الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حوار مع مولانا النفّرى (24) مديح الجهل المعرفى، والتحفظ على العلم الزائف (2 -؟)

حوار مع مولانا النفّرى (24) مديح الجهل المعرفى، والتحفظ على العلم الزائف (2 -؟)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 20-4-2013

السنة السادسة

 العدد: 2059

  حوار مع مولانا النفّرى (24)

مديح الجهل المعرفى، والتحفظ على العلم الزائف (2 -؟)

أنهيت حوارى معك يا مولانا الأسبوع الماضى بقولى “ونواصل مع انتقاءات مريدك المغربى أ. د. توفيق رشد الأسبوع القادم ونحن نستمع إلى ما قاله لك عن العلم والجهل، وها هو الأسبوع القادم قد جاء، فحاولت أن أهرب من وعدى خوفا من نفس الاحتمالات التى ذكرتها الأسبوع الماضى وهى مظنة ترويج الجهل ونحن لسنا ناقصون، فلم أستطع.

 ما زلت يا مولانا أذكر حوارى مع شيخى محفوظ – حفظه الله- وهو يصر على أن حلّ مستقبل البشرية سوف يأتى بفضل العلم ومن العلم وبالعلم، أنا أعلم يا مولانا أنك كنت تتابعنا برغم أن شيخى – غالبا- لم يكن من مريديك، لكن ما وصلنى منه هو حب غامر واحترام مطلق لكل اجتهادك ومجاهدتك، لا أعرف لماذا لم أفتح معه بقدر كاف بعض ما كان يصلنى من مواقفك أو مخاطباتك، مع أننى أصدرت كتابى الأول عن بعض مواقفك وأنا فى صبحته، وقد امتدحه صديقه وإبنه د. زكى سالم وهو أكثر إحاطة منى بما هو تصوف، من أول الأمام الغزالى (الماجستير) إلى ابن عربى (الدكتوراه)، وكان الأستاذ يعرف بخل تلميذه هذا فى تقريظ أى عمل كان، وحين مدح هذا الكتاب الذى كتبته فى رحابك، قال لى شيخى محفوظ أن علىّ أن آخذ هذا المديح بحقه، لأنه صادر من قارئ مقل جدا فى مثل ذلك، المهم أننى أذكر يا مولانا أن د. زكى قال عن نصوصك عموما إنها تقترب من النص المقدس، لم يبالغ، ولم يعتبرها نصا مقدسا، لكنه من فرط تقديره الطيب لها  قال إن لها قيمة عالية إلى هذه الدرجة، ثم دعنى أسر إليك يا مولانا سرا كتمته طويلا حتى عن صاحبه، ذلك أنه خيل إلىّ أحيانا أننى لمحت طيفك بجوار عمنا عبد ربه التائه فى أصداء سيرة شيخى نجيب محفوظ، ولم أصدق، ولم أخبر أحدا حتى الشيخ عبد ربه نفسه.

  نرجع مرجوعنا إلى تقديس شيخى محفوظ لما هو علم، ولو أنه من محبى الشعارات لرفع شعارا يقول “العلم هو الحل”، ومع أننى لم أترك فرصة واحدة لم أعترض فيها على رأيه هذا، حتى فى نقدى لبعض أعماله، ومن ضمن ذلك دور “عرفة” فى “أولاد حارتنا” وكيف كان يحلم بإحياء الجبلاوى بأدواته العلمية (كما وصلتنى) بشكل أو بآخر، اعترضت على ذلك صارخا أنه إذا كان عرفة هو العلم، فلا وألف لا، وحين انتقلت مؤخرا إلى العلم المعرفى فالإدراك، انتبهت إلى أن “عرفة” ربما قد يشير إلى المعرفة الشاملة وليس بالضرورة إلى العلم الذى أتحفظ عليه كل هذا التحفظ قبل أن تتمادى يا مولانا فى تنبيهاتك هذه حول الحذر من تقديس أغلب مستويات العلم/الحرف/الساكن وأشكاله.

دعنى أنقل لك يا مولاى فقرة من نقاشى (مشاجراتى) مع شيخى محفوظ حول هذه النقطة دارت يوم لقاء استفردت به لحسن حظى بتاريخ (الأثنين9/1/1995) ونشرت هنا فى سلسلة نشرات فى “شرف صحبة نجيب محفوظ” بتاريخ 18/2/2010 جاء فيها:

“…….قلت‏ ‏له‏ إن العلم الآن يقفز قفزات عملاقة، ويغير من مناهجه، وينقدها، ويضيف إليها فى حركة وثابة، لا يستطيع أن يلاحقها كثير من العلماء أنفسهم عبر العالم، فما بالك عندنا، حيث توقف أغلب من يتصور أنه يتعاطى العلم عند علوم ومناهج الستينيات حتى الثمانينيات على الأكثر، ثم أضفت أن العالِم لا يكون‏ ‏عالما‏ ‏بحق‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏جو‏ ‏من‏ ‏الحرية‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تضع‏ ‏حدودا‏ ‏لحركية وعيه وتفكيره، …………. ……. وأن العلم الأحدث بمعنى الأحدث صار يعد، وينذر، ويوصى، ويشترط السماح بإعادة ‏النظر‏ ‏فى ‏كل‏ ‏المعطيات ‏دون استثناء، فكيف نطمئن إلى درجة السماح اللازمة لمثل هذه الحركية إذا كان ‏الحكام لهم مرجعية من خارج هذه الحركية الطليقة…………؟

‏”…بصوت‏ ‏متواضع‏ ‏بعد‏ ‏تفكير‏ ‏صامت‏، أصر‏ ‏الاستاذ‏، ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يظن‏ ‏أن الأمر ‏ ‏كذلك‏ ‏تماما‏، ‏وحتى إن‏ ‏كان‏ ‏كذلك‏، ‏فلنأخذ‏ ‏من‏ ‏العلم‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏لكل‏ ‏هذه‏ ‏المناهج‏ ‏الجديدة‏، ‏ولنركن‏ ‏جانبا‏، ولو لبعض‏ ‏الوقت‏ ‏الخوض‏ ‏فى ‏المسائل‏ ‏الفلسفية‏ ‏ونوع‏ ‏التفكير‏ ‏الذى ‏يمزج‏ ‏العلم‏ ‏بالعالـِم‏ هكذا، ثم راح يؤكد أن الحل الحقيقى لأزمة الإنسان المعاصر، هو فى الإنجاز العلمى تحت كل الظروف.

………………..

أبنتُ له ما يصلنى من أن العلماء الأقدر على الإضافة الآن، ‏ يأملون فى توسيع دائرة حركتهم المعرفية ‏ ‏بالنهل‏ ‏من‏ ‏مناهج وروافد‏ ‏الفن‏ ‏والأدب‏ ‏والإيمان، ثم إن المناهج العلمية الأحدث تتحدى الآن ما أصبح يسمى الكنيسة العلمية، يتجلى ذلك خاصة بالنسبة للعلوم الكموية الأحدث، والعلم المعرفى الأحدث أيضا، لم أكن قد قرأت له بعد مقالى القصير “أينشتاين شاعرا”(1) الذى نشرته فى الأهرام لاحقا وأعجب به حين قرأته له، وهو الذى عرّفت فيه الشعر بما هو تشكيل لغوى مقتحم، وليس مجرد قرض الشعر فى قصيدة، وبالتالى فإن الشعر شعرٌ، حتى لو كانت أبجديته علمية بحته، أو رياضية صرف، أطرق طويلا أكثر، وقال: “إنه لم يتابعنى بالتفصيل، ولكنه فى النهاية يوافقنى من حيث المبدأ”، خيل لى أنها موافقة مجاملة ولو جزئيا‏، ‏ثم‏ ‏عاد‏ ‏يصر‏ على ‏أن‏ ‏تضخم‏ ‏عطاء‏ ‏العلم‏، ‏حتى ‏من‏ ‏خلال‏ ‏منهج‏ ‏محدود‏ ‏سوف‏ ‏يتيح‏ ‏لأى ‏حكم‏ ‏كائنا‏ ‏من‏ ‏كان‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏عصريا‏، ‏وأن‏ ‏يتقدم‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏ ‏حتى ‏يصلح‏ ‏أخطاءه‏ لصالح ناسه.

أعلنت له شكوكى حول هذا الاحتمال،‏ ‏وجادلته كثيرا، ‏ ‏وضربت‏ ‏له‏ ‏مثلا‏ ‏من التسطيح‏ ‏الجارى ‏فى صورة تلك ‏المحاولات‏ ‏التبريرية المتعسفة لتفسير ‏النص‏ ‏الدينى ‏بالنص العلمى المغلق حيث توقف هؤلاء المفسرون عند أصنام المعاجم، ومنقول الحكايات.

 (انتهى المقتطف)

والآن يا مولانا: أى علم تنبهنا أنت إلى قصوره هكذا قبل ذلك بمئات السنين؟، وأى جهل تدعونا إلى النهل منه لنزداد علما؟

وقال لمولانا النفرى منموقف أنا منتهى أعزائى”:

وقال لى:

               “العلم على من رأنى أضر من الجهل”

فقلت لمولانا:

مازلت يا مولانا تنبهنا إلى قصور بعض العلم حتى الإضرار، والضرر بالنسبة لهذا العلم الأصعب هنا كما وصلنى هو أن يتصور أحدهم أن العلم ذاته يجلى الرؤية أكثر إذا ما تجلت، مع أننى عرفت عنك يا مولانا أن الرؤية هى هدف لا يجوز أصلا أن نصف به أحد، أو يصف أحد نفسه بأنه وصل إليه، اللهم إلا كشفا مرحليا إلى رؤية بعدية، وبالتالى، فقد يكون من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن نعثر على هذا الذى يستحق وصف “من رآنى”، فمن رآه يا مولاى ربما يكون قد خدعه العلم الذى هو دون الرؤية بمراتب كثيرة، فيختزل ما حسبه رؤية إلى علمه هذا، فتختنق منه احتمالات امتدادات رؤيته، فيضره علمه هذا، وهذا أهون بكثير مما جاء فى المقتطف من حوارى مع شيخى محفوظ تحت عنوان “التفسير العلمى للقرآن”، فالقرآن يا مولانا، “وعى خالص” كما تبين لى مؤخرا، وهو حين يقاس بمثل هذا العلم الأسطح، حتى لمن لم يره، يتململ من هذه الوسيلة التى تبدو لمن يستعملها، أنها تكريم للقرآن الكريم أو تمجيد لسبقه أو تأكيد لصحته وأنه من لدن عزيز حكيم، القرآن يا مولانا هو طريق رؤية ، ونور هداية، وهذا العلم المعلوماتى التفسيرى إنما هو إعاقة لإشراقات القرآن فى الوعى، فأى ضرر وأى غباء من مهزوزين مدعين من هذا التسطيح وهذه التبعية، ضرر لا يقتصر على سجنهم فى قصورهم المنهجى فحسب، بل يمتد إلى الإضرار بالمستسهلين والمتعجلين المؤلفة قلوبهم، بل أنه قد يعتم الرؤية عن من انتبه إلى الهداية المباشرة من نور القرآن الكريم، وهكذا يتضح لى أكثر كيف يكون العلم أضر على من رأى (إن وجد)، وطبعا على من سعى ليرى (استلهاما وتناغم وعى) وحتى على من كدح لعله يلاقيه فيأمل أن يرى.

 أما الجهل يا مولانا كما وصلنى منك الآن، فهو أقل ضررا لأنه أنفع ترشيدا، وأول أفضاله أنه يشكك من تصور أنه رآه: أنه فعل، وبالتالى فهو يفتح له الباب التالى لمزيد من السعى، وكثير من الكدح، حتى يأمل من جديد أن يرى، وهكذا ينقذه الجهل من جديد، بوعده أن  ثمة رؤية تنتظره بعد الرؤية، وثم نور يلوح فى وسط ظلام الجهل المشرق إلى ما لا نهاية، فالجهل هنا هو القائد باستمرار إلى مواصلة السير، فمن أين يأتى الضرر.

*****

وقال لمولانا النفرى من “موقف وراء المواقف”

وقال لى:

                اختم علمك بالجهل وإلا هلكت به

فقلت لمولانا:

هذا هو، ولو انتبه أولئك الذين غرهم علمهم، فحسبوه مسك الختام، فراحوا يزينون القرآن الكريم بهذا الذى وصلوا إليه، إذن لعرفوا أنهم إنما يَهْلَكون وتُهْلِكون بما وصلوا إليه، لأنهم لم يختموا علمهم بالجهل الذى يفتح لهم أبواب آفاق المعرفة، وأبواب الإدراك، ونبض الوعى، التى هى ثروة يسميها من لا يعرفها “جهلا”، ويتطاول عليها من يخاف منها فيسميها خرافة.

حين نختم علمنا بالجهل نحيا بكل من العلم والجهل، فالجهل فالعلم، فالعلم فالجهل، ويتكرر الإحياء ويتوارى الهلاك أو يستحيل

*****

وقال لمولانا النفرى منموقف حجاب الرؤية”

وقال لى:

                الجهل حدٌّ فى العلم، وللعلم حدود، وبين كل حدين جهل

فقلت لمولانا:

حين أعلم طلبتى وزملائى الأصغر أن البحث العلمى الجيد لا تكون نتاجه عظيمة ورائعة لمجرد أنه أثبت صدق وصحة الفرض الذى بدأ به، وإنما يكون لبنة فى بناء العلم الحقيقى حين تتخلق من نتائجه فروض جديدة، تثير احتمالات جديدة، ومن ثم بحوث جديدة، وهكذا أبدا، وقد وصلنى يا مولانا أن تلك الفروض وما يتفرع منها باستمرار هى موازية لما جاء فى هذا المقتطف لما هو جهل بين كل حدين.

فإن صح هذا يا مولانا فى التفكير العلمى الذى لم يستسلم للمناهج المغلقة النهاية، الحاسمة النتائج، فهو يصح أكثر بكثير فى مناهج العارفين دائمى السعى فى نور القرآن، وهدى الجهل، واحترام العلم معا.

*****

وقال لمولانا النفرى من “موقف محضر القدس الناطق”

وقال لى:

                 العلوم كلها حجب، كل علم منها حجاب نفسه، وحجاب غيره

فقلت لمولانا:

آه لو علم هؤلاء الذين يلتقطون نتائج أى علم يسمى كذلك، فيفرحون بها، ويصفقون لها، دون أن ينتبهوا أن هذه المعلومة نفسها تحجب المعلومة الأهم وراءها فى نفس موقعها، وأن العالم العارف الكادح الساعى، لا يقف عندها، ولا يصفق لها، بل  يفرح بها، لينطلق منها، ليس هذا فحسب، بل إن هذه المعلومة الحجاب، لا تتوقف عند حجب المعلومة الأوْلى بصفة العلم فى رحاب الجهل، بل إنها  تحجب معلومات أهم وأعمق، وأكثر عونا منهجا ومحتوى، وهذا ما تصنعه أغلب التفسيرات اللفظية والمعجمية للقرآن الكريم، ويسمى للأسف علم التفسير، وبالتالى فإن المستسلم لهذا العلم دون سعى أو تدبر، سوف تسكن حركته وراء حجاب غيره، وكأن مثل هذا العلم يحجب النور بدلا من أن ينشره ويضىء به ويسلم أدواته لكل صادق يحاول وهو يملك  أدوات صدقه من واقع فرحته ورضاه بجهله كما جاء فى المقتطف التالى الذى نختم به نشرة اليوم:

*****

وقال لمولانا النفرى من موقف حجاب الرؤية”

وقال لى:

               الجهل ثمرة العلم النافع، والرضا به  ثمرة الإخلاص الصادق

فقلت لمولانا:

أن نرضى بالجهل لا يعنى أن نتوقف عنده، ولا أن نستكين إليه، فما أوصلنا إليه نافعا هكذا إلا علم نافع أثمر هذا الجهل، أليس بين كل حدين من حدود العلم جهل؟! فنفع العلم يقاس بما أوصلنا إليه من جهل، نرضى به لننطلق منه من جديد، وهل يستطيع ذلك إلا مخلص صادق يعطى لكل مرحلة حقها بحقها، ويتكلم فيها بلغتها، وتحركه وعودها، فهو يرضى بالعلم مثمرا جهلا، ويرضى بالجهل صادقا مخلصا إلى علم جديد، وهكذا.

 

[1]- الأهرام 30- 5- 2005

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *