الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة روز اليوسف / نحن أقصر طريق الى الله

نحن أقصر طريق الى الله

 

نشرت فى روز اليوسف

2 – 9 – 2005

 

سلسلة الإنسان

أ.د.يحيى الرخاوى

نحن أقصر طريق الى الله

استهلال ثالث

فى اجتهاد متلاحق، ما زلنا ننتظر نصوص القراء باعتبارها نصوصا تستحق النقد، وتستحث الحوار،  لا الرد. إلى أن يحدث ذلك دعونا نواصل القراءة  النقدية من نصوص متنوعة لنتعرف علينا (الإنسان).

 فى عدد الجمعة السابق، لم تسمح المساحة باستكمال الإشارة إلى معنى”النقد العلمى“. فاكتفينا بنشر بضعة أسطر كنوع من فتح الشهية، لهذا فضلنا أن نبدأ هذه المرة بتوضيح فكرة ما أسميناه  “نقد النص العلمى”.

بالنسبة للنص الأدبى – الفقرة الثانية –  نقدم مزيدا من الحركة فى رحاب أصداء وأحلام نجيب محفوظ.

فى الفـقرة الثالثة والأخيرة نتعرف على التصوف كمنهل خاص نتعرف من خلاله على ما هو “إنسان”، فنبدأ بنص من “مواقف النفّرى”. وهو الصوفى الغامض الرائع الشجاع،  أملين  أن يشجعنا ذلك – فيما بعد – أن  نستلهم (لا ننقد، ولا نفسر) النصوص الإلهية أيضا باعتبارها أعظم مصادر المعرفة الأعمق (دون الوقوع فى سجن التفسير أو وصاية التأويل)، نتعرف من خلالها أيضا على الإنسان، وربما: من ثم ، على الحق سبحانه وتعالى، وبالعكس.

أولا : قراءة فى نص علمى

تحديثات “علم النفس” وماهية الإنسان؟

(مثلا:  علم النفس الثقافى)

 وقعت السلطة العلمية مؤخرا (ليس مؤخرا جدا)  فى نفس المأزق الذى وقعت  فيه السلطة الدينية سابقا (وحتى الآن). استولت المؤسسات الدينية على احتكار معانى الإيمان، مع أنه نشاط الوعى البشرى لكل الناس، الوعى الأرقى والأكرم كدحا إلى وجه الحق سبحانه وتعالى، كذلك استولت المؤسات العلمية (الممولة جدا، عادة) على ناصية المقدسات العلمية، بما فى ذلك العلوم الإنسانية. احتكرت السلطة الدينية تفسير النص الإلهى، كما كادت تحتكر  السطة المؤسساتية المعرفة العلمية، بل والمرفة عامة.  الإيمان يدخل القلب دون أن يستأذن أية وصاية رسمية.  نبهنا القرآن الكريم من قديم إلى ذلك: “قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا، ولمّا يدخل الإيمان فى  قلوبكم”. (الحجرات : 14).  على نفس القياس، يمكن تصور أن بعض من يشتغل فى العلم لم تدخل المعرفة فى وعيهم ، وبالتالى عجزوا عن استيعاب نبضها، وحمل مسؤوليتها، ونقلها إلى اصحابها (عامة الناس: أصحاب المصلحة).

 العلم الذى لا يصب فى عامة الناس لا لزوم له، وقد يضر (مثل القنبلة الذرية، والإعلام المغرض)  على المتلقى أن يمارس حقه فى استعمال عقله النقدى فى تلقى  العلم، وبالذات”: فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية.

قلنا  من أول يوم أن المعرفة هى حق متاح للجميع، وهى تأتى من أكثر من مصدر، وأنها أكبر وأرحب من العلم، تماما مثلما أن الإيمان أكبر وأرحب من التفسيرات الدينية الرسمية.

انتهت  هذه الصفحة فى عدد الجمعة الماضى  وهى تنبه أن خطأ قراءة المعلومة العلمية وارد عند الشخص العادى، كما هو وارد عند طالبى العلم والعلماء سواء بسواء. كثير من المختصين يخطئون حين يستسلمون للحروف المطبوعة، حتى فى أحكم المجلات العلمية إذا هم قرأوها كنصًّ مقدس، دون أن ينتبهوا إلى ضرورة القراءة النقدية.

نبدأ هذه المرة بأن نحوم، بحذر شديد، حول حمى ما يسمى “علم النفس”، وهو العلم الذى يعتقد العامة ، بل وكثير من الخاصة (من أول رجال الإعلام حتى المبدعين) أنه الأكثر معرفة بما هو “إنسان”.  إذا كان الأمر كذلك (وهو كذلك إلى درجة ما) ، فلا بد أن نتعرف مجددا باستمرار على النقد الشائع حول هذا العلم، خاصة ما يسمى  التحليل النفسى، وعلم نفس السلوك. إن ما يجرى فى العالم كله الآن فى هذا الشأن هو شىء  رائع، نتعرف على بعضه.

نبدأ بتقدمة نص من أحد تجليات ما يسمى يسمى “علم النفس الثقافى” فيما يخص “الذات الإنسانية” (على أن نعود فيما بعد، لعلم النفس الثقافى عامة، وعلم النفس المعرفى أيضا) .

النص

من مقدمة كتاب علم النفس الثقافى للذات الإنسانية The Cultural Psychology of Self بعنوان فرعى يقول: المكان، والأخلاقيات والفن فى عالم الإنسان”. وهو كتاب لم يترجم بعد ، وهو يؤكد على علاقة الإنسان بالموضع/المكان/ المحيط.

يقول النص :

” …. أن تعرف من أنت، وكيف أنت، هو الناتج الطبيعى لمعرفتك “أين أنت”، إن هذا الكتاب هو سلسلسة من الانطباعات حول تيمة “الذاتية” فى علاقتها بـ”الموقع”، ومن ثم  طريق التواجد والانتقال فى داخل عوالم البشر.

إن كلمة “موقع” نادرا ما تظهر فى فهارس كتب علم النفس مع أنها تبدو لى قادرة تماما على تنظيم كثير من التفكير المعاصر  “الفلسفى والنفسى الجمالى”

القراءة

علم النفسى الثقافى هنا يؤكد على أن الذات لا توجد إلا وهى متموضعة فى المكان، ثم انطلاقا من “مكانها فى العالم” تكتشف ذاتها فى حركتها مع ما حولها. إن علاقتنا بالوجود “فى المكان”، وبالوعى بالزمن بما هو، وبكونه (الزمن) مكان مرن جدّا (أيضا)، هى علاقة ضعيفة للغاية بعد أن طغت العقلنة على المعرفة، وطغت المعلومات المرموزة على الخبرة المعاشة .

فكرة “الهنا والآن” أصبحت أساسية فى معظم الممارسات العلاجية وهى جديرة بالنظر فى الحياة العادية .

تطبيقا للدعوة لاستعمال العقل النقدى ، والتجربة  ندعو من شاء من القراء أن ينظر إلى  نفسه وفى نفسه وسط ما يحيط به فعلا – من ناس وأشياء- الآن حالا،

 ثم يعود ينظر إلى نفسه وفى نفسه – كما اعتاد – منفصلا عن كل ما حوله إلا من تبادل ألفاظ تصل أو لا تصل.

ولنا عودة وعودة، شرحا وتطبيقا ، لبعض معالم وإسهامات علم النفس الثقافى عامة، وهذا الفرع منه خاصة.

ثانيا  : من  النص الأدبى :

صدى” واحد  و”حلمان” اثنان (نجيب محفوظ)

الوزير، والحكيم، والتلوث الأخلاقى

والطفولة التى لم تختبر!

النص :

جاء فى أصداء السيرة (فقرة )32 ما يلى:

    “التحدى”

فى ‏غمار‏ ‏جدل‏ ‏سياسى ‏سأل‏ ‏أحد‏ ‏النواب‏ ‏وزيرا‏: ‏

‏هل‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تدلنى ‏على ‏شخص‏ ‏طاهر‏ ‏لم‏ ‏يلوث؟‏. ‏

فأجاب‏ ‏الوزير‏ ‏متحديا‏: ‏

إليك‏ – ‏على ‏سبيل‏ ‏المثال‏ ‏لا‏ ‏الحصر‏ -‏ الأطفال‏ ‏والمعتوهين‏ ‏والمجانين‏، ‏فالدنيا‏ ‏مازالت‏ ‏بخير‏.‏

القراءة:

من‏ ‏موقع‏ ‏التنبيه‏ ‏ ‏إلى أن ‏ضغوط‏ ‏الحياة‏ ‏قد ‏تضطر‏ ‏مدعى ‏الفضيلة‏ ‏إلى ‏الدعارة‏ ‏الخفية‏ (‏الأصداء/فقرة28)، ‏أو‏ ‏تضطر‏ ‏المكافح‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏لقمة‏ ‏العيش‏، ‏ ‏إلى ‏التنازل‏ ‏عن‏ ‏الكرامة‏ (‏الأصداء/فقرة‏ 34)، ‏أو‏ ‏تضطر‏ ‏رب‏ ‏الأسرة‏ ‏البريئة‏ ‏إلى ‏عمل‏ ‏صفقة‏ ‏مع‏ ‏ضميره‏ (‏الأصداء/فقرة‏ 23)، فيقع الجميع فى مصيدة التلوث، مع اختلاف التبريرات، ‏يكاد‏ ‏يعمم‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ فى هذه الفقرة  ‏استحالة‏ ‏الحفاظ‏ ‏على ‏البراءة‏، وذلك من خلال ‏إجابة الوزير متحديا:‏ ‏إن‏  ‏ ‏القادرين‏ ‏على ‏أن‏ ‏يظلوا‏ ‏طاهرين‏ ‏لا‏ ‏يلوثون‏، ‏هم‏ ‏الأطفال‏ ‏والمعتوهين‏ ‏والمجانين” ثم يضيف ” فالدنيا ما زالت بخير” حتى يبدو مرتاحا تماما إلى ما خلص إليه.

‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏ ‏من‏ ‏شيخ‏ ‏ينصت‏ ‏إلى ‏أصدائه‏، ‏لا‏ ‏يحكى ‏خبرته‏ ‏ولا‏ ‏رأيه بصفة شخصية، ربما أراد‏ ‏محفوظ أن‏ ‏يتردد‏ ‏فى ‏وعينا‏ ‏ما‏ ‏يحل‏ ‏هذا‏ ‏الإشكال‏ ‏المزعج الذى يقول  :”….‏ ‏تلك‏ ‏هى ‏المسألة‏ ‏الصعبة‏: ‏أن‏ ‏نعطى ‏للطفل‏ ‏الحكمة‏ ‏والنضج،‏ ‏دون‏ ‏مساس‏ ‏ببراءته‏ ‏بطهارته‏ ‏بحلاوة‏ ‏صدقه‏، ‏أن‏ ‏نصبح‏ ‏ناسا‏ ‏بسطاء‏ ‏لكن‏ ‏فى ‏قوة‏، ‏أن‏ ‏ننسج‏ ‏من‏ ‏خيط‏ ‏الطيبة‏ ‏ثوب‏ ‏القدرة”(ديوان: سر اللعبة) .

 إذا لم ننجح فى حل تلك المسألة الصعبة، فعلينا أن نقبل إما أن  نظل‏ ‏أطفالا‏ ‏طاهرين‏، ‏أو‏ نكون ‏معتوهين‏ ‏لا‏ ‏نتلوث‏، ‏أو‏ ‏فلنجن‏، ‏كل هذا‏ ‏لتستمر‏ ‏الدنيا‏ ‏بخير‏ ‏كما‏ ‏يراها‏ ‏النواب‏ ‏والوزراء، وكأنهم  يهددوننا بأننا إذا نحن تحركنا بعيدا عن هذه الاختيارات، فسوف نتلوث (مثلهم).

(نجيب محفوظ اتخذ حذره ضد هذا التعميم الذى أقوم به الآن حين وضع الجملة الاعتراضية “عل سبيل المثال لا الحصر”)

نستمر فى القراءة متجاهلين هذا الاستطراد مؤقتا:

 ثَـمّ تحذير واجب هنا: إن وصف أحدهم بأنه تلوث أو لم يتلوث، يستدعى افتراض أنه سبق خوضه تجربة ما. هذه الفئات التى ذكرها محفوظ (الأطفال والمعتوهين والمجانين) يمكن أن تدرج ثلاثتها تحت من يسمى “لم يُـختبر“، أو من هو إذا اختبر فإن فرصته هى أن يفشل أن يلوث .

أن تعجز عن أن تتلوث شىء، وأن ترفض أن تتلوث شيء آخر.

  من هنا وجب التنوية على خطورة التعميم – برغم الجملة الاعتراضية التى لا تكاد تغنى-   خصوصا إذا جاء هذا التوجه إلى التعميم  من وزير يخاطب نائبا فى مجلس الشعب

رحت أبحث عن هذا الذى أشار إليه الوزير عفوا أو توقيا، وهو  يقول ” على سبيل المثال لا الحصر”.  لم أجده  فى الأصداء بشكل مباشر، لكننى وجدته فى حلم 142 من أحلام فترة النقاهة،

نقرأ معا هذا”نص” هذا الحلم

حلم‏ 142

هذه القطعة من الأرض الفضاء هى ميراثى الوحيد وقد أطلق عليها اسم الخرابة لطول ما عانت من إهمالها. وما أن رُزقتُ بعض المال حتى فكرت جاداً فى تعميرها، ولكنى لم أقدم لكثرة ما عرفت من حوداث النصب وفساد الذمم،  حتى سألت جارى الحكيم: ألا يوجد فى الدنيا شخص خيِّر؟ فأجابنى بأنه موجود ولكن يتطلب العثور عليه عزماً وشجاعة وبحثاً لا يتوقف.

نواصل القراءة

 فى الصدى أعلاه كان السائل  نائبا (برلمانيا!)، وكان المسؤول وزيرا، فى حين أن السائل هنا فى الحلم هو صاحب حق بسيط يبحث عن شخص أمين يثق فيه، والمجيب هو جاره الحكيم. هل يا ترى كان هذا كامن فى عمق إبداع محفوظ، مع أن الفارق الزمنى  بين كتابة  النصين يكاد يقرب من عشر سنوات؟  الجار الحكيم يثق فى خير الناس، ويعرف أن الأصل فيهم هو الأمانة والصدق، فهو يوصى  السائل  أن يجد فى البحث بشجاعة وعـزم ومثابرة.

هذا النوع من اليقين لا يوصل صاحبه فقط إلى الإقرار بأن الدنيا بخير، لكنه يلزمه – ضمنا – أن يكتشف الخير بنفسه، وأنه إن لم يجده ، فليس عليه إلا أن يشك فى بحثه، لا أن يدمغ الناس أو يحكم عليهم ويصنفهم –كما فعل الوزير –  باعتبارهم بلهاء أو مجانين أو ناقصى النضج (أطفال).

نجيب محفوظ لا يعمم. الإبداع هو الإبداع لا أكثر ولا أقل، فجعلت أبحث عن صورة الوزير فى كل من الأصداء والأحلام. لم أعثر على ما يعيننى فى الأصداء، لكننى عثرت على بعض الإنارة فى الأحلام .

 يقول “نص” حلم 113

حلم‏ 113

أخيرا حضر الوزير الجديد فقدمت له نفسى باعتبارى سكرتيره البرلمانى ولكنه لم يفهم كلمة من كلامى، فحاولت شرح عملى ولكنه نهرنى بحدة وأمر بنقلى من وظيفتى، وهكذا بدأت المعاناة فى حياتى ثم شاء القدر أن يجمع بينى وبين الوزير فى مكان غير متوقع وهو السجن، وبعد أن أفقت من ذهولى أخذت أذكره بلقائنا الأول وما جرى فيه حتى تذكر، وتأسف، واعتذر.

 وانتهزت فرصة وجودنا فى مكان واحد كى أشرح له عمل السكرتير البرلمانى.

 نلاحظ فى هذا الحلم ، مقابلة بالصدى، أننا ما زلنا فى جو البرلمان (مجلس الشعب)،  وكما كان الحوار بين أحد النواب وبين الوزير فى الصدى، جاء الحوار هنا بين السكرتير البرلمانى والوزير. من أجمل الإبداع هنا تعمد التجهيل لحقيقة نوعية عمل ماهو “سكرتير برلمانى”، هذا التجهيل يحفزك فورا للبحث عن سر (سيم)  الجارى، وقد تشم رائحة بها ما يشير إلى أن المهمة الحقيقية لهذه السكرتارية البرلمانية  قد تكون ممارسة أساليب التحايل، والتستر، والتلاعب، وترتيبات الصفقات، وتسريب المعلومات، بحيث يصبح التساؤل حول كل ذلك علانية  أمرا أقرب إلى البلاهة . من هنا يمكن الاستنتاج أن الذى فصل من وظيفته فى هذا الحلم لم يكن الموظف الذى سجن مع الوزير، لكنه كان المبتدئ  الأهبل الذى راح – من فرط خيبته-  يتصور أنه عين سكرتيرا ليكون سكرتيرا ، فى حين أن السكرتير الحقيقى (وهو بداخله أيضا) هو الذى يشارك الوزير نشاطاته السرية، دون إعلان طبيعتها، ولا تسميتها.  المعاناة التى بدأت بعد عقابه بالفصل  لم تكن لأنه ترك وظيفته، ولكنها كانت لأنه اكتشف أن ما كان يتصوره “سكرتارية برلمانية”، تبين أنها شراكة فسادية عميقة، عليه أن يمارسها بشروطها، فكانت المعاناة وهو يروض نفسه ليقوم بالمهمة الحقيقية تحت المسمى المعلن، دون شرح أو توصيف، وقد قام بها خير قيام بدليل أنها انتهت به إلى السجن بالسلامة. علينا أن نقرأ نهاية الحلم باعتبارها سخرية تعلن أن وجودهما  معا فى هذا المكان المناسب، هو الشرح الحقيقى لطبيعة عمل السكرتير البرلمانى.

 أكرر بلا ملل أن محفوظ –غالبا-  لم يقصد، بوعى هادف، أيا من ذلك، إلا أن إبداعه قام بالتشكيل الدال بكل حبكة وجمال. كالعادة، وكما ينبغى

عاودت البحث عن صورة الوزير فى الأحلام، فإذا بى أجد أنه قد ورد  فى حلم باكر(44) بصورة قد تدعم هذا الفرض النقدى البدئى.

نص لاحق

حلم 44

وجدت‏ ‏نفسى ‏جالسا‏ ‏أمام‏ ‏مكتب‏ ‏وزير‏ ‏الداخلية‏. ‏منذ‏ ‏أيام‏ ‏قلائل‏ ‏كان‏ ‏زميلى ‏فى ‏الجريدة‏، ‏وكان‏ ‏اختياره‏ ‏وزيرا‏ ‏للداخلية‏ ‏مفاجأة‏، ‏وانتهزت‏ ‏الفرصة‏ ‏وطلبت‏ ‏مقابلته‏ ‏فاستقبلنى ‏بمودة‏ ‏وترحاب‏ ‏وعرضت‏ ‏عليه‏ ‏مطلبى ‏وهو‏ ‏توصية‏ ‏لرجل‏ ‏أعمال‏ ‏معروف‏ ‏بصداقته‏ ‏له،‏ ‏لأُختار‏ ‏فى ‏وظيفة‏ ‏معينة‏ ‏فى ‏شركة‏ ‏من‏ ‏شركاته‏. ‏وكتب‏ ‏بخط‏ ‏يده‏ ‏التوصية‏ ‏المطلوبة‏ ‏وانتهت‏ ‏المقابلة‏ ‏على ‏أحسن‏ ‏حال‏.

‏وفى ‏مساء‏ ‏اليوم‏ ‏نفسه‏ ‏وأنا‏ ‏أمشى ‏على ‏شاطئ‏ ‏النيل‏ ‏اعترضنى ‏رجل‏ ‏ممن‏ ‏تسمع‏ ‏عنهم‏ ‏فى ‏الصحف‏، ‏وأشهر‏ ‏على ‏سلاحا‏ ‏وسلب‏ ‏منى ‏نقودى‏. ‏كانت‏ ‏فى ‏حدود‏ ‏خمسين‏ ‏جنيها‏.‏

رجعت‏ ‏إلى ‏منزلى ‏مضطربا‏ ‏ولكنى ‏لم‏ ‏اتخذ‏ ‏أى ‏إجراء‏ ‏يؤثر‏ ‏فى ‏الميعاد‏ ‏الذى ‏حدده‏ ‏لى ‏رجل‏ ‏الأعمال‏، ‏وعند‏ ‏الضحى ‏كنت‏ ‏فى ‏مكتبه،‏ ‏وبعد‏ ‏دقائق‏ ‏سمح‏ ‏لى ‏بالدخول‏‏ ‏وقدمت‏ ‏التوصية‏‏، ولكنى ‏تجمدت‏ ‏فى ‏موقفى ‏لحظة‏ ‏غاية‏ ‏فى ‏الحرج‏. ‏قلت‏ ‏فى ‏نفسى ‘‏رياه‏ .. ‏إنه‏ ‏اللص‏ ‏الذى ‏سرقنى ‏أو‏ ‏أخوه‏ ‏التوأم‏

‏ودارت‏ ‏بى ‏الأرض‏.‏

القراءة

التكثيف هنا أصعب وأعمق، فالبداية تقول إن  الوزيرالحالى ليس إلا  صحفى زميل سابق، والنقلة من الصحفى إلى الوزير ليست مألوفة (راجع تاريخنا السياسى الأحدث). النقلة هنا أكثر دلالة، لأن هذا الصحفى الحريف لم يعين وزيرا للإعلام أو للثقافة، وإنما وزيرا للداخلية، هكذا خبط لصق، ترى ماذا كان عمله الحقيقى فى الصحافة حتى يعين وزيرا للداخلية؟

من هذين الموقعين : الصحفى الجاهز لوزارة الداخلية، فوزير الداخلية ذو الاتصالات برجال الأعمال الذين هم، نتذكر وظيفتى السكرتير البرلمانى فى الصدى، وا ذكرناه عن الوظيفة الظاهرة والوظيفة الخفية، ثم تنتقل بنا الصورة حتى  نفاجأ- مثل طالب الوظيفة- أن  قاطع الطريق الذى استولى، وبالسلاح، على كل ما يحمله هذا المسكين (خمسون جنيها سنة  2005)  هو هو رجل الأعمال الموصى له بالتزكية

 نتذكر أن ما بين كتابة ذلك الصدى وهذا الحلم ما يقرب من عشر سنوات كما ذكرنا، لكن الإبداع هو الإبداع، والدعوة عامة لتصنيف كل الوظائف التى نشغلها، والأدوار التى نلعبها، بحقيقتها وشكلها، بظاهرها وباطنها إلخ.

بصراحة ، ظللت أتساءل طول عمرى: ما الذى يجعل رجل أعمال تعددت ملايينه، أو ربما تـّمّلـْـيَرْ، أن يضيع وقته وجهده فى الترشيح والانتخاب والاستوزار؟ أليس الأوْلى به أن يتمتع بما جمع، أو ربما يفيد به بعض  من حوله، أو حتى من ليس حوله؟ جاءتنى الإجابة الآن  وأنا أمارس هذه المحاولة النقدية، ولا مؤاخذة. اتضح لى أن أسماء الوظائف المعلنة، هى غير الأدوار الملعوبة فى حقيقية الأمر.

ثمة ملاحظتين إضافيتين تأتينا من هذا النص حين ننتبه كيف أن الغنى هو الذى يسرق الفقير وليس العكس، كما أن الصحفى الجاهز ليصبح وزيرا للداخلية، هو الشخص المناسب لهذه المستويات من “الأداء المناسب” !!!!

ثالثا: قراءة فى نص صوفى

(من مواقف مولانا النفرى)

قبل النص

للأسف، نحن حين نتكلم عن التراث، وعن الأصالة، نلجأ إلى أكثر التراث جمودا، وأثقله وصاية، وندعى أن هذا هو تراثنا، ودمتم، أو نفعل ما هو أقبح من ذلك، بأن نقتطف نصا من التراث، ثم نترجمه إلى ما هو معاصر جديد من علم جزئى، وهات يا فخر، وهات يا اختزال، ونحن لا نعرف أننا بذلك نتنازل عن تراثنا لا نحيه.

 التراث لا يحيا بإعادته، ولا حتى بمحاولة تفسيره بلغة أحدث هو لم يعرفها أصلا، وهو غنى عنها فعلا.  التراث ينبغى أن نعامله باعتباره مصدر إلهام ، ومنار معرفة كلية، معرفة إن كنا أهلا لها، كما ندعى، فسوف تتجلى فينا وبنا حالة كوننا نمارس وجودنا الحالى فعلا بشكل أرقى وأعمق، ومعنى أجمل وأشمل ، وحضورا أبدع وأكثر جدوى.

هذه الثروة الهائلة التى تركها لنا العارفون (من المتصوفة العظام) دون وصاية مؤسساتية،  لماذا لا ننظر فيها ونحن نحاول أن نتعرف على أنفسنا، على ماهية الإنسان؟ لماذ يحتفل الغرب بهذا العارف بالله مولانا النفرى أكثر من احتفالنا به؟ لماذا يقدرون عمر الخيام عالما رياضيا، وشاعرا وجوديا، ومفكرا مخترقا، ونحن لا نعرفه إلا تائبا خائفا ؟

 فكرة “الاستلهام“” التى ندعو إليها فى هذا الباب ليست جديدة، هى غير التفسير وغير التأويل، وغير الشرح، وغير التبرير. الاستلهام يكاد يكون “إبداعا على إبداع”. يصلك النص كله، تفحصه جميعه أو تفحصه جزءا جزءا، لكنه يعود يملأ وعيك كله، ثم تدعه جانبا، فيلهمك ما يتجلىمنك وبك فعلا وحضورا وإبداعا  هنا والآن.

مولانا النفرى ترك لنا مواقفه ومخاطباته، فاحترنا فيها. هى من الغموض على العقل العادى بحيث يمكن أن يرفضها المنطق السليم، أو حتى المفسر الدينى التفليدى، وهى من الإشراق فى الوعى الذى لم يمت بحيث توحى إليك بشجاعة على الحق، واختراق لسجن اللفظ، فتصل بك ممن خلالها  إلى ما تستطيع.

دون الدخول فى اتفاصيل التعريف بالنفرى، ندعو القارئ أن يتأمل جرأة هذا الرجل، وهو يسمح لوعيه، بعد أن امتلأ بالحق ربه سبحانه، أن يخرج هكذا مباشرة بتعبير” وقال لى كذا وكيت”. هو لم يدّع أن الله خاطبه أو أرسل له وحيا قال ما قال، لكنه استلهم من النص الإلهى، ومن الحضور الإلهى فى وعيه ما سمح له بأن يقول ما نقتطفه الآن :

النص

“وقال لى: أنت معنى الكون كلّه”

موقف أنت معنى الكون (ص 5)

حين يستلهم النفرى من وعيه الممتلئ بربه سبحانه، أن الحق تعالى قد قال له “أنت معنى الكون كله”، هل يليق أن نرجع إلى السلطة الدينية نستسمحها أن نقرأ هذه الكلمات الست، ثم نستأذنها أن نفهمها، ثم نسألها كيف نستوعبها؟  أم أن من حقنا أن نقف أمام حقيقة بسيطة ترد فى هذا النص تؤكد على أن الإنسان، لكى يكون كذلك (إنسانا)، لا بد أن يكون هو ذاته “معنى”. حين قبلت الدعوة الكريمة أن أتولى مسؤولية هذه الصفحة كتبت فى أول استهلال أن السيدة روزاليوسف قد أصبحت معنى، قلت بالحرف الواحد فى تقدمة هذه الصفحة  : “…. تلك السيدة العظيمة التى لم تعد كيانا بشريا له ولد ومجلة، بل كانت وما زالت “معنى” متجددا دائما”. ها هو النفرى يأتى فيقول لنا إن ربه أكد له أنه “معنى” ، ولا أحسب أنه يعنى نفسه شخصا، وإنما هو يشير إلى وجوده إنسانا (فى الأغلب).

لو أن شابا أحسن الاستماع إلى هذا القول الذى يتكون من ست كلمات، ثم صدّقه كما هو، ألا يكون هذا حافزا أكثر فأكثر أن يصبح إنسانا بحق بدلا من أن يسارع خائفا يستشير من لا يعرف مجرد اسم النفرى؟

 إذا قرأ شاب هذه الكلمات الست، وسمح لها أن  تدخل وعيه دون وصاية  (وليس أن ترص فى عقله بفعل فاعل)، ثم صدقها، هل يمكن أن يغش فى الامتحانات بعد ذلك؟ هل يمكن أن يعيش بلا هدف؟ هل يمكن أن يسمح لنفسه أن ييأس أو يهرب؟

فإذا كان لهذا النص بعض هذا الأثر، فكيف لا نقدمه المرة تلو المرة لوعى الناس، دون شرح، ليستلهم كلٌّ منه ما شاء كيف شاء، ثم لا نرى نتيجة ذلك  إلا فى فعل مبدع، أو أداء راق ، يليق بأن يكون الإنسان ، كل إنسان : “معنى الكون كله ” ؟!

حين حاولت أن أستلهم هذا النص بما تيسر لى، قمت بذلك مع د. إيهاب الخراط نستلهم  نفس النص، قمنا بذلك كل على حدة، وإن كانت لى فرصة أن أقرأ استلهامه قبل أن أسمح لما وصلنى أن يتجلى . صديقى (إبنى) هذا مسيحى، طبيب نفسى، قس، شديد النشاط، راسخ الحضور. لم أستأذنه لنشر ما استوحى فأكتفى بنص ما تجلى لى، قلت ، مستوحيا قول النفرى مخاطبا الحق تعالى الذى قال ما قاله للنفرى حين امتلأ به وعيه، قلت

النص

حين يملأ الكونُ وعى العابر إليك يتجلّى المعنى،

أنا لست “أنا” حين أكون “معني“.

 حتى لو كنتَ تطمئننى بهذا التكريم، فانا لا أريد أن أطمئن ساكنا.

 أصدِّقك فرِحا مرعوبا،

 لكننى لا أصدق أنك تقصدنى” أنا” بـهذه الـ”أنت.

ومن أنا حتى تخاطبنى هكذا؟ إذا كنتُ أنا أنا، فلا معنى لي، ولا فائدة مني.  وإذا كنتُ أنا أنت، ضعتُ فى غباء الغرور الـمستسهِل.

أما إذا كنتُ وسيلة “معناك” إليهم، فأنا معنى الكون كله.

أنا، الذى هو ” لست أنا”،  أكون معنى على قدر ما يربطنى هذا المعنى بالآخرين،  فالكون.

يا فرحتى بالمعنى حين لا يعنى إلا أن أنبض فى رحاب الدورات داخلا خارجا، وبلا إعادة.

 هل يمكن أن أحمدك إلا بأن أجعل لأيامي”معنى؟” فأكون “معنى” الكون.

يتجلى معناىَ فى كل ما هو أنا بهم.أصبحُ أنا معنى الكون بفضلـِك.

و تدوم أنت كما هو أنت الذى نسعى إليه، دون أن تفارقنا، أو ننسلخ عن أنفسنا،  ليتحقق المعنى ونحن نشكِّلُهُ باستمرار دون نهاية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *