الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حكاية كتاب قديم لم يظهر (4) تصنيف وتشخيص الأمراض النفسية – الحلقة الرابعة: تاريخ حيرتى مع فكرة التشخيص (2)

حكاية كتاب قديم لم يظهر (4) تصنيف وتشخيص الأمراض النفسية – الحلقة الرابعة: تاريخ حيرتى مع فكرة التشخيص (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

7-12-2011

السنة الخامسة

 العدد:  1559

 

حكاية كتاب قديم لم يظهر (4)

تصنيف وتشخيص الأمراض النفسية

Nosology & Diagnosis in Psychiatry

الحلقة الرابعة: تاريخ حيرتى مع فكرة التشخيص (2)

الفصل الأول: الجزء الثانى

المحاكمة‏:‏

… كنت‏ ‏بعد‏ ‏ذلك(1)‏ ‏فى ‏الاجتماعات‏ ‏العلمية‏ ‏بقسم‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏بكلية‏ ‏الطب‏ ‏قصر‏ ‏العيني‏; ‏من‏ ‏أنصار‏ ‏تشخيص‏ ‏يبدو‏ ‏غريبا‏ ‏نوعا‏ ‏ما‏ ‏هو‏ “‏الذهان‏ ‏الكامن”(2) ‏وكذلك‏ “‏الفصام‏ ‏الكامن‏”:(3) ‏وكان‏ ‏أغلب‏ ‏زملائى ‏لا يتفقون معى حتى‏ ‏الهجوم أحيانا، وعندهم حق‏… ‏لأن‏ ‏الشيء‏ ‏الكامن‏ ‏ليس‏ ‏ظاهرا‏، ‏فكيف‏ ‏يصبح‏ ‏تشخيصاً معلناً وبالاسم، الكامن يظل كامنا و‏ما‏ ‏علينا‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏ننتظر‏ ‏حتى ‏يظهر‏، ‏وكنت‏ ‏أجيب‏ ‏وأتساءل‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ “‏وإلى ‏أن‏ ‏يظهر‏… ‏هل‏ ‏نعالجه‏ ‏على ‏أنه‏ ‏حالة‏ ‏قلق‏ ‏عادية‏ ‏مثلا‏ ‏لمجرد‏ ‏أن‏ ‏ظاهرها‏ ‏هو‏ ‏القلق؟‏” ‏ويقول‏ ‏بعضهم‏ “‏نعم‏.. ‏حتى ‏يثبت‏ ‏بالدليل‏ ‏القاطع‏ ‏والبرهان‏ ‏الساطع‏! ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏كذلك‏”، ‏وكنت‏ ‏أرفض‏ ‏أن‏ ‏ننتظر‏ ‏الدليل‏ ‏القاطع‏ ‏والبرهان‏ ‏الساطع‏ ‏وكأننا‏ ‏فى ‏المحكمة‏، ‏وكنت‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏ألتمس‏ ‏العذر‏ ‏لزملائى ‏الذين‏ ‏تعودوا‏ ‏على ‏التحديد‏ ‏من‏ ‏دراستهم‏ ‏الطبية‏ ‏دون‏ ‏تنمية‏ ‏القدرات‏ ‏الأخرى ‏لفهم‏ ‏الإنسان‏ ‏كإنسان‏ ‏له‏ ‏أبعاده‏ ‏العميقة‏ دون تدريب خيالهم على الامتداد ولو للتوقى، بمعنى أن تشخيص الكامن ربما يتيح لنا الفرصة ألا يظهر أصلاً، فتكون الوقاية.

لم‏ ‏أكن‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أتصور‏ ‏أبدا‏ ‏أنه‏ ‏يمكن‏ ‏تجزئة‏ ‏الانسان‏ ‏إلى ‏قطع‏ ‏فاسدة‏ ‏وأخرى ‏سليمة‏، ‏ثم‏ ‏نجمع‏ ‏القطع‏ ‏الفاسدة‏ ‏بجوار‏ ‏بعضها‏ ‏البعض‏ ‏والقطع‏ ‏السليمة‏ ‏بجوار‏ ‏بعضها‏ ‏البعض‏، ‏ثم‏ ‏نجمع ‏القطع‏ ‏الفاسدة‏ ‏معا ونشكلها كما يسمح نرتبها‏ أو معلوماتنا الظاهرة، ‏ثم‏ ‏نطلق‏ ‏عليها‏ ‏اسم‏ “‏كذا‏” فيكون هذا هو التشخيص، ‏ويهدأ‏ ‏توترنا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏نصل‏ ‏إلى ‏غاية‏ ‏المراد‏ ‏من‏ ‏رب‏ ‏العباد‏… !!، كان ذلك يؤرقنى وقد يبعدنى قليلا أو كثيرا عن المريض.

كان‏ ‏منظرنا‏ ‏ونحن‏ ‏نعقد‏ ‏الاجتماعات‏ ‏العلمية‏ ‏لفحص‏ ‏حالة‏ معا، ‏ومناقشتها ‏لمحاولة‏ ‏الاتفاق‏ ‏على ‏تشخيص‏، من ‏ثَمّ‏ ‏العلاج‏، ‏يشعرنى ‏أحيانا‏ ‏أننا‏ ‏فى ‏ساحة‏ ‏محكمة‏، ‏وأن‏ ‏وكيل‏ ‏النيابة‏ “‏الزميل‏ ‏الذى ‏يقدم‏ ‏الحالة‏” ‏يقرأ‏ ‏اعترافات‏ ‏المتهم‏ (‏المريض‏)، ‏وتتضخم‏ ‏الصورة‏ ‏فى ‏خيالى، ‏فأزيد‏ ‏عليها‏ ‏من‏ ‏الرتوش‏ ‏ما‏ ‏يجسمها‏ ‏مسرحية‏ ‏قضائية لا ترتبط بالعلاج والهدف من اجتماعنا إلا بأربطة واهية باهتة.

وأفيق‏ ‏من‏ ‏خيالى، ‏وأعترف أن‏ ‏ما‏ ‏يحدث‏ ‏فى ‏العلاج‏ الفعلى ‏كان‏ ‏يسير‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏طيب‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏التشخيص‏، وليس بسببه غالبا ‏إذن‏ ‏لماذا‏ ‏التشخيص؟

(2) المؤتمر:

فى ‏المؤتمر‏ ‏الذى ‏عقد‏ ‏فى ‏إبريل‏ 1989 ‏قدمت‏ ‏نقدى ‏لآخر‏ ‏تشخيص‏ ‏أمريكى (حتى ذلك الحين) DSM III، وأثناء المناقشة بعد الورقة ‏قام‏ ‏زميل‏ ‏مصرى ‏طيب‏ تعلم جدا فى “بلاد بَرّه” ‏يدافع‏ ‏عن هذا التقسيم‏ ‏مجيبا‏ ‏على ‏السؤال المحورى الذى أوردته فى ورقتى “‏لماذا‏ ‏التشخيص‏ ‏من‏ ‏مصدر‏ ‏واحد‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏الالتزام‏ ‏الحرفي؟ ‏قال‏ ‏الزميل‏ ما موجزه ‏إن‏ ‏ذلك‏ ‏يتم‏ ‏لأسباب‏ ‏قانونية‏ ‏أساسا‏ ‏يحتمى ‏بها‏ ‏الطبيب‏ ‏من‏ ‏أية ‏مشاكل‏ ‏مستقبلية‏ ‏فى ‏القضاء‏، ‏فالطبيب‏ ‏‏مادام‏ ‏يمشى ‏على ‏نظام‏ ‏الحكومة‏ ‏(التشخيصية)‏ ‏ويتبع‏ ‏الدليل‏ ‏المتفق‏ ‏عليه‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏على ‏حساب‏ ‏المريض‏، ‏فالقانون‏ ‏يحميه‏، احترمته طبعا احتراما حقيقيا، وعذرته، ثم حمدت‏ ‏الله‏ ‏فى سرى على تخلفنا وتذكرت بكل عرفان‏ ‏واحترام‏ ثقة ‏مرضانا‏ فى أطبائنا، تلك الثقة ‏التى ‏تتيح‏ ‏لنا‏ ‏حتى ‏الآن‏ ‏أن‏ ‏نساعدهم‏ ‏أعمق‏ ‏وأسرع‏ ‏دون‏ ‏تدخل‏ ‏المحامين‏ ‏أو‏ شركات التأمين أو ‏الحكومة‏ ‏التشخيصية‏ لصالح شركات الدواء غالبا، فعندنا يتم التعاقد مع المريض على مستويات متعددة أقلها ظاهر وقانونىّ، وأغلبها عميق وأخلاقى ودينى، فيقفز إلينا هدف العلاج أولا، وربما أخيرا من خلال الخبرة.

‏ لم أكن وحدى فى هذا الموقف، فقد‏ ‏بلغ‏ ‏الأمر‏ ‏بزميل‏ ‏عالم، أستاذى أيضا، هو أ.د. محمود سامى عبد الجواد،‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يشخص‏ ‏الحالة‏ ‏أحيانا بعلاجها‏، ‏يعنى ‏يقول‏ ‏هذه‏ “‏هستيريا‏ ‏عادية‏” ‏وتلك‏ “‏هستيريا‏ ‏ستيلازينية‏”(4) ‏أى ‏التى ‏تعالج‏ ‏بعقار‏ ‏اسمه‏ ‏ستيلازين‏ ‏مثلا‏، ‏وكان‏ ‏يقولها‏ صادقا ‏متفكها‏ معا، ‏فتعلمت منه أنه يقصد‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الهستيريا‏ الذى هو ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الذهان‏، آخذا فى الاعتبار الشخصية قبل المرض والتاريخ العائلى والأداء السابق… الخ.

‏ثم كم فرحت حين قرأت مؤخرا (لاحظ التاريخ) 1990  ‏فى ‏المجلة‏ ‏البريطانية‏ ‏للأمراض‏ ‏النفسية‏، بحثا جمع فيه الباحث عددا‏ من ‏الأمراض‏ ‏التى ‏تستجيب‏ ‏لعلاج‏ ‏مضادات‏ ‏الاكتئاب، ‏وبدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يقول‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الأمراض‏ ‏هى ‏نوع‏ ‏مكافئ‏ ‏للاكتئاب‏، ‏قال‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏الأمراض‏ ‏تمثل‏ “‏طيفا‏ ‏ما‏” من الأمراض، وأن ما ‏يجمعها‏ هو ‏أنها‏ ‏تستجيب‏ ‏لنفس‏ ‏العلاج‏(5)، ‏دون‏ ‏حتمية‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏اكتئابا‏، ‏وهذا‏ ‏قريب‏ ‏من‏ ‏رأى ‏زميلنا‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏يصنف‏ ‏أمراضه‏ ‏باستجابتها‏ لعقار بذاته، ‏وكلنا‏ ‏نفعل‏ ‏ذلك‏ ‏رضينا‏ ‏أم‏ ‏لم‏ ‏نرض(6)

الخلاصة مؤقتا:

من كل ذلك أخلص إلى القول أن‏ ‏مجرد‏ ‏وضع لافتة التشخيص هو إجراء‏ ‏قاصر‏ -غالبا- ‏عن‏ ‏توجيه‏ ‏العلاج‏، ‏وعموما‏ – ‏والحمد‏ ‏لله‏- ‏فإن‏ ‏العلاج‏ ‏عادة‏ ‏يسير‏ ‏حسب‏ “‏حيثيات‏ ‏الحكم‏” ‏وليس‏ ‏حسب‏ ‏منطوقه‏، ‏

إذن‏:.. ‏ما‏ ‏جدوى ‏التشخيص؟‏ ‏

الشهادة‏ ‏لله‏ ‏أننى – برغم كل ذلك- ‏كنت‏ ‏أخسر‏ ‏المعارك‏ ‏الكلامية‏ ‏فى ‏تشخيص‏ ‏ما‏ ‏هو‏ “‏كامن‏” ‏لأنه‏ “‏كامن‏” ‏ولأننا‏ ‏ليس‏ ‏عندنا‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏رؤية‏ ‏هذا‏ ‏الكمون،‏ ‏ولكن‏ ‏خسارتى ‏للمعارك‏ ‏الكلامية شبه العلمية‏ ‏لم‏ ‏تغير‏ ‏نظرتى ‏أبدا‏ ‏لمن هو‏ ‏الإنسان‏، ‏ولا‏ ‏هزت‏ ‏إحساسى ‏بنوع‏ ‏معاناته‏ ‏وعمق‏ ‏مشكلته‏.. ‏كنت‏ ‏أحس‏ ‏بها‏ ‏أعمق‏ ‏من‏ ‏مجرد‏ ‏القلق‏ ‏الصراعى، ‏ومحاولة‏ ‏التغلب‏ ‏عليه‏، ‏كنت‏ ‏أحس‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الاضطراب‏ ‏الكامن‏ ‏يتعلق‏ ‏بمشكلة‏  نوع ‏وجود‏ ‏المريض‏  والأهم ما يتعلق باحتمالات اتجاه مسار نمو ‏ذاته‏ ‏وليس‏ ‏فقط، بطريقة‏ ‏تكيفه‏، ‏وكان‏ ‏كل‏ ‏الزملاء‏ ‏يتحدثون‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الشعور‏ ‏الحائر‏ ‏بصورة‏ ‏أو‏ ‏بأخرى‏:‏

‏”‏هذه‏ ‏حالة‏ ‏قلق‏.. ‏ولكن‏ !!..”‏ ‏”‏لابد‏ ‏من‏ ‏القول‏ ‏بأن‏ ‏هناك‏ ‏شيئا‏ ‏ما‏… ‏أخطر‏”‏ ‏”‏ما‏ ‏علينا‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏ننتظر،‏… ‏ربما‏ ‏يتبين‏ ‏الأمر‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏”‏‏ ‏إلى ‏آخر‏ ‏هذه‏ ‏التعليقات‏ ‏الصادقة‏.‏

ضد‏ ‏الطب‏ ‏النفسى‏:‏

لعل‏ ‏أول‏ ‏من‏ ‏أشار‏ ‏إلى ‏عدم‏ ‏أهمية‏ ‏التشخيص‏ ‏هو‏ ‏هنريك‏ ‏نيومان‏Henrich Neumann ‏سنة‏ 1860 ‏الذى ‏أعلن‏ ‏أن‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏لن‏ ‏يتقدم‏ ‏إلا‏ ‏بإلقاء‏ ‏كل‏ ‏التشخيصات‏ ‏جانبا‏، ‏ثم‏ ‏ألمح‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏كارل‏ ‏ياسبرز‏Karl Jaspers، ‏ثم‏ ‏تمثلت‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأفكار‏ ‏الحديثة‏ ‏وخاصة‏ ‏من‏ ‏مدارس‏ ‏الظواهريين‏ ‏والوجوديين‏، ‏مثل‏ ‏كتابات‏ ‏لانج‏ Laing ‏وكوبر‏ Cooper ‏القاسية‏ ‏الصريحة‏، ‏وامتد هذا المدّ الثورى، أو شبه الثورى‏ ‏تحت‏ ‏عنوان‏ “‏ضد‏ ‏الطب‏ ‏النفسي‏” Antipsychiatry ‏فى محاولة: ‏تحطيم‏ ‏هذا‏ ‏الصنم‏، ‏وأعتقد أن كل‏ ‏من‏ ‏مارس‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏بأمانة‏ ‏اجتاحته‏ ‏رغبة‏ ‏فى ‏يوم‏ ‏ما‏، خاصة فى البداية ‏أن‏ ‏يحطم‏ ‏صنم التشخيص‏، ‏ولكن‏ ‏التحطيم‏ ‏وحده‏ ‏لا‏ ‏يغنى ‏شيئا‏ ‏بل‏ ‏قد‏ ‏يزيد‏ ‏الأمر‏ ‏تعقيدا‏، ما لم تسارع بتشكيل الجديد من الحطام.

‏‏بعد‏ ‏البريق‏ ‏الذى ‏لوحت‏ ‏به‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏المضادة‏ ‏للطب‏ ‏النفسى ‏فى ‏الخمسينات‏ ‏وأوائل‏ ‏الستينات‏، ‏انتهت‏ ‏نهاية‏ ‏تستحقها‏، ‏لأنها‏ ‏تجاوزت‏ ‏الحدود‏ ‏فى ‏إنكار‏ ‏التشخيص‏ ‏والمبالغة‏ ‏فى ‏وضع‏ ‏اللوم‏ ‏على ‏المجتمع‏ ‏والأسرة‏ ‏والسياسة‏، ‏بل‏ ‏تمادت‏ ‏حتى ‏إنكار‏ ‏العلاج‏ ‏الكيميائى ‏والفيزيائى، ‏بل‏ ‏إطلاق‏ ‏سراح‏ ‏المرضى ‏الخطرين‏ ‏والمتدهورين‏.‏

وقد‏ ‏فرحت‏ ‏جزئيا‏ ‏بنهايتها‏ ‏لأن‏ ‏سلبياتها‏ ‏غلبت‏، ‏لكنها‏ ‏كانت‏ ‏فرحة‏ ‏مشوبة‏ ‏بالحذر‏، ‏مثل‏ ‏الفرحة‏ ‏بنهاية‏ ‏الاتحاد‏ ‏السوفيتى ، ‏ليتركنا‏ ‏فى ‏أيدى ‏من‏ ‏لا‏ ‏يرحم‏ ‏من‏ ‏شركات‏ ‏الدواء‏ ‏فى ‏الطب‏ ‏النفسى، ‏وشركات‏ ‏السلاح‏ ‏والرفاهية‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏ ‏فى ‏مجالات‏ ‏السياسة‏ ‏والاقتصاد‏ 1992)‏(7)

وأيضا فى البحث العلمى:

فى هذه المقدمة أنا‏ ‏لا‏ ‏أتناول‏‏ ‏الموضوع‏ ‏بأسلوب‏ ‏البحث‏ ‏العلمى ‏وإنما‏ ‏بتاريخ‏ ‏تطور‏ ‏فكرى، ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏المشكلة‏ ‏قد‏ ‏مثلت‏ ‏شغلى ‏الشاغل‏ ‏من‏ ‏أول‏ ‏ما‏ ‏بدأت‏ ‏التفكير‏ ‏فى ‏شيء‏ ‏اسمه‏ ‏البحث‏ ‏العلمى، ‏فقد‏ ‏كانت‏ نفس المشكلة هى ‏بعض‏ ‏موضوع‏ ‏رسالتى ‏للحصول‏ ‏على ‏درجة‏ ‏الدكتوراه‏ ‏فى ‏الطب‏ ‏الباطنى ‏فرع‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏، ‏إذ‏ ‏كان‏ ‏الدافع‏ ‏الأساسى ‏لاختيار‏ ‏موضوع‏ ‏البحث‏ ‏هو‏ ‏إزاحة‏ ‏الستار‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الحالات‏ ‏الكامنة‏.‏

وكانت‏ ‏هناك‏ ‏طرق‏ ‏تساعد‏ ‏على ‏التشخيص‏ ‏منها‏ “‏التشخيص‏ ‏بالإثارة‏” ‏أى ‏أننا‏ ‏نثير‏ ‏الأعراض‏ ‏الكامنة‏ ‏ببعض‏ ‏العقاقير‏ ‏حتى ‏تكتمل‏ ‏الرؤية‏، ‏ومنها‏ ‏التشخيص‏ ‏بمساعدة‏ “‏الأقيسة‏ ‏النفسية‏ ‏للشخصية‏”، ‏وقد‏ ‏كان هذا هو‏ ‏بحثى ‏فى ‏الدكتوراه‏ ‏فى هذه المنطقة أملا فى‏ الوصول‏ ‏الى ‏حل‏، ولم‏ ‏أصل‏ ‏إلى ‏حل‏.. ‏بل‏ ‏زاد‏ ‏شكى ‏وقلقى، ‏فالاختبار‏ ‏الذى ‏استعملته‏ ‏وهو‏ ‏اختبار‏ ‏الشخصية‏ ‏المتعدد‏ ‏الأوجه‏MMPI  ‏فشل‏ ‏أن‏ ‏يصبح‏ ‏مساعدا‏ ‏على ‏التشخيص‏ وذلك مع استعمال عقار مثير هو الميثامفتيامين، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏فشله‏ ‏قد‏ ‏ألجأ‏ ‏بعض‏ ‏المشتغلين‏ ‏به‏ ‏أن‏ ‏يحاولوا تصنيف الأمراض برموز من هذا الاختبار لتحل محل‏ ‏التشخيص‏، ‏فبدل‏ ‏أن‏ ‏يقال‏ ‏فلان‏ ‏عنده‏ ‏المرض الفلانى‏ ‏مثلا‏ ‏يقال إن المريض‏ ‏فلانا‏ ‏رمزه كذا (29،7) مثلا… ‏الخ‏.

خرجت‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏البحث –بحث الدكتوراة-‏ ‏بعديد‏ ‏من‏ ‏علامات‏ ‏الاستفهام‏ ‏والجداول‏ ‏والأرقام‏ ‏التى ‏لم‏ ‏أجد‏ ‏لها‏ ‏معنى ‏يرضينى.‏ لكن‏ ‏ما‏ ‏استفدته‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة‏‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏المريض‏ ‏حين‏ ‏يتعرى ‏بالعقار‏ ‏الذى ‏كنت‏ ‏أستعمله‏ ‏للإثارة‏ ‏يصبح‏ ‏أقرب‏ ‏منى، وأوضح،… ‏وبالتالى ‏تتمرن‏ ‏حواسى ‏على ‏أن‏ ‏أفهم‏ ‏أكثر‏، ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏فى ‏الأمر‏، ‏أما‏ ‏نتائج‏ ‏هذا‏ ‏البحث‏ ‏فلم‏ ‏تقدم‏ ‏ولم‏ ‏تؤخر‏ ‏فى ‏علمى ‏شيئا‏ (‏كما‏ ‏ذكرت‏) ‏إلا‏ ‏أنى ‏ازددت‏ ‏علما‏.. ‏بجهلى..(8)

وحين‏ ‏بدأت‏ ‏الممارسة‏ ‏على ‏نطاق‏ ‏أوسع‏ ‏لعدة‏ ‏سنوات‏ ‏فى ‏عملى ‏الخاص‏، ‏وكنت‏ ‏أقابل‏ ‏شخصا‏ ‏مميزا‏ ‏أو‏ ‏فنانا‏ ‏ممن‏ ‏يتصادف‏ ‏أن‏ ‏يسألونى ‏النصيحة‏، ‏كنت‏ ‏أخجل‏ ‏وأتردد‏ ‏فى ‏أن‏ ‏أضع‏ ‏له‏ ‏تشخيصا‏،‏وأحس‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ “‏وشم‏” ‏سخيف‏ ‏لا‏ ‏يليق به، وإذا كنت قد رفضته للمريض العادى فقد كان رفضى أشد وأقوى بالنسبة لهذه الفئة.

ورغم‏ ‏هذا‏ ‏كله‏ ‏فقد‏ ‏كنت‏ ‏أفترض‏ ‏دائما‏ ‏أن‏ ‏النقص‏ ‏فى ‏قدراتى ‏أنا‏ ‏شخصيا‏ ‏لسبب‏ ‏أو‏ ‏لآخر‏.‏

فى ‏الخارج‏:‏

‏ ‏مرت‏ ‏الأيام‏ ‏وقرأت‏ ‏ومارست‏ ‏وبحثت‏، ‏ولم‏ ‏يشف‏ ‏غليلى ‏شئ‏، ‏فى هذا الصدد قلت‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏النقص الذى أعانى منه هو‏ ‏لأنى ‏لم‏ ‏أسافر‏ “‏بلاد‏ ‏بره‏”، ‏ولكن‏ ‏ها‏ ‏هو‏ ‏ذا‏ ‏أستاذى ‏الأمين‏ – ‏الأستاذ‏ ‏الدكتور‏ ‏عبد‏ ‏العزيزعسكر‏- ‏الذى ‏سافر‏ ‏وصبر‏ ‏وصابر‏ ‏ما‏ ‏زال‏ ‏يمارس‏ ‏مثل‏ ‏حيرتى، ‏ولكننى ‏عدت‏ ‏أمنِّى ‏نفسى ‏أنه‏: ‏ربما‏ ‏كان‏ ‏الحل‏ ‏ما‏ ‏زال‏ ‏فى ‏بلاد‏ ‏بره‏..، ‏وخاصة‏ ‏أن‏ ‏بعض‏ ‏زملائى ‏الذين‏ ‏عادوا‏ ‏من‏ ‏بلاد‏ ‏الانجليز‏ ‏كانوا‏ ‏أكثر‏ ‏تحديدا‏ – ‏وإن‏ ‏كانوا‏ ‏أقل‏ ‏تجديدا‏ – ‏وبالتالى ‏أكثر‏ ‏علما‏، ‏وأقل‏ ‏حيرة‏.‏(9)

ثم‏ ‏سافرت‏ ‏فى ‏مهمتى ‏العلمية‏ ‏إلى ‏فرنسا‏، ‏وكان‏ ‏برنامجى ‏لحسن‏ ‏الحظ‏ ‏برنامجا‏ ‏لبعض الوقت الأصلى فى الطب النفسى، فخصصت أغلب الوقت الحقيقى للاستكشاف المعرفى والتعرى الثقافى‏، وقد أمضيت أغلب فترات مهمتى فى ‏مستشفى ‏سانت‏ ‏آن‏ (‏أكبر‏ ‏المستشفيات‏ ‏النفسية‏ ‏وسط‏ ‏باريس‏)، ‏وكان‏ ‏أعظم‏ ‏ما‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏البلاد‏ ‏هو‏ ‏الحرية‏، ‏ليس‏ ‏فى ‏مظاهر‏ ‏الحياة‏ ‏فحسب‏، ‏ولكن‏ ‏فى ‏طريقة‏ ‏التفكير‏ ‏وأصالته‏، ‏وتجلى ذلك عيانا بيانات فى‏ ‏هذا‏ ‏المستشفى ‏بوضعه‏ ‏الجغرافى ‏والتاريخى وسط باريس، فكان ‏ملتقى ‏المدارس النفسية والطب نفسية‏ ‏المختلفة‏، ‏وكنت‏ ‏أحس‏ ‏أنى ‏فى ‏سوق‏ ‏عكاظ‏، ‏يأتى ‏كل‏ ‏صاحب‏ ‏مدرسة‏ ‏فى ‏يوم‏ ‏محدد‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏القاعة‏ ‏أو‏ ‏ما‏ ‏يجاورها‏، ‏ويأتى ‏اليه‏ ‏مريدوه‏ ‏تطوعا‏، ‏ويلقى ‏وجهة‏ ‏نظره‏ ‏بحماس‏ ‏أو‏ ‏بتحيز‏ ‏أو‏ ‏بهجوم‏ ‏مضاد‏، “‏هو‏ ‏حر‏”، ‏ثم‏ ‏فى ‏اليوم‏ ‏التالى ‏يأتى ‏فى ‏نفس‏ ‏المكان‏ ‏صاحب‏ ‏مدرسة‏ ‏أخرى ‏بمريديه‏ ‏أيضا‏… وتتكرر‏ ‏القصة‏، ‏وأهم‏ ‏ما‏ ‏وصلنى من ذلك هو‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الحرية‏ ‏العلمية‏ ‏والحلقات‏ ‏الدراسية‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏لها‏ ‏ارتباط‏ ‏ببرنامج‏ ‏دراسى ‏معين‏ ‏أو‏ ‏بامتحان‏ ‏يهدد‏، ‏أو‏ ‏بشهادة‏ ‏تعطى ‏أو‏ ‏تؤخذ‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏بالجامعة‏ ‏نفسها‏، ‏فرغم‏ ‏وجود‏ ‏القسم‏ ‏الجامعى ‏فى ‏نفس‏ ‏هذا‏ ‏المستشفى الجامعى ‏العام معا،‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏النشاط‏ ‏العلمى ‏الحر‏ ‏كان‏ ‏أكثر‏ ‏غنى ‏وأرحب‏ ‏ساحة‏ ‏من‏ ‏الاقتصار‏ ‏على ‏الجامعة‏ ‏ونشاطها‏ ‏المحدود‏.‏

وكأن‏ ‏مشكلة‏ ‏التشخيص‏ ‏كانت‏ ‏تنتظرنى هناك، ‏فقذ‏ ‏نظم‏ ‏لنا‏ ‏الأستاذ‏ ‏الدكتور‏ ‏ب‏ ‏يشو‏ P.Pichot ‏أستاذ‏ ‏كرسى ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏الإكلينيكى ‏بكلية‏ ‏الطب‏ ‏جامعة‏ ‏باريس‏ (‏وهو‏ ‏طبيب‏ ‏يمارس‏ ‏أساسا‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏من‏ ‏على ‏كرسى ‏علم‏ ‏النفس‏، ‏لعدم‏ ‏وجود‏ ‏كراسى “‏كفاية‏”..، ‏نفس‏ ‏القصة‏ !!. ‏ولكنه‏ ‏كان‏ ‏مهتما‏ ‏اهتماما‏ ‏خاصا‏ ‏بالأقيسة‏ ‏النفسية‏.. ‏أقول‏ ‏نظم‏ ‏لنا‏- ‏نحن‏ ‏الأجانب‏ ‏من‏ ‏العالم‏ ‏الثالث‏ ‏أساسا‏ (‏وحتى اليابان كانوا‏ ‏يضعونها‏ ‏فى ‏العالم‏ ‏الثالث.. ‏حينذاك‏) ‏محاضرات‏ ‏عن‏ ‏وجهة‏ ‏النظر‏ ‏الفرنسية‏ ‏فى ‏تشخيص‏ ‏وتقسيم‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏، ‏وكانت‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏حرة‏ ‏نسبيا‏، ‏اقتنعت‏ ‏بكثير‏ ‏منها‏، ‏ورفضت‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏اقتنعت‏ ‏به‏، ‏وكنت‏ ‏حين‏ ‏أناقش‏ ‏الأستاذ‏ ‏بيشو‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏التشخيصات‏ ‏التى ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏الجزم‏ ‏بها‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏شفاء‏ ‏المريض‏، ‏وكأننا‏ ‏نعلن‏ “‏تشخيص‏ ‏المريض‏ ‏بأثر‏ ‏رجعي‏” ‏كان‏ ‏يخرج‏ ‏الهواء‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏شفتتيه‏ ‏على ‏طريقة‏ ‏الفرنسيين‏ ‏ويرفع‏ ‏حاجبيه‏… ‏و‏…‏فقط‏.‏

وكان‏ ‏أطيب‏ ‏ما‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الحرية‏ ‏وأجمل‏ ‏ما‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العالم‏ ‏هو‏ ‏الاعتراف‏ ‏بالقصور واحترامه‏، ‏وبدأت‏ ‏أطمئن‏ ‏على ‏أن‏ ‏قصورى ‏ليس‏ ‏قصورا‏ ‏وجهلا‏ ‏شخصيا‏ ‏بحتا‏ – ‏وكان‏ ‏هناك‏ ‏من‏ ‏الاختلافات‏ ‏بين‏ ‏المدرسة‏ ‏الفرنسية (والأوربية عامة)‏ ‏والمدرسة‏ ‏الأنجلوسكسونية‏ (‏الانجليز‏ ‏والأمريكان‏) ‏ما يطمئننى إلى مشروعية حيرتى‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏النواحى، ‏ولما‏ ‏كان‏ ‏تعليمى هو ‏على ‏الطريقة‏ ‏الانجليزية‏ ‏وطبعى ‏أميل‏ ‏إلى ‏الطباع‏ ‏الشرق‏ ‏أوسطية‏ ‏فقد‏ ‏وجدت‏ ‏عند‏ ‏الفرنسيين‏ ‏شيئا‏ ‏يخرجنى ‏من‏ ‏قيود‏ ‏التشخيص‏ ‏المتحجر‏.‏

الأسلوبية‏ ‏فى ‏التشخص‏:‏

وقد‏ ‏حاول‏ ‏الأستاذ‏ ‏بيشو‏ ‏ذو‏ ‏الاهتمامات‏ ‏الاحصائية‏ ‏والعقل‏ ‏المنظم‏ ‏بالحساب‏، ‏أن‏ ‏يستخدم‏ ‏عقله‏ ‏الالكترونى ‏ويتعمق‏ ‏فى ‏مشكله‏ ‏التشخيص‏، فيقوم ببحوث بالمراسلة، إذ ‏يرسل‏ ‏مجموعة‏ ‏من‏ ‏الأعراض‏ ‏إلى ‏بضعة‏ ‏مئات‏ ‏من‏ ‏أطباء‏ ‏النفس‏ ‏فى ‏أمريكا‏ ‏وفرنسا‏ ‏وألمانيا‏ ‏وغيرها‏، ‏ويسألهم‏ ‏أسئلة‏ ‏محددة‏ ‏عن‏ ‏أى ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الأعراض‏ ‏تصف‏ ‏التشخيص‏ ‏الفلانى ‏عندهم‏، ‏ثم‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يربط‏ ‏بين‏ ‏استجابتهم‏ مع بعضها البعض، ‏وسمى ‏ذلك‏ “‏الأسلوبية‏ ‏فى ‏التشخيص” (10) ‏فى ‏مختلف‏ ‏البلاد‏ ‏نسبة‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏التشخيصات‏ ‏ترجع‏ ‏الى ‏أسلوب‏ ‏آلى ‏محدد‏ ‏يحكمه‏ ‏تنظيم‏ ‏معين‏ ‏فى ‏العقل‏، ‏وقد‏ ‏خرج‏ ‏بنتائج‏ ‏عامة‏ ‏تشير‏ ‏الى ‏أن‏ ‏الأطباء‏ ‏فى ‏كل‏ ‏بلد‏ ‏يكادون‏ ‏يتفقون‏ ‏فى ‏تجميع‏ ‏الأعراض‏ ‏فى ‏مجموعات‏، ‏ولكن‏ ‏اختلافهم‏ ‏هو‏ ‏فى ‏الأسماء‏ ‏التى ‏يطلقونها‏ ‏على ‏كل‏ ‏مجموعة‏، ‏وقد‏ ‏أفاد‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏إمكان‏ ‏المقارنة‏ ‏بين‏ ‏مجموعات‏ ‏الأطباء‏ ‏فى ‏البلاد‏ ‏المختلفة‏، ‏فإذا‏ ‏قال‏ ‏طبيب‏ ‏أمريكى ‏على ‏مريض‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏عنده‏ ‏هو‏ “‏فصام‏ ‏ضلالى “Paranoid Schizophrenia ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏يعنى ‏عند‏ ‏الفرنسى “‏مرض‏ ‏الضلال‏ ‏المزمن‏” Delire chronique ‏وعند‏ ‏الألمانى “‏كذا‏”… ‏وهكذا‏، ‏وكأنه‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏توجد‏ ‏شفرة‏ ‏للترجمة‏ ‏من‏ ‏مجموعة‏ ‏لأخرى ‏ومن‏ ‏بلد‏ ‏لآخر‏.

لم‏ ‏أكف‏ ‏عن‏ ‏التساؤلات‏، ‏لأنه‏ ‏إذ‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏كذلك‏.. ‏فلماذا‏ ‏لا‏ ‏يتفقون؟‏ ‏وهل‏ ‏يمثل‏ ‏هؤلاء‏ ‏الأطباء‏ ‏الذين‏ ‏أجرى ‏عليهم‏ ‏البحث‏ ‏بالمراسلة‏ ‏مفاهيم‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏الحديث؟‏ ‏وحتى ‏لو‏ ‏كان‏ ‏تمثيلا‏ ‏للأغلبية‏.. ‏فهل‏ ‏الأغلبية‏ ‏على ‏صواب؟؟‏ ‏وما‏ ‏شأن‏ ‏رأى ‏الأقلية؟(11)

وحاولت‏ ‏أن‏ ‏أحضر‏ ‏المدارس‏ ‏الأخرى ‏التحليلية‏ وغير التحليلية ‏لأهتدى ‏فحضرت‏ ‏للأستاذ‏ ‏الدكتور‏ “جاك لاكان‏”، ‏ولم‏ ‏أفهم‏ ‏منه‏ ‏شيئا‏، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏هذا‏ ‏فقط‏ ‏بسبب‏ ‏اللغة‏، ‏فالفرنسيون‏ ‏لا‏ ‏يفهمون‏ ‏منه‏ ‏شيئا أيضا أو هكذا قالوا لى‏، ‏لكننى ‏التقط‏ ‏منه‏ ‏ما‏ ‏يكفينى ‏من‏ ‏حيث‏ ‏تجاوز‏ ‏التشخيص‏ ‏إلى ‏عمق‏ ‏الوجود‏ ‏فى ‏أزمة‏ ‏المرض(12)

‏كان‏ ‏لاكان‏ ‏يحضر‏ ‏مع‏ ‏مريديه‏ ‏الى ‏سوق‏ ‏عكاظ‏ (‏نفس‏ ‏المستشفي‏: ‏سانت‏ ‏آن‏) ‏بنفس‏ ‏الطريقة‏ “العكاظية‏” ‏التى ‏أشرت‏ ‏إليها‏، ‏لكنه‏ ‏والحمد‏ ‏لله‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يتطرق‏ ‏إلى ‏التشخيص‏، ‏ربما‏، ‏أوربما‏ ‏تطرق‏ ‏وأنا‏ ‏لم‏ ‏أفهم‏، ‏لكننى ‏عرفت‏ ‏من‏ ‏زميلى ‏وصديقى ‏د‏. رفيق حاتم ‏أنه‏ ” ‏ضد‏ ‏الحرف‏” ، ‏الحرف‏ ‏الذى ‏شجبه‏ ‏النفرى ‏حتى ‏لو‏ ‏سمى ‏علما‏، ‏والذى ‏اقتصر‏ ‏عليه‏ ‏الـ‏ DSM III ‏بشكل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يشوه‏ ‏عقول‏ ‏الممارسين‏ ‏

ثم‏ ‏انتظمت‏ ‏عبر ‏مشاهدات‏ إكلينيكية ‏تليفزيونية‏ – ‏فى ‏فرنسا‏ – ‏فى ‏عيادة‏ ‏تحليلية‏ ‏للأطفال‏ ‏والمراهقين‏ ‏مع‏ ‏الأستاذين‏ ‏الدكتورين‏ ‏دياتكين‏، ‏و‏ ‏ليبوفيسى، ‏وكنت‏ ‏مع‏ ‏هؤلاء‏ ‏وأولئك‏ ‏التحليلين‏ ‏أعجب‏ ‏أشد‏ ‏العجب‏ ‏من‏ ‏العمق‏ ‏الذى ‏يصلون‏ ‏إليه‏ ‏فى ‏فهم‏ ‏النفس‏، ‏ونفس‏ ‏الأطفال‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏فى ‏سوائهم‏ ‏ومرضهم‏، ‏ووضعهم‏ ‏التشخيص‏ ‏جانبا‏، ‏ولكننى ‏كنت‏ ‏أمتلئ‏ ‏غيظا‏ ‏من‏ ‏الحظر ‏الذى ‏يمارسه‏ ‏أغلب هؤلاء التحليليين‏ ‏على ‏الربط بين هذه الممارسات العميقة، وبين ما هو “بيولوجى” الذى هو محور فكرى جنبا إلى جنب مع موقفى المضاد لكل ما هو جزئى كيميائى بحت‏.‏

المهم‏، ‏رحمتنى ‏رحلتى ‏إلى ‏فرنسا‏ ‏من‏ ‏الشعور‏ ‏بالنقص‏ ‏واتهام‏ ‏عقلى ‏بالقصور‏، ‏وأحسست‏ ‏فى ‏رحاب‏ ‏الحرية‏ ‏الفرنسية‏ ‏أنى ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أرفض‏ ‏وأن‏ ‏أحتج‏ ‏وأن‏ ‏أفكر‏، ‏وتيقنت‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏الفرنسيين‏ ‏والألمان‏ ‏كانوا‏ ‏دائما‏ ‏أصحاب‏ ‏أغلب‏ ‏الأفكار‏ ‏الأصيلة‏، ‏حتى انتهت، مخطئا غالبا، إلى أن كثيرا من‏ ‏الانجليز‏، ‏وأيضا ‏بعض‏ ‏الأمريكان‏ ‏الذين‏ ‏أخرجوا‏ ‏شيئا‏ ‏جديدا‏ فى فرعى وغيره ‏كانوا‏ ‏من‏ ‏أصل‏ ‏ألمانى..

 ‏وشعرت‏ ‏بالسجن‏ ‏الذى ‏نسجن‏ ‏أنفسنا‏ ‏خلفه‏ ‏ونحن‏ ‏نحبس‏ ‏فكرنا‏ ‏وراء‏ ‏أسوار‏ ‏المدرسة‏ ‏الانجليزية‏ ‏تعليما‏ ‏ومتابعة‏ ‏للبحث‏ ‏العلمى(13)

[1] – ‏لا‏ ‏حظ‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الكلام‏ ‏كان‏ ‏كتب‏ ‏سنة‏ 1971، ‏والإشارة‏ ‏هنا‏ ‏إلى ‏الستينات‏، ‏ومازال‏ ‏الأمر‏ ‏كذلك‏ !!

[2] – Latent Psychosis

[3] – Latent Schizophrenia

[4] – نسبة إلى العقار الأفضل فى علاجها برغم أنه أساسا مضاد للذهان والهسيتريا لا تعد ضمن الذهان

[5]-Hudson، J. and Pope Jr. (1990) Affective Spectrum Disorder: Does Antidepressant Response Identify a Family of Disorders With a Common Pathophysiology Am.J. Psychiatry 147:2، 552-562.

[6] – قبل أن تظهر هيراركية الخوارزمية Algorhtlym ثم تموت فى مهدها

[7] – 2011 وربما مثل الرعب الذى نعيشه هذه الأيام أن تنتهى ثورات الربيع العربيى 2011 مثل هذه النهاية! فوضى غير خلاقة.

[8] – ‏‏ثم‏ ‏بمرور‏ ‏الأيام‏ ‏ازددت‏ ‏احتراما‏ ‏لجهلى، ‏ولتخلفى ‏عن‏ ‏النشر‏، ‏فأحيانا‏ ‏يكون‏ ‏الجهل‏ ‏وقاية‏ ‏من‏ ‏علم‏ ‏زائف‏، ‏لعله‏ ‏هو‏ ‏علم‏ ‏الحرف‏ ‏الذى ‏اقتطفته‏ ‏فى ‏ورقتى ‏الأخيرة‏ ‏عن‏ ‏التكامل‏ ‏من‏ ‏منظور‏ ‏إسلامى،‏والتى ‏أشرت‏ ‏إليها‏ ‏فيما‏ ‏سبق‏، ‏مستشهدا‏ ‏بالنفرى ‏حين‏ ‏يقول‏:‏

فاخرج‏ ‏من‏ ‏الحرف‏ ‏تعلم‏ ‏علما‏ ‏لا‏ ‏ضد‏ ‏له‏ ‏وهو‏ ‏الربانى.‏

وتجهل‏ ‏جهلا‏ ‏لا‏ ‏ضد‏ ‏له‏ ‏وهو‏ ‏اليقين‏ ‏الحقيقى.‏

وقد‏ ‏فسرت‏ ‏الحرف‏ ‏على ‏أنه‏ ‏العلم‏ ‏المختزل‏، reductionistic science ‏واللغة‏ ‏الجامدة‏ ‏التى ‏تكبل‏ ‏العقل‏ ‏لا‏ ‏التى ‏تفتحه‏، ‏أو‏ ‏هو‏ ‏الـ‏DSM III ‏كمثال‏)‏

[9] – فضل الجهل والحيرة

[10] – Stereotypy in Diagnosis

[11] – ‏حضر‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏الأستاذ‏ ‏بيشو‏ ‏إلى ‏مصر‏ ‏فى ‏مؤتمر‏ ‏سنة‏ 1978 ‏وزرته‏ ‏بعدها‏ ‏فى ‏باريس‏ ‏زيارة‏ ‏عابرة‏، ‏ورأيت‏ ‏أنه‏ ‏هو‏ ‏أيضا‏ ‏قد‏ ‏تراجع‏ ‏بانتظام‏، ‏وهو‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏متقدما‏ ‏أبدا‏ ‏بالمعنى ‏الثورى، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏أبلغنى ‏كذلك‏ ‏أن‏ ‏التقسيم‏ ‏الفرنسى الذى حصلت عليه مكتوبا على الآلة الكاتبة كمسودة لم يطبع أبدا، و‏لم‏ ‏ير‏ ‏النور‏ ‏مستقلا‏، ‏مع أنه هو‏ ‏التقسيم‏ ‏الذى ‏استعنت‏ ‏به‏ ‏فى ‏إعداد‏ ‏مسودة‏ ‏التقسيم‏ ‏المصرى، DMPI ‏ سنة‏ 71 -72 ‏وأضاف‏ ‏بيشو‏ ‏أن‏ ‏الإغارة‏ ‏بالتقسيم‏ ‏الأمريكى ‏قد‏ ‏انتشرت‏ ‏حتى ‏اختفت‏ ‏الشخصية‏ ‏الفرنسية‏ ‏فى ‏التشخيص.

بل‏ ‏إن‏ ‏الأمر‏ ‏ازداد‏ ‏ظلاما‏ ‏وتسليما‏ ‏بعد‏ ‏موت‏ ‏هنرى ‏إى، ‏وبعد‏ ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏الأمركة‏ ، ‏والأسلوبية‏، ‏حتى ‏فى ‏فرنسا‏، ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏بلغنى ‏أيضا‏ ‏مؤخرا‏، ولا أعلم شيئا حاليا 2011 عن ما وصلت إليه ثورة الاستقلال الأوروبى فى فرعنا، وهل تواكبت  مع ثورة الاقتصاد وثورة الرأسمالية الوطنية ضد المالية العولمية المالية

[12] –  ‏‏سافر‏ ‏أحد‏ ‏أصدقائى ‏من‏ ‏طلبتى ‏مؤخرا‏ ‏إلى ‏فرنسا‏، ‏وهو‏ ‏من‏ ‏الذين‏ ‏يجيدون‏ ‏الفرنسية‏ ‏مثل‏ ‏العربية‏ (‏د‏.‏رفيق‏ ‏حاتم‏) ‏وعمل‏ ‏فى ‏فرنسا‏ ‏عامين‏، ‏وعايش‏ ‏الانبهار‏ ‏بفكر‏ ‏لاكان‏، ‏رغم‏ ‏عدم‏ ‏فهم‏ ‏الفرنسيين‏ ‏أنفسهم‏ ‏لمعظم‏ ‏ما‏ ‏يقول “لاكان” كما ذكرت‏، ‏وأيضا ما يكتب‏، ‏وكان‏ ‏من‏ ‏أغرب‏ ‏المصادفة‏ ‏أنه‏ ‏وجد‏ ‏نقط‏ ‏تشابه‏ ‏هائل‏ ‏بين‏ ‏طريقة تفكيرى‏ ‏وبين‏ ‏فكر‏ “‏لاكان”‏، ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن الاختلاف فى‏ ‏البعد‏ ‏البيولوجى ‏لا‏ ‏التحليلى ‏الذى ‏أتمسك‏ ‏به‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الأغرب‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏بعض‏ ‏الفرنسيين‏ ‏صنفونى – ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏صديقة‏ ‏مشتركة‏- ‏بأننى ‏ممثل‏ ‏مدرسة‏ ‏لاكان‏ ‏فى ‏مصر‏، ‏وأنا‏ ‏لم‏ ‏أقرأ‏ ‏حرفا‏ ‏عن‏ ‏لاكان‏، ‏ولم‏ ‏أفهم‏ ‏حرفا‏ ‏مما‏ ‏قال‏ ‏فى ‏المناسبتين‏ ‏اليتيمتين‏ ‏اللتين‏ ‏حضرتهما‏ ‏له‏ ‏فى مستشفى ‏سانت‏ ‏آن‏، ‏لكننى ‏حين‏ ‏استمعت‏ ‏إلى ‏زميلى ‏د. حاتم‏ ‏وجدت‏ ‏لاكان‏ ‏فى ‏شعرى ‏أكثرمما‏ ‏وجدته‏ ‏فى ‏أبحاثى ‏العلمية‏، ‏وخاصة‏ ‏فى ‏أطروحته‏ ‏عن‏ ” ‏الشيء‏”،‏وعلاقة‏ ‏اللغة‏ ‏بالتواجد‏ ‏فى ‏الواقع‏ ، ‏

‏ ‏مثلا: هذه‏ ‏القصيدة‏ ‏الذى ‏أقتطف‏ ‏منها‏ ‏بدايتها‏ ‏هنا‏ ‏تقول‏ ‏نفس‏ ‏الشيء‏، ‏وهى‏ ‏تؤكد‏ ‏علاقة‏ ‏اللغة‏، ‏بالشيء‏ ‏غير‏ ‏المحقق‏، ‏ونفى ‏المعنى ‏بمجرد‏ ‏أن‏ ‏يلبس‏ ‏الرمز‏ ‏…. الخ. ‏وهى قصيدة من  ‏سلسلة‏ ‏رؤى ‏بعنوان‏ ‏مقامات‏ ‏لم‏ ‏تنشر إلا فى موقعى إلكترونيا‏- ‏وقد تفيد فى عرض  ‏قوة‏ ‏التقاء‏ ‏الفكر‏ ‏من‏ ‏مداخل‏ ‏معرفية‏ ‏متعدد، وأيضا من خلال ثقافات متعددة‏:‏

مفتتح القصيدة‏:‏                                           

‏ ‏لا‏ ‏لم‏ ‏يــقــل‏ ‏بعد‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏يرتسم‏ ‏أبدا‏، ‏لأن‏ ‏الرسم‏ ‏ضد‏ ‏الإسم‏، ‏ضد‏ ‏الحرف‏، ‏ضد‏ ‏العين‏: ‏ضدالحق‏ ، ‏ضد‏ ‏الوجد‏ ‏سهما‏ ‏يغـــمد‏ ‏الجمل‏ ‏المفيدة‏ ‏فى ‏الرمال‏ ‏الزاحفة‏.‏

[13] – ‏(‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏انتهى ‏مع‏ ‏الإغارة‏ ‏الأمريكية‏ ‏المنظمة‏، ‏لكنها‏ ‏نهاية‏ ‏إلى ‏بداية‏، ‏من‏ ‏يدرى، ‏ولعل‏ ‏البداية‏ ‏تبدأ‏ ‏من‏ ‏هنا‏ ‏من‏ ‏مصر‏، ‏الآن‏ 1992 ‏وليس‏ ‏بعد‏، ‏نعم‏ ‏من‏ ‏الدول‏ ‏المتخلفة‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏تخلفها‏ ‏ميزة‏ ‏تثرى ‏أهل‏ ‏التقدم‏ ‏وأدعياءه‏ ‏رغم‏ ‏أنفهم‏).‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *