح ” (مرح = اشتد مرحه ونشاطه، تبختر واختال) “ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ”

لكن على الجانب الآخر، هناك فرح آخر، فرح يملأ النفس رضا، فرح ينتشر عبرك من ذروة كتفيك حتى منتهى إصبعىْ قدميك الكبيرين، فرح يشع حتى أعلى رأسك ليغمر عقلك فيوقفه عن الوصاية والحسابات، لكنه يشركه فى الفرح، لا مانع، فرح يوصل بينك وبين الآخر من كل ملة ودين، فرح يمتد بك إلى ما لا تعرف.

 ذات مرة غمرنى شىء من هذا فسميته فرحة، لكننى تراجعت وسحبت الاسم خشية أن تختنق فرحتى داخل أى لفظ حتى لو كان هذا اللفظ هو “الحب”، قلت:

……..

يغمرنى ‏بحنان‏ ‏صادق، ‏

هدهدة‏ٌٌ ‏حلوة، ‏

وتكوَر‏ ‏جسدى ‏مؤتنسا، ‏

فى ‏حضن‏ ‏الحب‏ ‏ودغدغدته، ‏

واهتز‏ ‏كيانى ‏بالفرحة، ‏

ليست‏ ‏فرحة، ‏

بل‏ ‏شىء‏ ‏آخر‏ ‏لا‏ ‏يوصف، ‏

إحساس‏ ‏مثل‏ ‏البسمة، ‏

أو‏ ‏مثل‏ ‏النسمة‏ ‏فى ‏يوم‏ ‏قائظ، ‏

أو‏ ‏مثل‏ ‏الموج‏ ‏الهادئ ‏حين‏ ‏يداعبُ‏ ‏سمكهْ،‏

أو‏ ‏مثل‏ ‏سحابة‏ ‏صيف‏ ‏تلثم‏ ‏برَدَ‏ ‏القمهْ، ‏

أو‏ ‏مثل‏ ‏سوائل‏ ‏بطن‏ ‏الأم‏ ‏تحتضن‏ ‏جنينا‏ ‏لم‏ ‏يتشكل‏ ‏

أى ‏مثل‏ ‏الحب‏..، ‏

بل‏ ‏قبل‏ ‏الحب‏ ‏وبعد‏ ‏الحب،

شئ ‏يتكور‏ ‏فى ‏جوفى، ‏لا‏ ‏فى ‏عقلى ‏أو‏ ‏فى ‏قلبى، ‏

وكأن‏ ‏الحبل‏ ‏السرى ‏يعود‏ ‏يوصلنى ‏لحقيقة‏ ‏ذاتى .. ‏

هو‏ ‏نبض‏ ‏الكون‏ ‏

هو‏ ‏الروح‏ ‏القدسى ‏

أو‏ ‏الله‏.‏

الفرح الإيجابى قوى متعدد التجليات شديد المراس زخم الحضور.

 تعالوا معنا إلى مائدة الرحمن الناحية الأخرى وهى تدعونا إلى بعض تشكيلات هذا الفرح الجميل، تعالوا نتعرف على تشكيلات الفرح الإيجابية من وحى كلامه تعالى،  لعلنا نفرح بحق، حين نقتدى بهؤلاء:

فهناك من يفرح بما أتاه الله “فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ” وهى فرحة على ما يبدوا معدية لما تحمل من مقومات الثقة الأساسية بالوجود، بما يجعلنا نمتد فينا وبنا إلى وجه الحق تعالى

وهناك من يفرح بفضل الله ورحمته، مفضلا ذلك على ما يجمع “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ”

وهناك من يفرح بما أنزل الله إلى رسوله، “وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ”

وهناك من يفرح بالبشرى والنصر (على الروم مثلا فى بضع سنين): “… وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ”

وهناك من يفرح برحمة ربنا “وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا”

وبعد

فبرغم هذا التمييز بين فرح وفرح، وبين فرحة وفرحة، فإن الله سبحانه يعلمنا أن نعترف أن الفرح يختلف أيضا من فئة إلى فئة، ومن فرد إلى فرد، وأن لكل حزب مبررات فرحته ونوعيتها، بما ينبهنا إلى حتمية السماح بالاختلاف، والقبول بالتنوع، على مدى الفروق الفردية والثقافات المختلفة، فنسمح لكل فريق أن يفرح بطريقته، بالنسبة للتفاصيل والأسباب، مع الاحتفاظ بالتمييز بين فرحة وفرحة:

“فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ”

“مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ”

 فإذا انتقلنا إلى رحاب مولانا النفّرى، ووصلنا شىء من حدسه الذى سمح له أن يتلقى من ربه بيانا كأنه هو، ملأتنا فرحة أخرى أولى بالتأمل جدا،  نقرأ معا ما وصله من ربه فى “موقف التيه” حين قال له:

وادخل علىّ بغير إذن فإنك إن استأذنت حجبتك

وإذا دخلت إلىّ فاخرج بغير إذن فإنك إن استأذنت حبستك.

“وافرح فإنى لا أحب إلا الفرحان”

وقد استلهمت شخصيا هذا الموقف بما أوحى إلىّ فقلت له تعالى:

 إنهم حين اشترطوا الشروط، وأوقفوا الحجّاب دونك، حجبوا الناس عنك. راحوا يستأذنونهم هم؛ لا يستأذنونك، إنهم لو تذكّروا لمَا احتاجوا إذنا منهم، ولا منك. فمن يخطو فى رحاب رحمتك يجد أنه على يقين من إذنك، وقبل أن يستأذن، سيعرف أنه لا يحتاج لإذن.

 فكيف لا نفرح؟

 وكيف لا نفرح أكثر وأنت تحب الفرحانين.

 مع أنهم مسخوا الفرح واستبدلوا به زيطة النحلة الدوارة. يلهبونها بسوط إلغائك.

أما فرحة الجسارة، والدخول بغير إذن، فهى حقنا وثوقا بأنك تحبنا.

ونحن نحبك

ترضى عنا فنرضى عنك

هذا هو العيد

وكل سنة وأنتم طيبون

برغم كل أحد،

 وكل فساد،

وكل ظلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *