- نظرة بيولوجية
“تحرير المرأة… وتطور الإنسان”
نشر البحث فى المجلة الاجتماعية القومية
المجلد الثانى عشر: سبتمبر 1975
العدد: الثانى والثالث
نظرة بيولوجية:
تحرير المرأة … وتطور الإنسان
لا شك أن الدراسات الإنسانية عامة، والدراسات النفسية بوجه خاص قد أضافت بعدا علميا لقضية المرأة يحتاج إلى عمق نظر، حتى نخلص منه إلى ما هو خليق بدفع عجلة الإنسانية إلى التقدم، إذ تتخلى مما قد يضللنا عن طريق التطورالإنساني.
ومصدر الضلال يأتى من التركيز على دراسات مستعرضة تعمق الفروق بين الرجل والمرأة أو تمحوها تماما، وكلا النقيضين له نفس الخطر، ولذلك ينبغى أن نستلهم التاريخ ونحن نقيم الحاضر ونرسم للمستقبل، كما ينبغى أن نواجه مضاعفات انحراف المسار وخداع الفكر التى تصرخ فى وجوهنا فى كل لحظة، نواجهها بشجاعة المؤمن بالاستمرار بيقين الفيروس وهو يتحصن متبلورا كالجماد ثم تدب فيه الحياة ليصعد السلم إلى الامبيا حتى الإنسان[1] وهذه المضاعفات قد تركزت حاليا – كعينة- فى العيادات النفسية فى صورة أعراض وأمراض فجسدت المشكلة بأبعادها الواقعية وأثرها على هذا الجيل، وربما الأجيال اللاحقة.
وفى هذا البحث سوف أحاول أن أجمع الخيوط من التاريخ البيولوجي، حتى نعرف أبعاد الحاضر، عسى أن تكون هذه النظرة الطولية مكملة للتفاصيل المستعرضة – التى لن أعرج إليها – وموحية وموجهة إلى طريق المستقبل، ثم نلقى نظرة بعد ذلك إلى المشاكل اليومية الملحة.
ولنسمح للأسئلة الآن أن تطرح نفسها:
أولا: أين تقع قضية المرأة فى مشكلة التطور الإنسانى – باعتبار الإنسان ممثل للكائن الذى يقف على قمة الهرم الحيوى؟
ثانيا: ما هى حقيقة الفروق الفردية بين الجنسين؟
ثالثا: ما هى قضية الرجل وأين تقع من قضية المرأة تطوريا؟
رابعا: ما هى صور المشكلة كما تلح علينا فى الممارسة اليومية؟
ولنبدأ بالسؤال الأول:
أين تقع قضية المرأة من مشكلة تطور الإنسان البيولوجى؟
وللأجابة على هذا السؤال لابد أن نحدد ابتداء مفهوما لكلمة التطور( البيولوجي) نتصور من خلاله أين نقف، وقد فضلت أن أستعمل كلمة البيولوجي- تحديدا – حتى أعلن مسار فكرى المرتبط برؤية الإنسان طوليا فى تحول مطرد نحو التكامل حتى فى تاريخه الفردى القصير والمعنى الذى التزم به هنا فى استعمال كلمة التطور هو أنه، “العملية التى ينمو بها العضو أو الكائن نموا يجعله أكثر تعقيدا ولكنه أكثر تكاملا فى نفس الوقت فهى عملية تستلزم تغيرا مستمرا مطردا نحو وجود أعمق وأرقى معا”. ومن هنا كان التطور غير مقتصر على عضو أو جنس وإنما هو دليل الحياة وقانونها الأساسي.
ومن هذا المنطلق نبدأ فنحدد موقع المرأة على سلم التطور:
لاشك أن المرأة – مثلها مثل الرجل – كائن ناقص، بمقاييس التكامل البشرى على المسار الحيوى مفتوح النهاية، وهذه الحقيقة لا تهز موقف الإنسان على سلم الحياة وإنما تحفزه إلى التكامل أبدا..
ونحن نعرف “التكامل” – رغم كونه مستقبلا فعلا – إما بتصور نظرى يتم رسمه بأمتداد الخطوط الطبيعية فى أتجاه الرقي، وإما بعينة حاضرة تدل على المستقبل، تتمثل هذه العينة فى الخبرة – المؤقتة فى العادة – التى يمر بها الفنان أو الصوفى (وأحيانا المضطرب عقليا فى أولى مراحل اضطرابه)، وأحيانا تتحقق لفترات أطول وأثبت فيما أسماه أبراهام ماسلو 3خبرات القمة Peak experience أو تحقيق الذات Self actualization وقد ركز أغلب المشتغلين بما يسمى حاليا علم النفس الإنساني.Humanstic Psychology على مثل هذه الخبرات، تأكيدا لقدرة الإنسان على التكامل.
على أن نقص المرأة يختلف عن نقص الرجل نوعيا وإن كانا يسيران إلى نفس الهدف المشترك بطبيعة افتراض أن التطور هو الحياة ذاتها.
ولكن يبدو أن القيم التى وضعت لتعريف التكامل الإنسانى كما يبدو فى خبرات القمة قيما ناقصة أو متحيزة فلو راجعنا رؤية ماسلو للمرأة لاصابنا نوع من الدهشة أو الجزع إذ يقول فى مقالة عن الدوافع الفوقية (البعدية)[2] Meta. Morives “… ولابد من القول بأن ما سبق ذكره (عن الرجال) ينطبق على النساء، ولكن ربما بطريقة مختلفة.
ثم إن ماسلو لا يشرح تصوره لهذا الاختلاف، حين يصف المرأة التى تمثل ما يعتقده حول طبيعة هذا الاختلاف، فهو يصف امرأة تقوم بدور ربة العائلة فى ايمان وصدق ونجاح وعطاء، وينهى هذه الفقرة بقوله بأمانة علمية متواضعة “.. وعلى كل حال فإنه ينبغى على أن أقول انى أشعر بأنى أقل ثقة حين أتكلم عن “تحقيق الذات عند النساء”.
وعلينا أن نقف هنا لحظة قبل أن نسارع بتصور أن المرأة قاصرة بطبيعتها عن التواجد الإنسانى الأرقي، وأنها إذ ترتقى إنما تتكامل كأم راعية فى منزل طيب، ولنحاول أن ننظر فى موقف ماسلو القاصر، ومثله، فنضع لهذا الاتجاه تفسيرات محتملة:
فإما أنه (أننا) لم نهتد بعد إلى طبيعة خطوات المرأة على طريق التطور فنحاسبها دون أن ندرى – بمقاييس الرجل.
وإما أن القهر الذى لحق – ويلحق – بالمرأة هو التفسير لهذا التخلف الظاهرى، وفى المثال الذى أورده ماسلو إشارة إلى احتمال أن خطوات المرأة إلى التكامل تبدأ بتحقيق تكاملها كأنثى… ثم تنطلق من هذا الموقع إلى تحقيق قدراتها المتصاعدة للتحقق كإنسان متكامل.
ومن هنا يبدأ الفرض الذى نقدمه فى الظهور على النحو التالى:
“إن نقص المرأة يختلف عن نقص الرجل رغم أنهما يهدفان إلى الالتقاء فى “هدف ما” يقع فى المستقبل، مهما اختلف موقع كل منهما حاليا من هذا الهدف”.
فإذا كان التطور مسيرة متصلة طوليا – وهو كذلك – فإنهما دائما الاقتراب من بعضهما البعض من خلال توحد الهدف واستمرار التقدم.
فقضية المرأة اذن ليست إلا أحد شقى قضية سعى الإنسان إلى الكمال – أو التكامل – وليست قضية سعى المرأة إلى المساواة بالرجل أو التحرر منه، إذ أنه هو ذاته بنقائصه واغترابه وشقائه ليس مثلا يحتذي، كما أنه – لذلك دائم السعى نحو التكامل ربما بنفس الخطى دون تميز.
ولكن لاننسى أن نؤكد أن هاتين القضيتين – قضية تطور المرأة وقضية تطور الرجل – رغم اختلافهما فى كثير من التفاصيل ما هما إلا قضية واحدة، وكلما اقترب الرجل والمرأة من الهدف، تقاربت دائرتهما حتى تتداخلا رويدا رويدا، ولنا أن نأمل أن تنطبقا عند الهدف، والتشابه والمشاركة موجودان منذ البداية وهما فى تزايد دائم، والصراع المشترك ضد الطغيان والجمود والتدهور، هو أعظم صور التشابه،
وأخيرا فإن الشكل (1) يوضح أن البعد عن الهدف المشترك لا يعنى إلا التوقف والجمود، وبالتالى فإنه كلما ابتعد الرجل عن المرأة فى السعى الإنسانى كان التخلف سائدا فى مجتمع ما، فى وقت ما.
ثم ننتقل للسؤال الثانى:
ما هى حقيقة الفروق الفردية بين الجنسين؟ ( بما يشمل تاريخها وجذورها)؟
نستلهم التاريخ لنعرف متى نشأ تقسيم الكائنات إلى جنسين؟ (ولماذا).
كان النمو هو الدافع الطبيعى للتناسل فى بداية الأمر، وكان التناسل يتم فى أبسط صوره بالانقسام لحفظ النوع.
ثم يظهر أول أنواع التناسل “بالاتحاد المؤقت” بين اثنين من البروتوزوا الضعيفة التى سبق أن كررت الانقسام حتى أنهكت، فتتحد اثنتان من البروتوزوا ضعيفتان وتصب كل منهما من نواتها تيارا من البروتوبلازم ينفذ إلى جسم الأخرى ثم تنفصلان، ويظهر أنهما قد قويتا بهذا التزاوج “المجدد للشباب” إذ تنقسم كل منهما بعد ذلك بقوة تختلف عن الضعف السابق، ويحقق الانقسام مرة أخرى أغراض استمرار الحياة (ولعل هذا هو أول ما عرف بيولوجيا عما يقابل الجنسية المثلية!).
وننتقل بعد ذلك إلى التناسل بالاندماج “وليس بمجرد الاتحاد المؤقت حيث لا ينشأ فى البندورينا Pandorina (مستعمرة برتوزوية) كائن جديد إلا باتحاد جرثومتين متناهيتين فى الصغر.
أما فى مستعمرة البروتوزوا المسماة بالايدورينا Eudorina فيظهر أول تمييز بين الجنسين حيت تنقسم الخلية إلى جراثيم بعضها كبير وساكن – الأنثى وبعضها صغير ونشط – الذكر – ولا يتكون كائن جديد إلا عندما تنفذ جرثومة صغيرة فى داخل جرثومة كبيرة (وهذا أول تفوق للأنثى عن الذكر بالحجم والاستقرار).
على أن هذه الخطوة (التناسل بالاندماج) لا تطرد على سلم التطور بالضرورة، فنجد أن كائنات أرقى (الفطريات) تتناسل جيلا بالانقسام وجيلا بالاتحاد بين جرثومتين فيتكون الجيل الثالث… وهكذا (وكأن الحاجة إلى الذكر لم تتأكد بعد) ونفس الظاهرة نجدها فى كائنات أرقي: إذ نجد بق النبات المسمىAphis يمر بطور تخرج منه بويضة كبيرة واناثا فقط رغم أنه سبق تلقيحها بذكور، وتستمر أجيال الإناث تتلاحق دون ذكور حتى فصل الصيف حيث تخرج فجأة ذكورا تلقح إناث جيلها التى تضع البيضة الشتوية… وهكذا.
من كل ذلك نستطيع أن نخلص إلى المشاهدات والاستنتاجات التالية:
1 – إن تميز الكائنات إلى جنسين إنما قصد منه التهجين Cross fertilisation أساسا لتحسين النسل وارتقاء النوع بالتالي.
2 – إن الذكر ليس لازما – دائما – للتناسل، وأنه حتى بعد ظهوره تطوريا أمكن الاستغناء عنه بضعة أجيال (وهذه الحقيقة ثبتت تجريبيا أيضا حيث نجح كثير من العلماء مثل جاك بوب فى أن يفقس البيض غير الملقح لأصداف البحر Sea Urichns ونجمة البحر Star Fish بأن وضع البيض فى مواد كيمائية معينة حتى فقست.
3 – إن الانثى – حتى هذه الاطوار البدائية على الاقل – كانت هى أساس الحياة وصلبها كما كان حجمها يجعلها تتفوق بلا جدال على الذكر.
وقد كانت الطبيعة سخية مع الإناث إلى حد مفرط، مستهينة بالذكور إلى حد مفلت،
ونظرة من الرجال إلى هذه الحقائق لابد وأن تكسر غرورهم وأن تفيق بها النساء اللاتى ينادين بالمساواة بهم، فنحن نجد أن الذكر أصغر وأضعف من الانثى فى كثير من الأحوال، ونجد وجوده أحيانا مستمدا من حاجة الانثى إليه وموقوتا بأداء مهمته التلقيحية أحيانا (مثل النحل والعناكب) ونرى أول دليل على تفاهة دورالذكر فى السنجام Syngame (وهو طفيلى يعيش داخل الطيور) حيث نجد كائنا كبيرا يفرز بويضة (أنثي) ثم كائنا أصغر منه يعيش متصلا به على الدوام (ذكر) وكأنه طفيلى عليه، كما نلاحظ أن أنثى الفراشة أطول من الذكر خمس عشرة مرة وتزن عشرات أضعاف وزنه، ويبلغ الذكر فى بعض أنواع الحشرات حدا يكون فيه أشبه بالنملة التى تدب على ظهر الخوخة.
والذكر يقوم برعاية الصغار من قديم، حيث نجد ذكر الزقزوق مثلا (نوع من السمك) يحمل البيض الذى تضعه الانثى فى جراب على بدنه ويعنى به حتى بفقس (وكأنه “حامل” بدلا منها”…).
وهكذا نؤكد ما سبق أن أشرنا إليه من أن تميز الانثى فى المراحل الأولى كان مؤكدا، فماذا حدث فى تاريخ الحياة حتى تفوق الذكر فى الحجم والقوة فى الانسان وأغلب الثدييات وبعض الطيور مثلا).
يقول التفسير البيولوجى التطورى إنه بعد تعقد الحياة وأخذها صورة الصراع الدموى بين الأنواع، وحتى بين أفراد النوع الواحد، بدأ الذكر النشط يأخذ مسئوليته لحماية الانثى المستقرة، وبدأ العدوان يصبح الصفة المميزة لحفظ النوع، ومن هنا كان الذكر الأقوى هو الذى يحتفظ بحقه فى التلقيح بأن يقضى على كل الذكور الأخرى فى القطيع، ومن خلال هذه النقلة الخطيرة فى تاريخ التطور أخذ الذكر يزهو بقوته ويتفوق فى حجمه، ونظرة إلى الكباش والاسود والديكة كافية لإظهار هذه الحقيقة وأصبحت الانثى تستكين فى حماية الذكر لفترة طويلة إلا أن الذكر الذى عانى من التفاهة والإهمال فترة طويلة من تاريخ التطور بدت أمامه الفرصة ليعوض ما كان، فيفرض مكانته البيولوجية ويزهو بأهمية عدوانه فى تحسين النسل، حتى ارتبط العدوان تماما بهرمون الذكورة (تستسترون Testesteron) وانتقلت هذه النزعة إلى الإنسان الذى أخذ يبالغ فيها بشكل يبدو وكأنه تعويضى أو حتى انتقامي.
ثم تختفى الحاجة إلى العدوان الجسدى كعنصر ضرورى لبقاء النوع ويكاد يحل محله ما يمكن أن نسميه العدوان العقلى فى صورة التفوق الأكاديمى والثروة والسلطة السياسية والمكانة للاجتماعية[3] وحتى الخلق الفنى[4] ويستمر الرجل فى استحواذه على هذه الادوات دون المرأة – ويحاول تحت تأثير تبريرات مستعرضة أن يثبت الفروق بينه وبين المرأة وكأنها أزلية، فى حين أنها ما ظهرت إلا حين كان العدوان ضرورة بقائية حيث يقتل الذكر الأقوى الذكر الأضعف، حتى يأتى الجيل القادم من صلب الأقوى دائما (وقد سبق أن استعملت الانثى عدوانها لنفس السبب حين كانت تأكل (أو تقتل) الذكر بعد التلقيح (بعض العناكب) حتى تضعن نسلا قويا من ذكر شاب لا يكرر التلقيح حتى ينهك.
وقبل أن نستطرد فى تقييم الموقف الحالى نقف وقفة يسيرة أمام سؤالين لابد وأن نطرحهما فى هذه المرحلة من النقاش السؤال الأول يقول:
إلى أى مدى نستطيع الاعتماد على الأصل البيولوجى لسلوك الحيوان فى دراسة سلوك الإنسان؟ وهل الاختلاف بينهما هو اختلاف فى الدرجة أم فى النوع؟
وقد طرح هذا السؤال معظم المشتغلين بعلم النفس المقارن، وعلى سبيل المثال روبرت هند فى كتابة السلوك الحيوانى[5]، ولم تتحدد الاجابة بشكل قاطع وإن كان الاتجاة الغالب الذى يؤمن بالتطور يقول بأن وجه الشبه – وإن بدا ضئيلا – إلا أن ارجاع السلوك إلى أصله يهدى المشتغلين بعلم السلوك الإنسانى إلى طبيعته ووظيفته فى نفس الوقت.
أما السؤال الثانى فيقول:
إذا كان انقسام النوع إلى جنسين قد نشأ تطوريا لمصلحة التهجين، ثم تميزت الصفات لمصلحة بقاء النوع وانتقاء الأقوي، فما هو دور البيئة وتفاعلها مع الوراثة فى هذا المسار، أو بشكل آخر كيف تنتقل الصفات التى نشأت لحاجة مرحلية إلى الأجيال القادمة بطريقة شبه ثابتة؟
وللإجابة على هذا السؤال لابد أن نثير قضية قديمة جديدة – وهى إمكان انتقال الصفات المكتسبة بالوراثة “فبالرغم من أن “لامارك” قد نادى بهذا الرأى طويلا منذ أواخر القرن الثامن عشر، فى حين وقف تشارلس دارون” موقفا محايدا منه (1) فإن أغلب الأدلة الصادرة من علماء الوراثة نفت هذا الاحتمال نفيا قاطعا، الأمر الذى لم يرق لكثير من الفلاسفة والمفكرين من أمثال هربرت سبنسر، وقد استمرت الأدلة الوراثية تدمغ أحلام المصلحين حتى بداية الخمسينات من هذا القرن حيث بدأت دراسة ظاهرة البصم Imprinting فقام لورنز، وتينبرجن Lorenz and Tenbergen فى الخمسينات ببحثها حتى انتهيا إلى أنه “لم يعد من الصحيح أن نتعامل مع السلوك الغريزى (المحدد بالوراثة) وكأنه مختلف عن السلوك المكتسب (غير الوراثي) كما أشارا إلى أن السلوك المكتسب يصبح وراثيا من خلال عملية الانتقاء الطبيعى (وهكذا بدأنا نتعامل مع الذاكرة على مستويات أعمق، وظهر تعبير “ذاكرة النوع” لتفسير انتقال السلوك من جيل إلى جيل: حسب النظرية الجزيئية الكيمائية ).
والآن، كيف يمكن أن نستفيد من هذه الحقائق فى بحث الفروق بين الرجل والمرأة:
نستطيع القول حاليا بطريقة أكثر حسما: أن معظم – أو كل – ما توصف به المرأة حاليا من سلبيات لابد أن يعاد تقييمه، فقد يثبت أنه ليس سلبيا أصلا إلا لأنه يقاس بالنسبة إلى مايسمى إيجابيات الرجل، أما السلبيات فى صورة الجمود والتوقف عن النمو النفسى فقد يثبت أنها ليست إلا نتيجة لخطأ بيئى فى محيطها عبر التاريخ، وقد انزلق الجنس البشرى إلى هذا الخطأ أثناء تطوره نتيجة لدعوى لم تعد صالحة بشكلها البدائى المطلق تقول “إن العدوان لازم للبقاء وأساسى للانتقاء” ونتيجة أيضا لحركة تعويضية قام بها الذكر بعد تاريخ من الإهمال والتفاهة.
ومن خلال هذه المحاذير يمكن إعادة النظر فى تقييم الفروق والتشابه بين الرجل والمرأة بالحديث على ثلاث محاور:
1- هناك تشابه أصيل بين الجنسين فى الصفات البشرية المميزة للنوع الإنسانى ككل، وتشمل المشاركة فى السعى نحو التكامل الانسانى بالإسهام فى الصراع ضد قوى القهر والجمود والتدهور.
2- هناك فروق بين الجنسين “صالحة” وتطورية وهى الفروق اللازمة لاداء كل منهما وظيفته البيولوجية بشكل مختلف عن الآخر حتى يشتركا فى النهاية فى عملية التهجين، ما دام افتراقهما فى البداية كان لصالح تحسين النوع، ويمكن أن نرى هذه الفروق فى مجال علم النفس أصيلة. عميقة حتى نسميها “الفروق النفسية الاساسية”، وطبيعة هذه الفروق وعمقها تظهر من خلال بحثها من منظور علم نفس الأعماق ( التحليل النفسى الأصيل) ومن خلال تتبع الحركة التاريخية البيولوجية.
يقتطف جانترب[6] ما قاله دونالد وينيكوت Donald Winnicot وهو محلل نفسى عميق من خلال خبرته الاكلينيكية مقولة ” إن الفرق الاساسى بين الرجل والمرأة هو أن وجود المرأة فى الاصل كينونى Verb to be فى حين أن وجود الرجل فاعلى Verb to do ويعنى ذلك أن المرأة كائن بالطبيعة، وان فعلها ناتج من هذه الكينونة ولاحق لها، أما الرجل فهو فاعل بالطبيعة، وانما تتحقق كينونته من ممارسة فعله بنجاح يحقق وجوده.
وهنا لابد أن تثار تخوفات من قبل المرأة وهى تحذر هذا الطعم الجديد الذى يلقيه إليها الرجل، وكأنه يعفيها من ضرورة “الفعل”، حتى تكتفى بأن كيانها متحقق بدونه (بالحمل والولادة مثلا) فى حين أنه – الرجل – لابد له من الفعل حتى يتحقق وجوده.
إلا أن هذه التخوفات تذوب إذ نتعمق مسار السلوك التطورى النامى منطلقين من بداية وينيكوت… لنجد أن وجود المرأة إذا تحقق من خلال تقبلها لدورها الكينوني، فإنه يخرج عنه فعل تلقائى بنــاء تكتمل به إنسانيتها، أو بمعنى آخر “إذا كان كيانها كأنثى يتحقق بمجرد التواجد فإن كيانها كإنسان لا يكتمل إلا بالفعل من خلال كمال كينونتها”.
وبالمثل فإن وجود الرجل – الأكثر اهتزازا وقلقا – إنما يبدأ بالفعل ولكنه إذا توقف عند هذا الحد فإنه يتحقق كرجل وليس كإنسان، وإنما تكتمل إنسانيته بالكينونة المستقرة نتيجة للفعل شكل (1) (معدل) وكأننا بذلك لا نجد مجالا للقول بأنه لابد أن تكمل المرأة الرجل أو العكس، إذ حتى لو احتاج كل منهما للآخر مرحليا فالهدف النهائى أن يكمل كل منهما نفسه.
وكأن الاختلاف فى ما أسميناه “الفروق النفسية الأساسية” هو فى “نقطة البداية” فى الوجود، وليس أبدا فى مجمل نوع الوجود.
وكأن إبقاء الرجل والمرأة متميزين لم يعد بهدف التهجين التناسلى فحسب ولكنه يتيح تفاعلا بينهما خلال عمر الفرد ذاته، بدرجة حيوية تسمح أن يرى كل منهما ما ينقصه فى الآخر فيسعى إلى سد نقصه مرحليا بتكوين علاقة به حتى يكتمل وجوده الإنسانى الخاص، وبعدها يصبح تواجد الكلين معا هو تعاون أكثر منه إكمالا للنقص، ويتقدم النوع البشرى من خلال الإتصال البيولوجى الحر الكامل إلى مراتب أرقى على سلم التطور.
3- هناك فروق نفسيه ثانوية، نشأت من تجميد الموقف التطورى عند التمييز بين الجنسين، وهى تظهر فى التفاصيل السلوكية الظاهرة فى دراسة الفروق بين الرجل والمرأة، وهى تدمغ المرأة وتحط من شأنها – عادة -، ذلك أنها تقيس التفرقة بمقاييس وضعها فى أغلب الأمر رجال. فمثل تلك المقاييس تركز (مثلا) على ندرة العباقرة والمبدعات بين النساء ، وعلينا أن نعيد النظر فى نتائج هذه المقاييس من خلال محاذير ثلاثة: الأول: ألا ننسى أنها تصف نقصا مرحليا وليس نقصا مطلقا، والثاني: أنها لا تبحث فى جذور هذا النقص، ولو فعلت، لوجدته مفروضا على المرأة فى الأغلب وليس من صلب تكوينها البيولوجي. أما الثالث: فيتعلق بالتفسير الأعمق لقراءة هذه النتائج، ذلك أن هذه المقاييس التى تميز الرجل بالخلق والإبداع لا تذهب أبعد من ظاهر إنتاجه، إذ قد يكون هذا التميز له دلالة تعويضية وليس مزية فى ذاته، بمعنى أن الرجل يسرف فى إنتاجه الإبداعى لأن وجوده لا يحمل مزية الوجود المبدع بذاته فى ذاته
وعلى أى حال، فحتى هذه الفروق الظاهرة بين الجنسين ليست أساسية أو عميقة، حيث أنه فى خلال الأربعة أجيال الأخيرة قامت “ثورة التصنيع واكتشاف حبوب منع الحمل” بتغيير جذرى فى النزعات السلبية للمرأة، بل وفى تكوينها الجسمى كذلك (قارن ارداف جداتنا وراء المشربيات برشاقة العاملات فى الحقل والمصنع) ونتذكر هنا إعادة تأكيد احتمال انتقال الصفات المكتسبة بالوراثة حتى تتحمل بذلك المرأة (والرجل) مسئؤلية الأجيال القادمة وهم يرتقون بإنسانيتهم فى السعى الجاد إلى التكامل.
والآن إلى السؤال الثالث:
ما هى قضية الرجل، وأين تقع من قضية المرأة تطوريا؟
لا يمكن أن نفهم قضية المرأة وما نتصوره فيها من نقص وما تدعيه الأوهام الحالية من قصور إلا إذا فهمنا قضية الرجل ونقصه وقصوره كذلك، وكذلك إذا فهمنا وظيفة قصور المرأة فى إخفاء قصوره، فالرجل مسئول عن تعويق مسيرة التطور أكثر من المرأة حاليا لأنه هو الذى يملك السلطة بكل أنواعها، وهو فى مبالغته فى تعميق نقص المرأة وتثبيته تارة وفى تجاهله لنقصه الذاتى تارة أخرى يوقف مسيرته مسيرة المرأة معا أى مسيرة الإنسان، وهو يثير فى المرأة تحديا يدفها لدخول صراع تنافسى معه، فتصبح المعركة مستعرضة بدلا من الكفاح الطولى معا نحو الهدف المشترك.
ولن نعدد نقائص الرجل عن التكامل تفصيلا – فهذا البحث منذ البداية ملتزم بتجنب التفاصيل، مكتف بطرح الفروض ذات الجذور التاريخية أساسا – إلا أن علينا أن نراجع الدافع إلى قلق الرجل الذى أظهره بمظهر المتفوق فنرجح أن إيجابيته ومبادأته وحتى قدراته الفائقة فى الخلق والإبداع ليست إلا سعيا حثيثا يعوض به ما يفتقر إليه من استقرار وثقة أساسية – ما دام قد حرم المساهمة المتأنية فى الخلق البيولوجي، وعلى ذللك فإن الرجل عليه أن يتذكر أن كل هذا النشاط “الفاعل” القلق، لا يكمل وجوده الإنسانى إلا إذا حقق به الصفات الانثوية الكامنة فيه، أما التوقف عند الفخر “بفعل” “رجولى” لم يحقق كيانا “أنثويا” ومن ثم إنسانيا فهو جمود فى حركة التطور وقصور عن التكامل كما ذكرنا.
وعند هذه الانحناءة نتوقف لندقق النظر فى مفهوم “الثنائية” الجنسية Bisexuality ونتذكر جذورها فى التراث الشعبى حين يتكلم العامة عن قرين لكل شخص تحت الأرض من الجنس الآخر “اسم الله عليك وقعت على أختك أحسن منك – (لاحظ “أحسن منك) وبالعكس وكأن القرين أحسن من ذات الشخص/ الظاهرة (ربما لأنه يكملها ويرتقى بها إذا ما التحم الاثنان) ثم يجيء كارل جوستاف يونج ليعلن هذه الثنائية الجنسية ويؤكدها فى مجال علم النفس التحليلى (وليس التحليل النفسي) ولكنه فى تطبيقها المرحلى يكاد يدعو لتثبيتها رغم فكره التكاملى الخلاق ، فقد أوضح فيما اقتطفه ستور [7] أن الرجل حين يسقط أنوثته على محبوبته والمرأة حين تسقط ذكورتها على حبيبها إنما ينشئان علاقة سليمة” ، ونقول إن هذا الرأى قد يكون صحيحا مرحليا لأنه يعلن عجزا مؤقتا عن التكامل، ولكنه إذا استمر وكأنه الحل النهائى فإنه يلغى أى حاجة إلى التكامل الذاتي، لأن اقتراب الرجل والمرأة من بعضهما البعض بهذا الإسقاط ما هو إلا حب الفرد لنصفه الآخر، وليس لرفيق طريق التكامل، وعادة ما يفشل هذا الإسقاط بمرور الزمن، لأن قوة التطور قد تقبل التسكين ولكنها لا تستسلم للجمود ، فإذا بدأت المرأة سعيها إلى تحقيق إيجابيتها الخاصة (تحررها)، ومن ثم إطلاق ذكورتها لحسابها غير مكتفية بإسقاطها على حبيبها، أصيب الرجل برعب حقيقى له ما يبرره إذ أن تحرر المرأة لذاتها يفوت على الرجل فرصة استعمالها “مسقطا ” لأنوثته، وبالتالى فهو دائم التمسك بإلغائها ككيان مستقل قابل للتحرر والتكامل فى ذاته، حتى يعفى نفسه من مسئولية التحرر لذاته.
ومن هنا يمكن القول إن مشكلة الرجل هى فى نقصه الإنساني، وهى تتضخم أضعافا مضاعفة بتجاهله هذا النقص وإنكاره، ثم فى محاولة حله بإسقاطه على أنثى يمتلكها فيعوقها… فتعوقه (أو تبرر إعاقته) وبألفاظ أخرى نقول: إن الرجل لن يكتمل إذ يطلق سراح المرأة من سجن مخاوفه إلا حين يسمح للأنثى فى داخله أن تتحسس طريقها إلى التعبير، أى حين يدرك أن كل محاولات فعله “الرجولي” إنما هى محاولات أن يصل فى النهاية إلى التكامل بتحقيق القدرة على معايشه ما هو استقرار “أنثوى” كينوني، والا فإن وجوده ناقص لا محالة.
والمرأة تعتبر مسئولة جزئيا عن هذه الوقفة والإعاقة، ولكننا لا نملك أن نلومها على ذلك حاليا لأنها لا تمتلك السلطة، نحن فقط نحذرها من التمادى فى المطالبة بالمساواة، أو استمراء لعبة الإعاقة المتبادلة بخوض معركة المساواة الجانبية بديلا عن معركة التطور الاساسية.
على أن الوقت قد حان لنوضح بجلاء أن كل هذه الدعاوى والتحذيرات ليست مجرد وجهة نظر عقلانية تحت تأثير وعى إرادي، فالتطور لا يتم بالنصيحة أو حسن النية، ولكن تحرر المرأة فى هذا العصر قد فرض على الرجل فى نفس الوقت أن يحرر نفسه من الفخر بنقصه (الذى يسميه تفوقا)، ذلك أن هذا لا يعنى إلا أنه يتوقف عند رجولته دون إنسانيته المتكاملة، فحركة المرأة التحريرية، رغم أنها بنيت على الفرضية التقليدية الداعية إلى المساواة خطأ قد جعلت الرجل، بشكل ما يواجه مشكلة وجوده بذاته لذاته ، وهى قد أدخلته امتحان التطور رغم انفه.
ومهما كانت صعوبات هذه المرحلة الانتقالية التى يمر بها كل من الرجل والمرأة فى نفس الوقت فإن ضرورة المسيرة التطورية هى المبرر الصحى لاحتمال آلام الانفصال الحالية.
وأخيرا ننتقل إلى السؤال الرابع:
ما هى صور المشكلة كما تلح علينا فى الممارسة اليومية؟
إذا كان التاريخ البيولوجى صادقا فيما يوحى به، فلابد أن نجد آثارة، ومضاعفات قوانينه معا، فى واقع حياتنا اليومية، وقد ظهرت هذه المضاعفات بصورة ملحة وصارخة فى عيادات الطب النفسى بخاصة، ولكنها موجودة بصورة أشمل (وربما أخفى وربما أخف) فى المجتمع الأوسع، ولست بصدد تعدادها، ولكن لابد من الإشارة إلى بعض مظاهرها، واحتمالات حلها بعرض بعض الأمثلة:
1- الارتباط الثنائى (الزواج): لاشك أن علاقة الرجل بالمرأة: طبيعتها ونتائجها، هى من أهم ما يميز نوع وجودهما وتفاعلاتهما، وأهم علاقة تمكننا من دراسة تواجدهما معا هى الارتباط الثنائى الذى تعرفه فى أغلب المجتمعات باسم “الزواج”.
ونظرة إلى التاريخ البيولوجى ثم أنواع الارتباط الثنائى بين الكائنات المختلفة نعرف من خلالها الأشكال المحتملة لهذه المعايشة، وقد صنفها دورلاند[8] بيولوجيا فى تعريف مختصر إلى خمسة اقسام (جدول 1) يحاول تقديمها هنا بدون التزام بترجمة حرفية – مع مقابلاتها المفترضة من أشكال الزواج:
1– الارتباط التكافلى Mutualism
وهنا يكون الارتباط مفيدا للكائنين معا فيأخذ كل منهما احتياجه من الاخر دون أن يضر بالآخر أو يعوق نموه ذاته.
وفى الزواج نجد أن هذا النوع من اللارتباط هو انجح أنواع الزواج إذ نبدأ المشاركة بتأكيد رجولة الرجل، وأنوثة المرأة، حتى إذا أطمأن كل منهما على كمال “فعله” واصالة “كينونته” (على التوالى) انفتح الطريق إلى اكتمال انسانية كل منهما حسب ما ذكرنا فى تسلسل مسار التطور لكل، ولكن الزواج قد يبدأ تكافليا – من حيث المبدأ، أو القرار المعقلن- ثم ينقلب إلى صورة من صور الارتباط التالية مما سيرد ذكره حالا- (وسوف نجعل المرأة غالبا فى الوضع الأضعف حسب طبيعة المرحلة التاريخية الحالية، إلا أنه يمكن أن تنقلب الآية ولو بطريقة غير شعورية فى أى نوع من الأنواع التالية).
ب الارتباط الارتزاقي: :Commensalism
وهو ارتباط يكون فيه أحد الكائنين عالة على وجود الآخر، إلا أن الآخر لا يصاب بأدنى ضرر إذ يستمر فى طريقه دون اعتبار لما يأخذه منه شريكه، لأنه فى الواقع لا يأخذ شيئا ينقصه. ونجد هذه الصورة فيما يمكن أن نسميه الزواج من جانب واحد بمعنى أن يمضى الرجل (عادة) فى حياته، إذ ينمى قدرته على الفعل لتحقيق وتأكيد رجولته (دون الوصول إلى كمال إنسانيته ) فى حين تتمتع المرأة بالاعتماد الكامل على هذا الكيان النامي. دون إلحاق ضرر به أو محاولة الانفصال عنه.
ونجد هذا النوع فى أغلب انواع الزواج بالمرأة غير العاملة – ست البيت – وتكون صورته أوضح ما تكون فى زواج الرجال الناجحين (أو حتى العباقرة) من نساء ليس لهن إلا أنوثتهن، إذ يعشن حياتهن فى دعة وأنوثة دون تطور إنساني، ودون تشوه فى نفس الوقت ودون إعاقة للشريك أصلا.
وهذا النوع ناجح تماما لو أن الشريكين ظلا هكذاطول الوقت، وهو أمر غير وارد بعد المثيرات المعاصرة والحفز التطورى الواعى والإرادي، ومن ثم فإن المتوقع عند محاولة تطور من أى من الجانبين دون الآخر، أن يختل التوازن مما يقلب الارتباط إلى نوع آخر، أكثر سلبية فتعتمد المرأة اعتمادا ضارا بمسيرة الرجل (الارتباط الطفيلي) أو بمسيرتها هى دون أن يتأثر الرجل (الارتباط السلبي) أو بمسيرتهما معا (الارتباط التحطيمي) [أنظر بعد].
جـ- الارتباط الطفيلى Parasitism:
وهنا يكون ارتباط الكائنين ارتباطا يفيد أحدهما على حساب الآخر بحيث تكون حياة الطفيلى (المستفيد) ضارة بالعائل (المتضرر) ونجد هذه الصورة حين يعوق الزواج قدرات الرجل الفعالة أو الخلاقة، ويعطل احتمالات تطوره نتيجة لارتباطه بشريكته العالة على وجوده وكيانه، فى حين يحقق للمرأة وجودها كأنثى (وليس كإنسان) من خلال هذا الارتباط، وقد ينتهى هذا الزواج عادة بحرمان الرجل ليس فقط من السعى لاستكمال انسانيته. بل من رجولته ذاتها (بما يشمل ذلك المشاكل الجنسية).
د- الارتباط السلبى Amensalism:
وهنا يلحق الضرر أحد الكائنين من خلال هذه العلاقة دون أن يتأثر الآخر، وفى الزواج نجد أن أحد الطرفين (المرأة عادة) يصاب بالأذى حتى الموت – موت الأنوثة أو موت الإنسان فيها – وعادة ما يتطور هذا النوع إلى ما يضر الآخر الذى تصور فى البداية أنه لا يتأثر فينقلب إلى النوع التالى (التحطيمي) بمرور الزمن.
هـ- الارتباط التحطيمى :Synnecrosis
وهنا يكون ارتباط الكائنين ببعضهما البعض ضارا بكليهما، ومعيقا لتطورهما معا، بما يعادل الموت (التدهور).
ونجد هذه الصورة فى الزواج الفاشل إذا ما أعاق قدرة الرجل عن الفعل، وفى نفس الوقت حرم المرأة من استقرارها الأنثوى فلم تتحقق رجولة الرجل ولا أنوثة المرأة “فعلا أو كينونة” – على التوالى – نتيجة لهذا الارتباط، ولعل تعبيرات الحب الشائعة (أموت فيك، وتموت فية) تشير إلى مصير هذه العلاقة بشكل ما.
هذا، ولا يمكن – بداهة – وضع حد فاصل بين كل نوع وآخر فى تطبيقاته الإنسانية، كما لا يمكن دمغ أى نوع بالاستمرار إلى ما لا نهاية، والانتقال من نوع إلى آخر كما بينا يتم عبر السنين فقد يبدأ الزواج تكافليا وينتهى طفيليا.. أو سلبيا، أو حتى تحطيميا وقد يحدثه العكس، وإن كان ذلك أكثر ندرة.
وظهور الأعراض النفسية، أو وضوح الجمود والملل، فى أى نوع من أنواع الزواج يعتبر البشير أو النذير للانتتقال إلى نوع أرقى أو أدنى من الارتباط حسب الظروف المحيطة ومجال إطلاق طاقة التطور.
وينبغى إعادة التأكيد فى هذا الصدد على أن المقصود هنا بالفائدة أو الضرر ليس أوهام البيت السعيد (أو الغيبوبة الآمنة)، وانما المقصود بالفائدة هو الانطلاق إلي” التكامل الإنساني”، وبالضرر تعويق هذه الانطلاقة أو عكس اتجاهها.
على أن أحادية النظر إلى العلاقة الزوجية سلبيا أو إيجابيا قد أدى إلى نقد العلاقة الزوجية أو تقديسها دون أساس علمى أو إطار تطوري، فقد ذهب دافيد كوبر Cooper سنة إلى أن الزواج معطل على طول الخط، وأن العائلة قد ماتت، فى حين يؤكد المحافظون والمتدينون التقليديون أنه لا توجد إلا هذه المؤسسة الزواجية كنموذج أوحد للعلاقة الثنائية ، والرأى الأول قد ركز على الصور السلبية من الارتباطات (السلبى والطفيلى والتحطيمى ) فى حين أن الرأى الثانى قد ركز على صورة ساكنة هادئة لكنها ليست نمائية أو تطورية (الارتباط الارتزاقي) ، لكن النظرة إلى الزواج من خلال منظار حتمية التطور الذى يتمثل حاليا فى حركة تحرير المرأة والرجل معا، خليقة بأن تسهم ايجابيا فى إطلاق قدرات كل من الرجل والمرأة لتصبح العلاقة تكافلية فى المقام الأول، حتى لو بدأ غير ذلك.
2- الحياة الجنسية:
إذا كنت قد ركزت على الزواج فى الفقرة السابقة كعلاقة شاملة: عاطفيا واجتماعيا وجنسيا، فإنى أركز فى هذه الفقرة على مقياس حساس وخطير فى العلاقة بين الرجل والمرأة،
ولا مفر من الاعتراف ابتداء أن الدافع الجنسى قد نشأ كضرورة بيولوجية لاستمرار النوع، ولكنه يقوم الآن بوظائف تطورية أخرى يبدو من أهمها تأكيد واختبار العلاقة الثنائية، إذ أن الالتحام الجسدى مع آخر، هو صورة عميقة لموقف الرجل من المرأة وبالعكس، فإذا كان ثمة إلغاء للآخر فإن الوضع سوف يشبه الاستمناء الذاتى للشريك مع نصف “ذاته” الـمسـقط على الآخر (كما سبق أن أشرنا فى نقد مقولة يونج) – وقد نقبل هذا الوضع لفترة معينة تهييء لنفلة تطورية تالية، ولكن ما أن تظهر فى الحياة الجنسية أعراض الضعف أو البرود الجنسى حتى تـعلن الحاجة إلى إعادة النظر فى العلاقة برمتها.
فالعلاقة بين الرجل والمرأة تبدأ – فى ظل الأوهام الحالية – بتأكيد الفروق بينهما، وهذا مقبول كمرحلة بادئة، ولكنها تتطور بتطور مواقف كل منهما حتى ليتشابها حتى فى المشاعر الجنسية، فإذا عجزت عن هذا التطور فإنها تتوقف أو تتصدع.
وقد أثبتت الدراسات القريبة – منذ ثورة ماسترز وجونسون – أن الفروق التى كانت شائعة عن اختلاف المشاعر الجنسية – وخاصة فيما يتعلق بذروة اللذة – بين الرجل والمرأة ما هى إلا اختلافات مرحلية، سرعان ما تتضاءل بنضجهما معا، فبالنسبة لذروة اللذة عند المرأة وجد أنه يوجد ثلاث أنواع يبدو أنها تتلاحق مع نضج المرأة وهي: الذروة الطفيفة والذروة الوسطى ثم القصوى وهذه الأخيرة تشبه إلى حد كبير ذروة الرجل فى عنفها وما يليها من تفريغ كامل، كما أن بعض الرجال الذين مروا بخبرات علاجية من النوع الإطلاقى مثل علاج “الصرخة البدائية” Primal Screem قد وصفوا تغيرا فى طبيعة الذروة حيث انتقل الشعور من التركيز فى نهاية العضو التناسلى حتى شمل الجسم كله باستيعاب مسترخ، الأمر الذى يشبه بشكل ما “ذروة المرأة”.
وعلى ذلك يمكن القول أنه إذا ما أتاحت العلاقة الثنائية الشاملة للحياة الجنسية الفرصة للشريكين ، فإن كلا منهما سوف يقترب وجوده الجنسى من نوعية وجود الآخر دون تنازل عن ما يميزه، ويرتبط هذا الاقتراب بتحرر كل منهما ونضجه، أى باقترابه من الهدف المشترك وهو التكامل الإنسانى الذى يشمل التكامل الجنسى والإبداعى على حد سواء.
ويمكن من خلال هذا المنظور التطورى أن نواجه المشاكل الجنسية اللاحقة التى تظهر بعد فتور الجذب المبدئى لا بوصفها مشاكل جنسية صرف، ولكن بوصفها إنذارات بانتهاء المرحلة السابقة إعلانا للحاجة إلى طفرة جديدة، ويصبح حلــها الحقيقى فى إكمال طريق التطور، كما يصبح الجنس تعبيرا عن نبض الحياة الازلي، لا مجرد وسيلة للتناسل إذ يمثل “الاندماج دون فناء ثم الانفصال دون اختفاء”.
وهكذا نناقض مقولة فرويد بقولنا “إن المشكلة الجنسية – بما فيها من كبت جزء من مشاعرنا الصادقة – هى نتيجة العجز عن الارتقاء والتطور” “وهذا عكس لمقولة فرويد التى تزعم أن الارتقاء” (أو الحضارة) هو نتيجة لاعلاء جنس مكبوت” – ويصبح الحديث عن كبت تطورى أكثر أصالة وأعمق إنسانية من الحديث عن كبت جنسى دون الغض من أهمية الأخير.
3- الأطفال:
حين تبدأ الحياة الزوجية فى التصدع بعد فشل الارتباط الثنائى بأى صورة من صوره السلبية أو الإيجابية، تظهر الأعراض مبشرة بأمل أرقى أو منذرة بفشل أعم، وهنا يصبح الاختيار للرجل والمرأة معا مطروحا بين: مزيد من التطور “نحو التكامل الذاتي” بديلا عن “التكامل بالاندماج”، وبين البحث عن مهديء جديد يخمد ثورة التطور، ولما كان هذا الوقت – حين تظهر أعراض التصدع – متفقا مع دخول الأولاد كطرف ثالث فى القضية، فانهم يمثلون مهدئا مغربا أسلس قيادا وأقل وعيا (مرحليا) ويكرر الارتباط الثنائى وجوده ليؤدى وظيفته الحيوية مرة ثانية فى الحفاظ على الأطفال وتنشئتهم، وإعطاء معنى لحياة الأم والأب على السواء.
ولكن مهما امتد الأجل بهذه المرحلة التسكينية الجيدة فإنها معرضة للانتهاء: إما بيقظة جديدة عند الرجل أو المرأة ( أو عند كليهما معا) لإكمال طريق الارتقاء “بالنمو الذاتي” دون الحاجة إلى نصف آخر (أو عدة كسور عشرية: أى الأطفال) وإما بأنتقال الارتباط الثنائى بالاطفال إلى ارتباطات بديلة تتناسب مع تقدمهم فى السن وحاجاتهم الجديدة، وهكذا نضطر للعودة إلى نقطة البداية حين يفرض التطور نفسه على الرجل والمرأة على حد سواء بظهور أعراض جديدة، وان كانت فى سن متأخرة مما يجعل الفرص لاستكمال النمو أقل سرعة وإن كان لا يقلل من حتميتها إذا كان للمسيرة أن تستمر.
ومن خلال هذه الرؤية يمكن القول بأن تحرر المرأة – ومن ثم الرجل – بالتطور والانتقال ميكرا من مرحلة “التكامل بالاندماج” إلى “التكامل بالنمو الذاتي” لازم ومنذ البداية، وذلك حتى يتجنبا معا، ويجنبا – مستقبلا،-أولادهما مخاطر مضاعفات التدهور أو الجمود التى تظهر فى صورة المرض النفسي.
بذلك تصبح الدعوة إلى تحرر المرأة دعوة ضمنية إلى تحرر الرجل وتحرر الجيل الجديد، وهى دعوة وقائية من المرض النفسى بمعناه الانهزامى فى نفس الوقت.
ولابد من التأكيد ثانية أن الإنسان بتكوينه الناقص الحالى يحتاج باستمرار إلى الارتباط الثنائى بشرط أن يكون مرنا قادرا على النقلات المرحلية مع مسيرة التطور التى تهييء إلى التحرر الذاتى فى النهاية، متذكرين أن التحرر الذاتى لا يعنى التخلص من الحاجة إلى الآخر وإنما يعنى تغير نوع العلاقات التسكينية التكميلية إلا علاقة تكافلية متنامية.
وهكذا تأخذ قضية تحرر المرأة قيمتها الحقيقية فى تطور الإنسان والمجتمع وتخطيط المستقبل.
4 – العمل:
إذا كان التقارب بين الجنسين يتم – أو يتوقع أن يتم – من خلال المسيرة التطورية نحو التكامل فى مجالات شديدة التعقيد. ، مثل الفروق البيولوجية الملزمة مرحليا للارتباط الثنائي، ومثل الحياة الجنسية بكل مضاعفاتها ومخاطرها وفرصها وروعتها، فإن مجال العمل – صانع الإنسان – هو أرحب المجالات للتقارب الاجتماعى والتنمية المهاراتية فى آن، والعمل المناسب فى تفاعله مع الوجود الإنسانى واحترامه للفروق الفردية مبدئيا قادر على تذليل الصعوبات الحالية النابعة من أوهام التناقض أو التمايز الارادى بين الجنسين.
وحين نتكلم عن العمل بهذا المعنى الإيجابى فإننا نستبعد بداهة النشاط القهرى المفضى للاغتراب فهو عمل سلبى يعوق مسيرة التطور لا يحفزها عند الجنسين طبعا.
وهنا ينبغى الانتباه إلى أن المرأة فى سعيها المتخبط للمساوة بالرجل فى مجالات العمل ليست مدركة بصورة كافية أن علاقة الرجل بعمله فى العصر الحاضر- فى أغلب صورها- هى علاقة تدهورية معطلة نتيجة للاغتراب عن عائده اقتصاديا واجتماعيا وعاطفيا – وبذلك أصبح العمل عبئا على وجود الرجل وليس مجالا لنموه، وإصرار المرأة على المناداة بالمساواة بالرجل فى هذا المجال قد لا ينتج عنه إلا تكرار للاغتراب، ومن ثم التدهور الإنسانى بكل صوره الحالية – مضاعفا.
فعلى المرأة اذن – وهى لم تتشوه بعد بنفس القدر الذى تشوه به الرجل – أن تؤلف علاقة جديدة بالعمل، مستقلة عن التشبه بالرجل، لعلها تسبقة على الطريق الإنسانى من خلال تفجير وعيها وإثراء وجودها، وبذا تضرب له مثلا أكمل وتتيح له طريقا اسرع للنمو.
ولابد من تذكرة هنا بوظيفة العمل عند الرجل والمرأة التى سبق أن شرحناها تفصيلا:
فالعمل الصحى والصحيح عند المرأة هو نتاج اكتمال كينونها الانثوية وبالتالى فالمنتظر منه أن يكون ذا اتصال مباشر بالحياة والواقع، وأن يكون هادئا مثابرا مستقرا وفعالا فعلا مباشرا.
أما العمل عند الرجل فهو نقطة البداية وتعويض لافتقاره إلى القدرة على الخلق البيولوجي، ومن ثم كان أميل إلى الخلق القلق، والتطلع للمستقبل فى صور الفن والفكر.
ولعل فى هذا التفسير شرحا لندرة المبدعين بين النساء، حيث الإلحاح على عملية الخلق كناتج منفصل عن الكيان الإنسانى الذاتى يبدو أقل حدة، ربما لأن القدرة على الحياة أعمق وأثرى
ولابد أن نتذكر هنا أن الرجل – فى غمرة الزهو والغرور الرجالى (الذى تجسد – مثلا – فى مزاعم نيتشة وحقد شوبنهور على المرأة – وكلاهما محب مهجور، قد أضاف على الفكر الخلاق والإبداع الفنى بصورهما الرجولية الحالية قيمة أكبر من قدرهما، وعلى ذلك فإنه من المناسب أن ننظر فى مشروعية التراجع عن مثل هذه المزاعم لندرك أن التفكير الخلاق -مثلا- ما هو إلا وسيلة للحياة وليس هدفا فى ذاته، وأنه يعلن النقص فى الحياة ويرسم البديل، ولكنه لا يحقق هذا البديل بالضرورة كما لا ينبغى أن ننتقص- ونحن نعلى من شأن الفن (مثلا) – من القيمة البيولوجية لمن يمارس عمله اليومى العادى بتكامل وثراء يؤكد به قيمة الوجود ويسهم مباشرة – دون تأجيل – فى مسيرة الحياة المتطورة.
ولعل هذا هو ما تقوم به المرأة فعلا إذا أتقنت دورها وقبلت اختلافها وانطلقت منه، وهكذا تنكسر حدة غرور الرجل وهو يزهو بالخلق الفنى والإنجاز الإبداعي- حين يتذكر مقولة أفلاطون- رغم مبالغته- فى جمهوريته بأن الفنان لا يحقق الكمال فى الواقع ولكنه لا يفعل إلا أن يقوم بتقليد التقليد: فى مثال السرير، أما المرأة فلعلها تنفض عن كيانها الشعور وبالنقص من جراء ندرة العباقرة بين جنسها، وأن تؤكد وجودها النوعى حتى يخرج منها فنها الجديد الخاص بها الذى قد يكون أقل بريقا، ولكنه يمكن أن يكون – حسب التفكير البيولوجى – أكثر استقرارا ونفاذا وبناء، إذ أنه افراز للحياة وليس بديلا عنها، وعلينا أن نتذكر أن بعض المبدعات كن فى ثورة رجولية أكثر منهن على طريق التكامل الإنساني، وقد ظهرت مظاهر هذه الرجولة فى تاريخ حياة بعضهن وانتاجهن مثل جورج صاند وجورج اليوت (لاحظ الاسماء).
الخلاصة والخاتمة
أستطيع أن اوجز ما أردت تقديمه من فروض – مستمدة من التاريخ وقابلة للتحقيق فى الحاضر والمستقبل – فيما يلى:
1 – تختلف المرأة عن الرجل تاريخا وحاضرا اختلافا ذا فائدة مرحلية ولا مجال ولا معنى للمفاضلة بينهما بمنظور طفلى تنافسى معطل.
2- تتفق المرأة مع الرجل فى كل من الأصل وهو “بداية الحياة” والهدف الإنسانى الأبعد وهو “التكامل” الإنساني.
3- كلما سعى الرجل والمرأة – وليس أى منهما على حدة – إلى الاقتراب من هدف التكامل ضاقت الهوة بينهما لأنهما يقتربان من المثال الإنسانى الأسمي.
4- إن تحرر المرأة لا يتم – إذن – بمحاولة المساواة بالرجل (وهو فى نقصه المرحلى يتخبط) ولكنه يتم بالتكامل الذاتى بعد تخطى مرحلة التكامل بالاندماج أو التكامل بالاعتماد.
5- إن كمال الرجل هو أن يقبل الانثى فى داخله ليصنع جماعا مؤلفا من ذكورته الظاهرة وأنوثته الكامنة فتتحقق تكامله الإنسانى
وكمال المرأة هو بالمثل أن تقبل الرجل فى داخلها فتطلق قدرات فعلها الإيجابى بعد تحقيق أنثوتها.. فتصنع جماعا جديدا إنسانيا متكاملا..
واختلاف الرجل عن المرأة حاليا ليس إلا اختلافا فى نقطة البداية ولكنه ليس اختلافا فى الشكل النهائى للتواجد الإنسانى المتكامل.
6- إن كل هذه الفروض لا تتحقق بمجرد الوعى بها، ولا بالمحاولة الشعورية لتحقيقها، فالتطور لا يتم بالمحاولة أو بالاختيار العقلى إذ أن الطبيعة قد عودتنا أن تختار هى الأصلح، والتاريخ البيولوجى الذى قدمه دارون فى فرضه النشوئى قد علمنا أن الضرورة والتهديد بالانقراض هما الدافع التلقائى للتطور، ولكن الإنسان هو الكائن الوحيد فيما نعرف الذى قد يعى هذه الضرورة وهذا التهديد وعليه أن يستغل وعيه هذا فى التعجيل بمسيرة التطور وليس بمجرد اجترار وعيه، ومن ثم تعطيل سعيه حتى ينقرض نوعه وإنما يكون الوعى بهذه الضرورة نافعا إذا كان دافعا لتوفير المناخ الصحى للارتباط الثنائى المرحلى دون فناء أو التهام وللعمل دون اغتراب، وللأمان دون استرخاء، وهنا يصبح التطور نتاجا جانبيا للوجود الفردى الصحيح فى المجتمع الإنسانى الصحيح.
أسئلة المستقبل:
واخيرا فإن علينا أن نواجه بعض الأسئلة التى يفرضها تحقيق هذه الفروض مهما بدت قاسية أو مرعبة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1- ما مصير الحياة الجنسية مستقبلا ؟ وهل يعيد الإنسان بعض تاريخه البيولوجى على مستوى أرقى؟
2- ما مصير “التكاثر” حين يطول عمر الإنسان من خلال تحقيقه لتكامله، وخاصة بعد أن بدأت الحياة الجنسية تؤدى وظيفة تكاملية ليست بالضرورة تناسلية؟
3- ما مصير الفروق الجسمية بين الجنسين حين يصبح التجاذب للتكامل أو للجنس هو تجاذب من نوع آخر يتفق مع المرحلة الجديدة.
ومهما كانت هذه التساؤلات مرعبة أو قاسية أو مزعجة، فإن مسيرة التطور طويلة طويلة، ولا خيار فيها إلا إذا كان التدهور أو الانقراض مطروحا للاختيار(!) وعلينا أن نتأكد من واقع تاريخ الحياة أن الظروف الجديدة سوف تحقق آمالا جديدة وتوفر متعا جديدة حين تذوب قضية المرأة والرجل فى قضية تطور الإنسان.
تحديث لاحق: سبتمبر 1995
تم تصحيح بعض الأخطاء الشكليلة التى ظهرت فى النشر الأول
كما تمت إعادة الصياغة فى بعض فقرات البحث بما يؤدى المعنى المراد. وكذلك تحديث الرسوم التوضيحية
ثم وجدت أنه من المناسب إضافة بعض الملاحظات الإكلينيكية والفروض الفرعية التى طرأت لى خلال العشرين سنة الماضية من خلال الممارسة الإكلينيكية والمتابعات النظرية معا مكتفيا برؤوس المواضيع التى تحتاج لتفصيل وتوثيق لاحقين متى أتيحت الفرصة، وذلك فيما يلى:
1- إن البداية الصحيحة لا بد وأن تؤكد الثنائية الجنسية من حيث المبدأ بقدر ما تؤكد الأحادية الجنسية السلوكية فى مراحل متعاقبة حتى يتحقق التكامل الإنسانى .
2- إن الثنائية الجنسية لا تعنى الإقرار بما يسمى الجنس الثالث، أو بالمساواة المستحيلة بين الرجل والمرأة ، وإنما هى تعلن أن الإنسان رجلا كان أم امرأة يحمل فى أعماقه الجنس الآخر كامنا، ثم متكاملا مع ظاهره ( وليس بديلا ولا منافسا فى الأحوال الصحية)
3- إن تحديد السلوك من مدخل نوع الجنس أو مايسمى تحديد الهوية الجنسية gender identity يرتبط أساسا بترجيح سلوكى مبالغ فيه عادة لسلوك جنسى بذاته، يصل إلى درجة الاستقطاب المعطل للتطور.
4- إن فتح الباب على مصراعيه بتدخل عوامل بيئية وثقافية فى مسألة يمكن أن تسمى ” حرية اختيار الهوية الجنسية” لا يشوه الطبيعة البشرية فحسب، بل إنه يعطل الحركة الجدلية الطولية المتبادلة بين قطبى الوجود.
5- إن قبول الرجل للأنثى الكامنة فيه لا يعنى شذوذا بل إنه يعنى إنطلاقا نحو إبداعات تكاملية تتجاوز الاستقطاب الجنسى بشكل أو بآخر، والعكس صحيح بالنسبة للمرأة، إذ تصبح المرأة أكثر إنسانية وتكاملا وناتجا إبداعيا بقبول الرجل الكامن فيها
6 – إن مفهوم المرأة هو مفهوم متغير، يتوقف مضمونه على الاستعمال الخاص فى مرحلة تاريخية بذاتها ، فى ثقافة نوعية بذاتها
ويمكن أن نعدد بعض هذه المفاهيم على الوجه التالى أ- فثمة مفهوم للمرأة باعتبارها الطفل المعتمد ويظهر هذا فى ارتباط هذا المفهوم بالذات الطفلية عند إريك بيرن فى كثير من الحالات التى تحلل تركيبيا من خلال مدرسة التحليل التفاعلاتى transactional analysis ( إريك بيرن 1969).
ب- ثم مفهوم بمعنى التنحى وغلبة الوظائف الارتباطية التشكيلية ، ويرتبط ذلك باحتمال ارتباط ما هو ذات أنثوية بالنصف غير الطاغى من المخ ، حيث ثمة حالات تصف هذا الانشطار الجنسى الازدواجى بما يشير إلى انفصام وظيفى فى الجسم المندمل يصاحبه ازدواج جنسى يظهر فى صورة أعراض ذهانية عادة.
جـ – ومفهوم اجتماعى مهين يستعمل فى بعض المجتمعات المتخلفة عادة بمعنى الضعف والتبعية والطفيلية وعدم الالتزام.
د- ثم مفهوم دينى محدود يرتبط كثيرا بالمفهوم الاجتماعى والمادى ، وتترتب عليه أحكام فوقية دون النظر إلى السياق التاريخى والتطور اللاحق
7- إن الأعراض المتعلقة بالهوية الجنسية ( وأحيانا أقل بالشذوذ الجنسي) ترتبط بشكل أو بآخر بغلبة أحد المفاهيم السابقة، ولا يصح التعميم بأى حال من الأحوال ، ينبغى دراسة دلالة كل عرض على حدة.
8- إنه فى الذهان عامة، وفى الفصام خاصة يظهر القطب الكامن من الوجود الجنسى لأى من الجنسين بما يؤكد ثنائية الجنس من ناحية، ويحفز على التكامل الإنسانى كحل جذرى لكل من الذهان والاستقطاب الجنسى الساكن من ناحية أخري.
8- إن أى هوية جنسية هى فى نهاية النهاية مرحلة على طريق التطور الإنسانى ، وبالتالى فإن محاولة إلغائها أو التحرر منها، أوادعاء حرية اختيارها بشكل مطلق هى أمور ضد المسيرة التطورية حتما، ومع أنها مرحلة إلا أنها ينبغى أن تأخذ حقها حتى تكتمل بالكامن وراءها، لا بالتعجل فى إنكارها، ولا فى الزعم بفرض يحرمها من تعميق دورها للانطلاق منه إلى ما بعدها.
9- إن غاية النمو الإنسانى ( والذى يتحقق أحيانا من خلال العلاج الجذرى للذهان خاصة ) هو تجاوز كل من الاستقطاب الجنسي، والثنائية الجنسية على حد سواء، وهذا لا يعنى المساواة بالمعنى السطحى المستعرض، كما أنه لا يعنى الوصول إلى ما يسمى الجنس الثالث، وإنما هو نوع من الوجود يتمتع فيه الإنسان بكل ما هو ذكرى بمعنى الحركة والاقتحام والمبادأة والفعل الإبداعى والجنس المركز بقدر ما يتمتع فيه بكل ما هو أنثوى بمعنى الكينونة والتلقى الإيجابى والإبداع الشامل والجنس الكلى، وسواء كانت البداية من ظاهر أنثوى أو ظاهر ذكرى فإن هذا التحقق لا يأخذ أى من الصور الرجولية الشائعة أو الصور النسائية المتعددة ناهيك عن الصور التسوياتية (الحلوسطية) سواء بالشذوذ أو الإنكار أوالمرض النفسى أو اضطرابات الهوية الجنسية.
وبعد فإن كل هذه التحديثات إنما هى نابعة من الممارسة الإكلينيكية أساسا مما يحتاج حتما إلى توثيق وأمثلة وشروح لاحقة.
[1] – ادودسن ادوارد: التطور عملياته ونتائجه – عالم الكتب 1969 ترجمة د. أمين رشيد أحمد، د. رمسيس لطفي.
[2] – Maslw Abrabam: ‘A theory of metamotivation the viological rooting of the value life، in Reading Humanistic Psychology. Ed. by: A Sutieh and M. Vich. The free Press Macmilan Co; N. Y.، .1969
[3] – فسيولوجية العدوان – مجلة العلم والمجتمع – مطبوعات اليونسكو العدد ديسمبر سنة 1973 ترجمة د. يحيى الرخاوي.
[4] – الرخاوى يحيي: العدوان والإبداع “تحت النشر“ (نشرت بعد ذلك فى الإنسان والتطور عدد 1980 المجلد الأول العدد الثانى 49-81).
[5] – Hinde Robert A، Animal Behaviour، International Student Mc Graw Hill Kogakusha Ltd Ed .1970
[6] – Guntrip H.: Sehizoid Phenomenon. Object Relations and the Self، The Hogarth press London. .1968
[7] – Sterr Anthony: Human Aggression، Atheneum Published Bantam Edition. N. Y.، .1970
[8] – Dorland’s Medical Dictionary (24th Edition) W.B’ Saunders Co. Philadelphia and London .1967