الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / إحياء المعنى يملأ الكلام!!

إحياء المعنى يملأ الكلام!!

نشرة الإنسان والتطور

بقلم : يحيى الرخاوى

 2001-1980

نشرة يومية  من مقالات وآراء ومواقف

 تعتبر امتداداً محدوداً لمجلة الإنسان والتطور 

8-7-2009

السنة الثانية

 العدد:  677

                        

8-7-2009

إحياء المعنى يملأ الكلام!!

اللفظ‏ ‏قام‏ ‏من‏ ‏رَقْدِتُـه‏.‏

ربك‏ ‏كريم‏ ‏يِنْفُخْ‏ ‏فى ‏صُورْتُه‏ ‏ومَعْنِتُه‏.‏

يرجع‏ ‏يغنى ‏الطِّير‏ ‏عَلَى ‏فْروعِ‏ ‏الشَّجَرْ‏.‏

ويقول‏”‏يارب‏”،‏

وتجيله‏ ‏ردَ‏ ‏الدعْوَهْ‏ ‏مِنْ‏ ‏قَلْبُه‏ ‏الرِّطِبّ‏.

شرح على المتن:

فى بداية شرح هذه المقدمة، (الجزء الأول) لعبة الكلام: سبع جنازات بينا كيف يموت الكلام حين ينفصل عن معناه المفيد والدافع والمسئول، لكننا أيضا بينا أن تم هذا الانفصال للشبة معينة، فإنه يعتبر آلية جيدة، تسمح للألفاظ أن تتشابك مع بعضها بسهولة نسبية لتكوين المفاهيم والجمل المفيدة.

أشرت بعد ذلك إلى كيف أن لغة الشارع، وبالذات اللغة الشبابية، وأضيف هنا إليها اللغة المسماة: “البيئة” هى – بشكل ما – تجديد للغة ولو بدا عشوائيا، من حيث أن ظهور هذه اللغة هكذا هو نوع من الاحتجاج على موت اللغة داخل الألفاظ المغتربة نتيجة للقهر والإفراغ، ثم ألمحت كيف أن  ‏الشعر‏ ‏هو‏ ‏القادر‏ ‏على ‏إحياء‏ ‏الألفاظ‏ ‏وهى ‏رميم‏، بإعادة تشكيلها نغما وصورة.

حين يقول المتن هنا: “اللفظ قام من رقدته”، إنما يذكرنا مرة أخرى بأنه مهما ماتت الألفاظ اغترابا فإنها هى هى الأبجدية التى يمكن أن تتشكل بها اللغة من جديد: شعرا وحفزا وثورة، ربما التعبير الأدق هو “الكمون” انتظارا لبعث ما.

فى خبرة العلاج الجمعى، حين ‏ ‏أواجه ‏ ‏بعض‏ ‏المرضى ‏لأطلب‏ ‏منهم‏ ‏ومنى، ‏ملتزمين بقاعدة: “‏هنا‏ ‏والآن”،‏ ‏أن‏ ‏ينطق أى منا‏ ‏كلمة‏ ‏واحدة‏ ‏أو‏ ‏اثنين‏ ‏بمعناهما‏ ‏الحقيقى ‏مثل‏ ‘‏أنا أقدر‏’ ‏أو‏ ‘‏من حقى أن..‏’ .. ‏تقابلنى مقاومة غريبة لا أتوقعها ولايتصورها أحد، مع أن الكلمات تكون شديدة التداول، شديدة البساطة، فنستنتج أنه يبدو أن التركيز فى أن يُحضر الشخص (المريض) فى “هنا والآن” المعنى الذى يحتويه التعبير المطلوب، هو السبب فى هذه الصعوبة.

 فى الألعاب النفسية أيضا -التى عرضنا منها عينات كثيرة فى هذه النشرات اليومية، نلاحظ أنه بمجرد أن تضيف صفة “بحقيقى“، أو ” بحق وحقيق” يختلف الامر ويحل نبض جديد فى الجملة حتى تكتمل اللعبة كاشفة عن المضمون الذى تضمنته الألفاظ “بحق وحقيق”،

 هل تذكر مثلا لعبة “أنا باخاف أفرح بحق وحقيق، لحسن ….”، بل لعلنا لا نذهب بعيدا حين نتذكر آخر لعبة التى ما زلنا نناقشها هذه الأيام، ونصُّها: يااااااه، دى طلعت صعبة بشااااكل، ولكن…”، وقد أوضحنا كيف أنه ليس من الضرورى أن نحدد ما هى التى طلعت صعبة، لكن، ما إنْ ننطق لفظ “دى…” فى هذا السياق حتى تدب فيه الحياة، فيجرجر ما تيسر له أن يجرجر من مضمون حتى لو لم نتعرف عليه تحديدا، وهكذا.

 ‏ ‏فى ‏موقف‏ ‏محدد أذكره كمثال، كان شديد الصدق والعنف والدلالة، كانت‏ ‏إحدى ‏الصديقات‏ ‏المريضات‏ ‏تستنقذ فى مأزق علاجى بالله، ولكن تصيح بشكل روتينى فاتر، قائلة: ‏ ‘‏يارب‏’ ‏وإذا بمساعدى ينبهها (‏وهو‏ ‏شاب‏ ‏يحاول‏ ‏جاهدا‏ ‏أن‏ ‏يعيش‏ ‏ويستمر‏ ‏محتفظا‏ ‏بالمعني‏) ‏أنها‏ ‏لا‏ ‏تعنى ‏ما‏ ‏تقول،‏ ‏وأنها‏ ‏لو‏ ‏كانت‏ ‏تعنيه‏ ‏لأحست‏ ‏بذبذبات اللفظ  ‏تخرج‏ ‏من‏ ‏تحت‏ ‏إظفر‏ ‏إصبع‏ ‏قدمها‏، لا حظت كيف ساعد حماس مساعدى وتلقائيته فى أن يستعيد هذا اللفظ “يارب” وهو الذى نقوله فى اليوم عشرات المرات دون أن ينبض بحقه، كيف يستعيد نبضه حين يلتحم بالجسد، فينبض بمحتواه الصعب.

أعتقد أن مثل هذا الإحياء له مظاهر كثيرة فى كثير من نشاطات الحياة التى تحاول فى هذا الاتجاه، مثل الذكر عند بعض الصوفية بترديد اسم معين، ومثل أداء بعض المغنين لنفس اللفظ وهم ممتلئون به ، فيصل إلى المتلقى بما يحمله،

أم كلثوم ومايكل جاكسون:

  لا أحسب أن عبقرية غناء أم كلثوم تكمن فى جمال صوتها فحسب، بل هى – كما وصلتنى بعد رحيلها بالذات – ترتبط بقدرتها الفائقة على أن تعطى لكل لفظ فرصة أن تنبض به حياة جديدة.

ثم أدركت مؤخرا سر شعبية الراحل مايكل جاكسون، حين شاهدته بعد وفاته كما جاء فى يومية السبت الماضى، جاكسون لم يتوقف عند ملء اللفظ بمعناه، بل تمادى إلى تحقيق عبقرية تمازُج اللفظ مع النغم مع الحركة لجسد “يقول“، فتكتمل الرسالة وتحرك ما يقابلها فى المتلقى فيتصاعد الأداء ويخترق محرّكا الوعى الفردى والجمعى بما هو.

القرآن الكريم بدون تفسير

أحيانا يكون تفسير اللفظ الخاص فى سياق خاص مفسداً لعملية الإحياء والتحريك هذه، حين أدركت ذلك، حين كان بعض مرضاى يلجأون إلى ما يسمى “العلاج بالقرأن” مغتربين منشقين عادة، إذ غالبا ما يقوم المعالج بالقرآن هو، وليس المريض، بقراءة بعض آيات القرآن الكريم معتقدا أن هذه الآية أو الآيات تعالج ذلك بالذات، وهكذا، فكنت لا أشجب الفكرة تماما، بل أحدد شروطى الخاصة لاحتمال فاعليتها، فألفاظ القرآن الكريم وصفت بأنها يمكن أن تجعل الجبل خاشعا من خشية الله، فهى –غالبا حتى تؤدى هذا الدور- لا تحتاج تفسيرا بشريا، وصيَّا عليها، بقدر ما تتطلب أن ترد فى سياق، وجرعة، وحالة من التهيؤ تسمح بأن تحرك وعى المتلقى بما هى، وليس بما تعنيه فى المعاجم، أو بما يقوله المفسرون عنها، وبعد أن أذكّر مريضى بآيات خشوع الجبل، أوصيه إن أراد الاستعانة بالقرآن الكريم أن يقرأ بنفسه جزءا محددا (ربع حزب مثلا، كل ثانى يوم) بالترتيب دون انتقاء ودون فهم ودون تفسير، وأنا لا أقصد بذلك مفعولا سحريا خاصا، لكننى أحاول أن أحوّل ممارسته الاغترابية المفرطة المستسلمة التابعة عن طريق “وسيط”، إلى فرصة احتمال تواصل مباشر بين نغمته الخاصة، ونغمة “المابعد”، (الغيب) من خلال هذا الوسيط القادر، أعنى الألفاظ المقدسة، بفضل نبضها الملتحم بالوعى الكونى: “ربك كريم ينفخ فى صورته ومعنته” تتلاحم أنغام مستويات مع بعضها بكل هذا الثراء النابض فى سياقها الخاص، دون لفظنتها الاغترابية‏.‏

ربما هذا التوجه، الذى لم أتبينه إلا مؤخرا، كان وراء ما جاء بالمتن منذ أكثر من ثلاثين عاماً مشيرا إلى أن ما يحيى الألفاظ لتنبض بمعانيها من جديد هو تلك الصحوة/البعث، التى تسمح بالتناغم بين الوعى الذاتى والوعى الكونى إلى وجه المطلق توجها إلى وجه الحق تعالى (وليسمه من يشاء ما يشاء)، فتصبح الألفاظ التى كانت قد تحولت بالقهر والإهمال إلى “ظرف رصاص فاضى مصدى ف علبته” تصبح ملتحمة بكل من معناها، فى تشكيلها الجديد “ربك كريم ينفخ فى صورته ومعنته”.

التشكيل الأشمل للوعى الخاص والعام

التأكيد هنا على أن هذا الإحياء ليس عملية عقلنة منفصلة بقدر ما هو أمل فى تشكيل تناغمى بين الوعى الذاتى والوعى المطلق أو الوعى الكونى من خلال ألفاظ استعادت حيويتها، هو ما يلحق ذلك من إشارة إلى وسيط آخر، وهو التناغم مع الطبيعة “يرجع يغنى الطير على فروع الشجر”، حين يترسخ الاغتراب حتى تموت الألفاظ أو تكمن هامدة، ينفصل الإنسان عن الطبيعة، وحين يعزف اللحن النابض من جديد، يعود الإدراك إلى تلقى الأصوات لغة قادرة جديدة.

قلنا من قبل إن الكلام حين يموت، يصبح مجرد أصوات بلا معنى “مر الهوا صفر كإن النعش بيطلع كلام”، فيتم الاغتراب، وتتوقف حركية النمو، هنا انعكست الصورة فأصبحت الأصوات (أصوات الطير) غناء له معنى يروح يندمج فى اللحن الأكبر فالأكبر أيضا، فيتم التواصل بين الوعى الذاتى، ووعى الطبيعة إلى الوعى الكونى، فهو اللحن البعث الجديد “ويقول يارب”،

الرد يأتى من داخلنا دليلا على عمق التكامل مشيرا إلى بؤرة الوجود المتناغم “وتجيله رد الدعوة من قلبه الرِّطب” أى أن الردّ يأتى ما هو أقرب من حبل الوريد، ممتدا إلى كرسيه الذى وسع السموات والأرض سواء بسواء،ولعل هذا ما أعنيه عادة، بتناغم الوعى الذاتى مع الوعى الكونى.

هكذا تعود الألفاظ بكل عنفوانها وقدرتها لتقوم بدورها فى الثورة، والتغيير، لتنطلق مسيرة النمو

بعض آليات إحياء الألفاظ فى العلاج الجمعى:

فى العلاج النفسى الجمعى، وهو موضوع الفصل الثانى فى هذا العمل تقريبا، نتدرج فى إحياء الكلام بشكل غير مقصود مباشرة، لكن هذا هو ما يتم من خلال آليات محددة لا نقصد بها فكرة “إحياء الألفاظ” تحديدا، وإنما يكون ذلك بعض نتائجها الهامة.

ويمكن عرض بعض هذه الآليات فى خطوطها العريضة على الوجه التالى:

  1. التركيز شبه المطلق على أن يكون التفاعل فى “هنا والآن”، وهو الأمر الذى يستتبعه الابتعاد عن التعميم والتبرير، والإقلال من التفسير والتأويل، وفى هذا يمارس المعالج نهيا متصاعدا عن استعمال تعبيرات تبدا بألفاظ مثل “الواحد”….، “الناس”….، “الإنسان” ..إلخ
  2. التنبيه إلى أن النصائح المباشرة ، إلا ما يمكن تطبيقه واختباره فى “هنا والآن”، هى أيضا مهرب من احتواء اللفظ لمعناه لصعوبة اختبار تنفيذ فاعليته حالا
  3. تحديد أسلوب التخاطب بـ “أنا …أنت”، يتبعه تلقائيا تحمل مسئولية الخطاب، والتلقى، فلا تستعمل صفات أو ضمائر الجمع مثل “كلكم، كلنا”، وأيضا لا يستعمل ضمير الغائب (هو، هى، هم) ما أمكن، وقد لاحظنا كيف أن ذلك يستتبعه تضييق مساحة الفائض اللفظى بشكل يحيى نبض الألفاظ.
  4. الألعاب العلاجية تتطلب كلا من التمثيل بكل معنى الكلمة، كما تسمح بتأليف بقية النص المحذوف ..(إبداعا مباشرا) مع ممارسة مبدأ “أنا “أنت” هنا والآن” فى نفس الوقت، وبالتالى تتيح الفرصة لتكامل وسائل التعبير (الفقرة التالية بند 5)
  5. استعمال وسائل أخرى للتواصل غير اللفظى (ليس فقط اللغة الإشارية، التى هى نوع آخر من الرموز) بما فى ذلك لغة الجسد، ولغة العيون (أنظر الفصل الثانى) وتعبيرات الوجه …إلخ، سواء فى الألعاب أوغير الألعاب وهذا لا يدل على الاستغناء عن الألفاظ بل قد يكتشف المريض من خلاله إلى أى مدى كان مبتعدا بألفاظه عن ذاته، أو جسده، أو بقية وجوده، وقد يتم ذلك فى نوع من النفسية: الصامتة، أو الناطقة.
  6. استعمال الاحتمال العكسى للألفاظ والجمل، بتدريب وتمثيل أيضا، وهو وسيلة يتحدد بها كل من الأصل وعكسه، مثلا يقول المريض “أنا مش قادر أعبر”، فنطلب منه أن يقول (ويمثل) “أنا قادر أعبر”، ثم بالتبادل، فنحول بذلك دون تداخل الشكل مع الأرضية (بالتعبير الجشتالتى)، فيمارس المريض، والمعالج، نوعا من التحديد الذى يسمح للفظ أن يستعيد مضمونه الدال
  7. الإقلال مناستعمال ألفاظ التقريب ما أمكن ذلك (مثل “تقريبا”، “نص نص” “مش قوى”، “يعنى”..إلخ)
  8. الإقلال من استعمال تعبيرات التأجيل مثل “إن شاء الله” (بالمعنى الهروبى)، “حاحاول”، ..إلخ
  9. تجنب استعمال الحِكَمْ والأمثال ما أمكن ذلك منعا للاستدراج إلى التعميم والإفراط فى التجريد
  10. التعامل مع الأسئلة باعتبارها مشروع إجابات: يُطلب أحيانا من المريض أن يقلب سؤاله إلى جملة إخبارية برفع علامة الاستفهام، أو يطلب منه أن يجيب هو أولا على سؤاله إجابة محتملة، أو أن يقول مايتصور ان المسئول (معالج أو زميل مريض) سوف يجيبه به

إمراضية الإفراط بفرط تحميل اللفظ معناه

“برغم الحرص الشديد على أن يحتوى اللفظ معناه، فإننا أشرنا قبل حلقتين، وفى مقدمة هذه الحلقة، كيف أن ذلك هو عبء شديد إذا ما بولغ فيه، وقد لاحظت فى حالات الفصام، خاصة فى نوع الفصام المبتدئ، وأيضا فى بعض حالات الاكتئاب أن المريض يشعر فجأة ‏أنه‏ ‏ينبغى ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يعيش‏ ‏كل‏ ‏لفظ‏ ‏ينطقه‏ ‏بحقه تماما‏، ‏أى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏اللفظ‏ ‏هو‏ ‏معناه‏ بالضبط وكما‏ ‏ينبغى، فإذا تصورنا أن الجمل تتكون من وحدات متتالية مثل السلسلة المترابطة، فإن الأسهل أن تكون حلقات السلسلة مرنة وخفيفة حتى يتم الترابط والتسلسل بما يحقق تماسكها فوظيفتها الأشمل فالأشمل، فإذا تصورنا أن المبالغة المرضية فى أن تكون كل وحدة (حلقة) مليئة ثقيلة بما تحتويه من مضمون، فإن التسلسل قد ينقطع، وقد فسرت بذلك بعض ما ينتهى إليه المريض مما نسميه “فقد الترابط” incoherence ، الذى هو بهذا التفسير ليس نتيجة أن الألفاظ صارت بلا معنى، ولكنه نتيجة الألفاظ امتلأت بمضامينها مستقلة  مثقلةحتى عجزت أن تترابط مع ما قبلها وما بعدها.

الألفاظ الثورة:

حين تبعث الألفاظ من جديد، وتبنض بمضمونها، وتحفز إلى غايتها، تصبح ثورة فى ذاتها، ولعل هذا بعض ما كان يعنيه أدونيس وهو يميز بين شعر الثورة (الشعر التحريضى)، وبين الشعر الثورة، الذى هو تشكيل مغيّر يحيى اللغة، والمتن التالى (نهاية المقدمة) يشير إلى كل من هذا وذاك معا:

ألفاظ‏ ‏بتهِزّ‏ ‏الكُونْ‏،‏

وبتضرب‏ْْ ‏فى ‏المَلْيَانْ‏،‏

وتغّير‏ ‏طَعْمِ‏ ‏الضِّحْكَةْ‏،‏

وتشع‏ ‏النُّورْ‏ ‏مِا‏ ‏الضَّلمَهْ‏،‏

وبتفضَحْ‏ ‏كِدْب‏ ‏السَّاكِتْ‏،‏

وبْتِفْقِسْ‏ ‏كل‏ ‏جَبَانْ‏.‏

استشهادان ختاميان

الألفاظ التى تحتوى معناها، فيكون لها كل هذا النبض، وكل هذا الإحياء، ليست هى الألفاظ الجميلة، أو الرنانة أو الجذلة، بل هى “أى لفظ كان”، حالة كونه ينبض بمعناه سلسا منسابا

وفيما يلى مقتطفان يثبتان ذلك بشكل أو بآخر:

الأول: من أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ (1994)، وقيامى بنقدها (يحيى الرخاوى سنة 2006)

 والثانى: من قصيدة باكرة لى فى ديوان “البيت الزجاجى والثعبان“(1983) استلهمتها من السعى بين الصفا والمروة، ذات عمرة. (قبل اصداء محفوظ بعشر سنوات)

المقتطف الأول:

الصدى رقم 78 من أصداء السيرة، (محفوظ سنة 1994)

 78 – ‏البلاغة

قال‏ ‏الأستاذ‏ ” ‏البلاغة‏ ‏سحر‏” ‏فآمنا‏ ‏على ‏قوله‏ ‏ورحنا‏ ‏نستبق‏ ‏فى ‏ضرب‏ ‏الأمثال‏. ‏ثم‏ ‏سرح‏ ‏بى ‏الخيال‏ ‏إلى ‏ماض‏ ‏بعيد‏ ‏يهيم‏ ‏فى ‏السذاجة‏. ‏تذكرت‏ ‏كلمات‏ ‏بسيطة‏ ‏لا‏ ‏وزن‏ ‏لها‏ ‏فى ‏ذاتها‏ ‏مثل‏:أنت‏،.. ‏فيم‏ ‏تفكر‏ ‏؟‏… ‏طيب‏،. يا‏ ‏لك‏ ‏من‏ ‏ماكر‏… ‏ولكن‏ ‏لسحرها‏ ‏الغريب‏ ‏الغامض‏ ‏جن‏ ‏أناس‏،.. ‏وثمل‏ ‏آخرون‏ ‏بسعادة‏ ‏لا‏ ‏توصف‏،..‏

النقد: (يحيى الرخاوى: أصداء الأصداء)

على ‏صغر‏ ‏هذه‏ ‏الفقرة‏، ‏فإنها‏ ‏تطرحنا‏ ‏أمام‏ ‏قضية‏ ‏نقدية‏ ‏لأعمال‏ ‏محفوظ‏، ‏أنا‏ ‏لست‏ ‏متأكدا‏ ‏من‏ ‏أنها‏ ‏نالت‏ ‏حقها‏ ‏من‏ ‏الدراسة‏، ‏وهى ‏قضية‏ ‏اللغة‏، ‏وإن‏ ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏قرأت‏ ‏أكثر‏ ‏عن‏ ‏علاقة‏ ‏يحيى ‏حقى ‏باللغة‏، ‏مبدعا‏، ‏وإلى ‏درجة‏ ‏أقل‏ ‏ناقدا‏، ‏فهنا‏ ‏ينبهنا‏ ‏محفوظ‏ ‏إلى ‏نوع‏ ‏من‏ ‏البلاغة‏ ‏تستأهل‏ ‏الوقوف‏ ‏عندها‏، ‏وأنها‏ ‏ليست‏ ‏أبدا‏، ‏ولا‏ ‏أصلا‏ ‏ذلك‏ ‏البريق‏ ‏الذى ‏ينبعث‏ ‏من‏ ‏ظاهر‏ ‏الألفاظ‏ ‏أو‏ ‏زينة‏ ‏الأسلوب‏، ‏وليست‏ ‏هى ‏أيضا‏: ‏الحكم‏ ‏الرصينة‏ ‏المختصرة‏ ‏التى ‏تنطلق‏ ‏من‏ ‏مثل‏ ‏أو‏ ‏بيت‏ ‏شعر‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الحديث‏ ‏بالأمثال‏ ‏والاستشهاد‏ ‏بالشعر‏ ‏قد‏ ‏يصبح‏ ‏ضد‏ ‏البلاغة‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏تتناوله‏ ‏هذه‏ ‏الفقرة‏، ‏وربما‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏قال‏ ‏فيه‏ ‏صلاح‏ ‏عبد‏ ‏الصبور‏ “‏يأتى ‏من‏ ‏بعدى ‏من‏ ‏لايتحدث‏ ‏بالأمثال‏”، أما‏ ‏البلاغة‏ ‏التى ‏يقدمها‏ ‏لنا‏ ‏هنا‏ ‏محفوظ‏ ‏فهى ‏أن‏ ‏يحمل‏ ‏اللفظ‏ – ‏أى ‏لفظ‏ – ‏معناه‏ ‏تماما، ‏فيصبح‏ ‏سحرا‏ ‏قادرا‏ ‏أن‏ ‏يثمل‏ ‏به‏ ‏الناس‏ ‏فى ‏سعادة‏ ‏لا‏ ‏توصف‏، ‏وأن‏ ‏يجن‏ ‏فى ‏صحنه‏ ‏آخرون‏.

 ‏أية‏ ‏ألفاظ‏ ‏هذه‏ ‏التى ‏تـسكر‏ ‏وتـجن؟‏ ‏ألفاظ‏ ‏غاية‏ ‏فى ‏السذاجة‏، ‏هى ‏فى ‏ذاتها‏ ‏كأصوات‏ – ‏أبعد‏ ‏ما‏ ‏تكون‏ ‏عن‏ ‏البلاغة‏ ‏مثل‏ “‏أنت‏” ‏هكذا‏ ‏فقط‏ : “‏أنت‏”، ‏أو‏ “‏فيم‏ ‏تفكر‏”‏؟‏ ‏نعم‏ “‏فيم‏ ‏تفكر‏” ‏أو‏ “‏طيب‏” ‏أكرر‏ : ‏إنه‏ ‏لفظ‏ “‏طيب‏” ‏ثم‏ “‏يالك‏ ‏من‏ ‏ماكر‏”،…… ‏أعنى “‏يالك‏ ‏من‏ ‏ماكر‏”،

‏هل‏ ‏أدعوك‏ – ‏عزيزى ‏القاريء‏ – ‏أن‏ ‏تتوقف‏ ‏عند‏ ‏هذه‏ ‏الألفاظ‏ ‏فتكررها‏ ‏أنت‏ ‏للمرة‏ ‏الثالثة‏ ‏بصوت‏ ‏مرتفع‏، ‏ثم‏ ‏تترك‏ ‏كل‏ ‏لفظ‏ (‏أو‏ ‏تعبير‏) ‏منها‏ ‏يرن‏ ‏فى ‏وعيك‏ ‏شخصيا‏ ‏دون‏ ‏محاولة‏ ‏أن‏ ‏تكمل‏، ‏ودون‏ ‏محاولة‏ ‏أن‏ ‏تتذكر‏ ‏حوله‏ ‏أو‏ ‏به‏ ‏أو‏ ‏منه‏ ‏شيئا‏، ‏إذا‏ ‏فعلت‏ ‏ذلك‏ “‏هكذا‏”، ‏فسوف‏ ‏تعرف‏ ‏علاقة‏ ‏محفوظ‏ ‏باللغة‏، ‏وربما‏ ‏تتصالح‏ ‏عليها‏، و‏ربما…….

المقتطف الثانى:

من قصيدة “أنهار المسعى السبعة”

ديوانى: البيت الزجاجى والثعبان (سنة 1983)

              وتقول‏ ‏الناس‏ ‏الأنهار

              للناس‏ ‏التيار:

             ………………

             …………….

           قال‏ ‏النهر‏ ‏السادس‏:‏

لو‏ ‏أن‏ ‏السعى ‏تناغم‏ ‏بعد‏ ‏السعى ‏إلى ‏السعي

لرجعـْنـَا‏ ‏أطهرَ‏ ‏من‏ ‏طفلٍ‏ ‏لم‏ ‏يولدْ‏ ‏بعدْ‏ ‏

لا‏ ‏نتكاثر‏ ‏بالعـدّةِ‏ ‏والعدّ

ولعاد‏َ ‏المـعــْـنى ‏

يملأ‏ ‏وجه‏ ‏الكلمهْ

يهتز‏ ‏الكون:

لو‏ ‏يعنى ‏القائل‏ “‏أهلاً”

أنْ: “‏أهلاَ

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *