قراءة فى النفس البشرية
(من واقع ثقافتنا الشعبية)
أ.د. يحيى الرخاوى
2017
الطبعة الثانية
إهــــداء (الطبعة الأولى) 1992
إلى سعيد (أبو عيد)([1])
إهــــداء (الطبعة الثانية)
إلى المشاركين فى العلاج الجمعى (متدربين ومرضى)
فى قصر العينى طوال 46 عاما (1971-2017)
مقـدمة (الطبعة الأولى) ([2]) (1992):
هذه محاولة لكى نتعرف على أنفسنا من الوقوف أمام حكمة الـناس المركزة فى مَـثـَلٍ سائر، أو فى غناء تلقائى يردد موالا جميلا، ولا يمكن أن نزعم أن ما تقدمه هذه الدراسة يلتزم بأى قواعد اكاديمية لدراسة التراث الشعبى ، أو أنه حكم دامغ يثبت هذا الجانب من طباع الناس دون ذاك، أو يصف سمات خاصة بشعبنا الذى أطلق هذا المثل أو غـَنـَّى ذاك الموال، وإنما نحن نأمل أن يكون مجرد ”مدخل إلى النفس” فى عمقها الخاص حيث يصل تواجد الأنفس والتحامها إلى منطقة المعرفة المشتركة، وهى التى أسميناها ”علمٌ بالنفس“، ليكمل ماهو ”علم النفس”.!
فحين تلتحم الأنفس ”هنــاك” تنطلق الحكمـة بلا مؤلف له اسم ولقب، ونصبح جميعا تلاميذ فى مدرسة حدْس النــاس المباشر، ذلك الحدس الأقــدر على أن يعرّفنا “بعض ما هو نحن” بطريقة أكثر صدقا وأعمق غورا مما يـُفـرض على وجــداننا وحدسنا وفكرنا بإحصــائيات جامـدة باردة كقــوالب الثلج الصغيرة، أو بلغة علمية ثقيلة الرائحة قد تجعلنا نتنفس الضباب لا الهواء، أو باحتكار علماء لشــفرة المعـــرفة بوصاية صارمة معطـِّلة.
مقـدمة (الطبعة الثانية) (2017):
فى هذه الطبعة تمت تعديلات طفيفة جدا على النص الأصلى، كما حذفت فقرات سياسية مباشرة وجدت أنه لا لزوم لحشرها بعد أن انتهت مناسبتها .
هذا وقد أجلت مما سبق صدوره فى مجلة “الإنسان والتطور” فى باب “مثل وموال” قراءة نفسية فى أرجوزتين شعبيتين وكذا فى أربع “حواديت مصرية” إلى فرصة أخرى ربما تكون أكثر مناسبة.
الفصل الأول:
فصل فى: الحاجة إلى كبير ([3])
“من الاعتمادية الطبيعية إلى رحاب الناس”
المثــل الرئيس:
“إللى مالـُوش كبير… يشتريـلـُه كبير”
(إللى مالـُوش كبير… يشتريـلـُه كبير)
علاقة الكبير بالصغير (وبالعكس) حكاية قديمة، قدم الوجود البشرى، أو قدم وجود الحياة ذاتها، وإلى يومنا هذا ومعالم هذه العلاقة لم تتضح بالدرجة الكافية، ثم جاء ما يسمى بعلم النفس الحديث، فأسهم إسهامات لا بأس بها فى تقنين الصراع بين الأجيال وتوصيفه، كذلك ظهرت إشاعات التربية الحديثة فسمحت بحركة أوسع، وحرية أخدع لمن هو صغير فى مواجهة الكبير، وكعادتنا، وبسبب اضطرار أمْلـَتـْه ظروف مرحلة تطورنا (أو تخلـُّفنا!) أخذنا نردد، ونقلد، ثم نتراجع، ثم: يبدو أننا نقف على السلم الآن، نرقص أو نترنح (سواء)، ولكننا لا نصعد ولا نهبط ولا يرانا أحد.. ولكن يتربص بنا مصيرنا والتاريخ. المهم، تعالوا نبحث فى أوراقنا القديمة والحديثة ثم ننظر أين نحن؟ وكيف؟ ثم ماذا؟، إلى أين؟! لعلنا نتحرك كما ينبغى!
يبدو أننا ([4]) مازلنا ندرك حاجتنا الشديدة إلى الكبير، بشــكل ما، وأنــنا قبــل وبعــد الإغـارة الغــربية، مازلنا أقــرب إلى كونفوشيوس منا إلى لاوتسو([5])، وإلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام منا إلى إبن نوح.
وهذا المثل يعلن عدة أساسيات يمكن أن ننظر فيها على الوجه التالى:
أولا: أننا كبشر – صغار مهما كـَبـُرْنا- وتعبير “اللى مالوش” لا يقتصر على الصغير، بل يمتد إلى كل من ليس له كبير بغض النظر عن سن شهادة الميلاد.
ثانيا: أن حاجتنـــا إلى الـــكبير هى حاجة أصــيلة، لايمكن الاستغناء عنها، أو حتى الاستسلام للعجز عن إشباعها، وهذا وذاك وارد دائمــا، وخاصـــة لو افتقرنا إلى مصـــادر إشباعها.
ثالثا: أن الكبير – إن لم يوجد طبيعيا أو تلقائيا – فإنه يمكن أن يُـصـَنـَّع تصنيعا (أو يُشترى شراء)، ليسد هذه الحاجة الأساسية.
رابعا: أن ثمَّ تناقضا بين أن يكون الكبير مُشترى، وبين أنه يقوم فى نفس الوقت بدور الكبير القادر على تحمل الاعتماد، وتوجيه المسار([6]) .
والمثل بهذا التركيز، وهذه الدقة، يذكرنا بأن معركتنا فى سلسلة التطور ليست فى التخلص من الحلقة السابقة (الوالد)، وإنما فى الاعتماد عليها حتى تجاوزها دون الاستغناء عنها، أى بإعادة تنظيم العلاقات بحيث تأخذ مكانها المناسب فى التركيب الجديد، فليس المطلوب هو أن يتحرر الإبن من أبيه، وإنما المطلوب فى النهاية هو أن يصر الإبن – فى الوقت المناسب – أن يكون قائد المسيرة بأبيه – وليس بالرغم منه، ولا تحت أمره، ولا بدونه – مكمِّلا حلقات التطور المتداخلة إلى من يليه.. (يليهما) هكذا.
فإذا رجعنا إلى المثل وجدناه يعلن عن الحاجة إلى الكبير، دون تقديس له أو انسحاق تحته، بل هو يشير إلى تفوق واع، فالمشتـَرَى عادة هو تحت أمر وإذن الشارى لغرض ما، إذ لا يعقل – من حيث المبدأ – أن يكون ما أشتريه هو سيدى وقائدى، حيث أن فــعل الشراء نفســه يضــعه فى حجمه المتواضــع، ولأَنْ أشترى لى كبيرا أتوكأ عليه، وأستعمله فى حوارى ومسارى، لهو أمر يحمل معنى أنى (الشارى) أنا القائد، وفى نفس الوقت أنى أحتاج إلى شراء هذا الكبير وأنا قادر على ذلك، لماذا؟ لأستمر به إلى ما هو بعدنا: هو وأنا،([7]) اللهم إلا إذا اضطرب المسار واهتزت القوانين، وطغى المُشـْتـَرَى بعد أن تمكن (وهذا وارد أيضا، تاريخا، وفعلا).
ثم يأتى موضوع شراء الكبير فى الصداقة والعلاج النفسى وفى رحاب مشــايخ الطــرق، والشراء فى المثــل (وفى الحيــاة) لا يستلزم بالضرورة مقايضة مادية: مالا محددا، وأبسط أنواع المقايضة التى تجرى بالاعتمادية المتبادلة، يكون فى الصداقة، فصديقى هو كبيرى لأنه ناصحى ومســتشارى وملجئى ورفيـق طريقى، وأنا له كذلك، واحـدة بواحـدة، أو لعل ثمَّ (صديق) ثالث يقوم لأىٍّ منا بدور الكبير وهكذا، أى أن عقد شراء صداقة قد لا يكون بين اثنين فحسب، بل بين مجمــوعة من الناس تتبادل الشراء دون علم أفرادها بطبيعة الصفقة ([8]) وحسابات المكسب والخسارة، وشراء الصداقة يشمل شراء الكبير.
ثم تغيـَّرَ الحال، راح كل طرف يشك فى كل طرف آخر فى شركة الصداقة ويرجح أنه الخاسر، وادَّعى المثاليون أن الصداقة تضحية بلا ثمن، وأحـْبـِطَ آخرون حين وجدوا أن الكبير المـُعـِين هو أحوج إلى أن يـُعـَان.
جبتك يا عبد المعين تعينـِّى
أتاريك يا عبد المعين تتعان
ويتفاقم الموقف حين تتصادم احتياجات “الأخذ” و”الاعتمادية” بعضها ببعض.
وفى الصداقة الموضوعية ليس ثمَّ كبير أو صغير إلا بتبادل الأدوار، فمن هو كبير اليوم هو صغير – لصديقه – غدا، وحتى الاعتمادية الخفية أو المعلنة، تضع فى عمق العلاقة – هذا المعنى الكريم الذى نحاول الآن أن نقدمه، لنتجاوز من خلاله المعارك الوهمية التى فرضت علينا وأعاقت نمونا، فالمطلوب أن نجعل لفظ الكبير لفظا لا يعنى إلا الموقف المحدد بالمقدرة على الدعم (ولو المؤقت) وصِدْق النصح وبـَذْل الخبرة، وحين ندخل إلى باب الصداقة من هذا المدخل نتصور أننا نتخطى أوهام صراعات الأجيال إذا ما استعملنا لفظ كبير لصياغة: تبادل الاعتماد، وبالتالى تبادل أدوار من هو كبير حسب الأحوج والأقدر.
المــــوال المـُوَاكـِبْ:
فرض هذا الموال نفسه من خلال التداعى المناسب، وهو أرق، وأدق فى إعلان طبيعة الاحتياج، وصعوبة التعرى، وهو يـُصوِّر ما وراء الصداقة، ويعرى احتياج البشر لبعضهم البعض، وعجزهم – بصدق – عن ادعاء التضحية قصيرة العمر، خـَفـَيـَّة الشروط:
يقول الموال:
صاحبت صـاحب وقلت فْ يوم يشيل حـِمْــلي
جــاب حـِمـْلـــه التقيـــل وحطــُّـه على حـِمْــلي
لفـِّـيت جميع البلاد على صاحب يشيل حـِمْــلي
وتـْعبــت وشْـــــــقيت، لــكن بـــدون فـــــايدة
واللى اشتكيلـُهْ يقولـِّى: وَنـَا مين يشيل حـِملي
لأول وهلة يبدو لنا هذا الموال وكأنه يعرى درجة متوسطة تتصف بها حياتنا المعاصرة، ولكن إذا نظرنا إليه من بعد أعمق، فربما يتبين لنا أكثر وصفا للموقف الانفرادى (الشيزيدى (Schizoid فى عالم الغرب (مثلا) حيث يبدو أن كثيرا من الناس هناك قد استغنوا عن الصداقة، ربما لأنهم رفضوا فروسية مشبوهة، وشكـُّوا فى تضحية مشروطة، وتبينوا هموما ذاتية تكفيهم عن ادعاء معونة الغير، وهم أحوج ما يكونون إلى من يعينهم.
نعم: نحن نشيع ذلك عن الغرب، ولكن هذا الموال (وغيره) يشير إلى أن الأصدق منا، قد يكتشف أننا كذلك، أو ربما دون ذلك، وأن المطلوب ليس هو أن ندمغ الغرب بافتقاره إلى هذا النوع من التعاون الصداقاتى، ونفخر نحن بتصور التضحية وبتوهم الفداء، لأن المطلوب: لنا ولهم، أن نتجاوز يأسنا من الصداقة، بأن نعلن طبيعة الصفقة التى تسمح لنا بأن نشيل أحمال بعضنا البعض بعض الوقت، ذلك أنه بالرغم من أن كلا منا ممتلىء بأقوال شعبية سائرة تبرر تركيزه على نفسه، مثل:
“كل واحد إللى فيه مكفيه”
أو: “كل من هوّ مـَلـْهـِى فى حالـُـهْ”
إلا أنه لابد من أمل فى حسن توقيت تبـادل الاعتمــاد بالتناوب، فهذه الأحمال التى هى أمانة الحياة، والتى تبدو عند التركيز عليها أنها قاصمة الظهر أو على الأقل مـُغـْلـَقـَة ُ التواصل، هذه الأحمال والهموم تختلف شدتها من وقت إلى آخر، ويستحيل أن نتصور أنها ستلحق بنا جميعــا فى نفس الوقت بنفس الثقل، وبالتالى فثمة فرصة للخروج من هذا المأزق بما يمكن أن نسميه: التعاون بالتناوب
ولذلك فالموال يحتاج لمزيد من القراءة:
فهو لم يقرر ابتداء أن الصداقة منذ البداية ترمى إلى أن يحمل الصديق عنى ما أنوء به، ولكن الصداقة تنشأ ومعها هذا الاحتمال الكريم منذ البداية، فالشطر الأول لم يقل: صاحبت صاحب علشان يشيل حملى وانما وضع صيغة الاحتمال والتوقع قائلا:.. .. وقلت فْ يوم يشيل حـِمـْلى – وهنا يصبح فعل الصداقة هو البداية، ولكنها طيبة بما تحمل من احتمالات الأخذ والعطاء، حسب وقت وظروف الاحتياج، لكن الطرف الآخر سارع بإلقاء حمله على الطرف الأول – فورا – فناء ظهره بحمليهما معا، فما كان من الصاحب الأول، الطيب المتألم، إلا أن كشف عن حاجته أكثر، وراح يدورُ بها بدوره على جميع البلاد مطالبا بحقه المباشر فى الاعتماد على آخر، ولكن المفاجأة كانت صريحة وبسيطة، وهى مواجهة اليأس من الصداقة لو انقلبت إلى مجرد احتياج للاعتماد دون وعى بصفقة الأخذ والعطاء و”التساند الدورى المتبادل” إن صح التعبير، وبألفاظ أخرى: إن التساند الدورى يعنى أن أحمل حمل صديقى حين يكون حملى الشخصى أخف، وأن يحمل هو عنى حملينا بدوره حين تشتد حاجتى ويكون هو قد قوِىَ أكثر – ولو قليــلا – بمــا ســبق أن حمــلت عنــه ”بعض الوقت”.
أما أن تصبح المسألة شكوى واحتياج مـُلـِحّ متواصل، ثم ننعى الحظ ونندب الأيام، فلابد أن يتحوصل كل منا على ذاته، وكلٌّ يبادر بالتخلى ، وهات يا جرى.
هذا، ولما صار الحال إلى ما صار إليه: ظهرت خطوة شجاعة رغم عرْيها، وهى تسمى الأشياء بأسمائها، فتنامت مهنة العلاج النفسى وهى تعلن ذلك مباشرة: يوجد كتاب يقدم هذا النوع من العلاج بعنوان “صداقة للبيع“([9]) فأنت تذهب للطبيب النفسى (أو المعالج النفسى) تشترى وقته وعواطفه واهتمامه ورأيه، وتدفع له فى مقابل أن يشيل حملك، وهو قد يقوم بذلك من خلال تفســيرات تحليلية أو تأويلات شخصية، فالأهم – كما دلت أغلب الأبحاث الحديثة والأمينة – هو حضوره وإخلاصه، وحمله (ولو بعض الوقت) هموم الناس اللاجئين إلى رحابه، ورغم بشاعة تعرية هذه المهنة الكريمة باعتبارها ”للبيع”، فإنها تبدو حلا معاصرا مناسبا – للأسف – ولو لمرحلة صعبة لعلها تضرب التحوصل على الذات، ما دام الكل قد اتخــذ موقف ”وانا مين يشيل حملى” على أن هذا يبدو أنه الدور الأساسى لكل طبيب وخاصة طبيب العائلة ([10]).
فثمَّ موال آخر ينبه إلى هذه الحقيقة مباشرة حين يقول:
يا مين يجيب لى طبيب، يحـــل لى إشـــكال
مش بس يــــكتب دوا، ويقـــولهم إيش كـال([11])
يا ما قلبى شايل ومش قادر أقول إيش كان
وهنا تتجسد وظيفة الطبيب كـ حلال المشاكل أيضا وليس كاتب روشتة فقط، وقديما قالت الأرجوزة ([12]) “واحد اثنين سرجى مرجى، إنت حكيم ولا تمرجى؟” وقد سبق أن ميزتُ فى قراءتى لهذه الأرجوز بين الحكيم والتومرجى بأن الحكيم (وليس الطبيب أو الدكتور فقط) هو راعى الصـحة بكل أبعـادها: الصـحة الجسـمية.. والصـحة الاقتصـادية (مارا بالصحة النفسية والصحة الاجتماعية): إذ يأتى الرد:
أنا حكيم بتاع الصحة
العيـــــان أديلــه حقنــــة
والمســـكين أديلـه لقمــة
وهنا يشار أيضا مرة ثانية إلى فرط الاعتمادية على الطبيب، اعتمادية تذكرنا باحتياجنا المفرط إلى الكبير لدرجة أننا ننتظر أن يكون له دور حتى فى علاج الفقر والجوع بالمعنى المادى المباشر، ولا نستطيع أن نرفض أمل شعب يعانى كل هذه المعاناة ولا يثق فيه أحد ممن هم فوق، أن نرفض أمله المـُلـِحّ فى أن يأتى الحل دائما من فوق، بل إنه يتمادى فى تلك الاعتمادية حتى يصبح الكبير طبيبا كان أم حاكما هو مصدر كل شئ، وعليه أن يقوم بكل العمل.
ويؤكد هذا الموال أيضا على مفهوم آخر للطبيب غير حل المشاكل، وهو مفهوم الاستماع لما يحمل القلب من هموم لا يجد لها متنفثا ومستمعا متعاطفا، حتى ولو لم يحل – فعلا – شيئا، هذا المفهوم الذى شاع حول الطب النفسى خاصة حتى أصبح معنى العلاج النفسى عند أغلب الناس هو الفضفضة والحكى، وتمادِى قـَصـْر دور الطب النفسى على هذا المستوى دون غيره يعتبر خطأ شديدا، ذلك لأن الحكى والشكوى والتداعى ليست هى الحل الأوحد أو الأول، وإنما هى بداية لها ما بعدها، والتوقف عند البدايات – كما يحدث عادة، وكما يتوقع كثير من الأهل والمرضى – لا يحل شيئا، ولا يفيد شيئا، بل لعل التمادى فى البحث عن السبب، مع تزايد الاعتماد على الطبيب حلاَّل العقد، يأتى بعكس النتيجة إذ قد يـُثـَـبـِّـتُ الضعف وقد يبرر المرض، وحذق الطبيب (والمعالج) النفسى يأتى من مهارته فى ضبط الجرعة بين الشكوى والفضفضة، وبين البناء والاستقلال باستمرار.
والوقاية تستلزم أن يتذكر أى كبير أنه يحتاج بدوره إلى كبير، وكبير الكبير يحتاج إلى من هو أكبر، وقد يكون ذلك فى اتفاق معلن أو خفى يسمح بأن يأتيه الدعم المناسب من مجموع المعتمدين عليه، وبغير هذا الحوار بين القائد والجموع، لا مفر من الإنحراف إن آجلا أو عاجلا، والحوار الصحى هو الذى يمكن أن يرد الكبير عن انحرافه واغترابه وغروره فى الوقت المناسب، وقد ورد هذا التحذير من التمادى فى الاعتماد وتميز المشروط على الكبير فى المثل القائل:
قالوا لـْفرعون إيش فـَرْعـَـنـَـك
قال مالقيتش حد يردنى
ولا أظن أن الرد هنا ليس بمعنى رد القاضى ورفضه، وإنما يعنى: يمنعنى من التمادى. والتبادل فى الرعاية بين الكبير الطبيب، أو الكبير الحاكم وبين مـَرْضـَى الأول ورعـِيـّة الثانى، هو تبادل قائم حتما حتى لو أنكره كل من الطبيب والحاكم، وفى الطب النفسى خاصة، حين تتعمق الممارسة بدرجة إيجابية، لابد أن يكتشف الطبيب اعتماده على مرضاه كمصدر لإثراء معرفته وإثبات ذاته وتأكيد وجوده، (مع الانتباه إلى ألا يستعملهم كمصدر أساسى لاحتياجه العاطفى). كما أن الحاكم فى المجتمع الديمقراطى الحقيقى، لابد أن يستشعر أن رعيته المعتمدة عليه هى هى الكبير الذى يـَرُدّه إذا مال أو نسى أو تمادى أو ظلم (فى صورة نقد الصحف الجادّة أو التنظيمات المهنيـَّة المـُحاسِـبـَة أو القضاء.. إلخ).
وهكذا يمتد معنى المثل الأصلى الذى بدأنا به إلى أنه حتى الكبير (الحاكم) إنما يعين له (يشترى له) كبيرا (مجموعة المحكومين أو من يمثلهم نيابيا أو غيره) حتى يرحموه من تماديه فيما لا يدرى من انحرفات فردية محتملة.
لكن ثمة اعتمادية أخرى فى مجتمعنا لها دلالتها الخاصة، وأنت تكتشفها ويمكن أن ترصدها أيضا فى كثير من حكمتنا السائرة، وهى الاعتمــادية على شيخ هو “سيدنا” بالضرورة، سواء كان هذا الشيخ جثمان فى ضريح، أو هو شيخ طريقة يمشى على الأرض ويقوم بدور الموصِّل الجيــد إلى شــيخ الضريح، الذى قد يكون بدوره خطوة نحو الاعتمادية على المطلق الكونى اللامتناهى، وهذا مقبول بشروط القيام بمسئولية الفعل على أرض الواقع، ونحن نقصــر حديثنا هنا على حــاجة البشر الأحيــاء إلى البشر الأحياء الأكبر، وشيخ الطريقة والدرويش هما صورتان لهذا الكبير الذى قد يوصى المثل بشرائهما، لكن الشراء هذه المرة يتم دون فيزيتة عادة، ولكن مقابل عهد والتزام، ويقـدم الموال التالى، الطويل نسبيا، بعض ملامح هذا الكبير المتميز، ولكن لنبدأ خطوة خطوة، يبدأ الموال:
ياعينى إبكى وهاتى اللى عندك ولا تـْخـَبـِّيش
دمعــك صــحيح غــالى ([13])…. ولا بيجيش
والدنيــا هيـَّا كــده… الحلو ما بتــدِّيش
إلى هنا والموال يؤكد على حاجة الإنسان دائما أبدا إلى التنفيث، والبكاء، وارتفاع ثمن دمع العين، وصعوبة إدراره، هما أصدق فى الحزن، وأكثر احتواء للألم، وهذا أيضا عكس الشائع فى العلاج النفسى وعند العامة: من أن البكاء – مع الفضفضة– مفيد دائما فى التفريج والترويح، ذلك أن البكاء إذا تكرر وتمادى أصبح مـُجـْهـِضـًا لألـَمٍ أعمق قد يكون صاحبه أحوج ما يكون إلى معايشته ([14]).
أنا رحت لطبيب القلوب، لا رُقـْت، ولا فـَادْنـِيش
ثم يكمل الموال:
قالولى أهل الغرام بالوعد إرضى و عيش
وهكذا يؤكد الموال – بعد عتابه على الدنيا – أن طبيب القلوب لم ينفع هنا، وهذا حكم جيد من العامة، يقلل كثيرا من تأليه دور الطبيب النفسى، على أن فشل الطبيب كثيرا ما يكون لصالح صاحب الحاجة فى أن يرتد إلى الاعتماد على نفسه، أو أن يلجأ إلى طريق أكثر صحة وصدقا بما فى ذلك قبول المكتوب على أرض الواقع “الوعد” مهما كان مؤلما.
وقبل أن يذكر لنا الموال شــيئا عن البــديل الآخر الذى طرق بابه، يعلن حقيقة بسيطة مطروحة دائما وهى ضرورة الرضا بمعنى آخر غير القناعة الساكنة، وتتأكد هذه الضرورة إذا كان الحاكم المنفذ هو القـَدَر ذاته، والوعد هنا هو ما يعنيه الوعد المكتوب، ومع أن الإيحاء قد يذهب بالمتعجل إلى تصور الرضا دائما أبدا على أنه تسليم، إلا أن الرضا قد يكون أول خطوات تجاوز الواقع، لأن الوعد الذى تحقق لابد أن تغييره يتعلق بالخطوة التالية، لا بمحاربة ما تم، فهو”مكتوب” كشف عن وجهه، فالرضا هنا ليس تخديرا بل هو تنبيه إلى احترام ما هو بداية مما هو “الآن”، حيث يستطرد الموال:
نزلت ســاحة الرضا وقابلت فيهـا درويش
حاز الأدب وماشى لابس ثيــاب من خيش
نظر لى بعين الرضا ساعتها ولا سابنيش
ويلاحظ هنا ان تعبير ساحة الرضا يحمل أنه المكان الفسيح الذى تدور فيه الحركة، وليس السجن الذاتى الذى يفرض السكون بالتسليم العاجز.
وتطل علينا أيضا عين الرضا لتدل مرة أخرى على أنه القبول والفهم بما يشمل المـَعـِيـَّة “معا” ولو لفترة، الأمر الذى يؤكده تعبير “ولا سابنيش”، هى نظرة تقول: “نعم.. أنا معك“، ويجدر بنا أن نتذكر خطأ آخرا كان قد وقع فيه العلاج النفسى (والتحليل النفسى خاصة) حين ألغى فعل النظر المتبادل فى تأكيد التفاهم والمعية، وجعل الطبيب (أوالمحلل) يتجنب عمدا النظر فى عين مريضه، حتى قال بيرلز”([15]) عن فرويد أنه يبدو أنه كان مصـابا بعرض تجنب النظرات Gaze Avoidance، مما جعل هذا النـــوع من التحليل يسمى أحيانا: العــــلاج بالكلام حين يـُغفل عادة وسائل التواصل الأخرى، عبر قنوات متعددة ليست لفظية بالضرورة.
ثم يكمل الموال :
رحنا على المقصورة شفنا الأحبة جيش
والانتماء هنا ليس فقط إلى الكبير (الدرويش) الذى اسـْتقبـَلَ وقبل وصَاحـَبَ (وماسابنيش)، ولكن إلى الجموع معه الذين توجهوا نفس الاتجاه، وهذا أيضا يشير إلى جوهر ما يجرى فى العلاج الجمعى، وعلى نطاق أوسع فى “علاج الوسط“،
ثم يقول الموال:
وخدت منه العهد وبقيت ؟ أنا معاه درويش
وهكذا – نرى هنا أن ثمن شراء الكبير هو عهد والتزام، ثم يأتى التقمص بالكبير ليصبح مثله والأهم يصبحان “معا”، كخطوة أولى، وهذا طيب، ثم يتواصل الانتساب إلى الجماعة (كما يحدث فى العلاج الجمعى وعلاج الوسط) ثم يتراجع دور المعالج القائد تدريجيا، ويتواصل نمو الوعى الجمعى حتى تلتئم الجروح وينطلق النمو:
والجرح الأليم طاب([16]) وسؤالى لقيت له جواب
من أجمل ما نلاحظ هنا، فنتعلم، – أنه لم يكن هناك سؤال من البداية، ولم يـَرِدْ فى مقاطع الموال السابقة أنه ذهب إلى طبيب القلوب أو إلى الدرويش ليحصل على إجابة لسؤال محدد، وانما بدا الأمر وكأنه مشكلة عاطفية، أو حرمان أو إحباط يحتاج إلى دواء قلب، إلا أنه يبدو أن نظرة هذا الدرويش السمحة والواعدة، وجموع الأحبة ذات الوجهة الواحدة، جعلت السائل يتجاوز هذه الحاجة الفردية إلى ما بعدها من رحابة العلاقة الجماعية الأغنى، فضلا عن المعبر إلى الكبير الأكبر، الله أكبر، ويأتى عثوره على جواب السؤال هنا بمعنى أنه اهتدى لحل لحيرته الأصلية بشأن كيف يحصل على احتياجه من نفسه مع الناس بعد أن ارتقى من الاعتمادية الإيجابية إلى المـَـعـِـيـَّـة سويا “إليه”.
ويؤكد الجواب الذى نستنتجه ضمنا هنا أن المصدر الأكثر أمانا هو ”الأحبة جيش”، وليس الحبيب الواحد المـُهـَـدِّد بالهجر والضعف والإذلال، وما الدرويش إلا المسئول الذى يجتمع حوله الأحبة الجيش، لا لشخصه وانما لما يمثله من اتجاه، ثم يأتى آخر شطر فى الموال يعلن عمقا أعظم عن محدودية دور القائد (أيضا كما يحدث فى العلاج الجمعى) وربما يكون هذا هو أهم ما لفت نظرى فى الموال:
مـا فى شيخ كبيـر ولا عـم….
إلا ان كان فى البداية درويش
ويشير هذا الشــطر الأخير إلى عدة حقائق لا يمكن التغافل عنها على الوجه التالى (وهى تتجلى تلقائيا بلغة مهنية أخرى فى مراحل العلاج الجمعى أيضا):
- إن الحاجة إلى الكبير (الاعتمادية) هى أصل الدفع إلى الآخر: حبيبا كان أم صـاحبا أم شـيخا أم طبيبـا أم حاكمــا أم والـدا أم درويشا، لكنها ليست نهاية المطاف.
- إن هذا الكبير (العم) يبدأ سلم النمو درويشا بمعنى البداية المتواضعة دون التركيز على ذاته الخاصة، ثم يترقى فى مراتب الوعى والعطاء.
- إن تأكيد الموال على أن الدروشة ليست غاية فى ذاتها وإنما هى بداية نحو ما هو كبير، يـًطـَمـْئـِنُ الخائفين من غلبة الدروشة (القيادة) على أنها اعتماد مطلق وتسليم خرافى، وهذا يطمئنهم أنها بداية لها ما بعدها، وليست مجرد اعتمادية سطحية (وهو – مرة ثانية – ما يجرى مرحلة بمرحلة فى العلاج الجمعى كما أشرنا) وأن الطريق مفتوح لكل درويش ليصبح شيخنا كبيرا دعمًّـا، وهكذا.
وبعد
أرى أن نجمع فى النهاية هذا الموال على بعضه حتى يقرأه القارئ متواصلا وكأنه تصوير دقيق لبعض ما يجرى فى العلاج الجمعى بمراحله المتتالية.
ياعـينى إبـكــى وهـاتى اللى عنــدك ولا تـْخبيـِّـش
دمعـِـكْ صـحيح غـالى – يا عـين – ولا بيجيش
والدنــيــــا هيــَّــه كـــده للحـــــــلو مابتـــــَــدِّيش
أنا رحــت لطبيب القــــلوب، لا رُقـْت ولا فـَادْنيش
قـــالولى أهـــل الغــــرام بالوعد إرضى وعــيش
نزلت ســـاحة الرضـــا وقــــابلت فيهــــا درويش
حـــاز الأدب ومــــاشى لابس ثيــــاب مع خــيش
نظرة (نـَـظـْـرلى) بعين الرضا ساعتها ولا سابنيش
ورحــنا على المقصـــورة شــــفنا الأحبـــة جيش
وخــــدت منــه العهـــــد وبقيت أنا مـــعاه درويش
والجرح الأليم طاب وسؤالى لقيت له جواب
ما فى “شيخ كبير” ولا ”عم” إلا ان كان فى البداية درويش.
****
الفصل الثانى:
فصل فى: احتمال “فضل” النذالة والخسة..!!([17])
المثل الرئيس:
”عيش نـَدْل تموت مستور “
”عـِيشْ نـَدْل([18]) تموت مستور”
“واقعية الناس لا مثالية المكاتب”.
النذالة خلق كريه ما فى ذلك شك، وهى ضرب من الخسة والحقارة يسمح لصاحبهما بالدون من الفعل دون حرج، مع سبق الإصرار، وأفظع من ذلك أن تكون نذلا دون أن تـَعـْرِف= نذلا بالسليقة!!، مع تصور غير ذلك، والأفظع من الأفظع أن تكون نذلا وتدعى ضد النذالة.
ولكن، أليس للنذالة وجه آخر؟ استعمالٌ آخر؟
-1-
أول ما انتبهت إلى احتمــال وجود هذا الوجــه الآخر للنذالة، كان ذلك حين سمعت زميلا (من ساقية أبو شعرة)، يقول فى مناسبة جيدة :
“عيشْ ندل تموتْ مَـسـْتور “
فبادرتُ برفض هذا المثل رفضا تقليديا، وحين أعدتُ النظر فيه: تبين لى أن المســألة يمكن أن يكون لها وجه آخر:
ذلك أن بعض النذالة يمــكن أن يكون: وقاية محســوبة ضــد المثــالية المدَّعاة، أو أنه كشـــف لغطاء ادعاء عدم النذالة (المصاحب ربما بممارستها فى الخفاء) أو أنه إعلان لحقــِّـك فى أن تحمى نفسك – بالنذالة – فى مجتمع نذل.
فما أسهل أن يقولوا لك هذا عيب، وهذا لا يصح، ليمارسوا هم كل ما لا يصح، ماداموا قد استحوذوا – بأى طريقة – على القوة: من خلال احتكارٍ أو ثراءٍٍ أو سلطة، وقد يتواتر استعمال هذا الدفاع بوجه خاص لدى بعض التكتلات التى تعتبر أغلب وجودها ليس إلا دفاعا فى حرب عنصرية متصلة، فتستعمل النذالة خارج دائرة فصيلها، فى حين أنها قد تتراحم فيما بينها بشكل أو بآخر ([19]).
إذن، فثمَّ احتمال أن هذا المثل الواقعى لا يدعو بالضرورة إلى الخسة بقدر ما ينبه إلى نوع من النصاحة والانتباه، وأن فرط ادعاء الشهامة قد يخرب البيوت، وأنه قد يكون من حق الواعى من الناس أن يستعمل النذالة بحرص وشجاعة، لا أن يكون نذلا فى السر أو فى العلن، وشتان بين استعمال النذالة المؤقت من مضطرٍّ واعٍ، وبين دونية الوجود النذل المستتب !!
-2-
على أن ثمَّ اقترابا آخر من موضوع النذالة من حيث أن النذل لا يـُعتمد عليه، ولا تـُنتظر منه شهامة أو مساعدة أو سندا، إذ يقول المثل الثانى :
الندل مـَيـِّت وُهوَّّا حىّ، ما حدّ يعملْ حـِسَـابُـهْ :
زىّ الترمـِسْ النىّ، وجــودُهَ يـِشـْــبـِه غيـابـُه.
وهذا المثل ضعيف فى تفاصيله، والمناقشة التى تتجاوز ما قيل من أجله قد تكشف ضعفه هذا بدرجة كبيرة، ومع ذلك فلابد أن نأخذ هذا المثل – وغيره – فى حدود ما قيل فيه لا أكثر ولا أقل: فهو ينبه الذى يأمل فى النذل خيرا ألا يرجو منه ذلك، وهذا ما يعنيه بقوله: ”ما حد يعمل حسابه“، إذ لا ينبغى أن يـَـنتظر منه أحدٌ شيئا طيبا، ذلك أنك إذا ذهبت تستدين منه لم يسعفك، وإذا استشرته لم يصدُقـْك.. وهكذا، ومع هذا فتعبير، “ما حد يعمل حسابه”، يوحى بالإهمال أكثر من مجرد عدم الترجى، ومن هنا يأتى ضعف آخر فى وظيفة المثل الذى عادة ما ينصح الغافل، لا يزيده غفلة، وهذه النصيحة هنا معكوسة، فكيف لا تعمل حساب الندل ورصيده لا ينفذ من المقالب الجاهزة والمـُصـَـنـَّعة، ومن هنا لابد أن يـُعـْمل حسابه، مرة وألف مرة، لتوقيه، وإبطال شره، لكن المقصود غالبا هو أنه “لا يرتجَى منه خيرا”.
كما أن التشبيه بالترمس “الـنـَّىْ”: هو تشبيه قاصر، ففضلا عن أن الترمس النـِّـيىْ له فوائد حقيقية، فهو يـَعدُُ بأن يستوى أو حتى أن يـُبـَلّ فـَـيـُـنـَـبـِّـتْ، لكن يمكن قبول الفكرة باعتبار أن وجود هذا الترمس قد يشبه غيابه حالا ً، (حالة كونه نيئا) وليس “مسـتـَقـْبـَلاً” .
-3-
هذا مثل ضعيف، ورغم أنه يؤدى واجبه فى حدود ما قيل له.إلا أن ثم مثلا ثالثا لابد أن يستوقفنا حين يقول:
الندل يوْعـِد ويوْفـِى، والكريم يوْعـِد ويـِخـْلف
وقد قدَّرت أول ما قدرت أن هذا المثل يدعم فكرة أنه ليس دائما: “يحيا الثبات على المبدأ”، بل إن الثبات على المبدأ مع تغير الظروف قد يكون دليلا على الجمود والغباء، وبالتالى فإن الالتزام بالوفاء بالوعد هو هو، (هذه الفضيلة الجيدة) قد لا تكون دائما صفة حسنة إذا خدَمـَتْ جمودًا أو تصلـُّباً، فهذا النذل هنا يفى بالوعد لأنه جامد متعصب لا يلين أو يتكيف مع اختلاف الأحوال ما بين وقت الوعد وما بين أوان الوفاء، حتى لو أضرَّ هذا الوفاء بالهدف الأطيب بعد تغيـُّر الظروف.
أما الــكريم فعنده من الشـــجاعة والوعى ما يســمحان له بإعادة النظر، فهو لو أخلف وعــده، فإنه قد يفعل ذلك لأنه شجاع، ولأنه ربما اكتشــف حلاًّ أفضــل، فالمســألة ليســت فى أن يقـــال وفيا، ولكن المســألة أن يكون شجاعا كريما واعيا بتغير الظروف دائما أبدا، هادفا للخير فى كل الأحوال: وقت الوعد وحين يحين الوفاء.
ثم إننى بتأمل أهدأ، ومن عمق آخر، حضرنى احتمال آخر وهو أن كلمة “يوعد” هنا تعنى “يتوعد”، وبالتالى يصبح المعنى المراد هو إشارة إلى أن النذل قلبه أســود، إذا تـَوَعـَّد نـَفـَّذ وعيــده بقســــوة وإصرار، فلا مجــال عنـــده للســماح ولا رحمــة فى قلبـــه (الأسود)، أما الكريم فهو قد يـَتـَوَعـَّد ولكنه قادر على الســماح والعفو عند المقدرة، ومع أن هذا هو المعنى الأصح فان الغيظ لا يفارق الســامع، وكلمة يـِـوْفـِى ترن فى أذنه لأن الإنســان لا يـَـفـِى بالوعيد، وانما يـُنـَـفـِّـذُه.
-4-
النذالة جزء لا يتجزأ من الحياة، وهى مرفوضة ابتداء، الا أن الوعى بها، ومعاملتها بالمثل أحيانا، هما نوعان من اليقظة الواقية والواقعية، على أن ذلك لا ينبغى أبدا أن يكون تبريرا ولا ديدنا، فلنتشجع أكثر لنرى كيف يفل الحديد الحديد، فثمَّ أمثال أخرى تعلـِّمـُنـَا كيف نحدد مصالحنا من النذل فى حدود جزئية، فلا نقبله كله، ولا ننسحب أمامه فيخلو له الجو، ذلك أن كـَوْن النذل نذلا لا يمنع مــعاملته حتى بالنسب: ولكن بكلٍّ الحذر، بل إنه يمكن أن تكون هذه المعاملة سبيلا إلى الحد من نذالته إذا لقى من هو أكثر منه يقظة ومناورة، فمثل آخر يقول:
خـُدْ بنت الندل وخاصـْمـُهْ
فى هذا المثل دعوة إلى المواجهة الواعية ابتداء، ثم إنه يدعو ألا تأخذ البنت (البنت) بجريرة أبيها، وأخيرا فإن تجنب أذى النذل – حتى بعد مصاهرته – ممكن، ويتدرج هذا الموقف أمام النذالة (واللؤم) ليس بمجرد التجنب (المخاصمة) وانما إلى المواجهة بالهجوم بعد الحصول على بعض الحق:
خد القليل من اللئيم وذِمـّه
وهذه مناورة واقعية أيضا، صلحت حتى فى السياسة مما لا يعجب المثاليين الذين لا يتحركون من أماكنهم تحت عنوان ”الكل أو لا شئ” ومع ذلك، فإذا كان مبدأ “الخطوة خطوة” فيه شبهة التنازل المؤقت عن الحق، فإن مبدأ “الكل أو لا شئ” هو مبدأ طفلى لغير الواثق من نفسه ولا من قوته المتنامية، والسياسة الحكيمة قد تضطرنا إلى استعمال كل الأسلحة فى مختلف الأوقات حسب مقتضى الحال، والساسة أعلم.
-5-
فإذا تصــورنا بعد ذلك أن هذا الموقف (خدْ بنت النذل وخاصمه، وكذا: خذ القليل من اللئيم وذمه) هو موقف هجوم دفاعى واقعى تجاه الأنذال، حتى نصير فى قدرتهم وزيادة، فإننا يمكن أن نفسر أمثلة أخرى فى نفس الاتجاه، حسب ظروف استعمالها، مثل:
اللى ييجى مِنـُّه أحْسـَنْ مِنـُّه
وهذا المثـــل من أصرخ الأمثــال الانتهــازية، إذا تصـــورنا أنه موجـَّه لكل الناس، ولكن إذا تصورنا أنه موجه للئيم والنذل فحسب، فإنه يصبح فى نفس اتجاه الواقعية والهجوم الدفاعى الذى أشرنا إليه، ويؤكد هذا الرأى مثل قريب منه يقول :
شعرهْ من دقن الخنزير
بما يعنى أن أى شئ مهما كان قليلا حتى من خنزير هو أفضل من “لا شىء”، وهذه أيضا درجة من النصاحة الشعبية، برغم ما فيه من المخاطرة، لأن النذل قد يكون أخبث فيوقـِعُ من يحاول التحايل عليه فى مصائب أكبر، وهنا يقفز لنا مثل آخر يوصِى بتجنبه تماما بما ذلك تجنب المعاتبة، فمن ناحية هى لا تفيد، ومن ناحية أخرى قد يستغلها لمزيد من النذالة.
عـِتاب الندل اجـْـتـِـنـَـابـُه
وإن كنت أفضل أن أقرأ هذا المثل أحيانا على أنه “عقاب الندل اجتنابه”، (وليس مجرد “عتاب”) والاجتناب قد يكون استعلاء وإهمالا، ورفضا للمساواة والتنزه عن معاملته معاملة المثل وهذا ما يتضح من قولهم:
إن عضـِّنى الكلب ماليش ناب أعضه
وان سبـِّنى الندل ماليش لسان أسبه
والمعنى أنه ليس لى نفس نذالة وقدرة لسانه على الفُـحـْش.
كما أن الندل عادةً لا ينفع فيه عقاب أصلا، فهو لا يهمه إلا الفريسة الماثلة أمامه، واجتنابه لن يعلمه شيئا، لأنه لا يتعلم من الخبرة، ولا يخجل ولا ينظر لبعيد بحيث يردعه عقاب أو حتى اجتناب، فالاجتناب هنا لصالح المنسحب إذا لم يكن فى مستوى الهجوم بنفس اللغة للعجز عن استعمال النذالة ولو من الظاهر([20]).
وبلادة الندل فى عدم المبالاة بما يصله من إيذاء تـُذكـِّرنا بتفاعل الرذيل فى مثل هذه المواقف:
تـَفـُّوا على وش الرذيل قال دِى مـَطـَره
وبلادة الندل وافتقاده للكرامة يبرر استشهادنا ببلادة الرذيل، وتتأكد بلادة الندل فى المثل:
إضرَبْ الندل واكـْـفيهْ
وبـُوسْ راسُـــه يكـَـفـِّيه
وهذا ليس تسامحا أو رضا بقدر ما هو افتقاد للتفاعل الأبىّ
-6-
وهكذا يعلمنا الأدب الشعبى – بحذر شديد – أن التعميم هو دائما خطر، لأن الناس تختلف، والمواقف تختلف، كما ينبهنا إلى واقع ضرورة التعامل مع كل صنوف البشر، ثم يتقدم خطوة إلى تجزئ المواقف، فما كل نذل هو نذل طول الوقت، ولا هو نذل فى كل ما يفعل، ومع كل ما يملك، وكل ما (ومن) ينتمى إليه، وبالتالى فإمكانية التعامل مع أجزائه الطيبة، أو خلقه البرئ، أو عطائه القليل، هو ممكن فعلا وواقعا، إلا أن الوقاية الحقيقية من ألاعيب النذالة لا تكون إلا بالقوة الذاتية المتزايدة، فى مواجهة الأنذال واللئام، فثمة أساليب أخرى مطروحة دائما للتعامل مع اللئام، من مركز أقوى ولكنه أصعب، مثلما يقوله الموال التالى:
خســيس عمــل مَقـْبـَحـَة رايـِدْ بهــا عـِنـْـدى
عملت أنا الطيبــة شـوف فـرق دى من دي
والله ان كسيت الخسيس حرير من الهندي
ياكل فى خيـــرك وعنــد النــاس يدم فيــك
هـَـلـْبـَتّ يا عـــين بعــــد الشـَّـــرْد ما تـِنــْـدي
فالخســيس هنا (وهو مرادف للندل) يـُرَدُّ عليه بالإحسان، ولكن من مركز القوة، ومعرفة أن من يتعامل بالطيبة الواعية القادرة لا ينبغى أن ينتظر جزاء أصلاً، بل لعله ينتظر العكس (إنكار الجميل، والتنكر للعطاء).
بل إن الملاحظ أن مـِنْ طبع الخسيس ألا يكتفى بإنكار العطاء.بل إنه يبادر بالهجوم على صاحب الفضل عليه، ومن عمق معين يمكن أن نفهم هذا الهجوم باعتباره نوعا من الدفاع ضد الاعتراف بالضعف والحاجة، وهو موقف عام ليس من صفات الخسيس خاصة، بل إن الأخذ المعلن والمشروط هو أمر شديد الصعوبة حتى على الشخص العادى وخاصة من لم يتجاوز الموقع البارنوى([21])، فهو هنا يتجنب الأخذ، ويخاف من الاقتراب والحنان([22]): مرة بالأنسحاب إلى عزلته فى حالة من اللاعلاقة، ومرة أخرى بالهجوم المباشر والتشكيك فى الحب والصدق، ولكنه انسحاب وهجوم من واقع رفض موقف الاعتراف بالضعف والحاجة للأخذ – وفى نفس الوقت: هو موقف يعلن احترام المتألم الأبى لصدق العطاء وفيض الحنان.
ثم قد يتحور هذا الموقف (البارنوى) ويتلوث ليصبح الهجوم تحت الحزام، وفى غير المواجهة، فالموال هنا يقول “عند الناس يذم فيك“، ولا يقول يذمـَّـك أو يهاجمك، وجها لوجه، ذلك أن الخسيس إذا هاجم صاحب الفضل وجها لوجه، فقد ينقطع فضله، أو تـُكـْشف خسته، لكنه يتمسكن أو ينتظر أو يناور حتى يحصل على مطلبه، ثم يمارس نوعا دنيئا من الهجوم بتشويه صورة الكريم عند الناس بالذم وإنكار الجميل.
-7-
ثمَّ موقف آخر قد يضطر إليه الإنسان فى مواجهة اللئيم، خاصة إذا انتقل وضع اللئيم من المستـِذل المتمسكن: إلى صاحب السلطة بشكل أو بآخر، هنا يصبح الألم مضاعفا فى معاملته، فأنت قد لا تستطيع أن تأخذ منه ولا حتى شعرة من ذقنه، ولا تملك أحيانا أن تخاصمه، وقد تضطرك الأمور إلى معاملته من واقع سلطته، وهنا يصبح الوعى بالموقف شديد الإيلام.
الله يلعنك يا زمان وأنت بقيت بالهم
والــكلب لما حــكم قــالـُّـه الأسد ياعم
هذه الرؤية ليست تبريرا للنفاق، وإنما هى مواكبة للألم نتيجة للاضطرار، تراها فى كل موقع سلطوى حين تأتى السلطة نتاجا غير طبيعى لظروف طارئة – ولعل الصورة التى نشأ فيها هذه المثل – أصلا – كانت – مثلا – صورة عمدة فى قرية وفى نفس الوقت، هو قاطع طريق، ومحتكر أرزاق، وإذ يقف أمامه شيخ بلد كريم، أو فقيه فاضل عاقل، يرجو قضاء حاجة له أو للناس المستجيرين به، فيصده بنذالة الأوغاد، فيتولـَّد المثل ويتردد، الا أن هذه الصورة قد أصبح لها ما يقابلها على أعلى مستوى علمى ثقافى، فأحيانا يشعر الأصغر والأكثر أمانة فى مجال مناقشة رسالة علمية (مثلا)، أو حكم على بحث، أو ترشيح لجائزة، يشعر هذا الأصغر أن محـَـكـِّـمـِـيه أدنى منه مرتبة فى العلم أو الأمانة أو الاجتهاد، وأن الزمان هو الذى اضطره لقبول هذا الوضع، وأن عليه أن يمضغ ألم الواقع ويصبر ويقول، وهو الأسد، يقول للكلب “يا عم” ..، ولو على سبيل الانتظار حتى تتعدل الأمور أو يعـّدلها هو، على أن الأكثر من الأكثر إيلاما ليس فى مجرد أن الأسد صاحب الحاجة يقول للكلب الحاكم يا عم، بل إن الحاكم (الكلب) قد يرده بعد هذا التنازل الواقعى المؤلم المهين، وقديما سئل أعرابى ما أشق الأمور على النفس قال:
وقوف الكريمِ ببابِ اللئيم ثم يـَرُدُّه
- 8 -
ونحب أن نؤكد أن دقة هذا الموال وما ارتبط به من تفسير واستشهادات تكمن فى الألم المصاحب للتنازل المؤقت، فأن تلعن الزمان وتشعر بالهم وأنت – الأسد – تقول للكلب يا عم، هو موقف واقعى مؤلم، وهو العكس تماما من مثل آخر يدعو للنفاق صراحة، وهو المثل الذى يقول:
اللى يتجوز أمى أقوله يا عمى
الأول: اضطرار واقعى مؤلم.
والثانى: – فى استعماله السلبى – ذل إرادى إنتهازى مستسهل.
وبعد
هكذا نرى كيف أن الأمثال والمواويل ليست حكما عاما يصدره الشعب مجتمعا، ولا هى دلالة على طباع غالبة، بقدر ما هى رؤية مخترقة فى موقف محدد،
ولابد أن نشك فى جدوى أية دراسة تعتمد فقط على إحصاء كمى لاتجاه الأمثال عامة، ما لم تأخذ فى الإعتبار التفرقة النوعية فى توقيت ظهور المثل ومواقف استعماله، وهو أمر يكاد يكون بعيدا عن متناول الدراسات المتعجلة أو المسطحة.
الفصل الثالث:
فصل فى: بعض تشكيلات الأخلاق
وأنواعها، واختراقها بما يستأهل([23])
المثل الرئيس:
“إن سرقت اسرق جمل
وان عشقت اعشق قمر”
“إن سرقت اسرق جمل
وان عشقت اعشق قمر”
يبدو هذا المثل وكأنه أعرف بدخائل النفس وطبيعتها، إلا أن فى المثل قدرا كبيرا من النفعية الواقعية، نفصِّــلهما بعد قليل.
وهو مثل لا يدعو إلى السرقة، ولكن إذا كنتَ لابد فاعلها فاعملها بما تستحق، وحين نقرأ المثل لأول وهلة يمكن أن يصلنا أنه يـَضرب ما هو أخلاق بشكل ما، ولكن علينا أن نتذكر أن إشكالة تحديد ماهية الأخلاق ما زالت مشكلة لم تحل حلا يرضى الجميع، أو حتى تتفق عليه الغالبية،
* فثمَّة أخلاق العبيد.. حيث تعلو القيمة الخلقية بقدر الطاعة والإذعان.
* وثمَّ أخلاق التجار حيث يُحسب رصيد الأخلاق ضمن حسابات الأرباح وميزانيات العام، أو ميزانيات العمر، حتى فى تصور حسابات الآخرة.
* وثمَّة أخلاق الكلمات البراقة: حيث الأخلاق ألفاظ شيقة مرصوصة، ومثاليات حالمة مكتوبة (لم تــُخـْـتبر).
* وثمَّة أخلاق معظم الخطباء وأغلب الساسة: حيث الأخلاق صفقات معلنة، ووعود مشروطة، ورشاو محسوبة، وتأجيل هروبـى، حتى لو بدا ذلك انتظارا لقضاء الله:
“على ما يـِنـْقطِع الجريد يفعل الله ما يريد”.
* وثمَّة أخلاق الجبن والسلامة: وأنه بقدر ما “لا تفعل” “تـَسـْـلـَم”..الخ..الخ.
و …”فين الهرب … يا عرب”
فأى أخلاق يضربها هذا المثل؟
دعنا ننطلق ابتداء من ترجيح أن: “الأخلاق: هى الفطرة فى جدل مبدع”
فإذا كان الأمر كذلك، فهذا المثل لا يضرب الأخلاق، ولا يدعو إلى السرقة، ولكنه يكشف الخبىء، ويعرى للمواجهة، فكأنه يقول:
إن كنت قد ضبطت نفسك متلبسا بالرغبة فى امتلاك ما ليس لك، وبررت ذلك لنفسك فلتتقدم بقدر ما يحمل قرارك من مسئولية المخاطرة.
وإن كنت ولابد عاشقا (بالمعنى الموازى للسرقة وما تحمل من مغامرة واختراق، وتخط ٍّ للحواجز، وتدبير للوصال..الخ) فلتفعلها مع من يستحق هذه المغامرة الجسور وهو المحبوب الذى يستأهلها.
هكذا يـَضْـرِبُ هذا المثـُل التردد ولا يـضرب ما هو أخلاق دون تحفظ، فهو يحفز على المخاطرة ما دام الوعى يـِقـظـًـا، فيقول لنا: تحمل مسئولية قرارك، وعمق فعل إرادتك، وحدد أبعاد فعلك حتى تستبين أين أنت، وإلى أين، ولماذا، فإذا دفعت ثمن كل هذا، فليكن الثمن على قدر البضاعة، أما أن تكون سارقا سريا مدعيا العفة فيسرق “لا شعورك” ولو سرقة تافهة وأنت ترفع شعارات الفضيلة، أو تكون عاشقا متسولا تضغط على نفسك لقبول مَـنْ تـَقـَبـَّلـَك حتى تتغافل عن ما ترفضه فيها، فسوف تدفع ثمنا غاليا دون مقابل، وسوف تخدع نفسك مغتربا غير فاضل ولا واع بدخيلة خبثك، ولا مسيطر على ناتج فعلك.
السرقة الخفية أبشع أنواع السرقة، تجدها فى إعلانات السياسة، كما تجدها فى بعض مناهج البحث العلمى، وتجدها فى رشاوى مسطـِّحى الأديان، كذلك تجدها فى العقاقير المزركشة المصقولة لشركات الأدوية القوية، والذى يـُخفى لافتة “حرامي” من فوق كل هذه النشاطات ثلاثة أمور:
الأول: لبس ثوب العصرية والتحلى بأرقام الإحصاء والتكنولوجيا.
الثانى: أن الذى يقوم بها هم غالبية بشكل يصعب تصورهم جميعا لصوصا.
الثالث: إذعان المجنى عليهم واستسلامهم فى تخدير غبى لا يخلو من إعجاب أحيانا منبهر.
وأكاد أتصور أن المثل أصدق وأصرح من كل هذا إذ يسمى الأشياء بأسمائها، فالسرقة فيه سرقة، ليست اقتباسا، ولا شركة توظيف أموال، ولا بنك استثمار،…الخ، والجمل فيه جمل ظاهر للعيان، وكأنه يقول:
فلنكن صرحاء ونعلنها، ليس فقط لكى نجعل المخاطرة “تساوي”، ولكن أيضا وقبلا لنجعل الأمور أوضح ونسمى الأشياء بأسمائها ونتحمل مسئولية أفعالنا.
وثمَّ مثل آخر لا يكتفى بأن يعلى من شأن السرقة المعلنة مقارنة بالسرقة الخفية، وإنما هو يحفز على التـَّحــَدَّى الصعب، حين يـُتهم الناس إنسانا شريفا بأنه ليس كذلك، فينتقم منهم (ومن نفسه) بأن يكون عند سوء ظنهم (واللى عاجبه):
إن سـَمـُّوكْ حرامى، شـَرْشـَر مَنـْجـَـلـَـك
وهذا حثٌّ ايضا إلى التمادى فى الأمر حتى لو كان خطأ ً بـُعدا عن الميوعة، وقـُبولا للتحدى: ثم نرى.
وقفة من بـُـعـْدٍ آخر تجاه الشطر الثانى من المثل تنبهنا إلى أن الدعوة إلى عشق من هى “كالقمر” بحيث تستأهل ما يبذله العاشق فى سبيلها ليست هى القاعدة دائما فى الحس الشعبى، فالجمال وحده ليس هو مؤهلات الحب دائما أبدا، فالحب أينما توجـَّه، يبرر نفسه بنفسه حتى لو لم يكن المحبوب فيه ما يبهر من ظاهر ما يلفت الانتباه، وفى هذا يقول المثل:
حبيبك حـِبّ، ولو كان دب
الفصل الرابع:
فصل فى: هامش عن حدود النصح([24])
المثل الرئيس:
“إنصح أخوك من الصبح للظهر؟
إن ما تنصحشى غـِشـُّهْ بقيت النهار”
“إنصح أخوك من الصبح للظهر؟
إن ما تنصحشى غشه بقيت النهار”
ماذا يقول هذا المثل؟
هل ينهى عن النصح؟ هل يشجع على الغش؟ هل ينبه إلى أن النصائح ينبغى أن تكون فى حدود؟ فإذا كان الأمر كذلك، ألايكفى أن يكون التوقف عن النصح – بعد ما فشل – هو الإجراء الأنسب بدلا من أن “تغشه” بقية النهار؟
وهل يتفق هذا المثل مع ترجيح أن النصح والإرشاد، والنهى والتنبيه، لا يصلحون لمن يصر على “ما هو” عليه، أو لمن لا يستطيع إلا أن يكون “كما هو” مصداقا للمثل الآخر الذى يقول:
“نهيتك ما انتهيت والطبع فيك غالب،
وديل الكلب عمره ما ينعدل ولو علقت فيه قالب”؟
وفى محاولة الرد على كل هذه التساؤلات نقول:
أولا: إن الافراط فى النصيحة قد يُحدث عكس المراد منه وكثيرا ما يأتى المريض (المدمن بالذات) مع أهله (والده بالذات) وكل ما يطلبه الوالد (ة) من الطبيب هو أن ينصح إبنه بكذا وكيت، وكثيرا ما يصبح الموقف أقرب إلى الهزل، لأن النصح بالنصح يتم أمام المريض (أو المدمن)، وقد تكون إجابة الطبيب، مستعمـِـلاً نفس الهزل الكاشف حين يقول للأب: ”ما تـِنـْـصـَحـُه أنت يا أخى، ألم يشبع نصائحا منك!” ثم يستمر الحوار حتى ينتهى أحيانا بكتابة صريحة على الوصفة (الروشتة) أنه “ممنوع النصح والإرشاد” (ولو مرحليا!) (حتى لا يأتى بعكس المراد).
ثانيا: إن النصح يحتاج إلى مصداقية الناصح مثلما يحتاج إلى تحضير المنصوح لاستقبال النصيحة، وأخيرا فهو يحتاج إلى علاقة “مناسبة” بينهما، أما النصائح العشوائية، والصارخة، واللاطمة، والخطابية فهى إن لم تضر، عادة لا تنفع.
ثالثا: إن كثيرا من الذين يمارسون هواية (لا عبادة) الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، لا يضبطون جرعة النصائح ولا طريقة النصائح، ولا اختلاف مـُتـَـلـَـقـِّى النصائح.
رابعا: إن من العلامات الإيجابية التى تشير إلى احتمال نفع النصيحة أن تـُعطى لطالبها، وليس أن تـُلقى هكذا على الطريق لغير أهلها، مع الاعتراف بأن تمييز أهلها من غير أهلها أمر صعب، يقول مثل آخر .
إللى ما يشاوْرَك ما تـْدِلـّه“
غير أنه فى بعض الأحيان يكون طلب المشورة مجرد تحصيل حاصل أو إبراء ذمة.
وفى السياسة يصل الأمر إلى أن تــُطلب النصيحة والمشورة من المعارضة لإكمال الديكور اللازم للديمقراطية الزائفة (أو الحقيقية، إنْ وُجدت).
خامسا: إن الكف عن النصح لمن لا ينتصح هو أول خطوات ضبط الجرعة، وهو أسلوب عاقل مهذب، وقد يصلح له مثل عربى آخر يقول:
“اللى ما يسمـَعْ منك، أتركه عنك“([25])
لكن لماذا تمادى المثل المصرى الرئيسى إلى هذا الموقف الحازم الذى يكاد أن يصل إلى حد القسوة على الذى لم يستمع للنصح؟ نرجع ذلك إلى إحتمالات عديدة منها:
1- أن يكون مجرد الكف عن النصح، رغم رؤية الضرر المحتمل، هو “غش بالصمت”، والغش العلنى أشرف من الغش بالصمت، مع أنه قد وصلنى بعض لغة الصمت الأقوى وأنا أفسر موقف الأغلبية الصامتة فى مصر، وكأن لسان حالهم يقول للحكام: “آنفلقوا وادفعوا الثمن”. إلا أن هذا بدا لى أنه يمكن أيضا أن يكون دلالة على مزيد من العمى لأن الناس لا الحكام هم الذين يدفعون الثمن.
2- أن يكون الغش المأمور به فى المثل “غشُّـهْ بقية النهار” هو عقابٌ موقـِظٌ، بمعنى فض الاعتمادية، وإثارة التحدى، فالمغشوش (الذى لم ينتصح) يمكن أن يستشعر هذا الموقف الساخر المتحدى فيعيد النظر فى احتمال الأخد بالنصيحة التى أهدرها
سادسا: إن من أسخف ما يـُسدَى من نصائح تلك التى تبدو من باب تحصيل الحاصل، أو تكرار أبسط قواعد السلوك، وكثيرا ما يتكرر ذلك فى برامج الأطفال (المصرية)، أو البرامج التى يقدمها بعض السادة االمختصون فى الطب النفسى، أو علم النفس، أو التربية، من أمثال” ننصح الأم أن تحب أولادها (كذا؟!) أو ننصح الطالب أن يذاكر دروسه، أو ننصح الجميع أن يفضلوا الخير على الشر!!! وسخف مثل هذه النصائح يتعرّى حين تفترض أن عكسها محتمل، فبديهى أنه من الاستحالة -مثلا – أن ننصح الأم أن تكره ابنها، أو أن ننصح الطالب أن يهمل دروسه!! فما لزوم هذا الكلام (النصائحى!) تحصيل الحاصل.
وقد عبرت عن بعض ذلك ساخراً فى ديوانى بالعامية “أغوار النفس”:
ثـُمَّ إنّّ اُلأُم لازِمْْ إِنـّها تراعى عـِيـَالـْهـَا
بعد ما انــْـفــُـك العقد إللى ف خيالها
يعنى تعمل زى ما بنقولــّها
مش كما طبيعتها أو من قلبها
فلقد ثبتْْ: إن الـعُـَقدْْ “وِحـْشـَةْ قوى”!!.
الفصل الخامس:
فصل فى: الجذب والصد: فى الصداقة والهجر([26])
(صعوبات العلاقة بالآخر)
الموال الرئيس:
الصاحب اللى يفوتـَكْ يـقـَّن انه ماتْْ
أترك سبيله ولا تندم على اللى فاتْ
الصـقر بيطيـر و بيعـلـى و لـه هـمـَّـاتْ
يــقـعـد فـى الجـو عـام و لاّ اتـــنيـــن
يموت من الجوع و لا يحـوِّد على الرِّمـَّــاتْ
-1-
الصاحب اللى يفوتك يـقـَّن انه ماتْ ([27])
أترك سبيله ولا تندم على اللى فاتْ
الصقر بيطير و بيعـلـى وله هـمـَّاتْ
يـقعـد فـى الجو عام و لاّ اتــنيـن
يموت من الجوع و لا يحوِّد على الرماتْ ([28])
هذه الصورة تجسد نوعا من الإباء القوى فى التعامل مع إعلان حاجة الانسان للصديق، والاعتراف بصعوبة تحمل الهجر ولكن بنبل مترفـِّع!
والتفسير الخلقى لأول وهله يوحى بأن هذا الموقف هو موقف كريم رائع ينبغى أن يتصف به كل ذى كرامة وشـَمـَم، ولكن يبدو أن الأمر ليس كذلك تماما، فهذا أمر قد يدل- أيضا- على الصـَّـلـَف وشدة التأثر بالهجر، نتيجة للحاجة الخفية الشديدة للاعتماد بشكل ما على صحبة هذا الهاجر، وبالتالى فإن صاحب مثل هذه الشخصية([29]) يشعر أن هذا الهجر هو رفض وليس مجرد ترك، وهو لشدة حاجته للآخر- دون إعلان خشية إظهار الضعف – يحتج على هذا الرفض برفض أشد، يتمثل فى هذا التصعيد إلى هذا العلو الشاهق الذى يتصف به الصقر([30]) (عند العرب خاصة) وهو فى الظاهر علوا، ولكنه فى الواقع وِحـْدة ما بعدها وحدة، وكأن مثل هذا الإنسان بدلا من أن يتفاعل للهجر: بالألم، والتفهم، واحترام الخلاف، والانتظار، والاستمرار على مسافة، وكل هذا ليس فيه مذلة أو خنوع، بدلا من ذلك يطير إلى أعلى متخذا موقفا فوقيا حاكما على هذا التارك أنه “رِمـّة”([31]) وهو يعتبر هذا السلوك الصـَّقـْرى هو الهمـَّة العالية، وهو مصدر الفخر ودليل العزة، وكل ذلك مقبول كدفاع طبيعى ضد إظهار الضعف والاعتراف بالحاجة، وهو مستوى خاص من الخلق، خلق الاستغناء وعدم الأخذ، أليس هذا ما يقوله البارودى:
خـُلقت عـَيـُـوفـًا لا أرى لابن حرةٍ علـىَّ يدا أغضى لها حين يغضـَبُ
ولكننا ينبغى أن ننتبه إلى أن عدم الأخذ قد يكون “عجزاً عن الأخذ” (أيضا) وهو دليل وحدة صعبة ليست هى الفضيلة الوحيدة، أو الفضيلة الأولى فى العلاقة بين البشر،
وثمَّ مثل عامى آخر يؤكد نفس الإتجاه:
“الصقر صقر وله هـِمَّـه
يموت من الجوع
ولا يحـوِّد على رمـَّه”
لكن أمثالا أخرى تفتح أبوابا أخرى لكيفية التعامل مع الصداقة والهجر محتـَرِمـَة ً حاجة الانسان للإنسان بأى صورة وبصفة دائمة:
1- فلنبدأ المسألة “بالموافقة” وما يحدث يحدث:
اللى ترافـْقـْه وافـْـقـُـه
الموافقة هنا هى ليست المرادف للنفاق تماما أو دائما أبدا، فهى تحمل معانى كثيرة من بينها أن تبحث عن مناطق الاتفاق (أيضا) ولا تتوقف عند الخلاف (دائما)، والاتفاق قد يأتى من الاختلاف حيث يكمل الصديق صديقه كالمفتاح والقفل أو بالتعبير العامى المستعمل فى “النجارة” والمستمد من الصداقة والحب أصلا . “عاشق ومعشوق”.
وقد اختلفت الآراء حول أيهما أفضل لاستمرار الصداقة وتأكيد التكيف، أن يكون صديقك مثلك أم أن يكون مختلفا ومكمـِّلا لك وأنت مكمل له؟، وفى كـلٍّ خير:
أما عن الاحتمال الأول وهو “التماثل” فهو المعنى الموجود فى “إن الطيور على أشكالها تقع” وكذلك “كل شىء له يشبه اللى له” (تنطق بالعامية).
كل شيلـُّه يشبهلـُّه
(ونكملها أحياناً): كل شيـُّله يشبهـُّله حتى الحمار واللى آنيه([32])
أما التوافق مع الاختلاف فربما هو ما يشير إليه المثل الأصعب:
زى القط ما يـْحبش الا خـَـنـَّـاقه
وهنا إشارة إلى نوع من العلاقة لا يصل إلى درجة الماسوشية، وإنما وصلنى مستوى أخف يفيد أنه لا تعارض بين أن أواصل الحب مع من يصلنى منه ما يؤلم أو يحتاج إلى صبر فمواصلة.
2- لكن الصداقة هى دائما اختبار للعلاقة بالآخر، وهى امتحان متجدد، وقولهم فى المثل:
الصاحب عـِلـّه
ليس مجرد تنبيه إلى ما فى الصداقة من التزام وتحمل الاعتمادية، ولكنه أيضا إعلان أنها امتحان عسير يحتاج إلى الصبر والتفويت والاعتراف بنقص وعيوب أى صاحب، فلا أحد يبلغ الكمال كما يوصينا الشاعر:
إذا كنت فى كل الأمور معاتبا
صديقك لم تلق الذى لا تعاتبه
ومن لا يتحمل التفويت، فليدفع الثمن وهو الوحدة الجليدية التى وصفها بيت الشعر القائل:
فعش واحدا أوصل أخاك فإنه
مقارف ذنبا مرة ومجانبه.
وفى المثل:
“التـَّعـْبـَان من رفيقه يوسَّع له”
ولم يكمل المثل الإشارة إلى الوحدة بعد التوسيع
3- وعملية الصداقة عملية ذات اتجاهين: ذهابا وإيابا، فأنت تطرق الباب فى محاولة تلقائية مثابرة ولا تكتفى بالإنتظار:
“استودُّوا تـِسـْتـَحَبـُّوا”
ثم إنك تفتح بابك لمن يطرقه للصداقة مـُرَحـِّبا ومتجاوبا:
“مين زق بابنا ياكل لـِبـُابـْنا”([33]).
فأهلا وسهلا بالطارق، وإن لم يحضر فلنذهب نحن إليه كما تقول الأغنية:
عـدِّى يا المحبوب وتعالى
وإن ما جيتش لاجيلك آنا
4- ثم يبدأ تبين الاختلاف، ولكن هل بالضرورة يكون الاختلاف هو بداية الخلاف؟ ذكرنا حالا ان اختلاف الطباع قد يكون سببا فى الحفاظ على الصداقة، بل إن تشابه الطباع قد يكون سيئا إذا كان باعثا للتنافس فقط حتى تصبح العلاقة عقيمة غير مثمرة.
زى نخل أبو قير دكر قدام دكر
ثم إن ثمة طريقة أخرى لتحمـّل الاختلاف: هى أن تعرف صاحبك وتقبله دون محاولة تشكيله فورا بحيث يصبح نسخة منك لتجنب الاختلاف، وهذا ما فهمته من قولهم فى مثل آخر.
إعرف صاحبك واتركه
أنا لم أستقبل هذا المثل باعتباره تركـًا بمعنى إنهاء الصداقة أو الانصراف عن الصديق، وإنما استقبلته بمعنى “اتركه فى حاله”، أو اتركه على حاله، ولو مؤقتا، فلا تفرض عليه – فورا أو متعجِّـلا- ما تتصوره أصوب، ولا تحاول أن تشكـِّله كما تريد، أو كما تتصور، وباستمرار صداقتكما سوف يتطور التفاعل إلى ما يثمر ما يتطور بكما، وهذا الاستمرار مع المعرفة هو من أعظم ما يعلن النضج، وهو ما يسمى “بتحمل الغموض”[34]) أو تحمل التناقض) – وهو أفضل من ألا ترى فى صاحبك إلا ما هو حسن، بل ترى فيه “حسنا ما ليس بالحسن”، وهو ما جاء فى شعر بن أبى ربيعة على لسان “هند”:
أكما ينعتنى تبصرننى حسبكن الله أم لا يقتصد([35])
فتضاحكن وقد قلن لها ”حسنٌ فى كلِّ عينٍ ما تودّ”.
5- وبعد المبادأة والتفويت وحسن التلقى، والمعرفة والتحمل، لابد من الرضا بالقليل من الصاحب وإلا تزايد الطلب أكثر فالإلتهام أعمق، ثم يتواصل ذلك كشارب الماء المالح.
“إذ قد ألتهم الواحد منكم تلو الآخر دون شبع”.
“من فرط الجوع التهم الطفل الطفل”.([36])
فالتركيز على القليل والرضا به، ينميه ويبارك فيه:
“الـُحرّ من رَاعـَى وِدَاد لحظة”
يظهر ذلك جليا عند الاختلاف: فالخلاف، حيث لا يتذكر الانسان الكريم (الحر) القسوة والأخطاء فحسب، بل هو يستدعى أيضا، وقـَبـْلا ً، لحظات الوداد والكرم والعطاء والتفاهم، فلا يفرط فى العشرة بسهولة:
العشرة ما تهونش إلا على ابن الحرام
6 – وقد يكون من باب الضمان أن تتعدد الصداقات حتى لا تصبح احتياجات الواحد منا مطلوبة من مصدر واحد فقط، وكأنه المنبع الوحيد لماء الحياة، فإذا نضب بالهجر، هاج بنا الإباء وهات يا صعود: صقورا متعالين حتى الموت!!.
والهـَجـْر تخف حدته ويأخذ حجمه الموضوعى، ووقته المحدود إذا كان ثمَّ بديل جاهز للتعويض والتخفيف، وهذا ليس ضد الوفاء والإخلاص كما يدعى الأخلاقيون المثاليون الذين يعتبرون الصداقة مـِلكية خاصة، وأنه كلما ضاق نطاقها، تعتقت نكهتها، نعم، على الانسان أن يتعمق ويتحمل ويستمر، ولكن عليه أيضا أن يـُنـَمـِّى قدرته على المصادقة بلا تردد ومن كل مصدر.
خـُدْلك من كل بلد ْ صاحبْ
7 – ولا بأس من بعض الصفقات الصغيرة، بل والكبيرة مما لا يعيب الصداقة، فــ:
الرغيف المقمـَّرْ للصاحب اللى يـِدَوَّرْ
وما المانع من أنَّ مـَنْ يبحث عنى ويسأل ويترقب، ما المانع أن أختصه بأطيب العطاء فى مقابل ذلك.
8- والإنسان إذا ما تيقن من انعدام الحنان فى علاقة الصداقة القائمة، وظل فى نفس الوقت مصرا على ضرورة الصداقة إذ لا بديل فإنه “يركب الصعب” إذ يستحيل أن يستغنى عن هذا الخـِلّ الغريب:
وكيف نعيش بغير حنان ٍ
وصفو ِ حديث ِ حبيب ٍ لخلّ([37])
نعم كيف نعيش بغير حنان؟ فلنصطنعه إصطناعا ولو من غير مصدره ولو من عدو، من يدرى، وهنا يقفز مثل صعب يقول:
من قـِلـّة الحـِنـِّيـَة بتـْنا على جفا
وخدنا من بيت العدوّ حبيب
هذه مغامرة محسوبة، أفضل من العزلة والصقرية ذات الاستعلاء المتكبر، ثم من يدرى، ألا يجوز أنه باتخاذ الحبيب من الأعداء نكتشف فيه الجانب الآخر، فننضج بمسئولية أروع، من أن نـَـظل متمسكين بحاجتنا إلى توظيف العدو كمسقط لعدواننا حتى ولو لم يكن هو المسئول عن إثارة هذا العدوان؟ إن القائل بأنه:
“نهار العدو ما يصفـَى يخفى”
إنما يعنى أيضا أنه بذلك قد فقد مهمته لى كعدو، فلم يعد بى حاجة إليه، كمسقط لعدوانى وكأنى كنت أحافظ على كيانى باستمرار عداوته.
ومهما يكن من أمر، فإن الحرص على العلاقة مع الآخر، بالعداء أو بالصداقة هو حرص واجب ورائع بما هو انسانىّ، وهو أفضل جدا من العزلة والانسحاب المتعالى.
وقد يكون اتخاذ العدو حبيبا هو من باب انتظار الفرج حتى يظهر صديق جديد يلبى الحاجة بحق فى الوقت المناسب، وإذا كنا رضينا أن نتخذ من بيت العدو حبيبا، فمن باب أولى علينا أن نقبل صديقا مؤقتا بكل ما فيه، حتى نعثر على الصديق الصدوق الذى ”هو”، ألا يقول مثلنا العامى فى مثل هذا التأجيل الإيجابى المحسوب:
تجـَّمزْ بالجميز([38]) حتى يأتيك التين
ليكن هذا أو ذاك، لكن كلا الاحتمالين هو صراع ضد احتمال الهرب (الصقرىّ) إلى أعلى، فمهما أغرتنا لمعة القمة المنعزلة، فهى لمعة الجليد الأملس المجمد.
9 – فإذا لم ينفع كل ذلك، وظل سيف الهجر مسلطا حاسما مهدٍّدًا، فلا بأس من انسحاب اختيارى (مؤقت بالضرورة)، ما دام الإصرار على رفض العزلة قائم بهذا الوضوح وما دامت البدائل بهذه الوفرة، فإنه فى النهاية يقول المثل :
مـِـْن سـَابـَك سيبه
وِمـِـْن فـَاتـَكْ فوته
حتى إذا وصل الأمر إلى الهجر غير الجميل، فقد يكون الرد بالمثل، مهما بلغت قذارته، فهو أفضل من حيث المساواة بعد فشل الحوار ونفاذ الصبر، أفضل من تلك العزلة الاستعلائية فلتكن المعاملة بالمثل مهما فاحت رائحتها حتى لو لجأنا إلى المثل القائل:
مـِـْن شخّ عليك شـُخّ عليه، واهى كلها نـَجـَاسـَة
والمسألة هنا ليست تصعيدا للموقف، وإن كان كل ذلك محتملا، لكنها أيضا معاملة الأنداد، وهذا أرحم من الحكم الفوقى بأن الخصم “رِمَّـة” لا يستأهل، وبديهى أنه لا تعميم فى مسألة “كلها نجاسة” ولكنى جئت بهذا المثل على قبح ما فيه لأعلن أن حوارا يجرى، حتى بتبادل الأقذار، قد يكون أفضل من الانسحاب المتعالى.
الفصل السادس([39]):
فصل فى: قراءة فى الحب، وهامش عن الكره ([40])
المثل الرئيس:
”إيش قلتم فى جدع لا عشق ولا اتمعشق،
قالوا يعيش حمار ويموت حمار”
مقدمة:
لا توجد كلمة شاع استعمالها بالحق والباطل مثل كلمة الحب، فما أسهل النطق بها، وما أجمل استعمالها، وما أكثر التوصية بضرورتها، وما أكثر أشكال تجلياتها، ومع ذلك، فما أغمض حقيقتها وكنهها، أما لفظ الكره، وهو الوجه الآخر للحب (وليس بالضرورة نقيضه) فهو أقل استعمالا، مع أن حضوره الخفى غالب عادة، وأيضا هو أبعد عن النظر، وعن محاولات قراءته عن قرب.
أولا: قراءة فى الحب من حدْس الوعى الشعبى:
فى هذه الإطلالة سوف أحاول أن أقدم ملامح عابرة من بعض الإشارات التى وردت عن الحب فى المثل الشعبى المصرى أساسا،لأن تغطية هذا الموضوع الجوهرى أمر آخر، وبصفة عامة فقد لاحظت النظرة العملية للوعى الشعبى فى موضوع الحب، فى مقابل تلك النظرة الرومانسية المثالية التى تناولـَتـْهُ بها أساليب أدبية أخرى، وخاصة الشعر العاطفى وبعض القص.
1- الحب ضرورة بشرية:
بداية يعترف الوعى الشعبى أن الذى يعطى الإنسان إنسانيته هو أن يـُحـِب، باعتبار أن الحب هو ضرورة لتأنيس الإنسان
”إيش قلتم فى جدع لا عـِشـِقْ ولا اتمعشق،
قالوا يعيش حمار ويموت حمار”.
فنلاحظ ابتداء أن ثم تداخلا، لا يصل إلى حد التطابق، بين العشق والحب، ويبدو أن العشق يؤكد على الجانب الحسى التواصلى للحب، ولم أستطع أن أتبين بدرجة كافية الفرق بين عـِشـِــق واتـْــَمـْعـَشـْقَ، ومع ذلك فلم أستطع أيضا أن أعتبرهما مترادفين، فحين رفعت كلمة اتمعشق: باخ المثل وتسطح، فقدَّرْت أن”اتمعشق” هى تأكيد للعشق من ناحية، وتنـغيم بديع يُظهر ما فى العشق من بهجة حيوية راقصة، ثم قدّرت ثانية أنها قد تعنى البناء للمجهول، أى أنه لم يـَعْشِق ولم يُـعـْشـَـق، الخلاصة أن هذا المثل يعلن بلا مواربة أن من أمضى حياته لم يعـِـشق ولم يتمعشِقْ هو حمار لا أكثر ولا أقل، (ولا بد بالطبع أن نأخذ صفة “حمار” هنا بالمعنى المجازى الذى يظلم به البشرُ الحميرَ)، والمعنى هنا أنه غبى أضاع حياته هباء، مهما حقق.
2- لا إجبار فى الحب
أ- يعلن المثل الشعبى أيضا أننا -فى مجال الحب- مهما حسبناها (أنظر بعد)، فإن المسألة خارجة قليلا أو كثيرا عن الإرادة الواعية، وأيضا فإن التأكيد على أن الحب اختيار حر تحت كل الظروف، هو نفى لأى احتمال أن يتم تحت قهر أو رشوة أو حيلة أو كذب. قد يـُشترى السلوك الـمحب، أو الجنس، وقد يتم الخضوع، أو التسليم، أو الرشوة، لكن “ما فى القلب فى القلب” لأن المثل الأساسى يقول:
القلوب ما تـِتـْسـَخـَّرش
تساعده أمثلة أخرى مثل:
“كل شىء بالخناق، إلا الحب، بالاتفاق“
وأيضا:
“حبنى وخـُدْ لك زعبوط، قال هى المـَحـَبـَّه بالنبوت”
ويفرِّق الوعى الشعبى بين العلاقات المفروضة من خارج، مثل العلاقات التى تكتسب شرعيتها واستمرارها باللصق الخارجى (حتى لو كان لصقا بورقة رسمية)، وبين العلاقات المبنية على اختيار متجدد، وهو بذلك لا يهاجم الزواج مباشرة، وإنما هو ينبه ألا نستسلم لعلاقة اعتمادية، طفيلية، تستمر باللصق من الخارج.
يقول المثل:
ألف رفيقة، ولا لـْزيقة.
وفى نفس الوقت فإن الوعى الشعبى يعلم، ويعلـِّم، أن للاختيار حدودا، صحيح أنه يوصى أن نحلم، ونأمل فى حب يستأهل:
إعشق غزال ولاَّ فـٌــضـَّـها
هذا يتفق مع المثل الذى سبقت مناقشته:
….، وان عشقت اعشق قمر (ص: 43)
إلا أنه يحترم الحدود، والواقع، حين يقول المثل الآخر:
لو كان الحب بالخاطر كنت حبـيت بنت السلطان
3- الحب بالحساب
فى مسألة الحب تتواتر فى الوعى الشعبى الحسابات والتقديرات والشروط بشكل عملى، لكنه خفىّ غالبا حتى لا يتشوّه!
أ- يبدأ التنبيه على الحذر من مسألة الحب من جانب واحد، وهذا المعنى وارد فى عديد من الأغانى والمواويل، ويلخصه المثل:
“من رادَكْ ريدُه، ومن طلب بـُعـْدك زِيدُه“.
ب- وتتأكد المعاملة بالمثل وزيادة:
إللى يبص لى بعين أبصله باللتنين([41]).
وينبغى أن ننتبه إلى أن هذا الموقف الحساباتى: “واحدة بواحدة”، لا يقلل من قيمة الحب، بل إنه يجعله مبنيا على أرض صلبة من الاحتياجات الحقيقية للطرفين، وهنا ينبغى التنبيه على ضرورة أن تكون الصفقة متكافئة، ومدركة لوجود الآخر(بما هو آخر)، فيكون حبنا له هو المقابل لما يتقدم لنا به من رؤية ورغبة وقبول.
ولكن قد تعقد الصفقة لتبادل الاحتياج وذلك حين يقتصر حبنا لهذا الذى احتاجنا لا أكثر، على أن أحرص على استمرار احتياجه مادمت أنا أيضا أحتاج ذلك أكثر منه شخصيا.
وقد سبق أن عبرتُ شعرا عاميا عن هذا المستوى من التقارب، قائلا:
“أنـــا عايزة حد يعوزْنِى، وأعوزْ عَوَزَانُهْ“([42])،
هذا المعنى الاحتياجاتى يلغى الآخر تقريبا، والوعى الشعبى يؤكد على المعنى الناضج: “هات وخد” بشكل متكافئ وشريف ومعلن: إعطنى نفسك، أعطك نفسى، وليس إعطنى حبك أعطك حبى لحبــك لى (أعوز عوزانه).
جـ – ويصل الأمر فى مسألة قبول الصفقة لدرجة أن يـُنـْصح فى مثل آخر بالتغاضى عن صفات المحب المخيفة أو الخطرة، مادام هذاالمحب صادقا فعلا، يقول المثل:
“إن حـَبـِّـتـَـك حيه اطـَّـوَّق بيها“
بل إن هذا المثل يتضمن التأكيد على أن فى الحب نفسه تأمين لأى شر يحتمل أن يكون كامنا فى مصدره، فالحية التى تحب لا تــلدغ محبوبها بـِـسـُـمـِّـها أصلا (المفروض يعنى!).
4- وأصعب ما فى الموقف الشعبى فى حكاية “صفقة الحب”: هذه هو التأكيد على “تكلفة” الحب، وإن كان ذلك أيضا هو من أشرف التنبيه على الواقع، يظهر ذلك فى الأمثال من أول:
“الراجل عيبه جيبه….”
إلى ما هو أكثر تعرية:
“الحب عاوز كـُــلـْـفَـة ْ..، عشان تـِدُومْ الأُلـْفـَة”
ويعترض مثل آخر على الحب (الحنان) الذى يهمل الجانب المادى فى الموضوع قائلا:
زى الوز حـِـنـَّية بـَـلا َ بــِـزّ
وفى هذا المعنى: “تثمين الحب”، يقول مثل آخر أكثر صراحة:
إللى عايز الجميلة يدفع مهرها
وهو مثل يـُضرب فى مواقع بعيدة عن الحب باستعمالات مجازية جيدة.
5- ثمَّ تأكيد على التناسب والتماثل للتقارب (كجزء من مصداقية الصفقة) وإن كان هذا البعد الحساباتى يظهر فى أمثلة الزواج أكثر مما يظهر فى أمثلة الحب.
وهذا وارد فى تشكيلات متنوعة لا تقتصر فقط على “إن الطيور على أشكالها تقع“، وهى تبدو لى مزيج من إقرار هذه الحقيقة وإن كانت أحيانا – أو كثيرا- ما تحمل قدرا متفاوتا من السخرية، ومن ذلك:
“صرصور وعشق خنفسة دار بها فى البلد محتار”
أو
“جوزوا مشكاح وريما، ما عالـِّـلتنين قيمة”،
أو
جوزوها له مالـْهـَـا الاَّّ لُه
6- تعرى الواقعية وروعة النضج :
كثيرون لا يفرِّقون بين الأنانية وحب النفس، وإريك فروم وهو من أهم علماء النفس الأشهر، أفاض فى هذا الموضوع حتى أوفاه حقه فى كتابه “فن الحب”([43]).
والمسألة بسيطة رغم أنها غريبة على المثاليين والأخلاقيين السطحيين، وحب النفس هو قبولها، وتحديد معالمها، وهو أساس قدرتها على الحب أصلا، ويبدو أن المثل العامى قد أدرك هذا حين، يقول:
”أحبك أحبك، بس أحب روحى أكتر”
وهذا لا يتنافى مع الرومانسية الواعية أو احتمال التضحية، فإن التضحية هى تأكيد للوعى بحسابات أبعد مدى، تعود على صاحبها بنوع من الرضا والفخر بالعطاء، بما يجعل الصفقة رابحة فى النهاية.
7- ضبط الجرعة، والحفاظ على المسافة :
ولا ينسى المثل العامى التنبيه على ضبط جرعة الحب، والقسوة، والدلال، بل والاقتراب، ليكسر حدة الالتهام، والاحتواء، والاحتكار: يقول المثل:
“إن كان حبيبك عسل ما تلحسوش كله“
ثم ينبه على جرعة التدليل، والقسوة قائلا:
“كـُـتر الأسية تقطـَّـع خيوط المحبة”
وفى المقابل:
“كتر الدلع يكـَّـره العاشق“
أما التنبيه على الحفاظ على المسافة فيحتاج لاستقصاء أكثر مما يعنيه المثل القائل:
“قـَرَّبوا تبقوا بصل، بـَعـَّدوا تبقوا عسل “
ولا ينسى المثل أن يميز بين القرب، والحب، وفى نفس الوقت قد يتضمن التأكيد على ضرورة قبول كل الصفات فى المحبوب بما يقلب تناقض الوجدان إلى تحمل التناقض.
” لا احبك، ولا اقدر على بعدك“
فهو يحاول أن يفيد معنى آخر غير ما يبدو فى ظاهر المثل من نهى عن التردد، وعدم الحسم، فقد يكون إشارة ضمنية إلى أن الاقتراب الحقيقى الأعمق فيه من جدل التلاقى، وتحمل الغموض، وقبول التناقض ما لا تكفيه كلمة الحب.
8- نبل البعد:
لكن ثمَّ حبا نبيلا عن بعد، وهو الذى يرجو فيه المحب الخير والسعد وطول العمر للمحبوب، حتى إن كان الواقع يحول دون اللقاء أو الاقتراب، أو حتى إن قست القلوب بالهجر أو بالنسيان، يقول المثل:
“أسـَاوِتـْهم ولا خـْـلـُـوّ بيوتهم“
والمعنى جميل، فماداموا (مـَنْ نحب) ينعمون بالحياة، حتى لو قلـّت الزيارة،(أو صلة الرحم)، حتى لو قست القلوب، فإن هذا هو ما يطلبه المحب الطيب لمحبوبه من السلامة مهما بـَعــُْدَ أو قـَـسـَـا، وهذا الموقف مختلف عن الحب من جانب واحد، وعن الحب العذرى ..وما إلى ذلك، ونفس المعنى يؤكده مثل آخر يقول:
عيش يا حبيبى، ولو تبكـّـينى،
حـِسـَّـك ْ فى الدنيا يكفينى
ثانيا: هوامش عن الكره([44]):
كما ذكرنا فى المقدمة، لم يحظ الكره بنصيب وافر فى المثل الشعبى مثلما حظى الحب، ولا توجد أمثلة تعطى للكره قيمته الإيجابية بشكل كاف، وهذا الأمر أيضا يحتاج إلى عودة مستفيضة، فأكتفى هنا بهذه الهوامش.
1- يقول المثل:
”إللى يحب ما يكرهش”
فإذا أخذنا المعنى بظاهره ،قفـز اعتراض (علمى) يقول، بل بالعكس: إن الذى لا يستطيع أن يكره لا يستطيع أن يحب، بل إننا فى الطب النفسى نميز عرض الاضطراب الوجدانى، باختبار القدرة على الكره، مثل اختبار القدرة على الحب سواء بسواء. ففى الفصام يفقد المريض كلا من قدرته على الحب والكره معا، فى حين أن الاحتفاظ بالقدرة على الكره، حتى لو ضعفت القدرة على الحب، فيه إشارة إلى نوع الاضطراب الوجدانى دون الفصام، فهل يا ترى يشير المثـل إلى أن الذى يحب، يمكن أن يغفر للمحبوب أخطاءه، وتجاوزاته، وقسوته، فيسامحه، أويعاتبه، أو يوجهه دون كراهية أصلا؟
وفى نفس المعنى يقول مثل آخر:
“ما تكرهنى عين تودنى”
هذه مسألة فيها نظر، قد تحتاج إلى عودة ومراجعة حتى نميز لغة العين، ونطمئن إلى دقة الفرق بين الودّ، والحب (إن وجد)!
2- أما الهامش الثانى فهو عن المثل القائل:
“أحب الناس واكره طبعهم”
يبدو هذا المثل وكأنه يحل مشكلة الاعتقاد بأن الكراهية يتبعها دائما رغبة فى الإبعاد والرفض والنفى وما إلى ذلك، فالمثل ينبه إلى ضرورة احتمال الآخر بكل ما “هو”، فهو يؤكد على ضرورة التفرقة بين الشخص ككل ،وبين سلوكه فى بعض النواحى، وهو يحذر من التعميم، والحكم الفوقى الدامغ لمجرد خطأ قد يكون مؤقتا أو جزئيا. لكن المثل يتكلم عن الناس كافة، وليس عن محبوب بذاته، وهذه خدعة أخرى، فقد تحل مثل هذه العمومية محل الالتزام بعمل علاقة حميمة مسئولة، ومتشابكة مع شخص بذاته، وإن كان المثل لم ينـف أنه يمكن تطبيقه على الفرد المحبوب مثلما يطبق على الناس كافة، أى أحب فلانا، وأكره طبعه (أى: بعض طبعه)، ولو حضر هذا المثل بكل ما تعنى ألفاظه لانتفت وظيفته الجدلية، فهو إما أن يفصل الشخص عن طبعه، وإما أن يقسمه إلى ما لا يعود به شخصا كاملا محبوبا بما هو كله.
3- والهامش الأخير يقول:
إكره ودارى وحب ووارى
وهو مثل غريب علىّ، إذ يبدو أنه يوحى بحرص لا يليق إلا فى مجتمع خائف من إبداء عواطفه، وقد ذكرنى هذا المثل ببدعة جديدة ظهرت فى الطب النفسى لقياس الأثر الذى ينتج عن صراحة مشاعر من يحيطون بالمريض أو خفائها، وهو مايسمى بقياس “المشاعر المـُعـْلنة” Expressed Emotions (E.E)، وفى البداية قالوا إن المشاعر المعلنة ضارة بالفصامى خاصة، ثم تعدَّل الأمر إلى التأكيد على أن المقصود هو المشاعر السلبية المعلنة، بمعنى الرفض والنهر واللوم والوشم أو الشفقة المتعالية.
إلا أن هذا المثل وصلنى لأول وهلة كأنه دعوة لاخفاء المشاعر إما من باب الذوق أو المجاملة، أو حتى النفاق، ثم أننى تراجعت قليلا حين تصورت أن المثل ينصح بإخفاء كلٍّ من الكره والحب، لماذا؟ هل لأن حقيقتهما أكبر من التعبير عنهما معا؟ أم لتجنب العداوة فى حالة الكره، وتجنب احتمال الصدّ فالإحباط، فى حالة الحب؟
هذا: اللهم إلا إن كان لكلمة “وارِى” بالعامية معنى آخر يقترب من وَرِّى (أَى إْظـِـهر) أى إظهر حبك، فتـَختلف القراءة ويتغير التفسير.
تصورت الإجابة بالإيجاب على كلا الفرضين، وقبلت الاحتمالين.
الفصل السابع:
فصل فى: مواجهة الواقع، ومعانى الصبر([45])
المثل الرئيس:
“اللى ما يروح الكوم ويتعفر
لما يروح الحلة يتحسر”
مقدمة:
فى نقد الكشاف الموضوعى الذى صدر مؤخرا لكتاب الأمثال العامية: ”أحمد تيمور (باشا)” ([46]) صدرت طبعة جديدة من كتاب الأمثال العامية، بقلم العلامة المحقق “أحمد تيمور باشا” عن مركز الأهرام للترجمة والنشر، طبعة أنيقة، وملحق بها إضافة جديدة قام بها المركز مشكورا، وهى “الكشاف الموضوعي”(!) ومع تقديرنا لهذه الخطوة الجادة المفيدة، فإننا نريد أن نتذكر، ونتذاكر بعض الدلالات التى يوحى بها هذا العمل الرائد، ومن ذلك:
إن هذا العمل (الأصل) ما زال أشمل وأوفى وأدق من أغلب (أو كل: حسب ما أعرف) ما صدر حديثا فى نفس الموضوع (الأمثال)، برغم ظهور وسائل التسجيل الأحدث وتعدد أقسام “الدراسات الشعبية” فى الجامعات، والمعاهد العليا المتخصصة.. ومع وفرة الدراسات العليا.. الماجستيرات والدكتوراهات!!! الخ، ولابد من الوقوف احتراما لهذا “الباشا” الذى اهتم “هكذا” بكلام “عامة” الناس البسطاء.
ولنتساءل عن القيم المتمثلة فى هذا العمل وهى “الإتقان” أساسا ثم “المثابرة” وهل يمكن إرجاعها- فقط- إلى جهد فردى يدل على “الانتماء” و”الأمانة”، أم أنها صفة دالة على ما هو أكثر، وهل “التفرغ” الذى تتيحه سعة الرزق هو الذى ساعد على ذلك، أم أنه الالتزام التلقائى بالوجود النافع للناس، كل الناس؟ وأين مثل هذا التفرغ الآن بعد أن تغيرت الأحوال والقيم، وماذا يفعل “باشوات” هذا الزمان الآن بنقودهم ووقتهم، وماذا يعمل أساتذة اليوم بطلبتهم وتراثهم؟؟
ثم نقول: إنه بعد صدور هذه الطبعة الجديدة أصبح لهذا الاجتهاد فى قراءة الأمثال مصدر منظم مبوب يحتاج لمراجعة وإعادة قراءة وسبر غور.. الخ.
وقد استعنت فى الفصل السابق بهذا الكشاف الموضوعى فى باب “صداقة”، إلا أننا كما لاحظنا رصدنا عدة ملاحظات كانت سببا فى التردد هذه المرة فى الاعتماد على نفس الكشاف بنفس الطريقة، ولزم علينا أن نوصى بمراجعة هذا “الكشاف الموضوعى”.
فمثلا: ورد مثل:
“آدى السما وآدى الأرض”
ومثل:
“اللى ما يروح الكوم ويتعفر لما يروح الحلة يتحسر”
ورد هذان المثلان فى الأمثلة المدرجة تحت “الصبر”- وقد راودتنى الشكوك حول أحقية هذين المثلين (وغيرهما) فى هذا الموضِع (الصبر)، فرحت أراجع شرح تيمور باشا الملحق بكل مثل، فوجدت كلمة “الصبر” قد وردت- لفظا- فى شرحه، ويبدو أن هذا هو المبرر لهذه الفهرسة التى ربما تمت بوسائل “كمبيوتورية” (عمياء) أحدث، لكن مجرد الاعتماد على ورود كلمة “الصبر” فى الشرح دون المثل، ودون النظر فى السياق ودون الرجوع إلى الأصل، لا يكفى، ففى المثل الأول يقول المحقق:
يضرب (المثل) لمن يطلب المستحيل، ويكثر ضربه عند فقد الأولاد للتسلية والحث على الصبر..
فهنا نلاحظ أن المحقق أورد “رأيه” فى المثل وأين يكثر ضربه، وهذا لا يكفى (مع شكره و احترام رأيه بداهة)، ثم إنه أورد عبارة “للحث على الصبر”، والمثل الذى يحث على شىء، غير الذى يدل عليه، فمثلا لا نستطيع أن ندرج نفس هذا المثل تحت باب يسمى “التسلية” لمجرد أن من رأى المؤلف أنه يضرب للتسلية (وهو يعنى السلوى غالبا)، ومن عمق آخر نجد أن رأى المؤلف يتضمن وجهة نظر جيدة، وإن كانت غير مباشرة، فالمثل هكذا (آدى السما وآدى الأرض) هو دعوة مباشرة لمواجهة الواقع “كما هو” – وهذا يتضمن ويتطلب “صبرا ما”- لكن مواجهة الواقع تتكرر فى أمثلة أكثر وضوحا وأبلغ رسالة بلا حصر، وهى قد تحدد الصبر صراحة.
“إن صـُبـُرتم أُجـِرْتـُم وأمر الله نافذ
وان ما صـُـبـُرْتم كفرتم وأمر الله نافذ”..
وقد تدعو لمواجهة الواقع بالصبر مثل:
“آدى الله وآدى حكمته”
و”آدى الجمل وآدى الجمال”.
ثم إن الدعوة إلى مواجهة الواقع واردة تكمل الموقف وهى تواكب الحث على الحسم الفورى وعدم التأجيل مع قبول التمادى فى الدور المختار:
مثل:
“إللى بـِدَّك تقضيه امـْـضـِـيه،
واللى عايز ترهـُـنـُه بيعه
واللى بدك تخدمه طـِـيعـُـه”
فالسياق فى مثل هذه الأمور أهم من مجرد ورود اللفظ أو العبارة.
والمثل الأول (اللى ما يروح الكوم ويتعفر…..الخ) هو دعوة إلى الجد والعمل قبل أن يكون دعوة إلى الصبر، إن كان دعوة إلى الصبر أصلا كما سنرى، ذلك لأن تعبير “يصبر على “التعفير” كما جاء فى المثل الآخر لا يفيد الصبر بمعنى التحمل والتأجيل بقدر ما يفيد معنى اختراق المشاق مع ضبط الانفعال المعوِّق، بما يشمل الكفاح والخشونة والعرق والاجتهاد معا، وكل هذا قد يكوِّن الجانب “الفعال” الإيجابى لما هو صبر “على”، وربما هذا ما برر إدراجه تحت ما هو “الصبر”، ولكنه ليس مبررا كافيا أن يدل على الصبر بالذات، من وجهة نظرنا على الأقل، ذلك أن هذه الأمثال، مثل:
“اللى يروح الكوم ويتعفر…”
أو “اللى عايز الجميلة يدفع مهرها”
أو “لابد للشهد من إبر النحل”..الخ
هو المقابل لقولنا “مافيش حاجة بتجيى بالساهل” أو حتى “من جـَـدّ وجـَدْ، ومن زرع حصد”، وبديهى أنه لا يتوارد إلى الذهن معنى للصبر-المعتاد- من خلال هذا التقابل السريع، وليس من المستحسن أن نستسهل فرط التضمين هنا ونحن نحاول أن “نبوِّب” هذا السفر الضخم، اللهم إلا إذا شمل تفاصيل وتفاسير أكثر فأكثر، مثل أن نقسم الصبر إلي: “الحث على الصبر“، “الصبر على الفقد“، ”الصبر على المشقة“، “الصبر التأمل”، “الصبر المواجهة”.
وبصفة عامة، ليس من حقنا أن نلجأ إلى كلمة “صبر” بملحقاتها من حروف الجر خاصة كما وردت فى استعمالات اللغة العربية الفصحى قبل أن نتعمق فى مضمونها فى اللغة العامية، والعامة لا يتكلمون عن الصبر بالمعنى الإيجابى المكافحى الفعال، بقدر ما يتكلمون عن صورته التـَّـحـَمـُّـلية فى شكل الانتظار ورفض تـَـسـَـوُّله احتياجا، وهو ما يمثل ضمنا النهى عن نـَـعـَـابة الشكوى وترديدها :
الصبر يا مبتلى أفضل من العوَزانْ
وافضل من الحج وافضل من صيام رمضان
وصبر أيوب هو النموذج الشائع لمضمون الكلمة عند العامة، وكذلك يشير البحث عن الصبر عند العطار، وإلى متى الإنتظار فى الأغنية الأشهر:
“…يا عطارين دلوني ….الصبر فين ألاقيه”
وثمَّ افتقاد لشجر الصبر وقت البلاء وفقد الود:
يا زارع الصبر هو ا الصبر شجره قـَلّ
ولا سواقى الوداد شـَـحـِّت وماءْها قل
وبيتا الشعر الفصيح، يرددهما العامة أحيانا بالفصحى:
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبرى
وأصبر حتى يأذن الله فى أمرى
وأصبر حتى يعلم الصبر أننى
صبرت على شىء أمر من الصبر
وهو قريب من المعنى التى تقوله الأغنية:
الصبر من كـُـتـْـر صبرى اشتكى منى!!
الفصل الثامن:
فصل فى: النفاق المحسوب ([47])
المثل الرئيس:
“الإيد اللى ما تقدرش تقطعها بوسها”
“الإيد اللى ما تقدرش تقطعها بوسها”
يقول تيمور (باشا) شارحا المراد: حاسن القوى واخضع له ما دمت عاجزا عنه،
ولنا هنا وقفة:
فهذا المثل قد يوحى بما يكثر أن نشيعه عن ناسنا من اتهام بالجبن أو النفاق، ويبالغ فى هذا الاتهام أولئك الطفيليون الرومانسيون أو المحرضون المتحمسون، ولكن المثل فى عمقه إنما يعرى طبيعة بشرية أصيلة رغم خفائها، وقد دأبنا مؤخرا على أن نبالغ ونحن نقلل من قيم “التكيف” أو “الملاينة” (تكتيكا أو بعد نظر) لحساب قيم “المثالية” البراقة، أو الأخلاق ذات البعد الأوحد المسطح، دون عمق واقعى مسئول، قد يـُعـْزَى ذلك إلى خلط واضح بين ما هو تشكـُّل، بمعنى Conformity وهو أن يصيغ الواحد منا نفسه كما يراد له تماما حتى يصبح “مـُقـَوْلـَبـًـا” يتماثل مع من حوله بلا كيان ذاتى، وبين “التكيف” بمعنى Adjustment وهو العملية التى تسمح للإنسان أن يعيش كائنا اجتماعيا متعاونا، متنازلا، فارضا، مبدعا متلقيا معا، وكل هذا يحتاج إلى درجة هائلة من مرونة ذاتية متفجرة، لا تخشى الظاهر لثقتها من صلابة الباطن وسلامة اتجاه المسيرة.
وحين مـر هذا المثل بوعيى، دعانى إلـى أن أعيد النظر فى هذه الأمور فواجهت عدة قضايا كما يلي:
1- إن أحد الأساسات المبدئية فى علاقة البشر بعضهم ببعض هو مبدأ ”الكر والفر” فى جولات العلاقات الرائعة الضرورية: المعلنة والخفية، وإذا كنـا ننبه أن “الآخر” “ليس جحيما” كما يقول غلاة الفكر الوجودى الانفرادى، فنحـن نعترف فى نفس الوقت أنه “ليس نعيما” كما يقول غلاة الطفلية الرومانسية، “فالآخر” هو “التحدى والمواجهة” وفى نفس الوقت هو “الضرورة والتكامل“- ورغم أن نقطة البداية فى العلاقة بالآخر هى الحرب المعلنة (الموقف البارنوى فى النمو) فإن للحرب هذه أشكالا وألوانا، لكنها دائما ضرورية كعملية أساسية فى حركية الحب، وربما أن المثل القائل:
لا محبة إلا بعد عداوة
كان يعنى هذا التتابع بشكل أو بآخر.
والطفل لا يستطيع أن ينتقل إلى مرحلة “الحب” الصعب (وهو ما يتميز به الموقع الاكتئابى([48]) إلا إذا اجتاز مرحلة العدوان التى تـُعـَـلـِّـمه ماهية التحدى فى مواجهة الآخر (الأم فالأب على مسار النمو)، ثم هو يدرك من خلال الضرورة وعدم القدرة على (وكذلك عدم الرغبة فى) التخلص من الآخر: يدرك أن الآخر هو “المـُقَـَـرَّرُ / المُخـْـتـَـلـِـفْ / المـُـفـِـيدُ معا”:
“مقرر” عليه، إذ لا بديل لوجوده ليكون الإنسان إنسانا أصلا
“مختلف” عنه: من واقع.
“أن صوابعك مش زى بعضها”
وهذا لا يشير فقط إلى طول إحداها وقصر الأخرى وإنما إلى إختلاف البصمة أيضا.
وأن هذا الاختلاف “مفيد”: إذ من خلاله تتكون الذات ويتواصل الحوار.
ورحلة العلاقة بالآخر ليست سهلة، فالطفل المنفصل عن رحم أمه دائم الحنين إلى العودة والاختفاء – حماية وأمنا – من مواجهة الآخر (أمه ”إبتداء”) وهذا الحنين هو المفسر لنشاط الطور الشيزيدى.
لكن بما أنه لابد أن يكون فردا مستقلا عاجلا أو آجلا فإن المسيرة تتواصل إلى الأمام، “فتتخلق المسافة” بينه وبين أمه، وتبدأ معركة الكر والفر، (الموقف البارنوى)، ثم سرعان ما يتبين الحاجة إلى الآخر الذى تمثله أمه رغم الحذر، فتبدأ العلاقة وتنمو براعم ما يسمى الحب عادة بما يحمل من آلام وتهديد بالهجر وخوف من العدوان (الموقف/الطور الإكتئابى)، هذه هى المعركة النمائية الأولى مع الأم أساسا بإعتبارها المشروع الأول لما هو “الآخر” الموضوعى.
ولكن ثمة معركة أخرى أكثر شيوعا وأكثر تحديدا، وهى معركة الطفل (الذكر خاصة) مع الأب خاصة، وهى ما تـُختزل أحيانا إلى “عقدة أوديب”، تلك العقدة التى بولغ فى تطبيقها بتفسيرات جنسية فرويدية تراجيدية، إلا أن نظرة أخرى إلى هذه العلاقة يمكن أن تـُـعـِـلـْـنُ تفسيرا مباشرا من حيث أن الوالد يمثل “موضوعاً” “آخر”، قوى، قاهر، فهو بهذه الصورة يمثل أصعب ما هو “آخر” بمعنى “التحدى والمواجهة”- وبما أنها معركة حتمية بطبيعة التواجد البشرى على مسيرة النمو، فإن التفسيرات التحليلية الشائعة التى تتعلق “بالتنافس على الأم” يمكن أن تـُطرح جانبا بشكل أو بآخر ومآل هذه المعركة مع الأب يقع بين احتمالات ثلاث:
(أ) فإما أن يتوقف الشخص عندها ويظل فيها مدى الحياة: وهذا ما نشاهده فى مسوخ “دون كيشوتات” أشباه الثوار الدائمين، الذين لا يستطيعون تبرير وجودهم إلا بصراع مع سلطةٍ ما، وادعاء حرية ما، لا تتحقق أبدا بحيث لو اختفى مثل هذا العدو صاحب السلطة لاصطنعوا قائدا قاهرا ليحاربوه بلا انقطاع.
(ب) وإما أن يتقمص الطفل (النامى) هذا الآخر (الأب) القوى القاهر، فتختفى المعركة مؤقتا ولكن هذا الاختفاء (بالتقمص) هو عادة مرحلة مؤقتة تؤجل المواجهة لفترة، فإذا دام التقمص فهو الجمود واضطراب الشخصية ، إلا أن يتحرك الكيان الطفلى من جديد حين يشتد العود النامى وتتكرر العملية ([49]): تقمص ===> فانفصال نسبى، ثم تقمص جديد===> فانفصال جديد وهكذا، حتى يمكن الإنتقال إلى الإحتمال الثالث:
(جـ) أن يعترف الطفل بدرجة ما من الوعى بتفاوت القوى، فيستسلم بدرجة ما من المناورة الخفية، ليتجنب الأوهام شبه الثورية (الحل “أ”) أو الجمود شبه التشكلى (الحل ”ب”) وهذا الاعتراف – الخفى عادة – بتفاوت القـُـوَى يتطلب إستسلاما شبه واع، ومناورة محسوبة، وتأجيل آمن، بدلا من تقمص لا شعورى، أو جمود خادع.، وهذا هو السبيل لمواصلة النمو.
فالتقبل هنا ليس بالضرورة رضوخا بقدر ما هو اعتراف بعجز مرحلى، تمهيدا لتقوية منتظمة، ثم معركة أكثر كفاءة.
على أن ثمَّ احتمال آخر هو أن هذا التقبل الذى يوحيه نص المثل الأصل: “الإيد اللى ما تقدرش تقطعها بوسها” قد يكون نوعا من العدوان السلبى (مثل جدل العبد والسيد) بمعنى أنه:
ما دمت تصر على أن أظل أنا الأضعف: فاحملنى (أيها الأقوى الغبى) وادفع ثمن استمرار عنفوانك “ياسيد” وحيدا بلا آخر!… الخ.
وفى الحالين يكون “الوعى” بهذا الضعف والتسليم التكتيكى هو سر القوة الخفية، وهو الدعوة للاستعداد، فهو تأجيل للمعركة بدلا من الاستمرار فى معركة بلا معركة، وعلى ذلك فالمسألة فى هذا المثل ليست ترويجا للنفاق كما يبدو من أول وهلة، وإنما هى وعى بحجم العدوان من “الآخر” الأقوى (مرحليا)، واحتراما للإمكانيات الحالية، واستعمالا للعدوان السلبى المنهـك، ثم تحفزا واستعداد للجولة القادمة، وأحسب أن هذا هو ما يفعله الشعب المصرى طوال تاريخه مع طغاته ومحتليه.
وقد يكمل هذا المعنى ويوضحه مثل آخر أكثر صراحة، وربما أكثر مناورة، وهو المثل الذى يقول:
“اللى ما تقدرش توافقه نـَافقه”
فبالرغم من أن هذا المثل يبدو ظاهريا عكس الأول من حيث أن البداية لم تكن معركة (قطع اليد) فإن نهاية المثلين بدت لى مماثلة (باعتبار أن بوس اليد يقابل النفاق) إلا أن النظرة الثانية تقول إن هذا المثل الأخير يوضح أولا: أن هذه الموافقة ليست هى النفاق، ولكنها تكاد تكون عكسه، فهى قد تكون موافقة المحاور المجتهد، فإذا كان ذلك يعنى أن المجتمع الإنسانى فى مرحلة استعمال هذا المثل الجديد قد تطور فلم يعد قاهرا ومقهورا، فإن الآخر يصبح رفيقا/خصما/ عدوا، فى آن، ويصبح الحوار بالتالى ممكنا، والموافقة محتملة، ومتى ثبت – مرحليا – أنه حوار كاذب (ديمقراطية صورية مثلا) فقد لزم اللجوء إلى نفس المناورة السابقة، فالديمقراطية الكاذبة تساوى القهر الصريح سواء بسواء.
فإذا تصورنا التحام المثلين فى تكامل، فلنا أن نتصور العلاقة الواقعية النموية البشرية وكيف تتدرج على النحو التالي:
(أ) محاولة للتفاهم: الحوار الحقيقى (الموافقة).
(ب) عجز عن التفاهم: عادة نتيجة محاولة للقهر من جانب الأقوى، والرد بمحاولة البتر (قطع اليد) من جانب الأضعف (حالا).
(جـ) إدراك “فرق القـُوَى” (مرحلى).
(د) تكتيك النفاق أو “بوس” اليد (مرحلى)
(هـ) عودة إلى المحاولة “الموافقة” بالمعنى الذى ذهبنا إليه، وهو المعنى الذى يدل عليه استعمال نفس الكلمة فى مثل آخر بطريقة دالة، وهو المثل الذى ورد سالفا (ص56): “اللى ترافقه وافقه”
فالرفيق هنا ليس هو الآخر المتحدى ، فحسب، لكنه المحاور المختلف المكمـل أيضا -وفرق بين قولهم “اللى ترافقه وافقه” وبين “اللى بدك تـِخـْدمه طـِيـُعه”
بما لا يحتاج إلى تعليق.
كما قد يؤكد ما ذهبنا إليه عامة، ذلك المثل الآخر الذى يقول:
“اللى ما تقدرش عليه،
فارقـُـهْ، أو بوسْ إيده”
وهكذا نرى أن قطع اليد (البتر) فى المثل الأول هو المرادف للمفارقة فى هذا المثل، فإذا استحال الفراق، فقد يكون لزاما أن نقبل الخضوع لظروف ضرورة الواقع ولو مرحليا.
وشتان بين تقبيل اليد هذا، أو النفاق الواعى، احتراما للواقع، واستعدادا للانقضاض، وبين استسلام مهين، أو مثالية عاجزة، تتجسد فى التنبيه الذى يصلنا من مثل آخر يقول:
“اللى يربط فى رقبته حبل، ألف مين يسحبه”
إن هذا هو نقيض بوس اليد الواعى، تكتيكا ومواجهة، لأن هذا الموقف الذى يشير إليه هذا المثل الأخير هو تسليم بدئى يتم بتنازل مسبق وانسحاب قبل المواجهة، وهو انسحاب (الحبل الجاهز للسحب) ليس فيه “آخر” (التحدى المواجهة) بل هو رِدَّة تلغى الذات التى تختفى فى أوهام سلبية نكوصية مـُـعـْـتـَـمـِـدة.
وقد استقبلتُ - ربما خطأ- أن هذا الحبل الذى يربطه بعض الساسة لدينا قد لا يكون بالضرورة تراجع معلن، وإنما هو قد يكون:
وهـَماً بثورة زائفة،
أو تلويحا بسلاح مخزون حتى يصدأ،
أو صياحا فى خطبة معادة،
أو تباهيا بنفط مـُـهـْـدر،
أو ذلا فى قرش مستودع عند عدو،
وكل هذه حبال خفية مربوطة فى رقاب فاقدى الوعى بشكل أو بآخر،
ونحن الذين نعلقها فى رقابنا ابتداء، ثم نلومهم على أنهم سحبونا منها.
الفصل التاسع:
فصل فى: الحرمان والشبع والطبقية([50])
المثل الرئيس:
“إطعم مطعوم، ولا تطعم محروم”
قراءة التراث مسئولية خطيرة، يقول صلاح جاهين “إفعل أى شيء تقرره، وستجد مثلا يبرره”وهو يعنى بذلك أن الأمثال يمكن أن تبرر الشيء ونقيضه، وأن وظيفة استخدامها لاحقة لا مرشدة أو هادية أو باعثة على طول الخط، وصلاح يدعونا بهذا التحدى أن نتوقف لنتساءل: هل الأمثال” تبريرية، أم تقريرية، أم تنبيهية، أم توجيهية؟
هنا تقع مسئولية القراءة، التى هى مسئولية إبداع التراث بوعى يقظ.
فيقال- من أبحاث أكاديمية “عظيمة”!!- أن نسبة كبيرة من أمثالنا تبرر الطبقية!!، أو تدافع عنها، فهل هذا صحيح؟ فإن صح، فهى معلومة خطيرة مؤلمة، لأنها مستوحاة من المثل الشعبى الذى لا يصدر بمرسوم فوقى، ثم إن هذا ”الفوق” هم القلة التى نادرا ما “تقول”، وهى حتى لا تردد الأمثال، وإنما تسمعها، وقد لا تفهمها، إذن: كيف أن الغالبية من عامة الناس، تردد ما لا ينفع إلا القلة من عالم الفوق؟.
ألا يحتمل أن يكون هذا “التقريرللواقع” الذى يصدر من حدس الناس هو تذكرةٌ مثيرة، وتحـدٍّ جدلىّ صعب؟
لعل من أكثر الأمثال العامية إيلاما لى على الأقل – لأول وهله- هو مثل يقول:
“إطعم مطعوم، ولا تطعم محروم”
فكيف بالله يقول لنا هذا المثل أن الذى عنده يأخذ ويُـزاد، وأن الذى هو أوْلى بسبب حاجته وحرمانه، يـُهمل ويُحرم أكثر؟
هناك احتمالات تكمن وراء هذا القول، لابد أن نواجهها قبل أن نتسرع بالرفض، أو بالتفسير السطحى، مثلا: احتمال أن الناس رضيت – قسرا ولا شعوريا - بالحرمان، أو احتمال أن المثل موضوع ومدسوس على العامة (من قبل أصحاب المصلحة والسلطة).. إلى آخر مثل ذلك (وهذا وارد أحيانا!!).
ومع ذلك فما وراء المثل من أرضية يمكن أن يرجع إلى “حقائق” لا يصح هزها ابتداء، لمجرد أن نـُرضى عواطف زعم المساواة، ودعاوى العدل المناوراتى، نعم نبدأ بالحقائق، ثم نرى مسئوليتنا تجاهها.
فثمة معلومات من واقع الواقع، أو العلم الملاحظاتى، أو المنطق السليم تقول:
1- إن الذى لم ينل القدر الأساسى من أى حق، هو الذى قد لا يعرف أن هذا هو حقه أصلا، فهو لا يعرفه، ومن ثـَُمَّ لا يمارس المطالبة به.
2- إن الذى “لم يعرِفْ، لم يـَذُقْ”، (تطبيقا لمبدأ “من ذاق عرف”) فإذا ما أُعـْطـِى من هذا الذى لم يعرفه، لم يطعمه (فيستطعمه) فإنه إما لا ينتفع به أصلا، أو أنه سيستهين به جهلا ([51])، أو أنه قد يضعه فى غير موضعه نشازا، فيثبت فى جميع الأحوال أنه لا يستأهله، وبالتالى لا داعى لإعطائه “منه” [لا تضع طعامك أمام الخنازير، فإنها تدوسها].
3- أو أن الذى حـُرِمَ “جدا”، إذا أعطى بعد فوات الأوان، فإنه لا يشبع (لا النافية)، فيظل يأخذ بلا نهاية، وهذا ما سبق أن أشرنا اليه بما أسميناه الوجود المثقوب (إذ قد ألتهم الواحد منكم تلو الآخر…. دون شبع)، (من فرط الجوع التهم الطفل الطفل..)([52])، كل هذا جائز، وهو أحد وجوه الواقع (المر).
ولكن هل يعنى ذلك أن نحرم صاحب الحق من حقه لأنه لا يعرفه؟ أو لا يطالب به، أو لا يستطعمه؟
إن هذه الدعوة تجرنا إلى رفض الحكم المطلق على العامة بقولنا: “إيش عرفهم فى الحرية” أو مقولة بعض المستغلين عن ضحاياهم، “لا تعطهم حتى لا تـُـفـَـتـِّـح عيونهم”..الخ- وكل هذا لا يفعل إلا أنه يزيد من ظلم واقع، ليس للمظلوم إسهام فى نشأته، فقد لحق به الظلم وهو ضعيف صغير لا يستطيع أن يدفعه أصلا، فهو، لم يعرف أصلا أن له حقا حتى يقول “أريده”.
ولكن دعونا نتعمق فى استجابة المحروم لحرمانه فنقرأ المثل من جديد فنعيد القول مستشهدين بأمثلة أخرى ما أمكن:
(1) قد لا يدرك المحروم أصلا طعم ما يحتاج إليه كما ذكرنا، وقد يعبر عن ذلك، أو يعيـِّـرونه بذلك بقولهم:
“إيش عرف الفلاح فى أكل التفاح”
والأصعب والأقسي.
“إيش عرف الحمير فى أكل الزنجبيل”([53]).
(2) وقد يستغنى المحروم عن حاجته أصلا، ما دام ليس عنده “الثمن”، بل إنه قد لا يدرك حقيقة الثمن، رغم إدراكه ملامح “الحاجة” وهنا يعلن بكبرياء الرضا، وإباء المستكفى (ولو رغم أنفه) أنه:
اللى ممعاهوش ما يلزموش
بل أنه يرفض ابتداءً قبل أن يُحرمْ، بما يوازى أنه:
“إن فات عليك الغصب، إعمله جوده”.
وهذه الدرجة هى درجة أعلى وأكرم، من إلغاء الحاجة أصلا، لأن المحروم هنا هو الذى ”يجود” بإلغاء الطلب الذى بلا جدوى، وهو يلغى إعلان الحاجة، ولكنه لا يستطيع أن يلغى الاحتياج ذاته.
(3) وقد يكملها المحروم المحتاج بألا يكتفى بالاستغناء، بل إنه يتنازل عما له طوعا خانعا، وكأنه يكملها رضوخا للواقع:
“خلـِّى الـمـِـيـَّـهْ.. تبقى مـِيـّــهْ وواحد”
وهذه المهانة الذاتية فى تعميق العبودية، قد تحمل نوعا من التحدى بالعبودية مما يذكرنا، مرة أخرى، “بجدل العبد والسيد” عند هيجل، فكلما إزداد العبد عبودية، إزداد السيد وحدة.. فموتا، ومهما يكن من أمر الاستسلام المتحدى، فهو مرحلى بحكم الضـَرورة، وإذا كان التمادى يحمل خطر التأجيل، فإن به مزية رفض “الحل الوسط” الذى يوهم العبد بعدم العبودية تحت رشاوى تخديرية مشبوهة، وكثير من الأمثال يعلن هذا التمادى فى التنازل لدرجة نستشعر معها أن المسألة ليست تنازلا ذليلا، بل تحديا خفيا:
“طلب الغنى شقفة، كسر الفقير زيـُـره
كاتْ الفقير وكسه، ياسـَـوّ تدبيره”([54])
ونحن لا نستسلم لـِوَصْمِ هذا السلوك بسوء التدبير، إلا على المستوى السطحى فحسب، أما مِنْ عمقٍ آخر، فقد يصدق ما ذهبنا إليه من حكمة تعميق الواقع تحديا وإصرارا.
وفى نفس الإتجاه يقول مثل آخر:
“إذا شفت الفقير بيجرى
إعرف إنه بيقضى حاجة للغنى”
وهذا كله ليس إذعانا وتسليما على طول الخط، ولكنه واقع مؤلم ومنذر يثيرنا لتغييره.
(4) وقد يتعامل المحروم مع حرمانه بالانتظار، سواء فرض عليه الانتظار من خارج بالوعود والتأجيل، أم أوهم نفسه به، بالصبر والتحمل، وكأن المحروم يحذَرُ أكثر من مغبة الانتظار بلا جدوى، فما أمـر وأقسى أن يقول عن نفسه أن:
“موت يا حمار على ما يجيلك العليق” ([55]).
فإذا كان هذا هو موقف المحروم من حرمانه، فما هو موقف المجتمع الأوسع من لعبة التمييز المتصاعد هذه؟
للأسف، إن ظاهر المجتمع- إلا فى فترات التحول الثوري- يميل إلى الاستمرار مهما كانت المعادلة خاطئة، والقوى المتصارعة غير متكافئة، من مدخل بيت شعر يقول:
تحالـَـفُ الناسُ والزمـَّـانُ، فحيث كان الزمان كانوا”
- وهذا ما يؤكده أمثال: مثل:
الغنى غـَـنـُّـوا له، والفقير إيه يعملو له”
أو “الغنى شكته شوكه، بقت البلد فى دوكه
والفقير قرصه تعبان قالوا بطلوا كلام”.
كل ذلك تعميق وتثبيت لواقع صعب.
لكن يبدو من عمق آخر أن هذا كله موقف الظاهر لا أكثر ولا أقل، لأنها ضد برامج البقاء وتكريم الإنسان التى لا تنتظر الاعتراف من خارجها فالحق لمن يستحقه، وليس فقط لمن يطالب به، والقياس بذلك مثلا أن الطفل لا يختار أن يتكلم لغة مفهومة، هذا حقه لأنها قدرته، فإذا حرم طفل منذ الولادة من أى صوت من الأصوات البشرية، فإنه لن ينطق أصلا، ولا يصح فى هذه الحالة أن نتصور أنه صنف آخر من البشر لا يصح أن ينطق حتى يطالب- بنفسه- بحق النطق، وعلى نفس القياس، فان ذلك الأمـِّىَ الذى لا يعرف القراءة والكتابة، إذا أعطيته كتابا “هدية” فإما أنك تسخر منه أو تتعالى عليه، أو تعايره، لأنه لن يستعمله أصلا، إذ هو لن يفك رموزه ابتداء، فلن يستفيد منه بداهة، أما ذلك الذى يقرأ ويكتب (الذى تعلم كيف يقرأ ويكتب لأنه كانت لديه الفرصة) فإنك إذا أعطيته كتابا، فقد يقرأه، وقد لا يقرأه، فإذا جاء أحدهم وقال لك: لا تعط ِ الأمـِّىَ كتابا، فهو لا يقرر واقعا دائما، وإنما هو ينبه إلى نسيانك مرحلة أسبق وألزم وكأنه يقول “علـِّم الأمى القراءة قبل أن تعطيه كتابا”.
ولعل هذا ما يعلنه هذا المثل المؤلم فى عمقه الحقيقى.
أى أنه يعلن أن من تجاوز الانتباه إلى ضرورة تكافؤ الفرص المبدئية الأولية، فإنه لا ينبغى أن يتمادى فى ادعاء المساواة، حتى إذا عجز المحروم أن يستعمل، أو يستطعم، أو يتفهم طبيعة ما حرم منه أساسا، قيل إنه هو الذى استغنى عنه، وأنه بالتالى لا يستحقه.
وكأن هذا المثل المحورى فى هذا الفصل “إطعم مطعوم، ولا تطعم محروم” هو مجرد إعلان لمستوى معين من الوجود الطبقى، فهو يعـرى نتيجة ظلم سابق، ولكنه أبدا لا يرسى قاعدة ولا يرضخ لواقع.
وعلى ذلك فإذا كان هذا المثل الشعبى يعلن حقيقة ً ما، وأنها نقطة بداية فحسب، وتذكرة لما كان ينبغى أن يكون فى “الوقت المناسب” أى أنه ما كان للمحروم أن يحرم لدرجة تصل به ألا ينفع له عطاء بعد ذلك، وما لم نأخذ هذا المثل بهذا المنطق، فنحن نتهم المثل أنه يؤكد أن يظل المحروم محروما، والمطعوم مطعوما إلى ما لا نهاية.
الحدْس الشعبى لم يقل أن تطعم ”شبعانا”، بل مطعوما، والمطعوم هو الذى استطعم الشيء حتى تـَـذَوَّقه فعرف قدره، فهو يقدره إذا ما أُعطيه، فيضعه فى مكانه، وينتفع به وقد ينفع به، لأن من استطعم الشىء الذى ميزه انسانا، لا يستطيع أن يعيش مكتفيا بحق منفرد هكذا، بل هو أحوج ما يكون إلى أن يتيح الفرصة لغيره، بما أعطى فيعطى، حتى تتسع دائرة إنسانيته، وهذه التفرقة هى التى تظهر حين نتذكر أن المثل لم يقل “إطعم شبعانا” وإنما قال ”اطعم مطعوما” أما الشبعان فقد نهى عن إطعامه وكأنه يقول بما لم يقله: “الأكل فى الشبعان خساره”، لأن الشبعان الذى يقبل أن يأكل بعد الشبع، إنما يمثل خطرا أكيدا على دائرة العطاء الدائمة التوليد للدوائر التالية، فهو يمثل دوامة تدفع إلى القاع، ولعل هذا الشبعان الذى لا يشبع (لا النافية)، أو الذى إذا شبع لا يفيض على غيره من ناتج ارتوائه، وإنما يغوص فى دوامته الذاتية، هو الخسيس (وهو غير المطعوم وغير المحروم!) الذى يعنيه الموال الذى يقول:
أصل الخسيس لو شبع زى السباخ لو زاد
بيتلف الأرض ولا بتجبش زرعتها
وهنا تنبيه جديد إلى أن للعطاء حدود، وحدوده هى حاجة الفرد إلى الآخر، وحاجة المُعطى للعطاء فى نفس الوقت، ثم قدرته على الفيض بهذا العطاء، ثم نوع وقدر عائده عليه وعلى غيره، وقد يكون المطعوم هو الذى أخذ أكثر من حاجته، فى حين أن الشبعان (دون استطعام) لا يهمه إلا أن يلتهم ويلتهم حتى يغمى عليه، إذ لا يستطيع أن يتوسط أو أن يكف عن الاستزادة حتى لو كانت الزيادة مفسدة: وهكذا يـُكـْمـِلُ الموال:
والملح حُسْن الطعام وبيفسده لو زاد
وشجرة ما فيهاش ثمر يا سوء زرعتها
فالإطعام له حدود، ووظيفة، وجرعة مناسبة، وإن لم يساهم إطعام المطعوم فى التقليل من عدد المحرومين باستمرار، فلا جدوى منه، لأن العطاء والعمل والزرع والكلمة، كلها تـُقـَيـَّمُ بعائدها على دوائر الأكثر فالأكثر من البشر الأحوج فالأحوج، والعائد هو الثمر الذى ينتفع به، ويكمل الموال:
عـَمـَلْ مافيهش أمـَلْ يبقى بلاش مـِنـُّـهْ
وشجر ما فيهش تمر برضه بلاش منـُّـهْ
وخلف ما فيهش نـَفـَعْ غوّر بلاش مـِنـَّـهْ
وهكذا نتبين كيف أن الحدس الشعبى منتبه تماما إلى أن المسألة ليست مجرد “دعوة” تقول لمن يأخذ: أن يعطى، ففى فترات “عدم الأمان العام” والاغتراب الذى يثير التنافس حتى الغل، لا نتوقع لا من المطعوم ولا من المحروم خيرا، الأول قد ينسى طعم ما طـَعـِم حتى يصبح شبعانا (خسيسا) لا يشبع، والثانى قد يفقد الأمل فى أى حق، حتى يتنازل حتى عن بعض ما فاض عليه من فضلات، ويتفكك الناس عن بعضهم تفككا يعلن موت الكيان الاجتماعى بالعزلة، واللامشاركة:
خليك فى حالك بلاش اللف عالفاضى
ما عدش فيه حد يستحمل بلاوى حدّ
وهكذا قد تـُجهض مسيرة دوائر العطاء الحتمية التى تعطى للمجتمع صورته الإنسانية وتصبح القاعدة هى “نفسى وبعدى الطوفان” الا ما ندر.
فى الألف واحد ملان بيكب عالفاضي
والغـِلّ بـَحـْرُه اتـَّـسـَـعْ أصـْـبـَحْ مـَـفيشْ لـُـهْ حدّ
وقبل أن نختم هذه الرحلة الصعبة، نستأذن القاريء فى إعادة إثبات الموال “على بعضه”، علـَّه يقرأه بنفسه لنفسه “معا” دون تجزئ بالشرح، ثم نرى:
أصل الخسيس لو شـِبعْ زى السـِّـباخْ لـو زادْ
بـِـيتلـْـــفِ الأرض و لا بـِـتـْـجـِـــبـْـش زْعـــــِـــتـْـهـُـا
والملح حُـسـْـن الطعام….. و بيفسـُـدُه لـو زادْ
وشجرَهْ مافيهاش تمر يا سوء زَرْعـِتـْهـَـا
عمل مافيهشى أمل يبقى بـــلاش منــَّهْ
خلف ما فيهش نفع، غـــــوّر بـلاش منه
خليك فى حالك بلاش اللف عالفاضى
ما عدش فيه حد يستحمل بلاوى حدّ
فى الألف واحد ملان بـِيـْـــكـُبّ عالفاضــي
والغلّ بحره اتـَّسـَع أصبـح مفيشْ لـُهْ حـَـدُ
خلاصة القول:
إن المثل الشعبى لا يـُـقرأ وحده.
وإن التفرقة بين مضمون الكلمة والأخرى، كلها فى سياقها، هام جدا، ففرق بين “المطعوم” و”الشبعان”، وبين “المحروم” و”الخسيس”.
إن المثل ليس- فقط- تقريرا لواقع، ولكنه تذكرة -أيضا- بما ينبغى.
فنحن لا نعلم كيف نشأ المثل، ولكننا نعرف، أو ينبغى أن نعرف، أين يوضع، وما هى دلالة نشأته، وكيف نتعلم منه.
الفصل العاشر:
فصل فى: قانون الواقع، ورفض النـَّـعـَـابة([56])
عـِتـِبـْت عالوقت قالـّلــِى الوقت: إيه مالك
عـَمـّال بتبكى من الأيام، إيه مالكْ
اللى جرالك يكون فى الأصل إِهـْمالـَـكْ
عتبت ع الوقت قال لى الوقت: وَنَـا مالي
أنا كل ما اعطيك تفضـِّى الجيب، وانا مالى ([57])
إعمل لنفسك “قانون” وى بطـّل اهـْمالـَـكْ
-1-
كتبنا فى الفصل الرابع ما يشير إلى علاقة المثل العامى بأرض الواقع، كما ننبه هنا- رغم الشائع – أن الموال الحكمة: مثل المثل العامى يقوم- من بـُـعـْدٍ معين- “بشد أذن” البنى آدم منا حتى لا يمضى حياته نـَعـَّابا، قدريا، معتمدا، يشد أذنه ليذكـِّره أنه “عيب عليه كدا!!”.
وقد شاعت فى حياتنا مؤخرا الأمثلة القدرية، والاستسلامية، والتبريرية، أو التى تبدو كذلك، وقد انتشرت حتى أزاحت من الساحة الأمثلة العامية الواقعية والإيجابية غير التبريرية، ربما لذلك وجب على الدارس الأمين أن يهتم بشيوع أمثلة بذاتها فى أوقات بذاتها، لا أن يكتفى بالدراسة الكمية، بتفسير تواتر أمثلة دون أخرى باعتبار عددها الذى يدور حول معنى بذاته، فالأمثلة تظهر وتختفى من مخزون ذاكرة التاريخ بتنوعها وتناقضها، ونحن الذين نختار من بينها ما يناسب ما نحن فيه الآن، إذن فقيمتها ليست فى ذاتها بل فى وجودها “الجاهز” للظهور بحسب أحوال اليوم وما هو نحن-فلما شاعت فينا القدرية والتبعية والتسليم، استدعينا، وتذكرنا، وكررنا أمثال القدرية والتبعية والتسليم. إذن فالعكس محتمل، ولكن علينا- بعد ذلك وقبل ذلك- أن نعيد النظر فيما تصورناه سلبيا إذ يبرر القدرية والاعتمادية، فقد “نقرأ” فيه “قولا” آخر من بـُـعـْـدٍ آخر.
-2-
ها هو ذا “الموال” الذى تـَصَدَّر هذا الفصل يقول ما يؤكد “الاختيار” فالمسئولية، فاللوم والتقريع لمن أهـْمـَل أو تخلى عن مسئوليته متهما الأيام والزمن، ولكننا فى نفس الوقت سوف نرى ما يبدو عكس ذلك فى أمثلة أخرى، وكأننا بعرض هذا التناقض الظاهر نواجه كيف تناول الوعى الشعبى مسألة الجبر والاختيار بمنتهى الدقة والتكامل، فالموال هنا قد أشهر فى وجوهنا المسطرة، وهو يستعد ليلهب بسنها ظهور أيدينا معلنا أنه لا عتاب على: “الوقت” أو سخط على الزمان والقدر، لأنك السبب فيما جرى لك: نستمع:
اللى جرى لك يكون فى الأصل إهمالك
لينتهى آمرا متوعدا أن:
إعمل لنفسك “قانون” وى .. بطـّل اهمالك
فهو بذلك قد أكد على الاختيار والمسئولية، وبالتالى على تحمل نتائج الإهمال كاملة غير منقوصة.
والآن: دعونا ننظر بنفس الدهشة إلى الجانب الآخر فنجد عديدا من الأمثال تبدو – لأول وهلة- وكأنها تؤكد عكس ذلك، بمعنى أنها تكاد تفصل بين الفعل ونتائجه، بحيث يبدو الناتج خاضعا لمتغيرات “أخري” مضافة إلى الفعل، أو حتى بديلا عنه.
يقول هذا المثل (مثلا):
إجرى يا ابن آدم جرى الوحوش
وغير رزقك لم ([58]) تحوش
فيخيل إلينا أن هذا المثل ومثله إنما يوحى أنه لا طائل وراء الجرى والاجتهاد، ما دام الرزق مقـدورا ومقدرا، ولكن النظرة الثانية والمتعمقة توحى لى بأنه لا ينهانا عن الجرى بل لعله يصر على أن نواصل الجرى، حتى لو كان الرزق مقدرا مسبقا، ومحددا ابتداءا، وكأنه يأمرنا بأن نجتهد إلى أقصى المدى شريطة ألا نتصور-غرورا- أن جـَـرْيـِـنا مهما بلغ، هو السبب “المباشر” للعائد منه، ذلك أن عائد الجرى لا يتوقف “فقط” على شدة الجرى وسرعته، بل هو يتأثر حتما، وربما أكثر، بطبيعة الأرض التى نجرى عليها، والطقس الذى نجرى فيه، والرفيق الذى نجرى بجواره، والآخر الذى نجرى فى عكس اتجاهه، وكذا الآخر الذى يزاحمنا فى اتجاهنا.. ثم على المفاجآت التى تفوق حساباتنا، والمكتوبة فى لوحنا لا المفروضة علينا!!
وكأن هذا المثل إذ يؤكد على ضرورة الأخذ فى الأسباب بمنتهى الجدية والعرق، يؤكد أيضا على ضرورة التسليم بالنتائج، لا الاستسلام لها، فالتسليم هو مبادرة بالتأهب لقرار جديد من واقع جديد، والرزق- بالذات- له وضع خاص فى وعينا الشعبى، إذ هو مرتبط بطبيعتنا الزراعية المتصلة بالمناخ وتقلباته وظروف الفيضان ومفاجآت الآفات، ثم إن “الرزق” لا يعنى أساسا “كـم الكسب” كما يطل فى وعى الغربيين ومقلـِّدِيهم المعاصرين، لكنه يتطرق إلى خصوصية الاكتفاء الآمن الدافع إلى الرضا الفاعل.
فإذا كان الأمر كذلك، وأصبح “الرزق” مرتبطا بالوعى بطبيعة “العائد” وفاعليته للوجود الفردى المتميز، فإن هذا المثل يرشدنا إلى أن هذا “الرزق” (بهذا المعنى) لا يرتبط ارتباطا طرديا خطيا محسوبا بالجهد المبذول فيه، وكما أن كلمة الرزق لا تعنى الكمىّ الفائض المغترب عن احتياج صاحبه، مهما بذل صاحبه للحصول عليه من جهد، والمتأمل فى أصل كلمات “السبوبة”، و”المتسبب” المتعلقة فى ثقافتنا بما هو “الرزق”، لابد أن يلحظ هذا الاستعمال الخاص لكلمة “السبب” ومشتقاتها، ليس بمعنى العامل المـُـحـْـدِث للنتيجة، وانما بمعنى “السبيل الميِـَسـِّـر لجريان الأقدار فى مسارها” فالبضاعة لدى المتسبب (المتجول عادة) ليس لها قيمة فى ذاتها، وإنما هى سبب يجرى من خلاله توصيل الرزق إلى صاحبه، وبغيرها لا يصل الرزق، وهى - فى ذاتها- لا تكفى لأن تكون مصدرا للرزق، بل إنه من بُعـْدٍ آخر، لابد أن نلحظ ما للرزق من قوة جاذبة فى ذاته، يتوازى هذا مع قولهم:
كل لقمة تنادى أكـَّالها
فهذا المثل- من حيث لا ندري- يكشف عما يمكن أن يكون علاقة غائية كامنة فى معادلة “السعي/الارتواء”، وكأن فى الهدف قوة موجـِّهـَة متناغمة مع السعى إليه، وكأن التأكيد على الفعل المندفع (جرى الوحوش) لا يصح أن يغيب عنا تــَـوَاكـُـبـُـه مع الجذب الغائى (المـُقدَّر).
ثم انظر معنا إلى كلمتى “تنادى أكالها”، فاللقمة لا تذهب إليه، فلا تعفيه من السعى إليها، لكنها “تناديه”– وهكذا يتأكد لدينا ما تقصده هذه الأمثال من محاولة نفى “المباشرة” بين “السعى” و”عائده”، دون الإقلال من قيمة السعى وضرورته، ودون المبالغة فى فيضان الرزق سلبيا، فإذا انتقلنا خطوة أخرى إلى أعلى لأمكن تصورنا ذلك القانون الأشمل الذى يضـَـفـِّر الجهد مع عائده فى إطار التكامل فى قانون يحتويهما معا، وبذلك تنتفى هذه العلاقة المختزلة التى بالغ فى قيمتها غرور الانسان المعاصر بتملكه آلات الحساب بتركيزه على الجانب المادى من الانتاج، وهكذا ينتفى التناقض بين تحذير الموال من وضع اللوم على “الوقت” (القدر)، وبين هذا المثل العامى كما يبدو لأول وهلة، وكأنه يقلل من قيمة “الجرى جرى الوحوش”، فى حين أنه يؤكد علاقة تناسب السعى بالنتيجة، بطريقة أرحب مرورا بالرازق الوهاب.
لكن لابد لى أن أعترف أننى عثرت على مثل آخر، كاد يستحيل أن أجد له كل هذا التأويل لكى أقلب ظاهر سلبيته إيجابا، فهو يبدو لأول وهلة كأنه تحدٍّ صارخ يدعو إلى النوم (الكسل) فى كل الأحوال.
“إن اقبلـتْ نام، والنوم فيهــا تجـــارة،
وإن أدبرتْ نام والجرى فيها خسارة”
ولاستحالة تصديق أن هذا المثل يعنى ما توحى به ظاهر الفاظه قد يكون المـَخـْرج الوحيد هو افتراض ضمنى – استعملناه كثيرا- بأن التمادى فى السلبيات هوالمخرج الحقيقى لتعريتها وإيقافها، ليخرج منها عكسها وهو ما يسمى فى الفسيولوجيا: الكفّ بفرط الإثارة ([59]) أى أنه يقوم بوظيفة تعرية هذا الكسل فى كل الأحوال حتى تنتبه إلى ما يـُـدفع فيه، وهو يترك إقبال الدنيا وإدبارها لعوامل أخرى بعيدة تماما عن ما جاء فى موّال البداية، بل لعلها عكسه، إن الدعوة إلى النوم فى كل الأحول هى تذكرة ضمنية بما ينتج من انسحاب من الحياة لو تواصل النوم فى كل الأحوال، فهو الموت، وإن كانت قد توقفت طويلا أتساءل كيف يكون النوم تجارة ومكسبا إذا أقبلت الدنيا على هذا الشخص، هذا التسليم سلبى لم أفهمه اللهم إلا إذا كان من باب السخرية كما يقول مثل آخر.
“الرزق بيستلطخ”
واللطخ بالعامية: هو البليد الكسول، ومع ذلك يأتيه الرزق دون جهد، وفى الحالية لابد أن يخرج مغزى المثل من الإخبار إلى السخرية!
-3-
وثـَـمَّ تناقض مع موال آخر يحتاج إلى وقفة أخرى، فموال التحذير من لوم “الوقت” يدعو إلى التخطيط تبعا لقانون يقينا من الإهمال، يكاد يعارض- ولو ظاهريا-تلك الدعوة التى يدعو إليها مثل آخر يقول:
إحيينى النهاردة وموِّتنى بكره
إلا أننى رحت أتابع هذا المثل أكثر وأنا أعيشه أعمق: فوجدته-ويا للمفاجأة- لا يطلب لذة عاجلة على حساب مكسب حقيقى آجل، ولكنه يؤكد على ضرورة “الحياة” الآن، حتى لو كان الموت هو حتم (أو تهديد) الغد، فهو يعرِّى هذا الجزء من وجودنا الذى يؤجل “الحياة” ليربط بدايتها بتحقيق مكسب معين (شهادة، مال، سفر..الخ) فى حين أن السعى إلى الهدف وليس مجرد تحقيقه هو فى ذاته حياة، فالحياة هى “الحركة إلى” وليست “الوصول عند“- فحين يرفض المثل تأجيل تعميق الحياة واستطعامها الآن، تحت عنوان أنها سوف تأتى غدا، وحين يغامر بأخذ الفرصة، فيعيش، الآن، حتى لو “هددوه” بأنها الفرصة “الأخيرة”; حين يفعل هذا وذاك يمسك بزمام المبادرة “فيعيش” “الآن”، الذى هو “بكرة” حين يصبح “بكرة” هو “النهارده”!! باعتبار أن كل “بكرة” سوف يصبح “النهاردة”([60]) بمجرد أن نعيشه متى حـَلّ، ثم يكون له حينذاك “بكره” وهكذا، وكأن الوعى الشعبى بذلك - قد ضحك على الموت -، وكأنَّ المثل يرفض الاغتراب فى كذبة الوعد بالتأجيل، إنه يرفض تأجيل الحياة… لا تأجيل المكسب أو اللذة أو الارتواء، هكذا قال لى المثل: إما حياة “الآن” أو لا حياة أبدا.
وحتى يتضح المعنى أكثر فلنتصور عكس المثل: “أمـِـتنـْـى اليوم واحـْـينـِى غدا” أنظر الخدعة والكذب، إذ هل بعد “هذا” الموت – اليوم – حياة غدًا أو أى غد، الحياة تولـّـد الحياة، و”غدا” هو الذى عليه أن يتأجل لأنه لا يأتى أبدًا “فغدا هو: “النهارده” فى زمن آخر.
وثمَّ بعد آخر أحسست به من نبض المثل الأعمق وهو بُعد التحدى، فقد قرأت المثل بعد إضافة “هذا حقى” كما أضفت ابقى قابلنى!
إحينى النهارده، (هذا حقى) وموِّتنى بكره، (ابقى قابلنى؟)
-4-
ثـَمَّ تناقضٌ ثالث نواجهه ونحن نقرأ هذا الموال، وهو يوصى بعدم “تفضية الجيب” (أنا كل ما أعطيك تفضى الجيب، وأنا مالى) يقفز فى وجوهنا التناقض حين نقرأ مثلا يقول العكس.
إصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب
وبالتمادى فى الدفاع عن الوعى الشعبى نرجّح أن “الصرف“ قد لا يكون مرادفا للتبذير “تفـَضِّى“، (كما جاءت فى الموال) بل قد يشير إلى تنشيط حركة القرش بحفزه إلى مغامرة الصرف، والتصرف، حتى لو كان العائد فى ضمير الغيب، فتحريك رأس المال يحتاج دائما إلى إتخاذ قرار محفوف بالمخاطر، كما أنه لا يليق بنا أن نفهم كلمة “الغيب” كما يفهمها بعض الغربيين، باعتبار أن الغيب هو المجهول، أو الخرافة، أو الميتافيزيقا، ذلك أن الغيب فى الوعى الشرقى عامة، والاسلامى خاصة، هو “حقيقة” أُخرى مكمـِّلة وفاعلة، وفى الإسلام يتقدم الإيمان بالغيب على الإيمان بتفاصيل أخرى ظاهرة للعيان، فهذا الغيب هو الذى يرسل لى بديلا عن ما صرفت، بل مقابل ما صرفت فهو هو من قانون الحياة (الحركة) الغيب إذن ليس “سلبا” لما نعرف (كما يبدو عند أغلبهم) ولكنه “حقيقة” ما لا نعرف، وبهذا التفسير يكون المثل دعوة إلى عدم “التخزين”، ونهى عن حبس القرش فى الجيب، أو تحت البلاطة، خوفا من المجهول، فيكون دعوة إلى الحياة والحركة اطمئنانا إلى أن الغيب هو فى جانبنا- جانب الحياة- وليس ضدنا ولا هو- دائما- متربص بنا.!!
وبهذه القراءة (المتحيزة حتما) لا نرى تناقضا حقيقيا بل تكاملا لقوانين الحياة، وإصرارا على دوام الحركة والمسئولية معا.
-5-
ينتهى الموال بهذا الأمر: إعمل لنفسك “قانون”- ونحن لا نتصور القانون الذى يوصى به الوعى الشعبى للوقاية من الإهمال والاتكال والتبرير- لا نتصوره قيدا على الحركة، بقدر ما نتصوره وعيا متكاملا بالمتناقضات، وقد حاولت-لاهيا فى البداية- أن أستجيب للموال وأضع لنفسى “قانونا” مناسبا من واقع نبض الوعى الشعبى الذى يغمرنى الآن، فجاءت صياغته على الوجه التالى:
قانون أحوالى الشخصية:
(حالة كونى أعيش هذه الخبرة)
تمهيد: بعد الإطلاع على واقع الحال ورفض ادعاء المثالية، وبعد الانتباه إلى احتمال مواصلة التأجيل الممتد والتمحك فى أوهام التاريخ، والمشاركة المحتملة حتى لو خفية فى التخدير المنظم، المقصود منه والعفوى، ودون المساس بالقوانين الأطول عمرا، ولا بالاستراتيجية الحركية، المنطلقة، يتنبه على شخصِى الضعيف، مما وصلنى من وعينا الشعبى، بما هو آت:
نص القانون:
مادة (1) أن أنكسف على دمى، وأحسم أمرى وأحدد وضعي: الآن وليس غدا.
مادة (2) أن أقبل الممكن المتاح بشجاعة القادر المستمر الواثق من استراتيجية ممتدة.
مادة (3) أن أنظر فى مرونة متحفزة إلى نتائج الخطوات المتوسطة أولا بأول، محافظا على الإتجاه الأمامى مع التعلم الدائم.
المذكرة التفسيرية للقانون:
1- بالنسبة للمادة الأولى (الحسم والوضوح):
فقد سبق أن أوردنا ما يؤكد ضرورة “الحسم” مهما كان الواقع مؤلما أو جاثما وقد استشهدنا بالمثل:
“اللى بـِدَّك تمضيه اقضيه
واللى بدك ترهنه بيعه
واللى بدك تخدمه طيعه”
وبالنظر فى هذا المثل- فإننا نأتنس- تفسيرا للمادة الأولي- بالتأكيد على الحسم والوضوح “الآن” وليس بعد، لكننا نحتاج إلى وقفة مؤلمة أمام “إللى بدك تخدمه طيعه” فلماذا أخدمه ولماذا أطيعه؟ وأى حسم فى هذا؟
فى البداية نرى – كما ذكرنا سابقا- أن الاعتراف بالضعف هو الطريق إلى القوة، وأن الطفل الذى ينافس أباه إبتداء ودائما، لا ينمو أصلا، وأخيرا فإن الأمر الواقع الذى يفرض أن يكون معنى الخدمة هى الطاعة المعلنة، هو إعلان لطبيعة علاقة صعبة وظالمة غالبا، لكن هذا الإعلان فى ذاته هو بداية حركة جدلية تتجاوز مثل هذه الصعوبة، وهذا الإعلان هو ضد العبودية السرية، وأوهام المساواة، فطاعة العبد للسيد إذا امتدت إلى مداها، فهى إنما تحيى الجدل الهيجلى ”جدل العبد والسيد”، وحين يتألم التابع من التبعية، لابد وأن “يخطط” للتخلص منها، وفى مثل تطبيقـى: تصورت أننا لو اعترفنا بطبيعة أعباء المعونة الأمريكية من البداية - (وقبل ذلك السوفيتية)- إعترافا صعبا شريفا، لما صرفنا مليما فى إستهلاك أو رفاهية، بل فى إنتاج وبناء، وهنا تصبح الطاعة مبعث الألم البانى دون الإختباء تحت لافتات التعاون الدولى وتبادل المصالح، وهذا الألم هو الخليق بأن ينبه التابع إلى أن يوجه قرش السيد أو الدائن إلى تحريره لا إلى تخديره، وهذا ما يقوله ناسنا سبقا لكل علوم الإقتصاد المستحدثة:
إداين وازرع ولا تداين وتبلع
2- بالنسبة للمادة الثانية: (الممكن المتاح: للقادر الواثق)
لعل أصعب ما يعلمنا إياه المثل الشعبى، هو هذا التواضع فى المطالب، الذى لا يبرره ولا يؤمّـنه إلا الوثوق بالقدرة المتنامية، وحسن توجه الحركة، مع اليقين بوصول الحق لأصحابه، وفى هذا يبدو وكأن “المثل الشعبى” يتعارض مع فعل الشعر: فى اتجاهه لاختراق المستحيل، ولكنه تعارض مظهرى ومرحلى، فقبول الممكن ليس بديلا، عن طلب المستحيل، ولكنه استعداد لخوض غمار المسئولية بقوة متنامية، والأمثلة المؤكـِّدة لذلك التفسير تتواتر – كما سبق الإشارة إليها- بلا حصر، خذ عندك، مثلا:
1- إلعب بالمجرى([61]) لما يجيلك البندقي.
2- إلعب بالمقصوص لما يجيلك الديواني
3- تجمـَّــز بالجـِــمـِّيز حتـى يأتيك التين ([62])
ولابد أن نلاحظ كلمة “إلعب” فى المثل الأول والثانى، فهى ليست كلمة “رضا” أو “توقُّف”، ولكنها حركة شطارة وتيقظ، أما كلمة “تجمَّز” فهى منحوتة بلا معنى محدد لتترك لك أن تسقط عليها ما تشاء من معان (كما ذكرنا)، المهم هو إرتباطها بكلمة “جميز” أى أن تناول كل شىء يكون بحسبه تماما، لا أكثر ولا أقل، غير أنى أرجح أن القارىء لابد أن يشاركنى رفضا كثيرا أو قليلا لاستعمال أفعال “يجيلك” “يأتيك” فهى تعطى شعورا بأن “المسألة” فى يد “آخر”، أكثر من أنها توصى بقبول الممكن والصبر عليه بلا شروط، ولكن قد يخفف من هذا الشعور أن هذه الصيغة ترجح “حتمية” النتيجة، أكثر مما تؤكد على انتظار “فاعل” قادم بالحل السهل، بمعنى أنه ما دمت قد رضيت، وقدرت، ولعبت، وتحركت، فى إطار الواقع الحالى، فطبيعى أن ينتج منه ما تريد، يأتيك نتاجا لصبرك النشط، وهذا ما يمكن أن أسميه: الانتظار الفاعل، أو الصبر الحركى، وهو نوع الصبر الذى هو على يقين من النتيجة النهائية ويتمثلها ويعلنها بهدوء وتحد مهما اختفت معالمها خلف سحب الشك البدئى وأوهام المثالية الهروبية، وهو الصبر الذى يزيح الدخيل من طريقه، ولو بالمقاومة السلبية، والإهمال.
إصــبر على جارك السو
يا يرحل يا تجيله مصيبة تاخذه
فالدخيل- محتلا أو حاكما ظالما- لا يمكن أن يبقى إلى الأبد على قلب شعب رافض، يقظ، ساخر، متحفز، ولعل هذا الأسلوب الواثق، مضروبا فى نتاج حصيلة الزمن الممتد، هو سر ثبات الشعب المصرى فى مواجهة محتلـِّيه والمستبدين به على حد سواء([63])، وكأنى بهذا الشعب المصرى يجرب حكامه مثلما يجرب أحذيته، وكأنى به يستعملهم وهم يتصورون العكس.
“إلبس خف واقلع خف لما يجيلك خف”
فصبر الشعب المصرى هو حركته فى الممكن المتاح، وثقته بالحق الراسخ، وصداقته للزمن الممتد، الزمن الذى طوعه لإرادته بترسيخه لفكرة الخلود، وعظمة الهرم الأكبر- عندى- هو أنه ذلك الاعلان الماثل أمام وجدان البشرية أن وحدة الزمن عندنا ليست هى “ساعة الحظ”، ولا “انتخابات الرياسة” ولكنها وحدة الحركة المتواصلة بين الأجيال، بل بين الأحياء، ولا أنكر أنه قد مرت بى أمثلة أخرى لا تـُطـَمْنـِن، ولا تسمح لى بالتمادى فى هذه الحماسة الدفاعية، فليس من الصبر النشط، ولا من التحفز “المتحرك فى الممكن” أن يقبع الواحد منا ساكنا فى كمون لا يستجيب إلا لفعل فاعل خارجى، كما يوحى المعنى الظاهر للمثل القائل:
خليك فى عِشـَّـك لما ييجى حد ينشك
فإذا تماديت فى الدفاع، فأنا أقرأ هذا المثل باعتبار أنه تحذير من فساد السكون، وإنذار بأن الهرب الساكن لا يدوم، إذ لابد سيأتى من يقتحمه، فتواجه مصيرك بضعف الخائب، ما لم تستعد لهذه اللحظة أو تغامر بالسبق إلى المبادرة، ومن هذا المنطلق الدفاعى أقرأ هذا المثل هكذا:
خليك فى عشك، (ولن تقدر) لأنه سوف يأتى - حتما- من ينشك (فهـَيـَّا انطلق)([64])
إن ثقة هذا الشعب بالزمن تصلنى أنه لا يهمد حتى لو بدا ساكنا، وأنه دائم البحث عما يناسبه حتى لو تأخر، وأنه مادام لا يكف عن البحث فهو سوف يجد ضالته، يتجسد ذلك حين يأتى مثل يجعل الإناء مهما بـّدا ساكنا هو الذى فى حالة بحث عن غطاء له، يقول المثل:
“تنِّ الحـُق يدوَّر على غطاه لما إلتقاه“
والحـُقّ هو العلبة الصغيرة التى توضع فيها الأشياء الثمينة، أو الهلامية أو مساحيق التجميل، وله غطاء محكم عادة([65])
3- بالنسبة للمادة الثالثة: (مرونة التعلم ودوام التقدم)
وهنا أدرج فى المذكرة التفسيرية للقانون ما يكمل المادة الثانية، إذ لا يجعل الإنتظار (بالحركة فى الممكن) آمـِنـًا لمجرد أنه يقظ أو متحفظ أو أنه خطوة ضمن استراتيجية طويلة معروفة، ولكنه انتظار يحمل القدرة على التعلم من نتاج الخطوات الوسطى، والأهداف الجزئية، فحين أتجمز بالجميز، وألعب بالمجرى، لا أفعل ذلك لاهيا أو مستلقيا مطمئنا إلى حسن النية وسلامة العاقبة، فالتين لا يأتى، والبندقى لا يظهر إلا من خلال الفعل المستمر مهما بدا صغيرا، والتأكيد على ذلك من الأمثلة العامية مثل:
الأرض مـِشّ شهاوى دى ضرب عالكلاوى
فالأرض هنا هى الزراعة، والضرب على الكلاوى هو وجع الظهر من طول الانحناء للرى والعزق…الخ
والمسألة لا تحتاج فقط للجهد والتعب، ولكن أيضا للحذق الماهر، ماذا وإلا……
كما أن المسألة، هذه المسألة بالذات، ليست بالحظ بل هى بالجهد المثابر، والرعاية المنتظمة.
كـل شىء بالبـــخت إلا القلقاس مية وفحت ([66])
فإن تحقق الهدف الوسيط- بالجهد والتعب والحذق والمهارة- إستمرت المسيرة فى نفس الاتجاه، وأسرعت الخطى، وإن أخطأت الهدف فلا مفر من المراجعة بكل الألم والحرص على التعلم كما تـُعـَـلـِّـمـُـنـَا الأمثال التالية:
أ- إن طاب لك، طاب لك،
وإن ما طاب لك حوِّل طـَـبـْـلك.
ب- إن كان فى العمود عيب يبقى ما الأساس.
جـ- إن كنتم نسيتوا اللى جرى، هاتوا الدفاتر تتقرا.
ومع كل هذا التعلم بمرونة، والتقدم بإصرار، فلابد من تحديد علامات على الطريق حتى لا يسرقنا الزمن، فالانتظار المتحرك فى الممكن لا ينبغى أن يسحبنا مخدرين إلى ما لا نهاية، فثمة علامات تفرق بين إيجابية التحرك فى الممكن، وخدعة التأجيل العاجز.
إن كانت ندِّتْ كانت ندِّت مالعـَصْر
فالسماء الخالية تماما من السحاب الواعد، فى جو قائظ، لا يـُـرتجى منها- فى بلادنا خاصة- أن ترسل الغيث بلا علامات، وبالتالى فإن طال الإنتظار ولم تظهر العلامة (ولكل موقف علامة) فلا مفر من التغير والتحرك وإعادة الحساب، ومن ثم تغيير الخطة إذا لزم الأمر والانطلاق إلى وجهة أخرى أو إلى المرحلة التالية (حوّل طـَـبـْـلك).
الفصل الحادى عشر:
فصل فى: الهم والناس “مصريا”([67])
الموال الرئيس:
“باب الحزين معلم بطين”
أكثر فأكثر، بفعل إغارة الطب النفسى، والرطان النفسى، على الحياة العامة وبفعل بريق الأبحاث الأرقامية على حدة بصر الأطباء والعلماء، يصبح – للأسف- حديثنا عن الحزن، ومعايشتنا للهم، من الأمور المستوردة، فنستعمل كلمة “الاكتئاب” بدلا من “الحزن”، ونستعمل كلمة “الإنقباض” بدلا من ”الهم” و”الغمّ”، (أو بدلا من أن يقول أحدنا: أنه متنيل بستين نيلة!!!)، وحين نحاول أن نبحث فى الفروق الحضارية نصيغ بحثا علميا بمنهج مستورد أيضا، نسأل فيه الناس أسئلة ماسخة مترجمة، فيجيبوننا إجابات جوفاء، والبادى أظلم، ثم ننشر أبحاثنا فى مجلاتهم، أو الــ “كنظام مجلاتهم”، تحت عنوان ما هو “عبر الحضارات “ولا يـَـعـْـتـَـنـِـى العالـِمُ منا أو حتى المريض، أن ينظر حوله (وخلفه وداخله) ليتعرف على جذور الحزن وحركية الهم ومداخل الغم وتداعيات “النيلة الغريقة” كما تظهر فى نبض الناس بلا تشويهات مسلسلاتية، أو وصايا طبية، أو علمنفسية.
سوف نحاول فى هذا الفصل من هذا الباب أن نلقى بالرشاء إلى بئر الحدس الشعبى فى هذا الموضوع: موضوع الحزن فى عمق نبضه، وكيف يعايشه ناسنا بأقوالهم وأمثالهم التلقائية:
فلنسمع:
“باب الحزين معلـِّم بطين”
هذا أول إعلان لطبيعة الحزن إذا ما أعلن، وظهر سلوكا ظاهرا معيقا لصاحبه، منفرا مـِنـْهُ مـَـنْ حوله: لأن حضور هذا النـِّكـِدَى جاثم وثقيل.
وقد يحمل هذا المثل أيضا، فكرة وَشـْم المرضى بمرضهم، كما قد يكون حافزا ضمنيا لعدم التمادى فى الحزن إلى هذه الدرجة.
على أنه يبدو أن لفظ الحزن يرتبط بهذا الظاهر السلوكى أكثر من ارتباطه بالغم الداخلى المتغلغل حيث يوصف هذا الداخل أكثر فأكثر بالهم، فحين يقول المثل:
“قلوب عليها دروب، وقلوب مِـالـْهــَمْ تدوب”
إنما يشير إلى علاقة الهم بتلك الرقة الداخلية التى تنبض مع الأحداث وتواكب الآلام وتذوب تجاوبا وتفاعلا، فى مقابل أولئك الذين تبلدت مشاعرهم إذ توارت وراء جدران اللامبالاة والجمود، الأمر الشديد القرب من تعبير القرآن الكريم: “بل على قلوب أقفالها”.
وأصحاب الهم، الذين يعيشون هذه الرقة المفرطة، لا يعلنون عواطفهم بمظاهر الهم المبالغ فيها، أو بظاهر الشكوى، ونعابة الألفاظ، وقد يكون من أكبر ما يجرح المهموم أن يشاركه آخر بغير مشاركة، أو أن يسمع توجـُّـعا هزيلا من إنسان لا يعيش عمق ألم المعاناة، وهنا يحتج عليه لسان حال المثل الذى يقول:
“خلِّ الهم لاصحابـه”
هذا الإنسان الصادق الهم، العظيم الألم، قد يجد نفسه فى قبضة رقة مشاعره، وفرط تفاعله بطريقة متصاعدة يعجز إزاءها أن يوقف التيار، أو يحد من التمادى بأن يلملم نفسه ويجمعها، وهنا يقفز لفظ عامى شديد الحضور: “اللم” وهو لفظ له جذوره العربية([68]) ويستعمل استعمالا ذكيا فى المثل والأغنية الشعبية:
إتبعزق([69]) وانا الــِـمـّــك: يا غصن البان
فحين يحاول المهموم أن يلم همه فيتكاثر عليه يعلن أنه:
“هـَـمّ ما يتلم”
ثم يأتى الشعور بالزمن للمحزون فيثــَّـاقل حتى يكاد يتوقف، ويشعر المحزون بهذا البطء الجاثم كجزء لا يتجزأ من معاناته، إلا أن هذا لا ينبغى أن يؤخذ بالمعنى الشائع: من أن المكتئب أو الحزين يصاب ببطء فى الحركة والإيقاع، بل إن الأوْلـَى أن نرى هذا البطء الظاهر من وجهة نظر أخرى باعتباره زيادة فى حدة وعيه بالحركة من جهة، فيرصدها بألم مفرط، يرجو معه أن تسرع خطاها، فلا تفعل، لذلك هو يدرك تماما أن:
“السَّـنـَـة السودَة خـَمـَـسـْـتاشر شهر”
فهى خمسة عشر شهرا على الأقل، لأنه يرصد حركتها بوعى يستعجل مرورها، لعل الهم يزول، أو على الأقل تقل حدته، ونجد هذا المعنى فى الأصل العربى بأدق ما يمكن وصفه حين ننصت إلى امرىء القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علـىّ بأنواع الهموم ليبتلي
ويتأكد هذا الإبطاء عند امرىء القيس حين يتمطى الليل ثقيلا معجزِّا
“… وأردف إعجازا وناء بكلكل”
والأجمل والأجثم حين رُبـِطـُتْ نجوم هذا الليل (بلا حراك) فى جبل قريب:
“بأمراس كـِتـَّـان ٍ إلى صُـمِّ جندل”
هنا يصبح التعبير المصرى بالمثل العامي: “السنة السودة خمستاشر شهر” أخف وطأة وأسرع إيقاعا من شعر امرؤ القيس هذا الذى يكاد يجمِّـد اللحظة من فرط الأسى والهم.، مع جمال وروعة الأخير.
لكن المسألة ليست مسألة مقارنة زمنية لإبطاء الايقاع، بقدر ما هى رسالة دالة على نفس المعنى فى الحالتين.
كذلك لا ينبغى أن نسارع باعتبار أن الهمود هو بالضرورة إشارة إلى مجرد الإبطاء إذ أنه أيضا، وربما قبلا، تعبير عما هو عـَجـْزٌ عن حمل ثقل الرؤية المتعلقة عادة بالوعى بتكاثر الهموم على قلب يذوب رقة، فيتقطع هما: ففى العديد:
“أهـِمّ ما قدر أهمّ، أكـِـنـّى جمل تـُـقـُـل على الحمل”
( لاحظ هنا قرب فعل ” أهـِمّ” من لفظ ” الهم”)
وقد يكون هذا العجز فى حالة الحزن ناتج عن الإعاقة الداخلية الناتجة بدورها عن فرط الرؤية، وقد يكون ناتجا عن فرط الوعى بشماتة الناس وتخليهم ومعايرتهم، فالقدرة موجودة لولا هؤلاء، حتى يقول العديد فيما يشبه الموال:
“وإن حمِّـلونىِ حمل الجمال الحـُمْر،
الحمل أشيله بس الكلام المـُـرّ
وإن حمِّـلونى حمل الجمال البيض،
الحمل أشيله بس الكلام يكيد”
وبدءا من هذا المنطلق نحاول أن نتقدم خطوة إلى علاقة الحزن (بما فى ذلك ما يسمى الاكتئاب) بمشاعر الشك والتوجس (ما يسمى البارانويا عادة)، فأصل الموقف الاكتئابى أن يلوم الإنسان نفسه ويحط من قدرها دون الناس، “أنا مخطىء وأنت تمام التمام” ([70]) حسب مقولة “إريك بيرن”([71]).
وأصل الموقف البارنوى هو العكس أى أن الفرد يلوم الناس ويتوجس منهم، وفى نفس الوقت هو يبريء نفسه معليا من شأنها، “أنا تمام التمام وأنت المخطىء([72])“، لكن الخلط بين الموقفين شديد إذ قد يتبع أحدهما الآخر: فعلاقة المكتئب بالناس (بالموضوع) متعددة الأشكال:
فهو فى شدة معاناته يفكر فى ألم الشماتة، وفرحة العدو بما هو فيه:
“اتحرق الوش والقفا، والعدو لسه ما اشتفى”([73])
وأحيانا ما تصل المبالغة فى تشويه الذات وإيذائها إلى ما يشير- بشكل غير مباشر- إلى محاولة تقمص المعتدى وإرضائه بهذا التمادى فى التدنى، نرى هذا فى أوقات المهانة الساحقة والتسليم المذل.
وعلى العكس من ذلك فقد يخفى المكتئب حزنه، إما مسايرة للناس، وإما يأسا من مشاركتهم:
“السن للسن يضحك، والقلب كله جرايح”
وهناك من الناحية المدرسية التقليدية ما يسمى “الاكتئاب الباسم” وقد يكون قريبا مما نشير إليه هنا، أو لعله قريب أيضا من إخفاء المكنون- إن كان هما أو وحدة أو يأسا.
على أن الوعى الشعبى يفرق بين أنواع الهموم بما يتناسب مع الفروق الفردية بحيث لا يجوز أن تـُـجمع فى تصنيف (تشخيص) واحد، كأنه يرفض معنا مبدأ التعميم التى توصى به النظم الحديثة فى التشخيص، فمثلنا يؤكد الفروق الفردية بشكل حاسم حين يقول:
كل همّّ فى الدنيا: له قلب بالعـِـنـْـيا.
وله قلب بالعنيا تعنى “بالذات”، أى له قلب يليق به تماما (ليس كمثله آخر).
وأخيرا فإنه من عمق بذاته، قد يصل الموقف إلى الاستسلام، وبدلا من أن يظهر الحزن على ظاهر السلوك فى تعبير الوجه، أو نبرة الصوت أو محتوى الكلام تحل محله مظاهر العادية، أو حتى الابتسام، وهذا يشير إلى أن الاكتئاب بلغ مبلغه ومع ذلك فإن صاحبه فضل أن يحتفظ به لنفسه ربما خوفا من انعدام المشاركة أو يأسا من أمل تخفيف الجرعة إن هو أعلنه.
وأحيانا يصل الحزن درجة تجعل اليأس حـَلاَّ وكأن الحزين قرر أن تتساوى عنده المواقف ما دامت عاجزة عن التخفيف وهو عاجز عن التحمل، ولعل هذا ما يعنيه هذا مثل:
“يا قلبى يا كتاكت يا ما انت شايل وساكت”
ويقال هنا إن المكتئب نفسه لايكاد يعلن اكتئابه رغم شعور المحيطين به وظهور آثاره فى سائر مجالات السلوك الأخرى، وعندى أنها ليست بلادة بمعنى اللامبالاة فعلا ولكنى تصورتها تراكما للإنهاك حتى الاستسلام.
” واهو كله محصل بعضه”
“قال: شنق ولا خنق، قال: أهو كله فى الرقبة”
وهذا أقرب، مع الفارق، إلي:
“وما يضير الشاة َ سلخـُـها بعد ذبحـِـها”
وبعد:
فما أبعد حزن الناس الجاد والشريف عن مرض الاكتئاب الذى يسجله الأطباء فى شكل أعراض ولافتات تشخيصية.
وما أولانا بقبول الحزن تحملا لمسئولية وجودنا، مع رفض الإنهباط (وهو الاسم المرضى الذى أطلقه المرحوم أ.د. عبد العزيز القوصى، ترجمة لما هو اكتئاب مرضى([74]) Depression ولم ينل حظا كافيا فى الشيوع).
الفصل الثانى عشر:
فصل فى: الفروق الفردية، والتناسب([75])
المثل الرئيس:
“صوابعك مش زى بعضها”
“صوابعك مش زى بعضها”
هذا مثل شائع لدرجة أن الناس يستعملونه وسط الكلام باعتباره حقيقة جارية، وليس تجريدا يستشهد به، وهو يعلن مباشرة اختلاف الناس عن بعضها.
ومبدأ أن الناس تختلف عن بعضهم البعض، يبدأ من منطلق عيانى بسيط تثبته دراسة البصمات، بدءا من بصمات الأصابع و حتى بصمات الصوت فى التسجيلات الحديثة ثم يمتد إلى بصمات الدَّنـَا DNA
لم يخلق الانسان الفرد بكل هذا “التفرد” لاستخراج بطاقة شخصية، أو فيش وتشبيه، أو لتسهيل مهمة البصاصين والمتنصتين، للتعرف على الجناة والمتآمرين والثوار، فلابد أن هذا التفرد يعنى شيئا شديد الدلالة، فهو يقول ابتداء: إنه مهما تشابهت الصفات العامة، والاستعدادات الوراثية، والظروف الأسرية والتربوية والملامح الظاهرة، فسيظل كل فرد هو نفسه، من عمق بذاته.
وتطبيقات هذه الحقيقة الشديدة البساطة، الشديدة الأهمية، فى مجالات التربية والسياسة والرأى، هى تطبيقات بلا حدود، ومع ذلك فهى تطبق – عموما – بدرجة اقل مما تستحق من العمق والاحترام.
وتتجسد هذه الحقيقة أكثر فأكثر فى الأسرة الواحدة، ذات الظروف الواحدة والتطبيق العملى لهذه الحقيقة فى مجال علم النفس والطب النفسى والمعالجة النفسية أظهر من أن يشار اليه، فمهما كان التشخيص واحدا([76]) (مثلا) فإن التناول يختلف من فرد إلى فرد، حتى يصل من النقيض إلى النقيض، لمريضين يحملان نفس الاسم.
وقد أشرنا إلى ذلك فى الفصل السابق (ص 128) وكيف يتنوع الهم عند كل الناس:
كل هم فى الدنيا له قلب بالـِعـْنيا
واحترام هذه الفروق التى بين البصمات، والأصابع، والناس، والطباع، والمزاج هو الإطار الحقيقى الذى يمكن أن يسمح بالحركة “معا”، لكن التمادى فى تقديس الفروق الفردية حتى التسليم لها باعتبارها حقيقة أزلية لا فكاك منها، يجعل الحوار للتفاعل وتواصل الوعى البينشخصى إلى الوعى الجمعى صعبا أو مستحيلا، فالفروق الفردية ينبغى أن تكون منطلقا متجها لاتفاق وإثراء، ومواكبة، وتعاون، فهى- بذلك- ليست نهاية مطاف للتباعد، والوحدة، والحساسية الذاتية، واليأس من الآخر.
والمثل الشعبى يعرف كل ذلك وأكثر، ويؤكده وهو يتناول هذا الأمر ومتعلقاته من أكثر من جانب بدءا مما بدأنا به وهو.
(1) ” صوابعك مش زى بعضها “
إلى ما هو أكثر تحديدا أو تعميما:
(2) “ما زول زى زول،
و لا الصلاية زى دق الهون”
والزول هو “الشخص” الفرد، والكلمة تستعمل فى شمال السودان أكثر من استعمالها فى العامية المصرية الحالية، والتقابل هنا له عمق غائر رائع، لأنه بعد مقارنة ذاتٍ بأخرى، راح يقارن الإسم (الصلاية) بفعل (فعل الدق)، وكنا نتوقع التبسيط ودقة المقابلة أن يكون بقية المثل: “و لا الصلاية زى الهون”([77]) ولكنه ذكر ” دق الهون ” هنا، مع حذف “دق” قبل الصلاية، [فلم يقل أيضا: دق الصلاية زى دق الهون) وقد نقلنى هذا فجأة، وبإصرار، إلى أن ما يترتب عن الاختلافات الفردية هو اختلاف الأداء، أى أنه ليس المهم أن تستقبل الاختلاف وتحدده، ولكن الأهم هو أن تجعلك رؤية هذا الاختلاف تتوقع من “زيد” ما لا تتوقعه من “عبيد”، من كلٍّ حسب ما هو، مع احتمال الاختلاف أيضا باختلاف التوقيت أو السياق أو كليهما.
وإن كان المثلان المتقدمان قد أعلنا الفروق الفردية بفعالية موضوعية، فإنك تشم رائحة تمييز طبقى وسلطوى فى أغلب الأمثال الأخرى التى تتناول النصح بضرورة التمييز بين الناس، ونبدأ الأمر بالتنبيه إلى التلميح بهذه الطبقية فى قولهم:
“إيش جاب لجاب”
والمثل يضرب هكذا-تعميما-أحيانا، كما قد يضاف اليه تفصيل لاحق (انظر بعد) وبمجرد استعمال “إيش جاب” نشعر بهذه التفرقة الطبقية بشكل أو بآخر، حتى لو جاء بعده لفظ جديد منحوت لدلالته الصوتية وتركيبه الأطول والأكثف فحسب، أى بلا مضمون متفق عليه، يظهر ذلك حين يقول مثل آخر:
“إيش جاب التين للتنتين”
وقد حسبتها خطأ مطبعيا وقرأتها لأول وهلة “التنـِّين” لكن شرح أحمد تيمور أكد على أن ” كلمة التنتين لا معنى لها، وإنما أتوا بها فى معنى شيء يشبه التين، وليس هو، فرحت أضيف أنا ما علـّمه لى والدى أن الزيادة فى المبنى قد تحمل ترجيح الزيادة فى المعنى، يتأكد ذلك بتكملة المثل بقولهم:
إيش جاب التين للتنتين
وإيش جاب الترعة للبحر
فيبدو أن التنتين يفوق التين بما يفوق به البحر الترعة، والبحر يطلق فى الريف المصرى على الترعة الكبيرة أو الريـَّاح (بحر موسي- بحر وهبه….الخ)، وليس على البحر بمعناه الأصلى، فهم عادة يضيفون كلمة المالح أى البحر المالح إذا أرادوا به بحرا غير الترعة الكبيرة، وكلمة إيش تستعمل عادة فى المثل العامى إذا أريد بها التهوين (والتحقير) أحيانا، متضمنا النصح بأن يلزم “الأقل” حدوده. (لاحظ الطبقية من جديد) وذلك فى مثل قولهم:
“إيش عرف الحمير فى أكل الزنجبيل” ([78])
(وكذا)
إيش لك فى الحبوب يا جعبوب ([79])
وننتقل خطوة فى التفرقة الطبقية حيث يقول مثل آخر:
“إيش جاب أحمد للحاج أحمد”
وأغلب الظن أن “الحاج” تستعمل هنا ليس بمعناها الدينى، ولكن بمعناها الطبقى، فالحج كاد أن يصبح دليلا على القدرة المالية قبل أن يكون دليلا على الورع، فضلا عن استخدام التجار للقب الحاج، تسهيلا لتجارتهم، وتأكيدا لموقفهم المالي.
ثم تظهر الطبقية فيما هو أكثر صراحة فى قولهم:
“إيش جاب العبد لسيده”
وهناك صيغة أخرى لهذا المثل حيث تأتى تكملته تقول:
“إيش جاب العبد لسيده
قال: لـدا طلعة ولـدا طلعة”
وهذا تطوير هام: فالرد هنا “قال” يعلن أن لكل منهما ما يميزه، فنحن لا نحسب عادة أن للعبد “طلعة”، إذ نتصور أنه “نكرة” أو مجرد “كمالة عدد” أو “أداة”، لكن تكملة هذا المثل هكذا- قد- تخفف قليلا أو كثيرا من التأكيد على الطبقية، ومن هنا فعلينا أن نفرق بين الطبقية، وبين التمييز والتحديد، فأن تضع كلا فى مكانه، وأن تحسب لكلٍّ طلعته، ليس بالضرورة اعترافا أو تأكيدا للطبقية بالمعنى الأحدث، وإنما قد يكون تحديدا لمنطلقات، وبالتالى فهو تأكيد ضمنى للفروق الفردية ابتداء، ثم يأتى بعد ذلك ما يأتى، وإعلان الحقائق الفارقة – كمبتدأ – هو أكرم وأعدل من ادعاء المساواة المثالية، بل إن هذا الإعلان الصريح قد يشير ابتداء إلى أن المسألة هى مجرد تمييز، ليس بالضرورة تمييزا طبقيا، فإن هذا التمييز يمتد إلى الملبس، والمكان على حد سواء، ففى قولهم:
“إيش جاب لجاب
العايقة لام حجاب”
لا نستطيع أن نتبين تأكيدا من هى الأفضل من واقع ألفاظ هذا المثل إلا فى استعمالاته التى قد يحددها السياق، فإذا كان هذا المثل يمدح أناقة “العايقة” فهو يرجح كفتها، وإذا كان مدحا لوقار و”حشمة” أم حجاب فكفتها هى الراجحة.([80])
ومن التمييز غير الطبقى أيضا مثل أحدث يتداوله الشباب خاصة يقول:
ولا كل أىّ أىّ، ولا كلّ زىّ زىّ
ولا كل قط يتقال له يا مش مش
والتفرقة لا تقتصر على الفروق الفردية وإنما تمتد إلى الانشغالات، والاهتمامات وغيرها، مثل قولهم:
الريس فى حساب، والنوتى فى حساب
فما يشغل الرئيس غير ما يشغل المرؤوس ( والمقصود هنا رئيس المركب، والمرؤوس البحـَّار)، وهذا المثل يشير إلى ما هو تحديد اختصاصات مما لابد أن يترتب على تحديد الفروق الفردية الجـِـبـِـلـّـية، فالمكتسبة بالمركز والحرفة.
كذلك فإن التأكيد على الاختلاف قد يمتد إلى ما يشغل كل فرد، حتى ولو توحـَّد الموقف، وثبت المتغير، كما يظهر فى المثل:
مال الجنازة حارة؟
قال كل منهو بيبكى على حاله
بمعنى أنه رغم إتفاق المظهر، إلا أن المحتوى يختلف والسبب يختلف والتوجـه يختلف.
فإذا كانت الفروق الفردية واضحة كل هذا الوضوح فى الحدس الشعبى، فإنها لم تتضح لمجرد التصنيف والتمييز حتى لو كان التمييز طبقيا، وإنما اتضحت للتطبيق والوعى العملى بما يترتب عليها، فباديء ذى بدء ومهما اختلف هذا عن ذاك، فعلى الانسان أن يقبل نفسه “كما هو” مهما اختلف عن غيره، ومهما تميز غيره عنه، وفى هذا يقولون:
“وحشة وعاجبة نفسى وأشوف الناس تقرف نفسي”
أو حتى:
“كل واحد بربوره على حنكه حلو”
فما دام ما تدلى منه هو جزء منه، فهو قد قبل بما هو، ورضى به بل واستطعمه !! ولكن هذا لا يعنى تحبيذ العمى الكامل بالنفخ فى الذات، بالقبول غير المشروط لما هـِىَ حتى بعيوبها، ولكنه الدفاع الأوْلى الواجب فى بدء المواجهة، وذلك بأن تكون أولى الخطوات هى التمسك بما هو “أنا” حتى لو ترونى “وحشه” أو “لى بربور”..الخ
أما الجولة الثانية فهى مع الداخل، وهى تختلف باختلاف الرؤية، ولكن الحدس الشعبى قد وصل إلى تقرير جذور القلق (بما هو)، فلسان حال الداخل يعلن ضمنا تمسك كل واحد بتفكيره الخاص مهما كان مختلفا عن غيره، فالمثل يقول:
“وزعوا العقول عالناس ما حدش عجبه إلا عقله
ووزعوا الأرزاق ما حدش عجبه رزقه”
3- وانطلاقا من هذا الاعتراف بالاختلاف مع التمسك بالقبول المبدئى للذات الظـاهرة كيف كانت، يأتى تطبيق عملى يعلى من قيمة التناسب الواقعى من أكثر من منطلق.
(أ) فمن ناحية الصفات الفردية وانتقاء ما يناسبها ما دام الاختلاف بهذا التحديد يقولون:
“كل واحد يبرَّد لقمه على قد بقه”
وهنا يظهر فعل الاختيار الإرادى، والتصرف التفصيلى فى حدود القدرة الفردية، وفى نفس الوقت قد يظهر هذا التناسب بغير إرادة صريحة، ولكن بتوجه تلقائى بناء على اختيارات من واقع مستويات أخرى من النفس، بما ينتج عنه هذا التناسب كنتيجة يرصدها الوعى الشعبى فى قولهم:
“كل شيلـُّهْ (شىء له) يشبهنْ له”
فالفرد يقتنى ويمتلك ما يتفق مع ذوقه أو ذاته (أو فروقه الفردية) المتميزة، فإذا تمادى المثل لغرض آخر فى سياق آخر فإنه يضيف ساخرا:
“كل شيلـّه يشبهن له
حتى الحمار واللى قانيه”
وهذا المثل يذكرنا بأن ما تقتنيه وتملكه أو ترتديه هو إعلان ضمنى عن ما هو أنت.
3- ثم يؤكد المثل ناحية أخرى للتلاؤم مع من يحيط، والتصرف فى حدود واقع الحال، وواقع القدرة، وحدود التميز فنجده يقول:
“كل واحد ينام عالجنب اللى يريحه”
………….
أو “على قد لحافك مد رجليك”
…………
أو: “على قد فلوسه يمرجح رجليه”
ثم يمتد الحدس الشعبى ليعلن نوعا من الانتقاء الغائى، حين لا يتوقف فقط على اختيار إرادى واع، أو على اختيار لا شعورى ضمنى، وإنما يعلن ان المطلوب يحدد طالبه، مثل قولنا أن “المهنة تنتقى شاغلها”، أو حتى مثل قولنا فى قانون التطور أن البيئة تحافظ (وتـُـبـْـقى) على من يتلاءم معها، وينقرض من لا يستطيع ذلك، وفى مثل ذلك يقول المثل (كما أشرنا سابقا ص 110):
كل لقمة تنادى أكالها
(وكذلك): أو كل هدمة تنادى لباّسها
وإذا كان التناسب قد تأكد فى النصح بأن تـَصـَرُّف كل واحد يجرى فى حدود قدراته ومسئوليته، فإن تناسبا مقابلا ينبه أن يكون موقفنا محدودا بظروف (وفروق) من نتعامل معه:
على قد فوله كَيـِّلـُولـُه
وعلى قد زيته خايـِلّ له ([81])
ويمتد الوعى بالفروق الفردية إلى احترام الفروق الواردة من اختلاف فرص المعرفة الخاصة لكل واحد بشئون نفسه وظروفه المختلفة عن الآخرين حتما، وفى ذلك يقولون:
كل واحد عارف شمس داره تطلع منين
وأعترف أنه قد وصلنى من ظاهر غلبة تركيز المثل العامى على الانتباه إلى الظروف الفردية أن ثمة دعوة للنزوع إلى قبول نوع السكون والجمود المتجمد والرضا بهذه الفروق، لكن بتحيزى لوعى ناسى لم أقبل هذ بسهولة، بل فربما كان هذا التركيز هو نوع من الدعوة حفزا لاحترام هذه الفروق ثم الانطلاق منها.
ومن تلك الأمثلة التى رفضتها ابتداءً:
1- “مكتوب على باب الحمام
لا الأبيض يسمر ولا الأسمر يبيض”
وأيضا:
2- أكـِّـل الفلاح سنتين تفاح تضربه علقه
ينزله جلوين (أو جعضيض)([82])
3- أو ما يطلع الطبع الا إن طلعت الروح
ويتأكد الإستسلام للفروق الجبـلـية، والتهوين من الإكتساب والمهارة اللاحقة، بل والتيئيس من التحسين أو التغيـّر فيما تشير إليه أمثال مثل:
الحلو حلو ولو قام من النوم
والوحش وحش ولو غسل وشه كل يوم
وكذا فى المثل الذى ورد سالفا (ص 49):
نهيتك ما انتهيت والطبع فيك غالب.
وعمر ديل الكلب ما يتعدل ولو علقت فيه قالب
لكن كل هذا – مرة أخرى – لا يعنى دعوة للإستسلام للفروق الفردية الوراثية خاصة ذلك أن الفروق الفردية تتأكد أيضا بالممارسة وتشحذ المهارات، فهناك مثل يحترم ما اكتسبته أم الطفل الأعمى منذ الولادة فى رعاية ابنها، وتهيئة مرقده وعـَدْله فى منامه وغير ذلك، فإذا جاءت جارة لها ونصحتها بأن تعتنى بابنها وتحاسب عليه نظراً لإعاقته، فإن الرد يأتى بمثل رائع يقول:
أمّ الأعمى أدرى بـُـرَقاد الأعمى
ويُـضرب هذا المثل فى مواقف كثيرة حين يشير غير ذى الخبرة على خبير فى مهنته، وهذا المثل ما يؤكد أن القيام بمهمة خاصة وطبيعة العمل عموما هى أقدر المتغيرات على تغيير وتطوير صاحبها.
الفصل الثالث عشر:
فصل فى: التوقى الواعى([83])
المثل الرئيس:
”إبعد عن الشر وغنى له”
إبعد عن الشر وغـَـنـِّى له
على أن هناك رواية أخرى لهذا المثل تقول: إبعد عن الشر وقـَـنـِّى له
والمقصود هنا هو أن يبتعد المرء عن الشر ثم يقنى له، بمعنى أن يجعل بينه وبين الشر ”قناة” وحاجزا؟ أو أن يـُـلغى ما بينه وبينه، كما جاء فى القاموس فى مادة “قنا”: فلانا أى قتله([84])
وحين يبتعد المرء عن الشر ثم يقنى له، قد يكون ذلك نذيرا بقدوم الطامة الكبرى في: السلبية وتشجيع الظلم فى آن.
ولعل مثلا كهذا يدعو للجبن الذى هو سوْءة مثل التهور، بل هو أشد سوءا من التهور، ولعل أول من قال بهذا المثل حاكم عربى ضعيف أو مهزوز، وكثيرا ما تردد القول العربى: “إلزم بيتك وأمسك عليك لسانك تسلم“، إعلانا للقهر والكبت العام أو طلبا للسلامة من الطغيان، وأيضا “فين الهرب يا عرب”.
ولكن: أى سلامة؟ إنها سلامة مخلوق وسط، لا هو انسان قـَـبـَـلَ التكليف وحمل الرسالة والأمانة، ولا هو حيوان خلت حياته من هموم لم يعرفها، على أن المثل قد أورده ” تيمور”([85]) بشكل حوار شمل المعنين كما ذكرنا:
قال:
”إبعد عن الشر وقنـى له قال: “… وغنـى له“
وفى شرحه له، ربط بين المعنيين فى اتجاه واحد حيث جاء “..أى قيل لشخص تباعد عن الشر واجعل بينك وبينه قناة من الماء تحول بينكما، فقال لا أفعل ذلك فقط، بل أغنى له أيضا حتى يمر بسلام”، وقد استشهد تيمور فى تأكيد معنى الفرار من الشر بما قاله الميدانى “إجـْرِ ما اسـْـتـَـمـْـسكت” أى لا تفتر من الهرب وبالغ فيه، وما أورده جعفر بن شمس فى كتاب الآداب: “اترك، والشر ما تركك”
ومع كل ذلك، فقد يكون فى كلمة “إبعد” ما لا يعنى الهرب المتواصل الذى ذهب اليه أحمد تيمور وغيره، وقد يكون فى الرد بالغناء ما لا يعنى تأكيد مواصلة الهرب من الشر، ونفاقه حتى يمربعيدا دون أن يلحقنى بأذي- وأظن أن من حقنا أن نتصور احتمال أن يكون هذا البعد له جانب إيجابى، مثل الصبر الواعى، والفخر الشادى بالسلامة نتيجة لحسن التبصر والثقة بكسب الجولة الأخيرة، كل ذلك قد يبطن هذا المثل، لأن لعبة المناورة بالانسحاب المدروس، أو بالصبر الواعى “على الجار السوء (أو الحاكم الظالم) متواترة فى أمثلة أخرى مثل:
أصبر على جارك السؤ..،
.. يا يرحل يا تجيله مصيبة تاخده”
وهى لعبة اشتهر بها الشعب المصرى بصفته الحضارية، ربما لعلاقته بالدورة الزراعية البطيئة الحركة، وعلاقته بفيضان النيل، وانفصال تيار الحضارة واضطراده الإنتاجى بعيدا عن ألعاب السياسة القشرية، وقد ظل الشعب المصرى يحتوى غـُزاته، حتى يذوبوا فيه أو يهربوا منه، بهذا التمثل الصبور، وهذا الموقف الواثق: “حاتروح منى فين”، وهذا عندى هو الأصل فى استيعاب كثير من الأحداث البادية الشر، ومع ذلك القابلة للذوبان فى الكل الأبقي.
وقد يكمل هذا المثل أو يواكبه أنه حين يكون الأمر ملزما بالاقتحام والمبادرة، فلا حساب ولا تراجع:
إن كان خير عجـِّل به
وان كان شر: لابد منه
فهنا ليس ثمَّ بعد عن الشر، الذى لابد منه، وبالتالى لابد من احتمال عواقبه ما دام القرار بهذا الوضوح، والاختيار واع بنتائجه، وبنفس حسم المواجهة.
وبنظرة تتجاوز الإسراع بالاتهام بالاتكال والاستسلام، يمكن أن نرى ما يقابل: “ان كان شر لابد منه” بمعنى أن القدرية هنا ليست تسليما بواقع وإنما هى مواجهة للنتائج الناجمة عن قرار المبادرة، من باب “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا” فلماذا القعود؟ ولماذا الجبن؟- وما دام الذى “لابد منـه” مجهولا، وما دمنا قادرين على استيعاب النتائج أيا كانت، فهى دعوة للإقدام على كل حال وليس العكس.
ومرة أخرى فإن نظرة أشمل للأمثال مع بعضها، تكمل استيعاب حكمتها، ففى مجال الشر أيضا، يحذر الحدس الشعبى من إنكار الجميل، ومقابلة الخير بالشر قائلا:
“خيرٍ تعمل.. شرٍّ تلقى”.
وهذا المثل لا يوصى بأن نكف- إذن- عن فعل الخير، حتى نتجنب أن نلقى الشر، بل هو يقرر حقيقة مؤلمة، قد تكتمل بأنه ومع ذلك:
“إعمل الطيب وارميه فى البحر”
(وقد ناقشنا إيجابية هذا المثل فى (الفصل التاسع عشر ص 184)
الفصل الرابع عشر:
فصل فى: تفسير شعبى لظاهرة الغش الجماعى([86])
والعقد الاجتماعى المنتقم السلبى
المثل الرئيس:
“يا بخت من نفع واستنفع”
حين أعلنت ظاهرة الغش الجماعى، فجأة بلا مفاجأة، بدا وكأن وزير التربية والتعليم اكتشف أنه فى إمتحانات بعض المدارس الإعدادية، أو حتى الشهادات العامة يجرى “غش” تعاونى سمـى فى الصحف غشا جماعيا، كأن ثمَّ تعاقدًا قد عُـقـِدَ بين المدرسين وأولياء الأمور والطلبة على التعاون فى السماح المعلن – تقريبا بمشروعية الغش جماعةً!! ومع ذلك فقد بدت للبعيد عن الموقف كأنها مفأجاة، فجاءتنى إحدى الصحفيات الشابات تطلب تفسيرا “نفسيا” للظاهرة، فأجبتها بمقال([87])، سوف أقتطف منه ما يناسب هذا العمل فحسب:
كانت المفاجأة أنه بمجرد أن أعلنت هذه الظاهرة حتى سرت موجة من الدهشة لدى الناس، عامة الناس، “دهشة من الدهشة”، وكأنها تقول: ”صح النوم” أو “طبعا”، أو “بعد إيه ؟”… الخ.
وبرغم بشاعة الظاهرة بكل مقياس الا أنها استشرت، وتأكدت، وتكررت فى طول البلاد وعرضها على كل المستويات حتى صارت سهلة وطبيعية و…و”شريفة” بل ومجالا للتفاخر!!!؟!!!
وقد لاحقتنى عدة أمثلة شعبية كانت تطرح تفسيرات قاسية، لأنها صحيحة فهذه الظاهرة التى تعد من أبشع الظواهر قوة وتحديا وبشاعة فى آن لابد وأن تعنـِى عمقا خطيرا له جذور سلبية فى ثقافتنا الشعبية بشكل أو بآخر.
وأول بديهية قفزت إلى وعيى كانت تقول إنه من غير المعقول أن هؤلاء الذين يمارسون هذا “التعاون الجماعى” (الغش الجماعى) يعتبرون أنفسهم، أو حتى يحسبون أنهم فى نظر الحدس الشعبى آثمين أصلا.
فتصورت أن ثمَّ عقدا جماعيا/اجتماعيا بين الناس والحكومة، وبين الناس والناس، يفسر هذا الشيوع وذاك التحدى وهذا ما قرأته – للأسف– فى الوعى الشعبى العام المفسر لهذه الظاهرة.
قال لى هذا “العقد الاجتماعى الخاص” بشأن هذه ”الظاهرة” ما يلى:
(1) “على قد فوله… كيـلو له”
فكأنى بالناس يقولون أن شهادة بلا قيمة ولا جهد (يحصل عليها الطالب بالغش) هى المؤهل المناسب تماما لوظيفة بلا عمل، ومرتب لا يستر صاحبه ولا يحفظ كرامته أو شرفه.
(2) ثم وصلنى همس يقول:
(أ) ” اللى ييجى منه أحسن منه”
(ب) “شعرة من دقن الخنزير”
فقرأت استهانتهم بالحكومة والمدرسة، وموقفهم العدائى الحذر من السلطة،([88]) فحيث تمارس السلطة نشاطها وتخطيطها بشكل فارغ من المعنى، منفصل عن الناس، تصبح فى موقف العدو الطاغى اللامبالى، الذى يستحل الناس إزاءه كل ما يمكن نهبه واغتصابه منه، والحصول على الشهادة الرسمية (بهذه الطريقة) هو مثال لاسترداد بعض الحق، أحسن من لا شىء.
(3) كذلك أنه:
(أ) “يا بخت من نفع واستنفع”
(ب) “شيلنى وأنا أشيلك “
فقرأت بندا فى العقد الإجتماعى الشعبى للغش يقول:
نتعاون معا نحن أولياء الأمور والمدرسين ضد من يضحكون على أولادنا (السلطات الحكومية) بتعليم مثل قلته، وشهادة لا تأتى بهمها.
(4) كذلك وصلنى أنه:
(أ) “كله محصل بعضه”
(ب) “كله عند العرب صابون”
فقرأت من ذلك ما يلى:
أنه ما دام حامل الشهادة بحقها، لا يستعمل فى الحياة العملية ما درسه من أجل الحصول عليها، فإنه يتساوي- عند هذه الحكومة وعلى أرض هذا الوطن- مع من حصل على شهادته بلا تحصيل اصلا.
ثم:
(5) “خلى المِـيـَّـه ( المائة ) تبقى ميـه وواحد”
فقرأت:
أنه مادام أولادنا ( الغلابة ) يضيعون وقتهم فى تعليم بلا علم، ويعيشون مواطنين بلا مشاركة، ويتوظفون موظفين لا يعملون، وما دامت الدولة تستدين بلا حساب، وتـُخـَطط بلا إنتاج، وما دام، … وما دام،… وما دام فـــ ” خليها تكمل”، بالغش (سوا سوا)
(6) وأخيرا:
“سيب وأنا سيب”
ووصل ذلك عندى يقول:
الناس تساوم الحكومة وتغمز لها أنها ستفوِّت لها الخطأ والظلم والتخبط، فى مقابل أن تفوت الحكومة للناس، هذا الغش وبعض الشهادات، وبعض الدعم الشكلى التسكينى:
وكأن لسان حال الناس الطلبة والأهل يقول للحكومة: خففوا الرقابة والانضباط ودعونا نغش وينجحونا بلا امتحانات حقيقية، وأنا أفوِّت لكم كرسى السلطة وأنجحكم فى الانتخابات.
فيرد لسان حال الحكومة قائلة:
لا تعايرنى ولا أعايرك … الغش طايلنى وطايلك
لا تنقدونى وتـُحـَبـِّـكوها، وافعلوا- مقابل ذلك- ما تريدون (بما فى ذلك الغش فرادى وجماعات).
وبعد
ليس معنى ذلك أن الحدس الشعبى يبرر الغش، وإنما المعنى الأهم هو أن الغش ليس غريبا عن الحال التى وصلنا إليها، فهو ليس لونا نشازا فاقعا، لأنه يجرى على أرضية من نفس اللون، وبالتالى فعلينا، ومن واقع هذا الاحتجاج الشعبى الصارخ الذى أخذ صورة”هذا الغش”، علينا أن ننظر أولا، وجيـّـدا، ثم نحاول الإجابة على السؤال الذي”يقول”:
* كيف تلونت أرضية حياتنا- هكذا- بنفس هذا اللون الاسود حتى صار الغش سلوكا شعبيا ذا دلالة ؟
كيف، ومتى، ومن الذى لـَوَّنـَهـَا؟ ثم راح يكتشف فينا ما فعله هو؟
الحكومة تغش الناس بالجملة، ثم تتهمهم أنهم يغشونها بالجملة، فقفز فى وعيى، مـَثَلٌ كأنه صاروخ صعب، نعم، مثل قد يصور الحكومة وهى “تستعبط” (وهى ترفض النقد الحقيقى) ثم تروح “تضبط فينا”: ما “تفعله هى فينا”، يقول هذا المثل الصعب (غير المناسب تماما):
“لا تشتم الأحـبة([89]) تلهيك، وكل اللى فيها تجيبه فيك”
وهكذا قرأت الحادث وكيف يفسره حدس الناس، بدلا من الإجابة على صحفية شابة أرادت أن تفسر تدهور القيم ومرض النفوس بلغة الطب النفسى والتحليل النفسى؟.
الفصل الخامس عشر:
فصل فى: المؤسسة الـزواجية فى الوعى الشعبى([90])
المثل الرئيس:
“خدتك عـُـواز خدتك لــُــواز،
خدتك أكيد العوازل كدت انا روحى”
خدتك عـُوَازْ خدتك لـُـوَازْ، خدتك أكيد العوازل كدت انا روحى([91])
المؤسسة الزواجية من أقدم المؤسسات الاجتماعية والدينية، وقد استطاعت أن تحافظ على استمراريتها وصلابتها ووظيفتها عبر الزمن، ومع ذلك فلا هى أصبحت ناجحة بالمعنى الذى يتناسب مع تطور الإنسان المعاصر وطموحاته، ولا هى حتى استمرت نافعة بالقدر المناسب لأغراض تحمى طفولة الإنسان وحاجته إليها عددا أكبر من السنين إذا قورن بطفولة الأحياء الأخرى وخاصة الثدييات.
بعد الحرب العالمية الثانية، ومع اهتزاز كل القيم الثابتة، اهتزت هذه المؤسسة ضمن ما اهتز، وعرضت البدائل، ومورست الكوميونات، وقفزت أحلام اليوتوبيات الغامضة، وبالنسبة للطب النفسى هوجمت المؤسسة الزواجية ضمن ما هوجم من دعاة الحركة المناهضة للطب النفسى التى تردد صداها ما بين أوربا وأمريكا (لانج، وكوبر فى إنجلترا، وبازاجليا فى إيطاليا، زاس فى الولايات المتحدة..إلخ) وكان من أصرح من كتب فى ذلك مباشرة “دافيد كوبر”، فى كتابه “موت الأسرة”([92])، ولم تستطع هذه الحركة بصفة عامة أن تؤثر فى استمرارية أو صلابة أو ضرورة حضور المؤسسة الزواجية.
ولن نتطرق إلى إشكالة التحدى التى مازالت تواجه عمل علاقة بين البشر على مستوى من النضج يسمح بصدق الاقتراب، وعمق التواصل، وفى نفس الوقت يسمح بدرجة من الحرية واختبار الاختيار.
ونبدأ بضرورة التفرقة بين عدة أمور جاهزة للخلط والتشويش:
1- فثم فرق بين الحاجة إلى الآخر، وبين حب الآخر (والفرق لا يعنى الفصل أو النفى، فالتداخل وارد ومقبول ومطلوب).
2- وثم فرق بين الحاجة للآخر، وبين الحاجة إلى “حاجة الآخر لى” ”أنا نـِفـْسَى حد يعوزْنى، وأعوز عوزانه”، وهو ما شرحناه قبلا (ص 69).
3- وثم فرق بين صفقة معلنة من الاعتماد المتبادل وبين اعتماد خفى من جانب واحد، حتى لو بدا هو الجانب المتسلط الطاغى ظاهرا (الرجل عادة) .
4- وثم فرق بين علاقة يجمع بين أطرافها ضغط المجتمع الخارجى، وعلاقة يجمع بين أطرافها جذب طرفيها إلى بعضهما البعض من الداخل
5- وثم فرق بين مؤسسة ثنائية لايحافظ على استمرارها إلا طرف ثالث (الأولاد مثلا)، وبين علاقة تستمر لأن العقد يتجدد تلقائيا بوعى وحرية معلنة ومختبرة مدعمة بالمجتمع من خارجها الأدنى فالأدنى.
ولن نتناول كل هذه الجوانب الآن، لكن دعونا نبدأ بقراءة المثل:
خدتك عُـوَاز خدتك لــواز،([93])
خدتك أكيد العوازل كدت انا روحى
عقدت هذه الصفقة الزواجية ابتداءً (ملحوظة كلمة صفقة هى كلمة واقعية كريمة!!) على أساس واضح تماما: فالزوجة (الشجاعة هنا) تعلن آمالها التى كانت قد عقدتها على هذه العلاقة، وأن الزواج قد تم، من وجهة نظرها ليحقق ثلاثة طلبات، أو احتياجات، أو آمال.
(1) الحاجة، (العوزان): ونذكر أنه فرق بين “الحاجة إلى“، و”الـرغبة فى” و”الـحضور مع” و”الانضمام إلى“، وكل هذه التعبيرات تختفى كثيرا تحت مسمى شائع يقال له “الحب”، وأحيانا ينتطم فيما يسمى الزواج، وهى صفقة مشروعة، وإنسانية، وطبيعية، لكنها على المستوى البشرى هى ”بداية علاقة محتملة”، وليست ”غاية سعى عطشان أو جائع.”
والمثل هنا ينبه أن المرأة تبينت أنها كانت “تحتاج إلى شريك”، لا لتبدأ معه، ولكن لتهدأ عنده (وصلنى ذلك لأول وهلة: بمعنى التوقف)، [خدتك عـُوَازْ].
(2) الملاذ (من لاذ): وهذا أمر مشروع تماما ووارد طول الوقت فى عمق الصفقة الزواجية، بل وصفقات الحب كذلك، وبالنسبة للمرأة بوجه خاص وفى مجتمعنا نحن بوجه أخص، فالمرأة تعتبر أن من أهم ما يحقق لها الأمان، (وأحيانا يصبرها على الهوان) أن تتزوج من يمنحها هذا الملاذ أو المأوى،، أو حتى يعد بذلك (ضمنيا عادة)، أو تأمل فيه على الأقل، وهذا مصداقا للمثل الآخر القائل:
”ضـِلّ راجل ولا ضـِلّ حيطة”
والمرأة عندنا – غالبا أو عادة - تستظل بالرجل فى صورة معلنة، يراها الجميع، إذ يقوم رجل ظاهرللعيان، فى مواجهة شمس الواقع الحارق والمُلاَحـِق، فيلقى بظله أمام الجميع، فتستظل به هذه المرأة التى أعلنت أنه هكذا أفضل من “حيطة”، وقد خطر ببالى أن أقارن بين الظلين، ولماذا يُـفـَضـَّلُ ظل هذا الرجل على ظل الحيطة، فخطر ذلك ببالى وأنا أشاهد هذه البدعة الجديدة المسماة الدِّشَ (طبق الاستقبال الهوائي) وهى تتكيـّف لتلتقط الإشارات من العالم، ووجدت لها ظلا جميلا قادرا على التكيف مع المتطلبات، خطـَـرَ لى أن ظل الرجل لكى يظل أفضل من ظل الحائط لا بد أن يكون مرنا هكذا فى مواجهة ضغوط الحياة وألعاب المجتمع من حوله، وبالتالى يصلح ملاذا للمرأة التى تحتمى به، أكثر من ظل حائط ثابت لا يحمى إلا من يكمن بجواره.
(3) المـِلـْكية: ولن أطيل هنا فى شروط الملكية والتخصيص فى المؤسسة الزواجية، لكنها من أهم الشروط غير المعلنة فى هذه المؤسسة، وهى ممارسة قديمة وأساسية تدخل فيها كل قيم ورموز التملك عموما وعادة ما يحتدّ التملك كلما زادت قيمة الممتلكات مثل العربات الفارهة، والمجوهرات الباهظة، والمقتنيات النادرة، وكلها ليس لها وظيفة فى كثير من الأحيان إلا أن تعلن قدرة من يمتلكها على امتلاكها، وقد بلغنى من تعبير”أكيد العوازل” أنه بمثابة إعلان أن هذا الرجل (المـُتـَميـِّز بكذا وكيت) هو ملكى أنا، وهذه الظاهرة – فى المؤسسة الزواجية خاصة، نجدها عند الرجل الذى يحرص على إظهار جمال زوجته (أو صاحبته) أمام الآخرين، لا ليعرضه للفرجة، أو لكى لا يحرم الآخرين من متعة النظر إلى التناسق الجميل، وإنما ليعلن ضمنا “أن هذا الجميل جداً هو ملكى أنا، ولى وحدى حق الاستمتاع به”!، ولعل هذا ما تضمنه بالقياس قول الزوجة – بدورها- هنا فى المثل “أكيد العواذل”
فإذا كانت هذه هى شروط هذه الصفقة الزواجية، وهى شروط عادة لا تتبينها صاحبتها بوعى كاف، ولكنها عادة ما تكـتشـفـها بعد اختبار احتمال تحقـقها بعد عقد الصفقة، فإن المثل يعلن أن أيا منها لم يتحقق: فلا الزواج سد الحاجة، ولا الملاذ كان آمـِنـًا، ولا صفات “البضاعة” المـُمـْـتـَـلـَـكة كانت كافية لكيد العواذل، والنتيجة هى الإحباط:”كدت انا روحى” وهوالتعبير المرادف لـ”إديت نفسى مقلب“. “وثمَّ تعبير أقسي” أنا اللى خـَوْزقت نفسي“.
على أن الإحباط لا يأتى من أن شروط الصفقة الزواجية لم تكن صالحة للتطبيق على أرض الواقع، أو لأنها شروط مجحفة أو حتى لأنها شروط “سرية”، على الرغم من أن كل هذا يسرع بالإحباط ويفسره جزئيا، وإنما قد تأتى لأن الممارسة الزواجية قد تظهر أنها كانت مبنية على أحلام، أو أفكارٍ آمـِـلـَـة أو تمنيات خيالية، وبالتالى جاء الواقع يعريها.
والأخطر من ذلك - وهو متواتر بشكل أو بآخر- أن الأزواج، حتى الذين يلوحون بتحقيق هذه الشروط قبل الزواج يرسبون فى أول (أو عاشر أو …الخ) اختبار، فكثيرا ما تجد الزوجة التى أمـِلـَتْ فى تحقيق احتياجها للزواج بهذه الصفقة أن الزوج هوالذى أخذها يسد بها ضعفه واحتياجه، ويستعملها لرى عطشه دون حتى النظر إلى عطشها، وأيضا يمكن أن يقوم بسد احتياجها فى البداية، أو هى تتصور ذلك، لكن غلبة الأنانية، وفرط الغرور، وتعرى الشروط وحـِدَّةُ احتياجه، كل ذلك يوقف هذه العملية وينكشف العمرالقصير عاجزا عن الوفاء بهذاه الشروط.
وحين تكتشف الزوجة أنها هى ملاذ زوجها وليس العكس، قد ترضى بهذا الدور وتفرح به وتصبح هى بمثابة الرجل وتستمر الحياة، وقد ترفضه بعد فترة تطول أم تقصر لأنه يكاد يكون عكس ما حلمت به أو تصورته أو أمـِلـَتْ فيه، كما يقول المثل.
وأخيرا فإنه قد يثبت - بعد المعاينة! ـ أن الميزات التى كانت تتصورها، أو تقدرها، والتى كانت تصلح للمباهاة، ولكيد العواذل، لم تثبت أنها ميزات حقيقية، وبالتالى فبماذا تكيد العوذال، أو ما يقوله مثل آخر:
“طـِلـِع نـَقـْبـِك على شونة“([94])
وكل هذا إفشال من الواقع نتيجة لأنه حتى التوقعات المبدئية لم تثبت صحتها، والنهاية [كـِدْت انا روحي].
****
ثَمّ مثل آخر يغوص فى مستويات أعمق فى الحياة الزوجية وهو لا يعلن الحاجة إلى منظومة محكمة فحسب بل ينذر بملامح دالة على اهتزاز هذه المنظومة وعيوب التهاون إزاءها .
هذا المثل يتناول تعرية المقارنة بين: الزوج الطرى والعشيق الحمش ([95])
يقول المثل:
جوزى ما حـَـكـَـمـْـنـِـى، دار عشيقى ورايا بالنـَّـبـُّـوت
ماذا يقول هذا المثل؟
أولا، هو مثل يشير – بكل الشجاعة – إلى العلاقات خارج مؤسسة الزواج إشارة واقعية وليست فقط من منطلق النهى الأخلاقى.
ثانيا: هو ينبه- ضمنا – إلى بعض ما يجعل الزوجة تتخذ عشيقا قويا حاسما، ليس لأنها تريد من رجلها (بدءا بزوجها) أن يستعبدها (ما حكمني)، فأن يحكم الزوج زوجته ليس معناه أن يقهرها، ولكن المثل يشير بشكل رقيق إلى أن بعض الأزواج يبلغون من الضعف والسلبية ما لا يملأ عين زوجاتهم، وبالتالى تبحث الزوجة عن هذا السند الرجولى القوى يملأ وعيها، ويغذى احتياجها، بل إن الحاجة إلى شريك قوى لا تقتصر على المرأة، فالرجل أيضا يحتاج إلى شريكة، حبيبة، زوجة، قوية، ظهر ذلك منذ عمر ابن أبى ربيعة وهو يتمنى أن تستبد به هند، ولو مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد،
“…واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد”.
بل إن قولا صعيديا ساخرا يشيرإلى حاجة الرجل أحيانا أن يجد امرأة قوية بجواره حتى لو ضربته على قفاه وقالت “كذا”، إذن فحاجة الإنسان إلى دعم يسنده، أو قائد يحكمه ليست خاصة بالنساء، ولا هى دليل على السلبية والاستكانة من جانب الرجل فحسب، بل هى إعلان أن المرأة تريد شريكا حاضرا، يقظا، منتبها، يقول لها رأيه بحسم، مثلما تفعل هى معه بدورها إذا أتقنا سماح تبادل الأدوار، وأن ما يرضى المرأة من شريكها ليس فقط الود والعطف والتفويت وإنما الانتباه واليقظة والوضوح، وأن يحكم الزوج زوجته (وبالعكس) لا يعنى أن يفرض عليها أحكامه، ولكن أن يكون بجوارها بإيجابياته المتميزه، وحتى بخطئه المحدد، والزوجة بدورها تحضر فى وعى زوجها بنفس الحضور الإنسانى الصادق، وإلا فالنتيجة واحدة.
وهذا الزوج الذى لا يحكم زوجته قد يكون ضعيفا من البداية، أو معتمدا فى سرية أو علنية عليها، أو مستفيدا من صفقة سرية أو معلنة من هذه العلاقة ومن موقف الاعتماد المعلن أو الخفى، وقد يكون مثل هذا الزوج – إذا انبهر بقيم مستوردة- مخدوعا بما يسمع عن الحرية الواجب توافرها لسلوك الزوجة فى خروجها، ودخولها، واهتماماتها وصداقاتها، وهو يتمادى فى هذه الطنبلة([96]) (هذا “الطـَّـنـَـاش”) تحت زعم الحرية، فى حين أنه من عمق آخر، يعفى نفسه من مسئولية علاقة حقيقية بشريكته.
وحين تستشعر الزوجة مثل هذا فى زوجها، وربما تحاول أن تصلحه فلا ينصلح، أو تنبهه إلى المخاطر المحيطة به فلا ينتبه، فإن الأمور قد تتمادى حتى تعوِّض هذا النقص بعلاقة خارج المؤسسة الزوجية ( أو العشيق).
لكن موقف العشيق هنا يحتاج إلى عدة قراءات :
فلماذا جرى- أو يجرى- وراءها بالنبوت؟ وما دلالة ذلك؟ وهل هذا مطلب، أو وصف، أو شكوى؟
ولتعدد الإجابات وجب تعدد القراءات:
الاحتمال الأول: (وهو الأضعف) هو أن الجملة تشير إلى أنه: لأن زوجها لم يحكمها ذهبت إلى نقيضه الذى لا يكتفى بأن يحميها بل هو يطاردها ليس فقط لاقتناصها بل ربما لحسابها أيضا.
الاحتمال الثانى: (وهو ضعيف أيضا) ألا يكون هناك ارتباط سببى، بمعنى أن الجملة “دار عشيقى ورايا بالنبوت” هى مقارنة بين زوج سلبى، وعشيق حاسم (حمش)، وبالتالى فالزوجة قد فضلت العشيق الحاضر الذى له موقف، عن الزوج المتنحى (الطناش).
الاحتمال الثالث :(وهو ليس احتمالا قويا جدا رغم وجاهته) هو أن عشيقها يتمادى فى لى ذراعها، أو حتى إخضاعها، حين يتأكد من استمرار رفضها المعلن أو الخفى لليونة زوجها وسلبيته، وكلما تمادى هذا الزوج فى ذلك، تمادى العشيق بدوره فى الشعور بقيمته، وبالفرق بينه وبين الزوج الطرى المخدوع، ومن ثم راح يحافظ على العلاقة بهذا الحضور المـُلاحـِق جريا وراءها بالنبوت.
تعقيبات أخرى إضافية:
1- إن الحياة الزوجية إشكالة خاصة من إشكالات العلاقات البشرية، ونحن حين ندرسها، خصوصا فى مجتمعنا هذا، ندرسها من زاوية أخلاق الطبقة الوسطى أكثرمن دراستنا لها فى الطبقات الأعلى والأدنى، والتى تتمتع بمساحات من الحركة (ولا أقول الحرية) فى الداخل (فى النفس) والخارج (فى السلوك) أكثر مما نحسب أو نتصور. وهذا المثل يشير إلى بعض ذلك فى هذه الموضوعات.
2- إن صعوبة الحياة الزوجية ليست قاصرة على طبقة دون الأخرى، ولا على مجتمع دون الآخر، بل إن المجتمعات الغربية ربما تعانى أكثر من مجتمعاتنا فى هذه المنطقة، و زيادة نسب الطلاق، وتفكك الأسر هناك – على حساب الأولاد طبعا-هما إعلان لهذه الصعوبة المتزايدة.
3- إن البدائل المطروحة للحياة الزوجية، مثل العقود المؤقتة، والعلاقات الحرة على إطلاقها، والزواج الجماعى ، وغير ذلك مما شاع فى العالم الغربى، كلها حلول ليست أسهل، ولا هى نجحت كبديل، وبعض ما نجح منها كان على حساب الأسرة والأطفال حتى لو أغنى الكبار مؤقتا، وهى حلول لم تستطع أن تثبت نجاحها أمام اختبار الزمن، وإن كانت المحاولات الفردية مستمرة.([97])
4- إن العلاقات البشرية، وخاصة فى إطار المؤسسة الزواجية تحتاج إلى جهد مثابر، ومراجعة، وحرية حقيقية، وعدل، وحركة، وإعادة تعاقد، وشروط طيبة معلنة متبادلة، وكل هذا هو ما يمكن أن نفهمه من قول المثل “جوزى ما حكمني”، أى أنه لم يبذل الجهد الكافى لإرساء قواعد ضابطة محددة (حاكمة) للعلاقة الزوجية، وليس مجرد أن الزوجة (والمرأة ) تحتاج إلى القهر والتبعية.
وبعـد
خلاصة القول: أن المثل الأول إذ يصرخ هكذا لا يريد أن ينكر حاجة المرأة (والرجل) لأن يطلب من شريكه أن يسد حاجته، أو يكون ملاذا آمنا له، أو أن يفخر بميزاته أمام المجتمع والناس، ولكنه - حسب قراءتنا له- يعلن أن كل هذا مقبول كخطوة تتلوها خطوات، وأن الاقتصار على توظيف العلاقة الإنسانية، حتى فى أكثر أشكالها شيوعا وهو الزواج، لمجرد سد الحاجة، والاعتمادية (من جانب واحد)، والتباهى بالامتلاك، هو الخسار بعينه، أما إذا وُظـِّف كل هذا فى طريق النمو العلاقاتى بارساء قواعد لهذه المؤسسة يحكمها الأطراف بالتبادل عدْلا (ماذا وإلا!!” الانهيار أو المثل الثانى) فإن الفرص تتزايد لانجاح هذه العلاقة بتوفير الفرص المناسبة للحفاظ عليها وتجديدها لتصبح حقلا للنمو وليست ملجأ للاختبار، ولا استسلاما للقهر.
ولتفصيل ذلك نقول:
مراحل النمو المأمولة لهذه المؤسسة:
إن للعلاقات الإنسانية مسارا للنمو، ومسارا للتدهور على حد سواء، مثلها مثل النمو الجسدى، والنمو المعرفى، ودعونا ننظر فى ما كان يمكن أن تتطور إليه هذه الاحتياجات المشروعة لتجنب مثل هذا الإحباط، أو الاضطرار إلى الانحراف، فنقول إن المنتظر، انطلاقا من هذه الإشارات الواردة فى هذه الأمثال ومثلها – فى المؤسسة الزواجية كمثال – أن يتطور الأمر على الوجه التالى:
1- الانتقال من “الحاجة إلى” إلى “الحضور مع”، ومن “الحضور مع” إلى “التوجه سويا إلى”، فإن ما يجمع البشر بعضهم إلى بعض جمعا قابلا للنماء ليس علاقة “القفل والمفتاح” كما تتصور الغالبية، وإنما أن يكون حضور الواحد هو إثراء لحضور الآخر، وأن تتفجر قدرات الواحد فى كنف تفجر قدرات الآخر، وأن يتعمق وعى الواحد بتعمق وعى الآخر، وهذا لا يتطلب الزعم الشائع عن مسألتى الحوار والحرية المزعومتين، فلا “حضور معا” إلا بحوار لا يقتصر على الكلمات والمناقشات، ولا “حضورمعا” إلا بانتقاصٍ من حرية كل من الطرفين (عكس الحرية الدفاعية المقتصرة على الذات)، ثم حين يتعمق هذا الحضور معا، دون نفى الآخرين، لا تتوقف المسيرة عند ذلك بل تصبح حركة كل واحد على حدة تسير فيما أطـْرَحُ له تسمية “التوجـُّه الضـّامَ”.
2- الانتقال من “الملاذ الآمن” وهو ما أتصوره أنه أمان، من الخطرالخارجى، من العدوان المباشر وغير المباشر، من تقلبات الزمن..، وكلها مخاطر حقيقية تحتاج إلى دفاعات مشروعة، كما نحتاج إلى الاستعانة بالآخر، ولكن أن ينقلب الحال إلي:الوقوف عندها والاعتماد كلية على الآخر لمواجهتها دون مشاركة فهذا هو الذى يجعلها لا تصلح، وهو الذى ينتهى بها إلى الإحباط، الانتقال من كل ذلك - دون تجاوزه- إلى “الأمان معا”، ثم “الأمان إلى دوائر أكبر فأكبر” هو ما يؤكد نضج الملاذ إلى أن يكون فرصة لممارسة الفعل الإيجابى الخلاق، وبمعنى آخر، إن أمان الهجوم والدفاع، أمان الكر والفر، هو الذى يحتاج إلى مثل هذا الملاذ [خدتك لواز]، لكن ثمة وسيلة أخرى للحصول على أمان أرقى، وهو أمان القدرة على التغيير (ثم نضيف) “معا”، فلا يزيل الخطر أن تقف فى مواجهته هجوما ودفاعا، ولكن يزيله أكثر وأدوم أن تتجاوزه فتـُفـْشِله أن يكون خطرا أصلا، والفعل الإيجابى قادر على طرد الجمود السلبى حتما، وبالتالى فإن أى علاقة لا تساعد على الانتقال من “الملاذ الآمن من الخطر”، إلى “الفعل القادر على الخطر “هى علاقة نهايتها الإحباط كما ينبهنا المثل.
3- الانتقال من الملكية للمباهاة إلى الائتناس بالمشاركة: أولا فيما بينهما، ثانيا إلى الدوائر الأوسع فالأوسع. ومسألة الملكية فى المؤسسة الزواجية هى من أكثرالشروط المعلنة (أوالخفية) – كما ذكرنا- وقد يبدو ذلك ضرورة مقبولة فى البداية، ولكن ليس معنى ذلك أن تنقلب المؤسسة الزوجية إلى صكوك ملكية مطلقة، تحجر حتى على المشاعر الغيرية تجاه كل من هو خارج أسوارها، كذلك ليس معنى ذلك أن تتساوى كل الأطراف فى حق، ومدى ممارسة هذه الملكية الاستحواذية المتباهية بما تملك، وإنما ترتبط مشاعية العواطف – والممارسة – بدرجة النضج والمسئولية، فإذا تجاوزنا هذه النقطة الآن لطول الكلام عنها، فلا أقل من أن ننتبه إلى ما ينبهنا إليه المثل، من أنه إذا كان ولا بد من الملكية، ولتكن متبادلة، ولتكن بداية الطريق لما يجمعنا، ليس فقط بأولادنا، ولكن بالناس “إليه”.
الفصل السادس عشر:
فصل فى: روعة المثابرة وحتم الاستمرار([98])
المثل الرئيس:
“زى الطواحين إن بطلت تلحسها الكلاب”
“زى الطواحين إن بطلت تلحسها الكلاب”([99])
ثمَّ ظاهرة تحافظ على الحياة، مهما اختلفت التفاصيل، وهى “أن تظل ساقيتنا تدور بلا توقف”، سواء كان ذلك اختيارا، أم ورطة، أم قهرا، وقليل منا من يتوقف مختارا لينظر فيما يفعل يوميا طول العمر، مهما طال، يتوقف لينظر فى ساقيته التى تدور، أى ماء ترفع، ثم إلى أى مصب تدفع، ومهما بلغ الواحد منا من العمر، فإنه يظل أو يتمنى أن يظل، دائرا فى ساقيته حتى يقضى، بغير علم مسبق.
من منطلق الإيقاع الحيوى، فإن الدورات لا تتوقف أبدأ حتى إذا توقف دفع الماء حين تدور الدورات فى حلقات مغلقة، فالمقصود هنا هو الفعل اليومى المستمر استيعابا لهذه الدورات وغيرها.
وتنشأ المأساة حين يتحتم التوقف العادى لأسباب خارجة عن الإرادة الواعية، أو عن الإرادة الآمـِلـَة، مثل الإحالة إلى المعاش، أو العجز لأى سبب من الأسباب، فإذا استبعدنا هذه العوامل الخارجية فما هو سر الرعب من التوقف، ومن ثم النظر فى كشف الحساب؟ لعله الرعب من إعادة النظر وما يترتب عليه، أو الرعب من احتمال اكتشاف ضرورة التغير أو تعديل المسار أو حتى عدم احتمال التقاط الانفاس؟
لكن الاستمرار المطلق فى العمل مثلا بمجرد التكرار يبدو أيضا نوعا من “قهر العمل”، الذى كثيرا ما يصل إلى ما يشبه أعراض الوسواس القهرى، وأحيانا يسمى “إدمان العمل”، لدرجة أن مثل هؤلاء المدمنين للعمل تظهر عليهم “أعراض الانسحاب” فى أيام الأجازات مما يسمى “اكتئاب يوم الأحد”([100])، أو مما يفهم ضمنا من القول الشائع عندنا “يوم الجمعة فيه ساعة نحس”.
وكثير ممن يشكون من كثرة العمل، وضغطه وإلحاحه، يفاجأون بالرعب والدهشة والرفض إذا أتيحت لهم فرصة تخلصهم من هذه الشكاوى بأجازة طويلة نسبيا، أو بوجود بديل (نائب أو وكيل) يمكنه أن يقوم بالعمل بدلا منهم.
والمثل الذى اخترناه دون سواه (على الرغم من وجود غيره كثير بنفس المعنى) يشير إلى جانب واحد من هذا الرعب الذى نحاول قراءته على الوجه التالى:
فى هذه الأحوال يرتبط “إقرار الوجود الذاتي” بالعمل المتواصل، بمعنى أنه يمكن صياغة الموقف كما يلى:
“أنا أعمل (هكذا) طول الوقت، إذن أنا موجود”
ومن هنا فإن التوقف عن العمل – والأمر كذلك - إنما يعنى اختلال الكينونة حتى يفقد الوجود معناه وغايته وغائيته، فيفقد الشخص هويته إذا هو توقف فعلا، أو تهدد بذلك، إذ قد يتصور أن التوقف عن العمل هو توقف عن الحياة، أى توقف عن الوجود، لأن ذلك يتضمن – فى عمقٍ ما من الوعى – أنه لم يعد مرغوبا فيه أو “أنهم” لم يعودوا يحتاجون إليه، (وبالبلدى “لم يعد له لازمه”) وكأن قيمته كلها مرتبطه بأن “تدور رحاه كما تدور رحى الطاحونة ليل نهار”.
الوعى الشعبى يرسم هذه الصورة فى هذا المثل بدقة متناهية، فهو يقرر: إن إنهيار قيمة الطواحين حين تتوقف لا يعلن عجزها عن الطحين فحسب، بل يجعلها عرضه “للنجاسة” والإهانة والاستهانة، وهذا معنى “يلحسها الكلاب”، فالكلاب الجائعة عادة تلحس بقايا الدقيق العالق على الطاحونة حين تتوقف، والمغزى شديد الدلالة لما يصاحب مفهوم “لعق الكلب” دينيا و شعبيا.
ولو أننا تصورنا ما يحدث لمثل هذا الشخص الذى يواصل العمل (مثل الطاحونة الشغاله) وهو ينقلب ليواجه مثل هذا الضياع والهوان حين يتوقف، إذن لأمكن أن ندرك أى قهر اغترابى يمكن أن يمثله العمل لهذا الشخص، مهما كان مغتربا، وفى نفس الوقت- تبعا لما جاء بالمثل- أى عدمٍ يمكن أن يلحق به لو توقف العمل ليجد الخواء ينتظره، فالمهانة والإهانة.
ولا يقتصر هذا المعنى على العمل، فإن ثم منظور مكافىء كمّى تراكمّى نقابله فى مجالات أخرى: مثل سلوك جمع المال، أو عبادة السلطة، أو حتى جمع المعلومات موسوعيا دون إعادة تنظيمها، أو الإفادة منها، أو تشكيلها إبداعاً، كل هذا السلوك القهرى لابد وأنه يمثل التوقف عنه هذا الرعب بالإهانة والمهانة والخواء.ن ولا أحد منهم ينتبه إلى ذلك.
من هنا يصبح التوقف للتأمل و المراجعة جزءا لا يتجزأ من إعادة الاختيار للتأكد من تـَوَاصُل الاستمرار، أو احتمال التغير، إذا كان للحياة أن تتكاثر نوعيا بصفة مستمرة؟ (وهذا ما يكمن فى ما يقدمه منظور الإيقاعحيوى المستمر).
إننا بهذا التفسير قد نلقى إلى الناس المنهكين رعبا أكبر، فى مجتمع محدود الفرص ساكن المسار، ومع ذلك فالوعى الشعبى يلقى فى وجهنا بالحقيقة عارية.
كل هذا يقابله على الناحية الأخرى عـَرَض التوقف عن العمل لمدة طويلة نسبيا، وفى سن مبكرة نسبيا دون سبب صحى معين، ليحل محل العمل، اغتراب أكثر خطورة بل وأمراضا مثل الانشغال بالأعراض والشكاوى المتنوعة وخاصة أعراض الجسدنة، وفرط التفكير، والاهتمامات الذاتوية الفرعية، بل وأحيانا يحل محل العمل مداومة التردد على الأطباء ثم الأطباء النفسيين بالذات، وكأن العلاج أصبح عملا فى ذاته، وفى هذه الحالة قد تكون النصيحة العلاجية المباشرة هى “حتم ملء الوقت، طول الوقت بعمل له معنى” (ما أمكن ذلك)، لأن احتكار طاقات الحياة برمتها للدوران حول بؤرة الشكاوى ووصف الأعراض يصبح حائلا مستمرا دون العودة للحياة الطبيعية.
الفصل السابع عشر:
فصل فى: الأمثال العامية والمنهج العلمي
(فى التقييم والتجريب) ([101])
المثل الرئيس:
إيه عرفك إنها كدبة؟ قال كـُـبـْرها
أولا: فى التقييم
إيه عرفك إنها كدبة؟ قال كبرها
يقول ألدوس هكسلى إن العلم هو شحذ وتدقيق لما هو منطق عام (المنطق السليم).
إن قراءة الوعى الشعبى تحتاج لمنهج خاص، لا يصلح فيه الاكتفاء باتباع المنهج الكمى التجريبى المغلق، ولا الإحصائى الرقمى أحيانا، مع أن البديل عن هذا المنهج المحدود هو بديل مـُـشـْـكل ضوابطه أصعب، وإذا كان ألدوس هكسلى يدافع عن المنطق العام Common Sense ويعطيه قيمته التقييمية المنهجية، فنضيف نحن بين قوسين (المنطق السليم) (Sensible logic)، فما ذلك إلا لأن ثقافتنا تلوثت إلى درجة أصبح معها المنطق العام ليس مرادفا للمنطق السليم، المنطق العام مرتبط بشكل ما بمفهوم إحصائى ضمنا، أما المنطق السليم فهو مرتبط بمفهوم الهارمونى والتماسك الداخلى أساسا، (بما يسميه البعض الفطرة الأصلية)
المنطق السليم هو ما بدا متناسقا فى ذاته، نافعا فى استعماله، عاما فى احتمال تطبيقه.
ولكن بأى مقياس لو سمحت؟
حين لا نجد الجواب سهلا، يتصدى المنهج الكمي/التجريبي/ الإحصائى يؤكد أنه هو الأصح ولا صحيح غيره، ولا بديل له، وهذا ما نحاول تفنيده).
المثل الشعبى (كما نكرر دائما) هو جماع اتفاق ما، فى مرحلة بذاتها، وهو غير صادق فى ذاته، وغير كاذب فى ذاته، ولكنه إشارة إلى بعض ما اتفق عليه الناس فى وقت معين فى سياق معين. وهذا المثل المطروح الآن يؤكد أن المبالغة فى البعد عن المنطق السليم (الفطرة، المعقول، المقبول، المناسب، العادى!) هو الذى يفسد المصداقية، ونكتشف هذه المبالغة من ضخامة “الكذبة” ولامعقوليتها!
واتجاه الأمثال الشعبية لنقد الاعتماد المطلق على التقييم الكمّى (تحديد الكمية) هو اتجاه متكرر ودال على محاولات تدقيق الحدس الشعبى فى قيمة الكلام والوصف، فمثلا ثَمَّ مثل يقول:
كلمة رطل، وعشرة رطل
وهو مثل يستعمل عادة لتقصير الكلام ودرء النقاش المفرغ (والفصال أحيانا) فهو ينبهنا أن مثل هذه الملاحاة لا تفيد إذ لن تغير من قيمة ما هو معروض أو ما هو مشار إليه.
وثمَّ مثل آخر يؤكد هذا الاتجاه الشعبى نحو التدقيق الكمى يقول
حبة تتقل الميزان، وحبة تخففـه
إذن فالدقة مطلوبة، والمنطق السليم مطلوب، والتكمية (التعامل بالكم) مطلوب والجميع يكمل بعضه بعضا.
ثانيا: فى تحديد النتائج برصد الآثار متناهية الصغر
من أصعب الصعب تحديد مصداقية تلك الأبحاث النفسية التى تحاول أن تحدد المتغير الفاعل المسئول عما يحدث للمريض أثناء العلاج النفسى (التحسن عادة)، كذلك من الصعب تماما أن تنجح الأبحاث بوسائلها الكمية الحالية، فى تحديد ما حدث للشخصية من تغيير أثناء العلاج النفسى، قد تنجح أن ترصد اختفاء أعراض بذاتها، أما التغير فى الشخصية فثمة أسئلة أعمق وأخطر عن: ماذا هذا الذى تغير؟ ومن أى نوع؟ وإلى أى مدى؟
ولا يمكن أن نستسلم للرضا بما يمكن قياسه على حساب ما يصعب تحديده، فقد يتم اختفاء الأعراض على حساب بعض السمات النوعية الأكثر أهمية للوجود البشرى مثل تراجع القدرة الإبداعية أو خفوت الرنين الوجدانى، مع مظاهر اختفاء أعراض وجدانية أو حتى الضلالات أو الهلاوس.
وفى العلاج النفسى الجمعى، وفى التأهيل الممتد، وفى العلاج الجذرى العميق، يتكلم المعالج عن أن العلاقة العلاجية تعتمد على عاملين يكمل بعضهما بعضا .
الأول: موقف المعالج ظاهرا وباطنا، وبالتالى ما يرسله إلى المريض من “رسائل([102])‘ ظاهرة وباطنة، تساعد، بعد التحريك ومع العلاقة، على إعادة تشكيل بنية الشخصية أساسا، لدرجة قد يتمادى فيها فيفترض أنه كلما كان العلاج عميقا وجذريا، كان التغير غائرا حتى يكاد يكون التغير عضويا، نيورونيا أو خلويا (وجينيا).
الثانى: يعتمد على نوعية ومدى تلقى المريض لهذا الموقف.
وهكذا نرى أن العلاقة العلاجية العميقة ليست قاصرة على التطمين، أو الإيحاء، أو إتاحة الفرص للتفريغ أو ما شابه، وإنما هى تعتمد على تبادل “رسائل” ما، رسائل ترسل أساسا من المعالج ومن المجموعة فى العلاج الجمعى ومن جو العلاج العام فى المجتمع العلاجى، وهذا اليقين (الافتراضي) بأن المتغير الأساسى للحصول على التحسن هو مدى عمق وفاعلية وإيجابية هذه الرسائل، هو الذى لا يمكن قياسه بالوسائل العادية، كما لا يمكن قياس فاعليته بداهة، وقد لا تظهر آثار هذه الرسائل إلا بعد مدى طويل جدا (يصل فى بعض الأحيان إلى عشرات السنين).
هنا ينبغى أن يتجاوز الطبيب (المعالج) النفسى الجاد حسابات المنهج السببى الكمّى الظاهر المتعجل، وعليه أن يبحث عن وسائل لتقييم الجهد الذى يبذله، ليواكب ويحافظ على الأمل الذى يسعى لتحقيقه.
وبقراءة متأنية فى الأمثال العامية بدا لنا أن الحدس الشعبى قد نبه إلى مثل ذلك، مثلا نبه أن نرضى بفعل وصول الرسالة حتى لو لم تصب هدفا تحديدا ظاهرا: يقول المثل:
“الطلق إللى مايصيبشى يدوش”
فأى محاولة ليست بلا قيمة حتى لو لم تصب هدفها بتحديد سريع واضح، إلا أن هذا المثل ليس هو ما نعنى فى هذا المقام، لأن المقصود بالرسالة ليس هدفا شعوريا محددا تفصيلا، فالمطلوب هو النتائج الشاملة، والإشكال فى أبحاث التتبع والتقييم للعلاج النفسى، وللعلاج عامة هو أننا قد لا نعرف تحديدا هذا الهدف الخاص جدا فى لحظة بذاتها، فعلينا ألا نكف عن إطلاق الرسائل، حتى لو لم تصب الهدف الذى نتصور أنه الأهم، ويمكن أن تكون “دوشتها كافية”، أو دالة، وهذا فى ذاته قد يساعدنا على مواصلة المحاولة حتى نصيب الهدف.
لكن ثمَّ مثل آخر أكثر تبصيرا، يقول المثل الصعب على أهل “البندر”
اضرب الطينه فى الحيط، إن مـَاِ لزْقت عـَلـِّمـِتْ
وقد ترددت كثيرا قبل أن أستشهد بهذا المثل، فأنا لا أعلم متى تضرب الطينة فى الحيط، ولا وظيفة ذلك، هل المقصود بضرب الطينة فى الحيط تحبيذ الموقف الإيجابى فى العدوان، أو أنه يشير إلى التعبير القوى الصريح بأى وسيلة، لقد أخذته على أنه كذلك، وقد عشت دهرا، وحتى الآن، أحاول أن أفند فكرة ادعاء موقف الحياد فى موقف المعالج النفسى والطبيب النفسى، فالذى يصل للمريض سيصل سواء أخفيناه أم أظهرناه، والمريض النفسى، العقلى خاصة، يحتاج إلى مواجهة وإحاطة من معالج “له موقف” فعلا، وهذا الموقف لا بد أن يصل عادة للمريض من البداية بشكل مباشر أو غير مباشر، فيستجيب المريض له أو لا يستجيب هذا أمر آخر، خذ مثلا ‘ يقين الطبيب أن العلاج ممكن وأن الشفاء قادم لا محالة” على الرغم من الصعوبات والإزمان وأمراض المجتمع“، هذا موقف متكامل يمكن أن يصل إلى وعى أى مريض لو كان هو فعلا موقف الطبيب من مهنته ومن الحياة، وهكذا علينا أن نتوقع الإحباط ألف مرة كلما نجحت مرة واحدة، هذا على مستوى الرصد الظاهرى، لكن علينا أن تحاول طول الوقت من جديد، وهذا ما وصلنى من هذا المثل، أن علىّ أعلن موقفى وأمارسه وأخترق به دون الخوف من الإحباط، ودون انتظار نتائج عاجلة.
وهو نفس ما سبق أن شرحناه تفصيلا ونحن نعرض ما وصلنا من المثل القائل:
إعمل الطيب وارميه البحر (ص 139)
ثالثاً: التفكير العلمى الشعبى ([103])
مثل آخر يقول:
قالو الصلاة خير من النوم ، قال جربنا ده، وجربنا ده
هذا المثل جرئ خطير، وقد يـُـفهم خطأ على أنه استهانة بالصلاة، أو تهوينا من النداء الجميل فى آذان الفجر حتى يهب الناس إلى الصلاة ، حيث ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها، وكل هذا استعجال واختزال لما قد يعنيه المثل من عمق آخر، فالمثل لا يقال فقط لمحتواه، ولكن للفكرة الأساسية من ورائه.
فى هذا المثل دعوة شعبية جريئة وموضوعية بعدم التسليم لكل ما يقال، حتى لو قيل فى سياق دينى، فعندما ينادى المؤذن أن الصلاة خير من النوم، هو لا يقول جملة خبرية، وإنما هو يدعوك أن تلقى ربك، وأن تفتتح يومك بهذه الصلاة ، لترى بنفسك أنها خير من النوم ، فهذا ما كنا نتعلمه فى الثانوى عن الأسلوب الخـَـبـَـرى الذى يخرج من وظيفة الخبر إلى وظيفة الإنشاء ، ليؤدى وظيفة الأمر، أو السؤال أو الطلب، أما الاستسلام للكلام المثبت وكأنه حقيقة للبلاغ لا أكثر، فهذا دون الوعى البشرى اليقظ فى كل شىء حتى فى الدعوة إلى البكور، وفضل عبادة البكور.
وعامة الناس هنا لم تتورع أن تعلن من خلال هذا المثل: أن كل شئ قابل للتحقق والتجريب، وهذا هو التفكير العلمى الحقيقى، أو بتعبير أدق هو التفكير الفرضى الاستنتاجى، أن كل المقولات هى فروض تحتاج تناولا نقديا، ومن ثم تثبت أو لا تثبت. لقد ابتعدنا عن كل ذلك كل البعد، وعادت المسلمات هى الأصل، وأصبح مجرد الرد على رئيس، أو حتى الاستفسار منه عن إيضاح هو جريمة فى حقه، إن لم يكن فى حق النظام، إن لم يصل إلى تهمة الشروع فى قلب النظام، ولم يقتصر الأمر على التسليم لمقولات رئيس سياسى أو حتى إدارى، أو حتى فتوى دينية ، بل امتد ليشمل بعض الوثقانية (الدوجما) فى المناهج العلمية، حيث يذهب بعض العلماء إلى قصر المنهج العلمى على مفهوم مختزل، وليكن التجريب والمشاهدة والاستنتاج، دون غيره، وفرق بين التجريب كما يذكره المثل الشعبى القادر، وبين التجريب كما يحكمه العالم الملتزم المغلق، فالتجربة الإنسانية لا تجرى فى معمل مغلق، ويكاد لا يمكن مقارنتها بالمعنى الدقيق للمقارنة، بل ويكاد لا يمكن إعادتها من عمق بذاته، لأن الحياة تتحرك، والدنيا تتغير ولا شىء يعيد نفسه بدقة تسمح بالمقارنة كما يدعى أهل التجريب المغلق.
ثم إن هذا المثل لم يخطرنا بنتيجة التجربة ، فهو لم يقل: أنهم جربوا الصلاة وجربوا النوم فوجدوا أن النوم أفضل، بل تركها مفتوحة، والوعى الشعبى فى التقاط المعنى هو بنفس ذكاء الوعى الشعبى فى تخليق المثل، ومع ذلك فلا يستطيع أحد أن يلوم قائل المثل ، إلا أن يكون هو الذى استقبله إذ صنع نتيجته أنه جرب كلا من الاحتمالين ووجد النتيجة فى صالح النوم.
ثم إنه حتى لو وجد النتيجة فى صالح النوم، وثبت أن النوم أفضل (أخـْـيـَـر)، فهى نتيجة تسمح بافتراضات جديدة ، بمعنى أنها لا يمكن تعميمها، فثـَـمَّ مجرب أخر، قد جرب اختبار هذا القول ووجد عكس ذلك، أى وجد أن الصلاة فعلا أَخـْـيـَـر من النوم، بل إن المجرب الذى وجد أن النوم أفضل، يمكن أن يستفيد حين يتساءل لم تناقضت تجربته مع الشائع، ومع الدعوة الكريمة للصلاة، والدعوة الصحية للبكور، وقد يكتشف أن صلاته ليست كما ينبغى، وأن علاقته بالبكور ناقصة، وبدلا من أن يتمادى – من واقع تجربة واحدة قاصرة وخاصة- فى التشكيك فيما “قالوه” يمكن أن تكون هذه التجربة التى انتهت إلى أن النوم أفضل، هى فرضٌ جديد، يدفعه إلى مراجعة نفسه، ليعرف وظيفة النوم لديه، ووظيفة الصلاة، وطبيعة كلٍّ، وبأى مقياس يقيس ما هو خـَـيـْـرٌ وما هو أَخـْـيـَـرْ، وبالتالى يعدل من نوعية نومه ووظيفته، وأيضا من نوعية صلاته ووظيفتها، ثم يعيد التجربة، أليست هذه هى الحياة البشرية الشريفة؟
ثم نتذكر أن النداء الكريم بأن ”الصلاة خير من النوم” ليس به معنى أن النوم شر، بل هو خير فعلا، لكن هناك ما هو أخير منه فى هذا الوقت بالذات.
وبعـد
ما هو الحال عندنا الآن؟
وكيف نفكر فيما نسمع؟
أهو التسليم باللفظ الظاهر؟
هل نمارس حق النقد فعلا؟
هل نستطيع أن نعلن بعض مايعن لنا من تساؤلات؟
وهلى ننظر فى ما يقال لنا من فتاوى، وحقائق، ومعلومات بهذه الطريقة التجريبية – فى واقع الحياة – كما يوحى المثل الشعبى بكل هذا ؟
إنه مثل قديم يبدو ساخرا، ولكنه – من عمق ٍ آخر- قالها بكل شجاعة، وبكل بساطة، ليعلى من قدر عقل الإنسان ودينه فى آن.
الفصل الثامن عشر:
فصل فى: الوعى الشعبى فى مواجهة
الفراق وكيفية استيعابه([104])
الموال:
البـِينْ عملنى جمل واندار عمل جمال،
ولوى خزامى وشيلنى تقيل الاحمال،
أنا قلت يا بـِينْ والله الحـِمـْل ما ينشال.
قال: رق الخطى يا جمل وامشى على مهلك،
دا كل عقدة لها عند الكريم حلال.
يقول صلاح عبد الصبور (ليلى والمجنون): يأتى من بعدى من لا يتحدث بالأمثال.
ويقول صلاح جاهين (لست أدرى أين؟): ”إفعل أى شىء تقرره، وستجد مثلا يبرره”.
وإلى درجة أقل يقوم الموال (الشعبي)، وخاصة المرتجل منه،، بنفس الدور وقد يعاود من يتغنى بالموال الخروج عن النص، وهذا مسموح به بل ومطلوب كدليل على نوع راق من الديمقراطية وضعف الرقابة الوصية على وعى الناس النشط الذى يسمح بأن يظل يخرج ناقـلو الموال على النص حتى يتناسب مع حاجة الناس فى زمن بذاته، فيبقى ـ بعد التعديل ـ ويخلد لفترة، ليسجل هذه الحاجة، أو تلك الرؤية، فيصير تاريخا بالمعنى الذى أشرت إليه حالا.
وموضوع البين (الفراق) من المواضيع الشديدة الأهمية اللازم دراستها لفهم الإنسان والإلمام بتركيبه النفسى، واحتياجه إلى الآخر ونوع تفاعله مع هذا الآخر، يبدأ ذلك منذ الفترة الرضيعية، وما يسمى الاكتئاب التعلـقى([105]) فى سن الرضاعة وقلق الانفصال([106]) بدءا من سن الطفولة المبكرة، هو بعض المظاهر المرضية التى وصفت باكرا، وظلت لها أهميتها المحورية فى فهم العلاقات الأساسية فى التكوين البشرى، بل إن صدمة الولادة (أوتو رانك)([107]) يمكن أن تشير إلى الفراق البدئى منذ لحظة التواجد فى هذه الحياة كائنا منفردا، ويقابلها ما يسمى ”كآبة النفاس”([108]) التى تصل نسبتها إلى أكثر من 60 % عند كل الأمهات عقب الولادة مباشرة (أسبوع إلى إثنين)، كل ذلك امتد للتأكيد على محورية علاقة الإنسان بالآخر(الموضوع) حتى تكونت مدرسة “العلاقة بالموضوع”([109]) للتأكيد على جوهرية حضور ”الآخر” لاكتمال الوجود البشرى
ولا تـعرف قيمة الآخر عادة إلا بعد اختفائه، يحدث هذا بشكل مؤقت، أو دائم، متكرر، أو مفاجئ، إلى غير ذلك من الاحتمالات، ويتجلى هذا الاختفاء: بالموت، أو الهجر، أو الاستقلال (نموا أو غير ذلك)، أو الهجرة، أو الاختلاف أو التخلى أو بأى جمع بين أى من ذلك ..إلخ.
وتفاعل الفرد لهذا البعد يحتاج إلى عمق أكثر من مجرد رصد الاكتئاب، أو القلق أو البحث عن التعويض (مثل السخف القائل: قالوا أحبَّ غـَدًا تـَنـْسـَى هوى أمـِسْ)،
وأغانى أم كلثوم بالذات، التى لا بد أن كثيرا منها كان يصاغ بوحى مما غلب فى ثقافتنا الحاضرة يدور حول هذه المسألة بشكل أو بآخر (البـُعد، البـَيـْن)
ونحب أن ننبه إلى أن البـَيـْن هو أقرب إلى البعد، منه إلى الانفصال أو الهجر.
نرجع إلى نص الموال:
البـِينْ عملنى جمل واندار عمل جمال،
ولوى خزامى وشيلنى تقيل الاحمال،
أنا قلت يا بـِينْ والله الحـِمـْل ما ينشال.
قال: رق الخطى يا جمل وامشى على مهلك،
دا كل عقدة لها عند الكريم حلال.
نقرأ الموال، ونحن نحاول طرح تساؤلات تقول:
كيف يكون البعد هو الذى فرض فعل الصبر (جملا) أو ساهم فى التأهيل لذلك (عـَمـْلـْنى)؟
وأيضا كيف أن هذا البعد نفسه هو الذى حاول أن يرتقى بالصبر إلى التحمل الرقيق بفضل تعهده له ورعايته (واندار عمل جـَمـّال).
ثم كيف أن الاستمرار بهدوء واثق متألم (رِقّ الخطى، وامشى على مهلك)، هو الحل؟
وكيف أن الحل ليس مجرد تعويض أو اعتماد جديد، ولكنه وثوق في: الآتى، وفى ”الكريم” سبحانه، وفى الوسيلة؟
هذا وصف لنوع من الفراق خاص، وهو راق، وهو متكامل، فبدلا من الاقتصار على لوم الحبيب، والنحيب على فراقه، توجـَّه الموال بالخطاب إلى الفراق نفسه، وكأن التفاعل للفراق بالمعايشة الواعية هو الذى يخلق الصبر فى مواجهته (البين عملنى جمل) وجزاء ذلك أن يكون الفراق نفسه هو راعى الصبر (هو الجـَـمـّـال).
والحديث عن الصبر فى اللغة وفى الوعى الشعبى يعطيه قيمة أكبر من مرارة التحمل، ولوعة الأسى، والرعاية التى قدمها ”البين” هنا، ليست من قبيل التسكين السطحى، بقدر ما هو نوع من الترويض ضد السخط والاحتجاج العشوائى (الاحتجاج على من؟)، ومن يعرف كيف يـُخـْزَم الجمل من أنفه حتى تصبح أى شـَـدَّة شديدة الإيلام تحول دون شطحه أو هياجه، يستطيع أن يدرك قيمة استعمال تشبيه الخـُـزَام هنا، فمن أعظم ما يجعل هذه الخبرة فائقة ومفيقة فى آن: عمق الوعى بها، ذلك أن حيل الإنكار فى صور الاستهانة بآثار الفراق أو البعد، أو فى صورة النسيان، أو ادعاء التحمل العابر، هى حيل تسكينية مؤقته، أما الوعى بألم التحمـّل (الخزام)، وضرورة عمق الدراية بما جرى (شـَـيـِّـلـْنى تـِـقـِـيل الاحمال)، فهو قمة استيعاب الخبرة.
وأيضا: فإن الوعى وإعلانه وقبوله هو درجة من النضج، على الرغم من الألم، وهذا هو الحل الأفضل، إن أمكن، بدلا من ادعاء شجاعة تفوق قدرة الإنسان، وتخزن خبراته فجة مجهضة .
لكن للألم حدود، فماذا يعمل البـُـعـْد (بعد أن أصبح جمالا) “الجمال” للجـَمَل الذى أعلن بشرف الألم عجزه عن حمل ما لا يحتمل (الحـِمـْل ما ينشال)؟ يقدم الجـَمـَّال للجـَمـَل الحل الحياتى/البشرى الرائع: الزمن، والمثابرة الواثقة المنتظمة، ويستعمل الموال فى ذلك كلمة من أغرب ما ينتظر فى هذا الموقع “رَقّ”، فنحن نعرف الرقة فى الحديث وفى المعاملة وفى العتاب وفى التأدب الحقيقـِى والتأدب الزائف، لكنها صفة غير مألوفة أو متواترة فى وصف “الخـُطـَي”(رق الخطى)، فليس المطلوب فقط أن يكون السير وئيدا، ولكن أن يكون ـ أساسا، وقبلا، ـ رقيقا([110]) ويبدو أن هذا التوجه قد تطور أقل عمقا وأسهل رسالة بالقول الأحدث “هَـدِّى اللعب”، لكن المقارنة بين “رق الخطى، وهــدى اللعب”، لا يحتاج إلى تعليق.
التوقف عند الحدث، جمود وتضخيم للحدث، لكن الزمن: الملىء بالحركة الارتقائية الرقيقة، هو الذى يجعل من البين هنا ـ حدثا دافعا نحو “الآتى”.
يقول المثل العادى “كل عقدة ولها حلال”، فماذا أضاف الموال هنا بتداخل “عند الكريم” بين العقدة وحلالها؟
الموال الحالى يضيف إضافة دالة حين يوجه الاعتمادية إلى القوة الأعظم، الله سبحانه وتعالى، القوة التى تدير هذا الكون برمته، وبالتالى يظهر الحل من خلال الثقة بالحياة وبقوانينها، وبقدرة خالقها سبحانه على تعهد استمرارها، ليس باستسلام قدرى غافل بقدر ما يتم ذلك بالوعد، بأن ثمَّ حلاَّلاً لكل عقدة، وكل ألم، وكل بعد، وكل هجر، وسواء كان هذا الحل هو صبر الجمل على خزامه، أم حكمة الجمـّال (قدَر الفراق)، أم كلاهما، فهو يحتاج إلى التكامل مع قانون الرحيم الأعظم([111]).
الفصل التاسع عشر:
فصل فى: لغة الطبقة “البيئة”
والأخلاق السلبية فى الأمثال الشعبية ([112])
المثل الرئيس:
“أصل الشر فعل الخير”
مقدمة:
من بين المصادر التى يمكن أن تؤدى بنا إلى بعض ما نتصوره قد “حدث للمصريين” مؤخراً وكلام من هذا الذى يدفع الإعلاميين إلى الإلحاح بالسؤال “ماذا حدث للمصريين” “ماذا حدث للمصريين؟” من بين تلك المصادر أن نقف وقفة موضوعية أمام مايسمى “اللغة الشبابية” السائدة حاليا (أو لغة الطبقة “البيئة” عموما)، إن الموقف الفوقى من هذه اللغة يعمينا عن دلالتها التى قد تشمل بعض الإيجابيات الخليقة بالنظر والمراجعة.
منذ حوالى عامين: شاركت متحدثا فى ندوة عن “اللغة والثقافة العلمية” فى المجلس الأعلى للثقافة قدمت ورقة عن “حركيه اللغة بين الشعر والشارع“([113]) عرضت فيها رأيى من أنه من المناسب أن نقارن دور الشعر بقدرته على شحن الألفاظ القديمة المعتادة من خلال تشكيلاته البديعة وموسيقاه وصوره، أن نقارن هذا الدور- من حيث المبدا– بما يقوم به الشارع المصرى عامة، والشباب خاصة، هذه الأيام وهم يقتحمون أصنام الألفاظ ليخلـّقوا منها لغتهم السريعة الغريبة (علينا) يحركون بها جمود الألفاظ الباهتة، ويرفضون تصنيمها أو خوائها.
العجيب فى أمر الرافضين لهذه اللغة الجديدة أنهم يضمون عددا من مختلف الفئات من الصفوة حتى المحافظين مرورا بأهل الفن (الراقى) والمثقفين المكتبيين والأكاديمين طبعا، وغيرهم. يحدث هذا واللغة الفصحى تتدهور تحت سمع وبصر كل هؤلاء، ولا يثير فيهم هذا التدهور رفضاً فموقفاً حاسما مثلما تثيره اللغة الشبابية = لغة البيئة “إياها”!.
ثم خذ عندك هذا الأسى الذى يصاحب هذا الرفض لهذه اللغة الجديدة دون تحفظ، حين يترحم الرافض أوالناقد على لغة زمان، وذوق زمان، ورقة زمان، وأدب زمان.
إن المثل الشعبى ليس له مؤلف كما نعلم، وإن كان يمثل جزءا من التراث الشعبى، فهو إفراز لمرحلة من الوعى الشعبى ليست قصيرة فى العادة، وفرق بين التراث الشعبى، والوعى الشعبى، وكلاهما من مصادر المعرفة المتعددة المناهل. ففى حين يرتبط التراث الشعبى بالأمثال العامية والملاحم المحكية، وبعض الأساطير، يمثل الوعى الشعبى حركية ثقافة العامة وهى تتحرك وتتخلق ويعاد تشكيلها باستمرار، نحن نتعلم من التراث الشعبى الذى ألفه الناس عبر التاريخ ماذا كان مما قد يكون ممتدا حتى الان، ونتعلم من النظر فى الوعى الشعبى هنا والان “ماذا يحدث”، والربط بين المصدرين قد يفيد فى الكشف عن بعض ما “حدث” و”ما يحدث” فى آن، فإذا كانت الأمثال الشعبية تعطينا مثلا لما كان سائدا من توجُّهات ومواقف وطباع وأخلاق لفترة ليست قصيرة حتى استقر المثل الشعبى واستمر وطال عمره إلى أن وصَلَنَـا، وما زال يتردد بيننا، فإن اللغة الشبابية تعطينا حركية الشارع الآن بين الشباب خاصة، ولا سيما من ينتمون إلى الثقافة التى أطلقوا أو أطلقنا عليها لفظ “البيئة“، بما فى ذلك ثقافة الإدمان.
قبل أن أنتقل لفحص بعض عينات اللغة الشبابية كعلامة على ما “يحدث للمصريين”، قلت أعرض بعض الأمثال الشعبية التى شاعت من قديم، والتى أفرزها الوعى الشعبى المصرى خلال حقبة من الزمن لا نستطيع أن نحددها لا توقيتا ولا مدة، أعرض هذه الأمثال التى بها دعوة لعدد من المواقف والتصرفات والأحكام اللاأخلاقية يتضاءل معه ما نتهم به اللغة الشبابية، أو لغة “البيئة”، السائدة بيننا اليوم.
بديهى أننى لا أدافع عن هذه اللغة الجديدة على طول الخط، لكننى أحاول أن أتذكر، وأذكـِّر، أن هذا الموقف الفوقى من حركية وعى الشارع وهو يتحدى، ويخلـّق لغته، ويصنع ثقافته، لن يفيد لا فى فهم ما يجرى، ولا فى الإسهام فى الإحاطة به وتوجيهه إن لزم الأمر، أو استطعنا.
بعض الأمثال الشعبية اللاأخلاقية:
الشائع عادة عن الامثال الشعبية أنها حكم رصينة، ونقد ذاتى وتهذيب وإصلاح، دون إغفال دورها فى تصوير سلبيات فترة معينة من الزمن، أو ترجيح قيم سادت فى مرحلة ما من مسيرة الواقع، ترجيحا لا يعنى بالضروره الموافقة، ولقد سبق أن نبهنا مراراً إلى أن الاستشهاد بالأمثال ليس دعوة لتطبيقها بما هى كما هى، بل قد يصل الأمر إلى أن يكون الاستشهاد بالمثل هو تنبيه لتطبيق عكس ما يقوله المثل، وقد يكون كشفا لأمر يجرى بشكل ملتبس، فيعريه المثل، ومع ذلك، فكثيرون منا يتصورون أن للأمثال قيمة أخلاقية إيجابية فى ذاتها، فى حين أنها قد تفيد فى كثير من الأحيان معان سلبية، بل وقد تساعد على الحفز إلى ممارسة هذه القيم السلبية، مثل الدعوة إلى قبول الذل، أو التأكيد على التمييز الطبقى أو العنصرى، أو تشويه صورة الذات الوطنية أو القومية، أو إهانة المرأة وتحقيرها، وقد ناقشنا بعض هذه العينات فى الفصول السابقة، وإن كنتُ قد حاولت أن أقرأ ما وراء سلبيتها من تحذير أو إيجابية خفيـَّة وعرضت ذلك مع التحذير من احتمال التعسف فى ذلك.
إن الوعى الجماعى قد تبلغ به القسوة مبلغا يبدو لا أخلاقيا أحيانا، يجعلنا ننتبه إلى أنه ليس كل ما يُـجـِمـع عليه الناس، أو يسرى بين الناس، هو أفضل، أو أصدق، أو أرحم، بل لعل العكس يكون أقرب للصواب أحيانا كثيرة، نتذكر – مثلا – محاكمة الحلاج، والقاضى يتذرع بحكم العامة، بعد أن استدرج الحلاج حتى “يبوح” بما رأى “فباحَ به”، لكى يصدر فيه ما قرر ودبر من حكم بالإعدام متذرعا بحكم العامة، نذكر كيف ينهى عبد الصبور مسرحيته الرائعة ” مأساة الحلاج” بتذكيرنا بقسوة المجموع. (أنتم حُكِّمْتُم فَحَكَمْتُم)، ثم نتذكرالآن ونقارن كيف تطور تشويه الوعى العام بألعاب المال والدعاية لتشكيل وعى أغلب الناس لتخليق قيم استهلاكية، حتى يكاد يصل الأمر إلى تخليق غرائز استهلاكية جديدة تتناقلها الأجيال لترويج سلعة ما، أو تعميق أيديولوجية مغرضة، لا تخدم إلا طبقة منفصلة عن كل ما هو أخلاق، بل عن كل ما هو فطرة ، أو قوانين بقاء (هذا، ناهيك عن تشكيل الوعى العام لتبرير الظلم والقتل وتمادى الإبادة).
سوف نقدم فيما يلى عددا من الأمثلة التى اعتبرت أنها تمثل “الجانب الآخر” من الأمثال الشعبية، أعنى الجانب اللاأخلاقى بشكل أو بآخر، وذلك ربما تمهيدا للنظر بعين موضوعية لما نسميه اللغة الشبابية/ البيئية، فيما بعد.
1-“أصل الشر فعل الخير”
هذا مثل يبدو شديد الغرابة، ماذا يريد أن يقول؟
هل هو يَنْهى عن فعل الخير أم يشكك فى جدواه؟ هل يريد منا أن نقتل بعضنا بعضا خوفا من أن ينقلب الخير شرا؟
أين هذا المثل من المثل الذى يمثل عكسه تماماً وهو الذى ينبهنا ألا ننتظر العائد السريع لفعل الطيب. ذلك المثل الجميل الذى يقول “إعمل الطيب وارميه فى البحر”. والذى ذكرناه من قبل (الفصل الثالث عشر ص 139)
2-“إضرب البرئ لما يقر المتهوم”
هذا المثل ينبهك ألا تتردد فى ضرب البرئ، برغم أنك تعرف أنه برئ، وليس حتى متهما يمكن أن تثبت براءته، أو أنه يُـضرب حتى يقر بذنب لم يرتكبه، هذا المثل يوصى بضرب البرئ، والضارب يعرف أنه برئ منذ البداية، لماذا؟ حتى يقر المتهم خوفا من أن يأتى عليه الدور فيعذب كما رأى البرىء يعذب أمامه؟ ياه!! برغم أننا لا نعرف حجم ولا مدى ما يجرى من تعذيب فى سجوننا وأقسامنا، أو سجون غيرنا لكننى أتصور أن التعذيب قد يقتصر على المتهم، أو حتى قد يمتد إلى أهله لتعذيبه عن بعد حتى يعترف، لكنه متهم على أية حال، هل يمكن أن نحتمل مجرد التوصية بضرب البرىء ونحن نعرف أنه برىء بحثا عن المجرم الحقيقى، كيف بالله عليكم ظهر هذا المثل حتى وصلنا؟!
3- “إطعم مطعوم ولا تطعم محروم”
سبق أن فسرنا هذا المثل تفسيرا إيجابيا (ص 93) بعد الصدمة الأولى من ظاهر ألفاظه، (أنظر الفصل التاسع) وقد بدا ذلك التفسير للكثيرين تعسفا، عرضنا آنذاك تبريرا أو تفسيرا يقول: إن هذا المثل قد لا يوصى بإطعام المطعوم دون المحروم، ولكنه ربما ينبه إلى قسوة درجة ما من الحرمان تجعل كل ما يُلقـَى إلى المحروم يختفى فى دوامة طلب المزيد، حيث أن المحروم لا يقدّر ما يُعْطَى، وهو لا يشبع مهما أعطى، فى حين أن من سبق أن تذوق طعم ما يعطى يمكن أن يقدره، فيرتوى به إذ يكتفى بالقدر المناسب.
كثير من القراء والأصدقاء اعتبر هذا التفسير تعسفا وتبريرا لحرمان المحروم، وتدعيما للموقف الظالم بأن من عنده يُعطى ويُـزاد، ومن ليس عنده يهمل، ويُـنكر، ولو حتى مات جوعا واحتياجا، هذا التفسير الأخير، الذى هو تصحيح للتبرير المتقدم، لو صح الاعتراض على طول الخط، فإنه يكون مثلا سيئا قاسيا ظالما قبيحا لا أخلاقيا، بلا شك.
4- اللى بعيد عن العين بعيد عن القلب
إن العلاقات الحقيقية بين البشر لا تشترط بالضرورة حضوراً عيانياً ماثلاً للآخر أمام ”حواسنا” طول الوقت، لكن المثل هنا يشير إلى اعتبار أننا بعواطفنا الطيبة عادة ما نحتفظ فى قلوبنا من يَمْثُلُ أمام حواسنا، دون غيره، مع أن العلاقة الحقيقية هى رحلة مستمرة بين الداخل والخارج، بين الماثل فى وعينا والمثير لأحاسيسنا وبالعكس.
المثل بهذه الصورة ينبه إلى نوع من العلاقات مرتبط باللحظة الراهنة، والصفقة الجاهزة، مع إنكار أى التزام ممتد أثناء الغياب عن الحضور الفعلى أمام الحواس “عينى عينك”، وأننا ننسى الغائب بما يؤكده مثل آخر يقول: “الغايب ما لوش نايب، والنعسان غطوا وشه”، ليستحوذ “الحاضر” على المكاسب المادية، والوجدانية معا دون الغائب والنائم حتى لو كانوا أصحاب حق، أو أصحاب الحق!!!
5- اللى يشبع بعد جُوعَهْ إدعو له بثبات العقل
يشير هذا المثل إلى أن شدة الحرمان قد تكون من القسوة بحيث إذا زال هذا الحرمان بالإشباع، وهو لا يزول عادة، فإن المحروم لا يحتمل أن يشبع، أو هو لا يكاد يصدق، حتى أنه يفقد توازنه خاصة إذا ما لُوِّحَ له بارتواء ما، ارتواءٍ لم يكن ينتظره أى ليس فى حسبانه.
لا يخفى ما فى هذا المثل من إنكار حق الجائع أن يشبع، إن المثل يستبعد أن يشبع مَنْ طال جوعه حتى يحمد ويتوازن، بل إنه يرجح أنه إذا شبع يُجَنّ: إما لأنه لم يتوقع الشبع أصلا فهو لن يشبع مهما أكل، وإما لأنه لا يمكن أن يشبع لأنه محروم. وبالتالى هو مثقوب لا يمتلئ، (كما فى المثل رقم “3”).
هناك مثل قد يكمله مثل آخر لا يمكن أن يذكر بألفاظه الأصلية يقول “زى اللى عمره ما شاف لحمة شاف “لحم” امه اتهبل”([114]) الهبل هنا هو ما يقابل ما يقوله المثل الحالى: “إدعو له بثبات العقل”.
6- إن جاك النيل طوفان حط إبنك تحت رجليك
هذه دعوة صريحة إلى النجاة على حساب أى آخر، حتى لو كان هذا الآخر هو ابنك شخصيا.
لا يمكن التغاضى عن ما فى هذا المثل من واقعية مـُرّة، وهو يذكرنا بيوم القيامة، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكن الفرار يوم القيامة هو للتأكيد أن “كلهم آتيه يوم القيامة فردا” شىء، لكن هذا المثل يقول شيئا آخر غاية فى السلبية والقبح، إذ يوصى أن يستعمل الواحد ابنه كأداة لنجاته، إذ يضعه تحت قدميه ليطفو هو ولو قليلا، ولو مؤقتا.
7- ربِّ ابن ابنك، وابن بنتك لأ
هذا المثل لا يشير فقط إلى تفضيل الإبن على البنت، ولكنه أيضا يشير إلى علاقة المـِلـْكية التى تربط الإبن بأبيه، وبعصبه، دون البنت، ويا ليت المسألة كانت قاصرة على التمييز فى العطاء، أو الإرث، أو الفرص، لكنها تشير إلى “استخسار” التربية التى قد تشير إلى الرعاية والتوجيه، كما قد تشير إلى القدوة والنصيحة، والمثل يـَنـْهـَى بشكل واضح عن العدل بين الابن والابنة ليس فقط فى الميراث وإنما يمتد إلى استخسار الرعاية والتربية فى أبناء البنت، كما لو أن شرط الرعاية هو انتماء الذكور انتماء عصب مباشر، ويبدو أن هذا معنى قديم يتردد فى ثقافة عربية تقليدية مميزة حين يقول الشعر العربى:
“بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا، بنوهُنَّ أبناء الرجال الأباعد” ([115])
ومع شدة قبح مثل هذا الشعر (والقبح بالقبح يذكر) نلاحظ أن زوج البنت وأهله هنا أصبحوا يمثلون “الرجال الأباعد”
8- على ما تتكحل العمشة يكون السوق خرب
تتكرر الأمثال العامية التى تهين القبح بقسوة أيضا، وهى تنكر أصلاً ذلك الجمال الكامن فيما يسمى قبحاً، وكأن من حرمت من الجمال الظاهر قد أذنبت فى حق قائل المثل. ثمَّ أمثلة موازية تقول:
“إيش تعمل الماشطة فى الوش العكر”،
وبدرجة أقل ما سبق ذكره من أن:
“الحلو حلو ولو قام من النوم،
والوحش وحش ولو غسل وشه كل يوم”.…إلخ،
وكل هذه الأمثال فيها إهانة صريحة لمن حرمت الجمال الظاهر، مع أن هناك ما يمكن أن يسمى “جمال القبح” كما ذكرت حالا، وهناك تعويض للقبح مثل قولهم فى مثل أطيب!:
“يا وحشة كونى نغشة”.
9- لبـّس الاسمر احمر واضحك عليه
يقال إن الإنجليز وهم يحتلون السودان، كانوا يـنعمون على بعض الكبراء بحلة حمراء أو طربوش أحمر، وهات يا كذب عليهم حين يصورون لهم أن مجرد تغيير الملبس هو تكريم لهم وإيهام بمساواة ما، وواضح ما فى هذا المثل من تمييز عنصرى، وامتهان، واستعلاء، واستهانة، على أن لهذا المثل تطبيق معاصر يجرى حالا حين يـُلـَبـِّسُ الناس “اللى فوق” (المُعـَوْلمِينْ) بعض الشعوب الإفريقية والمتخلـَّفة!! بعض مظاهر المدنية، مثل فرض لغة فرنسية عليهم، أو تصوير ما يمارسونه من قبلية مقاتلة على أنها ديمقراطية حديثة، أو تصدير بعض قشور الإنجازات التقنية للاستعمال الاستهلاكى الضحل، وكأن الشكل الحضارى يتحقق بمجرد استعمال أدوات تشبه ما يستعمله المتحضرون.
وهناك تطبيق أخفى يتم فى مجال نشر الأبحاث العلمية، حين يصورون لنا أن النشر فى مجلات عالمية هو اعتراف بقيمة البحث العلمى المنشور بها دون غيره، ومن ثَمَّ فنحن علماء مثلهم، يا فرحتى!، والدليل هو أنهم سمحوا لنا أن ننشر عندهم!! والأمر ليس كذلك تماما فى معظم الأحيان.
أيضا، يحدث مثل ذلك فى تولية بعض علماء العالم الثالث أو الرابع مناصب قيادية أو شبه قيادية فى المؤسسات والجمعيات العالمية، إما لأن الدور قد جاء على قارتهم (إفريقيا مثلا)، وإما لأن هناك حاجة إلى الظهور بمظهر المساواة، وكلام من هذا.
وهنا تصبح الصورة المكافئة المعاصرة للمثل تقول:
“لبس الإفريقى أو الأسيوى، منصبا دوليا!! واضحك عليه”.
تقوم أيضا شركات الدواء بتزيين بعض الوجوه، وتقديمهم لأنفسهم وللمجتع العلمى والمجتمع الطبى العالمى، باعتبارهم روادا فى مجالهم، حتى يصدقوا أنفسهم، وهات يا ضحك عليهم، وعلينا، وعلى المرضى وعلى الحقيقية… الخ.
10- لولاك يا لسانى ما انسكيت يا قفاى
يتضمن هذا المثل دعوة صريحة للنفاق والصمت الجبان، مع أنه يمكن أن يكون دعوة للتحلى بالصمت الحذر، أو للتحفظ فى الكلام، إلا أن الذى يـُــسـَك على قفاه لمجرد أنه نطق برأى أو إشار بمشورة لا يكون سكوته حكمة، وحسابات، فهو يستأهل أن يخاطب لسانه بهذا المثل.
11- جور ”الغـُـز”، ولا عدل العرب
كلمة الغز كانت فى الأصل تطلق على الأتراك، ثم امتد معناها إلى التمييز للأجنبى بصفة عامة، ثم امتد بدرجة أقل للتمييز الطبقى.
لاأخلاقية هذا الموقف لا تقتصر على التمييز الطبقى، أو التفرقة الإثنية، ولكنها أيضا تكمن فى تفضيل الرضا بالذل من سيد لأنه سيد بأصله عن عامة الناس، إن شيوع ثقافة الذل والرضا بالظلم من أى سلطة سواء كانت سلطة السادة، أو الطبقة الأعلى، أو المستعـِمر، أو أى شيخ أو كاهن، هو أمر قبيح ينبغى أن يرفض بغض النظر عن مَنْ هو الظالم.
12- إن قابلك الاعمى خد عشاه، مش حا تكون أرحم ماللى عماه
هذا مثل يبدو لى فى منتهى القسوة، وهو يبرر التمادى فى ظلم الأضعف، بل إنه يتطاول حتى على رحمة ربنا، وقد أزعجنى حتى أننى رفضت أن أضيف مزيدا من الشرح يبين مدى قبحه، أو حتى أن أعلـّـق على التطاول على ربنا، أو على القدر الذى أيضا من إرادته.
الخلاصة:
لعلنا نلاحظ ونستنتج من خلال كل ما تقدم:
أولا: إن الوعى الشعبى قد يكون شديد القسوة، وعلينا ألا نستسلم بسهولة لما يخرج منه حتى لو تعمَّق وتأصَّل واستمر فى “مَثَلٍ” أو “لغة جديدة” أو “أسطورة” أو غير ذلك.
ثانيا: إن الزعم بأن أهل الزمن الفائت قد يكونون أقل قسوة، وأكثر حكمة، هو زعم لا ينبغى تعميمه دون تحفظ، وهو مشكوك فيه، وينبغى مراجعته.
ثالثا: إن أى لغة فيها وفيها، خصوصا اللغة التى يفرزها الوعى العام، فى فترة بذاتها
رابعا: إن تسجيل معالم القيم السلبية فى مثـل عامى متداول، أو قول شائع، فى فترة بذاتها، لا يعنى الإقرار بالمحتوى على طول الخط، إنه نوع من إعلان واقعٍ ما، فى فترة بذاتها، وبالتالى هو يتضمن بالضرورة دعوة لدراسة دلالات الذى يجرى حولنا، أو الذى وصل إلينا سواء كان مثلا شعبيا أو لغة شبابية أو رطانا مستوردا.
خامسا: ومع ذلك فإن قسوة الوعى العام التى لا يمكن إغفالها، لا يمكن اتهامها فى ذاتها لأنها قد تكون رد فعل دفاعى فى فترة من الفترات.
سادساً: إن هذا المدخل يدعونا للنظر فى دلالات لغة الشارع الجديدة، اللغة الشبابية، أو اللغة “البيئة”، بشكل أخر غير مجرد الرفض والحكم الفـَـوْقى على طول الخط.
[1] – أحد أساتذتى: شاب أمّى فلاح مصرى فليسوف معاصر – صديق
[2] – صدرت هذه الطبعة الأولى بعنوان “مثل .. وموال” عن دار الهلال سنة 1992
[3] مجلة الإنسان والتطور “مثل وموال” (علم بالنفس: من أقوال الناس) عدد يناير 1985
[4] – أعنى مصر والمصريين أساسا، ثم بعض ما هو عربي، ثم عمق ما هو إنساني
[5] – يقف هذان الحكيمان الصينيان فى هذه المسألة على طرفين متناقضين، فبينما يمثل كونفوشيوس ضرورة الأستاذية ودقة التعاليم، يمثل لاوتسو أصالة الحرية وطلاقة الفطرة والثقة بالنمو الذاتي، وهما معاصران لبعضهما دون تناقض، بل لعلهما يكمل أحدهما الآخر.
[6] – يمكن مراجعة تاريخ المماليك وحركة تصعيدهم من “شرائهم” إلى تعيينهم “حكاما”، كذلك عبدة الأوثان، ينحتون الحجر ثم ينحنون أمامه تقديسا
[7] – لاحظ أن الاستمرار هكذا قد تخلـّص من التبعية إلى الجدل الخلاق للاثنين معا.
[8]– هذا هو روح ما يجرى فعلا فى “العلاج الجمعى” الذى نمارسه، وهو ما أعدت صياغته فى مواقع أخرى من منطلق حركية الوعى البينشخصى، ثم الجمعى، ثم الجماعى، إلى ما بعد ذلك 2017
www.rakhawy.net
[9] – William Schofield, Psychotherapy: The Purchase of Friendsip, Publisher: Englewood Cliffs, N.J., Prentice-Hall 1964
[10]– تلك الوظيفة التى يقوم بها أيضا طبيب الأطفال أو الممارس العام عندنا، نظرا لافتقارنا إلى هذا التخصص “طبيب العائلة”.
[11] – المقصود بـ “إيش كال” هو: ماذا أكل؟ وهو السؤال الذى يسأله الطبيب عادة ليتعرف على مصدر العدوى أو التلبك أو التسمم.
[12] – سبق تناول هذه الأرجوزة بالشرح والتحليل فى كتابى حياتنا والطب النفسى : يحيى الرخاوى (ص 9 – 102) – دار الغد للثقافة والنشر – القاهر 1972 وقد أعدّت قراءتها ونشرها فى الكتاب الثانى من هذه السلسلة وعنوانه: “الوعى الشعبى والفطرة البشرية” كما ذكرنا (تحت الطبع).
[13] – فى الإعادة قد يضيف منشد الموال أحيانا لفظ – يا عين – بعد غالى أى: “دمعك صحيح غالى – يا عين – ولا بيجيش”.
[14] – يصل الأمر أحيانا فى العلاج الجمعى إذا تكرر إجهاض الألم بإدرار الدموع، يصل إلى النهى عن ذلك، وأستعمل أحيانا تعبير “اقفل (أو إقفلى) الحنفية اللى انفتحت دى، حتدلق الألم “عالأرض” ثم نواصل احتواء الألم بما يناسب الموقف.
[15] – فريدريك بيرلز Frederick Perls هو صـاحب طـــريقة فى العـــلاج الجمعى وهو العـــلاج الجشتالتى.
[16] – فى الإعادة قد يضيف الشــاعر الشــعبى بعد هذا اللفظ مرة ”يابا” ومرة “ياحسين”.
[17] – نشر هذا المقال أولا: فى مجلة الإنسان والتطور عدد أكتوبر 1985
[18] – تستعمل اللغة العامية لفظ ندل بدلا من نذل، ولكنها تتفق مع العربية فى أن الخسيس هو الندل، نذل: خس حقير، وقد نستعمل اللفظ العربى فى الشرح ونحتفظ باللفظ العامى فى نص المثل.
[19] – فكـِّر فى معنى استنقاذ إسرائيل ليهود أثيوبيا دون سائر الأثيوبيين !!
[20]– ويتفق ذلك جزئيا مع قول المعرّى
ما كلُّ نطق ٍ له جوابٌ .. جوابُ ما تكره السكوُتُ
[21] – الموقع البارانوى هو مرحلة من مراحل النمو تتصف بعلاقات الكر والفر، والشك والتوجس، والهرب والملاحقة.. ويتجاوزه الإنسان هذا الموقف باستمرار النمو، ولكن قوته تظل كامنة جاهزة للتنشيط فى أى وقت.[أنظر قصيدة جلد بالمقلوب من ديوان “سر اللعبة” (ص 60 سنة 1978 للكاتب)، هذا وقد تطور تنظيرى وممارستى إزاء ما يسمى الموقع البارنوى هذا، وهو المفهوم الذى تبنته نظرية “العلاقة بالموضوع” (ميلا كالاين مثلا)، ثم طورته النظرية التطورية الإيقاعحيوية لتعتبره “طورا متكررا” مع كل نبض حيوى وليس موقعاً position بديلا نرجع إليه، وخاصة فى أزمات النمو ، وبالتالى أصبح “الطور البارانوى” هو طور إيقاعى دائم الاستعادة، وله نفس المواصفات ولكن فى حركية إيقاعية دورية مستمرة.
[22] – مقطع من قصيدة “الوجود المثقوب” من ديوانى “سر اللعبة” شرحا لهذه الجزئية من الموقف (الطور) البارنوى. (ص 63)
“فبقدر شعورى بحنانك، سوف يكون دفاعى … عن حقى فى الغوص إلى جوف الكهف
وبقدر شــعورى بحنانك، ســوف يـكون هجــــومى لأشــوه كل الحـب وكل الصــــدق”.
[23] – مجلة الإنسان والتطور، عدد أكتوبر 1985، “مثل وموال: اختراق الحدود الأخلاقية: بما يستاهل”
[24] – مجلة الإنسان والتطور عدد 60 يناير 1998، العنوان الأصلى “مثل..وموال”
[25] – غالبا هذين المثليين الأخيريين هما من الأمثال العربية فى الشام عموما، لكننى وجدتها فرصة لامتداد الفكرة إلى الثقافة العربية عامة، علما بأن الفصل الأخير فى الكتاب التالى “الوعى الشعبى والفطرة البشرية” هو دراسة مقارنة بين بعض الأمثال المصرية والأمثال القطرية فيما يتعلق بـ”العلاقة بالموضوع” أساسا.
[26] – نشر فى مجلة الإنسان والتطور عدد ابريل 1986، والعنوان الأصلى: مثل وموال بعنوان:
“زواية (زوايا) أخرى: للجذب والصد فى الصداقة والهجر”
[27] – الأصل الوارد فى كتاب الأغنية الشعبية للدكتور أحمد على مرسى (دار المعارف، 1983) ص183 مكتوب فيها القاف جيما غير معطشة (باللهجة الصعيدية) فقلبناها للتسهيل قافا ونطقها الأصح ألف مهموزة فى معظم اللهجات العامية الأخرى وذلك فى “يقن” وفى “الصقر” وفى “يقعد”
[28] – جمع هِـمـّه، ورمـَّـة علـى التوالي
[29] – يقال لها عادة الشخصية البارنوية وهى ليست مرضا .
[30] – وربما هو ما يقابل تصعيد النورس عند الغرب، مع الافتقار إلى قوة الانقضاض فى الصقر ومهارة الصيد برغم الاتفاق فى العلو والوحدة.
[31] – الرمة: العظام البالية (بالعربية)- ولكن المقصود هنا فى الأغلب هو الجثة النتنة بالعامية.
[32] – “شـِيلـُّـهْ” هى إضغام: شىء له، وكذلك يشبهلُّه: هى إضغام: “يشبه اللى له”، وآنـِيهْ: أى مقتنيه أى من يملكه ويعوله، هذا المثل شائع فى الاوساط الشعبية جدا، وهو ويطلق على المرأة أحيانا فى السباب معايرة لزوجها وإلزاما له بأن يتحملها، أو إشارة إلى ذوقه السىء الذى انتقاها فى قولهم “روحى كتك داهية فيكى وفى اللى آنيكي”
[33] – اللباب: هو الجزء اللين داخل الخبز الطرى
[34] – Tolerance of Ambiguity
[35] – عمر بن أبى ربيعة على لسان هند وهى تسأل صديقاتها عن مديح بن أبى ربيعة لها ولجمالها.
[36] – من ديوانى سر اللعبة: دراسة فى علم السيكوباثولوجى للكاتب، وهذا ايضا من ديوان سر اللعبة وقد تم شرحه فى كتاب “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” وهى نفس قصيدة “جلد بالمقلوب” أنظر هامش رقم (22).
[37] – من شعر الكاتب القديم جدا 1959 ، (شعر عمودى ناشىء لم ينشر طبعا)
[38] – الجميز نوع رخيص من التين، أقل حلاوة وأمسخ طعما، وثمره كان متاحا بالمجان للغالبية فى الريف المصرى، حتى لو لم يكونوا من مالكيه مثل شجر التوت علـى الزراعية أحيانا، أما التين فهو أنواع متعددة أغلى وأندر.
[39] – ترددت أن ألحق هذا الفصل بالفصل السابق، وفضلت أن أقدمه مستقلا حيث وجدت أن بينهما اختلاف دال، لكنهما يتكاملان فى مناطق كثيرة.
[40] – “مثل وموال” مجلة الإنسان والتطور، عدد 62 يوليو 1998
[41] – وقد تواترت أغان فى هذا المعنى وشاعت بدرجة تؤكد الانتباه إلى هذا المعنى دون رفض، من ذلك: “فريد الأطرش” فى أغنية:
“إن حبيبتنى أحبك أكثر وإن مليتنى راح انسى هواك”
أو “نجاح سلام” حين تقول:
“كتـّر له كتّرله،
يا قلبى كتـّر له
من عطفك كتـَّرله
من حبك كتّر له
ولو فكرّ ينساك
انساه وكتِّر له….“
[42] – من ديوانى “أغوار النفس” قصيدة: “الحمام الزاجل” وقد تم شرحها مطولا فى كتاب “فقه العلاقات البشرية من ص 216 إلى ص 219، وهو فى موقعى الخاص www.rakhawy.net وهو الذى سوف يصدر ورقيا فى ثلاثة أجزاء قريبا.
[43] – فن الحب “بحث فى طبيعة الحب واشكاله، تأليف اريك فروم، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار العودة بيروت 2000
[44] – وقد قمنا بتجربة (تجارب) تختبر البحث من عن أصل الكره، وأنه حق من الحقوق الطبيعية التى خلقنا بها، بأننا قمنا باختبار ذلك من خلال لعبة فى العلاج الجمعى تقول: “يمكن لمّا أعرف أكرهك أقدر ..”(أكمل من فضلك!!) نشرة الإنسان والتطور 11-6-2008 www.rakhawy.net كما مارسناها فى فى بعض لقاءات الندوات العلمية التدريبة “ندوة” يوليو 2008″ بعنوان : “ماهية الكره”
[45] – مجلة الإنسان والتطور، عدد يوليو 1986 بعنوان: “فى لعبة العلاقات البشرية”
[46] – أحمد تيمور (1986) الأمثال العامية، مشروحة ومرتبة حسب الحرف الأول من المثل مع كشاف موضوعي. الطبعة الرابعة مركز الأهرام للترجمة والنشر.
[47] – مجلة الإنسان والتطور، عدد يوليو 1986، بعنوان: “مثل وموال” فى لعبة العلاقات البشرية.
[48] – تعبير الموقع “الاكتئابى” لا يشير إلى الاكتئاب نفسه، ولكنها تتعلق بمدرسة العلاقة بالموضوع – والموقع الاكتئابى هو موقع لاحق لكل من الموقعين الشيزيدى والبارنوي، الأول (الاكتئابى) يعلن علاقة ما، علاقة حب مشوب بالخوف من فقده، وبالتالى باعث على بعض الكره الحـِذر، خوفا من التــرك، أما الموقع البارنوى وهو سابق للموقع الاكتئابى فى مراحل النمو، فهو يعلن علاقة الكر والفر مع وجود آخر محدد المعالم ولكنه يمثل التحدى واحتمال الإغارة، أما الموقع الشيزيدى وهو الموقع الأسبق للاثنين معا، فهو يعلن عدم وجود الآخر أصلا- وكل هذا لغة سيكوباثولوجية ليس لها علاقة مباشرة بنفس هذه الألفاظ المستعملة فى وصف شخصية ما أو اضطراب نفسى معين، فمن يعايش الموقف الاكتئابى ليس مكتئبا بالضرورة ، ومن لم يتجاوز الموقف البارنوى ليس بارانويا سلوكيا وهكذا، هذا وقد أشرت فى هامش سابق إلى تطور موقفى من مصطلح وطبيعة لفظ ومصطلح “موقــَـع”، وحتى “موقف” وقمت بتطويره إلى “طور” stage حتى أؤكد على حركية النبض والمعاودة طول العمر أنظر هامش رقم (22)، فيه تكرار لكنه مكمـّـل لما ذكر هنا.
[49] – هذا التكرار هو ما أوضحته وبينته ما أضيف إلى هذا المسار من مفهوم دوام الإيقاعحيوى طول الوقت، وأنها أطوار متتابعة متتالية باستمرار، وليست مواقع ثابتة جاذبة، وهذا هو الفرق الأساسى فى اختلاف النظرية التطورية الإيقاعحيوية عن نظرية العلاقة بالموضوع.
[50] – مجلة الإنسان والتطور، عدد يوليو 1985
[51] – يحيى الرخاوى ديوان “أغوار النفس” الطبعة الأولى: 1978، ص197، دار الغد للثقافة والنشر- الطبعة الثانية: 2017 – مركز الحضارة للنشر.
وذات مرة قديمة باكرة، كتبت شعرا مباشرا يقول فى هذا المعني:
“إيش يفهم فى الغنوة الأطرش؟
إيش يفهم فى الصورة الأعمي؟
إيش يفهم محروم من يومه، فى الحنية، والذى منه؟”
[52] – يحيى الرخاوى ديوان “سر اللعبة” قصيدة “جلد بالمقلوب” الطبعة الثالثة 2017
يتلمظ بالداخل غول الأخذ .. فأنا جوعانٌ منذ كنت
بل إنى لم أوجدْْ بعدْْ
من فرط الجوع التهم الطفل الطفل
فإذا أطلقت سُعارى بعد فواتِ الوقتْ، ملكِنىَ الخوف عليكم.
اذ قد ألتهمُُ الواحدَ منكم تلو الآخر، دون شبع
[53] – الزنجبيل، تنطق أحيانا الجنزبيل، وهو شراب حار، ثمنه فوق المتوسط، يوجد عند العطارين، ويقال أن له فوائد طبية متعددة، ولا يشربه إلا الندرة، والمقصود هنا هو أنه شراب الخاصة من البشر. يشربونه فى ظروف خاصة، ناهيك عن أكله
[54] – ناقشت هذا المثل مطولا فى مقال سياسى نشر فى مجلة “وجهات نظر” نوفمبر 2002، وهو موجود بالموقع لمن شاء الرجوع إليه www.rakhawy.net
[55] – عبرت عن خطورة موقف الانتظار هذا بصورة مباشرة:
“مش يمكن لعبة “إستني” تفضل على طول؟
القلب مقدد والجرح ممــــــــد، فى الأرض الشوك
والميه عصير صبار”
(أنظر المرجع السابق هامش رقم (51) “أغوار النفس”، ص198).
[56] – مجلة الإنسان والتطور عدد أكتوبر 1986- مثل وموّال: “من الجبر والإختيار إلى الحسابات والتعلم”
[57] – “أنا مالى” هنا تفيد “أنا أملأ” (جيبك) وهى غير أنا مالى الأولى التى قالها عن الوقت وهى التى تعنى “ليس من شأنى” أن أتحمل مسئوليتك نيابة عنك.
[58] – لاحظ استعمال حرف “لم” وليس “لن” للمستقبل، وهذا الاستعمال صحيح ومألوف فى العامية المصرية.
[59] – Supramaximum inhibition
[60] – فى إحدى الأراجيز التى كتبتها للأطفال قلت:
ييجى بكره، يلاقى نفسه: إلنهارده بتاع “غداً”
يا حلاوة، تبقى مليان باللـى جَـىّ مقدِّماً
– يحيى الرخاوى: “أغانى مصرية: عن الفطرة البشرية للأطفال <=> الكبار وبالعكس” مركز الحضارة للنشر – الطبعة الأولى 2017.
[61] – المجرى والمقصوص نوعان من الدنانير أدنى من البندقى والديواني.
[62] – سبق الاستشهاد بهذ المثل (ص 58) وألحقنا له هامشا عن الفرق بين الجميز والتين.
[63] – هناك مثل أقل تصويرا لهذه الثقة، وأقل إشارة إلى إيجابية الصبر وإن كان يحمل نفس الاتجاه.
أصبرى يا ستيت لما يـِـخـْـلـَـى لـِـكْ البيت
[64] – هذا إذا لم يكن هذا المثل يؤكد على فائدة الكمون الاختياري، وترجيحى أنه لا يفعل ذلك، لأن الكمون الاختيارى لا يحتاج لمن يقطع حضانته (بأن يهشه)- لذلك فالموقف التحذيرى هو الأقرب للتفسير الذى أرتضيته، وإن كان هناك مثل آخر أقرب إلى السكون والتسكين والإنسحاب يقول:
من خرج من داره ينـقل مقداره، وهو ما لا أستطيع الدفاع عنه.
[65] – للأسف قرأت تفسيرا من باحثة جامعية لهذا المثل وهى تقرأ الحـُق على أنه الحـَـقَّ ورجحتُ أنها قاهرية محدثة لم تسمع عن الحـُق وغـَطـَاه من الأصل؟ ودعوت لها!
[66] – كتبت شعرا عاميا (موازيا) يخاطب إحدى الصديقات التى كانت تمارس نوعا من الرقة المحبـه الناعمة التى بدت لى سلبية حتى أزعجتنى حتى الرفض، فقلت فيها:
والنظره إللى بتغمر الكون بالحنان من غير حساب بتقول:
“حرام..، ياناس حرام،
أرض الشراقى مشققة جاهزه، بلاش نجرح شعورها بالسلاح…”
يا ناس يا هوه!! بقى دا كلام؟ بقى دا حنان؟
“الزرع لازم يتروى”
أيوه صحيح، بس كمان.. الزرع لازم يتزرع أول،
ماذا وإلا البذرة حاتنبت وبس
(إلى أن قلت!)
إوعى يكون حبك طريقه للهرب من ماسكة المحرات،
وصحيانك بطول الليل ليغرق زرعنا.
– يحيى الرخاوى ديوان “أغوار النفس” 2017 قصيدة ” الترعة سابت فى الغيطان” الطبعة الثالثة 2017.
[67] – مجلة الإنسان والتطور، عدد أكتوبر: 1987: “الإنسان المصرى: حالة كونه مهموما، حزينا: عن الهم والناس”
[68] – لـمَّ لمًّـا: جمعه جمـْعا شديدا، ويقال: لـم الله شعثه
وثم بيت شعر عربى مناسب لما نتناوله قاله ” تميم بن أُبَيّ بن مقبل” الشاعر الجاهلى فى قصيدته الميمية فى الحنين لزوجته “الدهماء” قال:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر …. تنبو الحوادث عنه وهو “ملموم“
[69] – بعزق له أصله العربى أيضا “بعزقه: فرّقه وفى غير موضعه
[70] – I’ am not O.K. you are O.K
[71]– Eric Bern : Transactional Analysis
[72] – I’ am O.K. you are not O.K.
[73] – بديهى أن هذا المثل غير قاصر على المكتئب
[74] – المرحوم أ.د. عبد العزيز القوصى كان قد اقترح لفظ “الإنهباط” لتحديد ما هو اكتئاب أو حزن، وهو لفظ فارق جيد
[75] – مجلة الإنسان والتطور، عدد يناير 1987 ، مثل وموال: “التناسب والفروق الفردية”
[76] – عادة ما يصر المريض، وإلى درجة أكبر: أهل المريض على السؤال “هو عنده إيه”، ودائما ما أرفض الاستجابة السهلة وتسمية المرض، حيث أن التركيز على تسمية المرض للأهل قد يكون نوعا من تحصيل الحاصل أو قد يصل إلى الوشم، لأن الاسم وحده فى الأغلب لا يفيد شيئا وقد يدمغ صاحبه.، وهو يلغى الفروق الفردية بطريقة تلقائية وسريعة وأحيانا كاملة تقريبا.
[77] – الصلاية هى وعاء خشبى مستطيل الارتفاع نسبيا يدق فيه الثوم والكفتة بيد خشبية، والهون هو وعاء نحاسى أكبر، وهو أقل إرتفاعا ويدق فيه بيد نحاسية ثقيلة، ويشاهد حاليا فى السبوع أكثر من استعماله فى المطابخ بعد الإغارة العصرية.
[78] – يقال فى بعض اللهجات الجنزبيل، ومع أن أكل الزنجبيل ليس مما يتميز به علية القوم، خاصة الآن، إلا أننى أعتقد أن النغم والمبنى وندرة زرعه وشربه، هو الذى برر استعماله هنا بشكل أو بآخر لأداء المراد، ناهيك عن احتمال الصدفة الصوتية، (انظر أيضا هامش 53)
[79] – جعبوب: قصير دميم، ضعيف لا خير منه، نذل دنئ .
[80] – وإن كان بعد التطور الأحدث لتنويعات الحجاب فى صورتها العصرية، أصبحت العايقة هى أم حجاب وليس العكس.
[81] – المقصود هنا خيال الظل، لأنهم يوقدون فيه القطن بالزيت لإظهار الخيال.
[82] – الجلوين، والجعضيض: نباتان ينبتان وسط البرسيم تلقائيا عادة، يجمعهم الفلاح الأجير بالمجان من أى حقل، ويأكل بهم العيش (الحاف) معظم وقت عمله.
[83] – مجلة الإنسان والتطور عدد يناير 1986، مثل (…. بلا موال)، إبعد عن الشر وغنى له
[84] – القاموس المحيط.
[85] – أحمد تيمور، الأمثال العامية: لجنة نشر المؤلفات التيمورية، الطبعة الثالثة1970 ص364.
[86] – نشرت مقالا كاملا تناول أبعاد هذه الظاهرة فى صحيفة الوفد بتاريخ 7/1/1987، بعنوان: “الغش الجماعى: وجذوره فى أعماق المجتمع”.
[87] – بعد نشر هذا المقال فى صحيفة الوفد بتاريخ 7/1/1987 ، انتشرت هذه الظاهرة أكثر فأكثر وانتقلت إلى المعاهد الأزهرية والمدارس الخاصة والأجنبية حتى أصبحت خطرا حقيقيا يهدد مستقبل أمتنا كلها (2017).
[88] – (وقد سبق تناول هذين المثلين فى الفصل الثانى ص 33)
[89] – برجاء عدم الانزعاج من ذكر كلمة القحـَبة بهذه الصراحة، فإن استعمالها بالعامية غير معناها فى الفصحى و”القحَـبة” فى الفصحى هى المرأة الكثيرة الكلام”
[90] – مجلة الإنسان والتطور – عدد 64 يناير – مارس 1999
[91] – “مثل وموال” مجلة الإنسان والتطور عدد 64 يناير – مارس 1999
[92] – The Death of The Family, David Cooper, Penguin, 1971
[93] – لاذ به: لاذ بالشئ لوذا ولياذا، لجأ إليه واستتر به وتحصن، ويقال : لجأ إليه، واستغاث به وامتنع، ولاوذ: بالشئ لواذا، وملاوذة: لاذ، وهذا ما فهمته من كلمة لواز هنا، وهى أقرب إلى الفصحى منها إلى العامية، وقد تحققت من فهمى هذا بعد مناقشة بعض العجائز اللائى أحبهن ويحببننى ومن أهمهم الحاجة وجيدة من أوسيم أطال الله عمرها.
[94] – يقال هذا المثل عندنا فى الأرياف حين ينقب اللصوص حائط حظيرة ليسرقوا البهائم، وإذا بهم يكتشفون أنه حائظ مخزن غلال (شونة) يخزن فيه الحبوب وليس حظيرة بها البهائم، فيعلن فشل مهمتهم، وقد تفضحهم خيبتهم حين يتسرب مخزون الغلال متدفقا عليهم من الشق الذى نقبوه، فيرتبكون، فيقبضون عليهم دون أن يحققوا ما أرادوا، وبالتالى ينتهى “نقبهم” إلى هذه النهاية الفاشلة!.
[95] – طرى طراوة وطراة: كان غضا لينا، وطرو طراوة. صار لينا
حمش فلان حمشا: غض، وأحمش النار الهبها وقواها بالحطب
[96] – طنبل: بالعربية الفصحى تعنى: تـَحـَامـَقَ بعد تعامـّل، وهو ما يقابل “طنـَّـش” بالعامية المصرية.
[97]– بدأ مؤخرا التفتيش فى بعض الفتاوى الدينية التى تبرر مثل هذه العلاقات المؤقتة، والمتعددة على أساس دينى.
[98] – مجلة الإنسان والتطور عدد 65 – 66 – إبريل ويوليو1999مثل وموال العجز عن التوقف
[99] – “مثل وموال” مجلة الإنسان والتطور عدد 65 – 66 – إبريل ويوليو1999
[100] – Sunday Depression (عند الغرب)
[101] – مجلة الإنسان والتطور عدد 63 أكتوبر 1998
[102] – نستعمل كلمة رسالة هنا كثيرا وذلك بمعنى خاص فالرسالة: ليست نصيحة، وإنما قد تكون كلمة مغيرة أو موقف كيانى عميق يصل إلى وعى المريض من حضور خاص لوعى المعالج كما قد تكون تقمصا إيجابيا مفيدا مرحليا وهى تصل عبر التشارك فى الوعى بين أكثر من واحد بدءً بالمعـُالج مع كل المشاركين (خاصة فى العلاج الجمعى وعلاج الوسط).
[103] – مجلة الإنسان والتطور عدد 61 ابريل 1998
[104] – “مثل وموال” مجلة الإنسان والتطور عدد 67&68 ديسمبر – يناير 1999-2000
[105] – Anaclitic Depression
[106] – Separation Anxiety
[107] – Otto Rank, The Trauma of Birth is a 1924
[108] – Maternity Blues
[109] – Object Relation School
[110] – لعل هذا أقرب ما يكون إلى قول الخيام :
فامش الهوينا إن هذا الثرى من أعين فائقة الاحورار
[111] – ولعل هذا ما يقابل أيضا قول الإمام الشافعى :
ولرُبٌّ نازلةٍ يضيق بها الفتى * ذرعاً وعند الله منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها * فُرجت وكان يظنها لا تُفرجُ
[112] – النشرة اليومية الإنسان والتطور 17-10-2007
[113] – يحيى الرخاوى: ندوة (دور اللغة فى تشكيل الوعى العام أساسا: من منظور الثقافة العلمية “حركية اللغة: من الشعر إلى الشارع”)، المجلس الأعلى للثقافة، لجنة الثقافة العلمية، مارس 2009
[114] – الأصل أشد صراحة يستعمل لفظا يستحيل اثباته فلزم التحوير
[115] – نسب جماعة هذا البيت للفرزدق، وقال قوم: لا يعلم قائله، مع شهرته في كتب النحاة وأهل المعانى، وأيضا هو قول بدوى جاهل لا يثمر حجة ولا يوضح محجة