مجلة فصول
المجلد التاسع – العددان الأول والثانى
أكتوبر 1990
دورات الحياة وضلال الخلود
ملحمة الموت والتخلق “فى الحَرافيش”[1]
ظل نجيب محفوظ يحاول، ويحاور، ويطرقها من كل جانب، وبكل سبيل، حتى بلغت أوج البدايات فى “الطريق” ، وتعددت المحاولات فى أكثر من موقع فى الرواية الواحدة، وفى أكثر من قصة قصيرة، اختلفت ظهورا (مثلما فى: حارة العشاق، أوحكاية بلا بداية ولا نهاية)، والتفافا (مثل: ثرثرة فوق النيل، أو اللص والكلاب، أو الشحاذ) حول المسألة نفسها، بل يكاد لا يخلو عمل له إلا وأنت تلمحها-أعنى المسألة نفسها -بشكل أو بآخر.
وحين تقدم إلى إعادة صياغة مسيرة الحياة من خلال استرجاع الرسالات السماوية بلغة معاصرة نسبيا، راح فغامر فقالها رمزا صريحا فى أولاد حارتنا، لكنه وقع، وما كان له إلا أن يفعل، فى خندق الالتزام التاريخى، والتحفظ الدينى، فخرج العمل فى صورة إعادة صياغة أكثر منه خلقا طليقا، وحين انتزع منهم جائزة نوبل، وقالوا إنها للثلاثية وأولاد الجبلاوى، كدت أسمعه يقول فى بعض تصريحاته، بل هى للمحاولة الدؤوب والحرافيش، فقد استطاع أخيرا أن يقولها كأفضل ما يكون القول فى الملحمة، بل أظننى قرأت له، بعد الجائزة، دون أن أتذكر المصدرالمحدد تصريحا فهمت منه أنه يقر ان الحرافيش هى التطوير التجاوزى لأولاد حارتنا .
ورغم ما قيل فى الحرافيش وعنها، فإننى أحسب أنها لم تأخذ حقها، ولا أحسبنى قادرا على الوفاء بذلك. وإذا كنت سوف أركز على موقف بذاته فى هذه الدراسة البداية، فإننى لا أملك إلا أن أشير فى الوقت نفسه للخطوط العامة لما أنوى تناوله حالا، أو فيما بعد.
(1)
1/1
أما أنها ملحمة، فهى ملحمة ” …. هى قصيدة قصصية طويلة (1)، جيدة السبك…تتسم وقائع قصتها بالشرف والجلال، ويعالج فيها الموضوع على نحو يتناسب مع أعمال البطولة ..إلخ”
فما الموضوع، وكيف هى القصيدة ؟
أما الموضوع فهو الحياة، الحياة بماهى حركة دوارة، لا تبدأ بالولادة - كما- دأبنا على تعريفها – بقدر ما تتخلق بيقين الموت، ويقين الموت ليس وعيا خاصا به، بقدر ما هو الحقيقة الموضوعية الأساسية فى الوجود البشرى، فوق قمة الوجود الحيوي. وما بين طرفى “الموت: المصير”، و ” التخلق: إعادة الولادة”، تتجدد الحركة، وتبعث الحياة من أبيات القصيدة / الملحمة طولاوعرضا، دورة وإعادة، جدلا وتوليفا، دون انقطاع.
1/2
الدافع/ البدء: هو الموت.
والقانون/ الحتم: هو الحركة.
والمسرح/ المجال: هو الزمن.
والفصول/ التتالى: هى دورات الحياة المفتوحة النهاية، برغم استعادة كثير من الخطوات نفسها.
والعلاقات/ التجاوز: هى التراكمات المتفاعلة معا، حتى التغير الكيفى.
كذلك: الكمون/ التمثيل حتى التفجر/ البدء مرة أخرى،
بما يشمل حتما: المواجهة/ النقيضية فالولاف، والنبض الدوائرى المتناغم: بدءا من داخل الذات وانطلاقا إلى مسارات الكون، مارا بجموع الناس، ملتحما بهم، إذ هم أساسا البداية، المصير.
(2) الموت
1/2:
أما أن الموت هو الأصل، وهو اليقين، وهو الدفع، فقد شغل هذا الأمر محفوظا بشكل ملح، وراسخ، وجاثم، حتى اضطر إلى إظهاره بصورة رمزية مباشرة، كادت أن تتسطح منه -مثلا- فى مسرحيته القصيرة: “المطاردة”، وإلى درجة أقل: “المهمة” (وعادة فى أغلب مسرحياته القصيرة على وجه التحديد، أكثر من قصصه القصيرة)
وهو يقرن الموت بالزمن، أوبتعبير أدق، بمرور الزمن (فالزمن عنده شئ آخر)، حتى ليمكن فى العمل الواحد أن يفسر الرمز على أنه الموت، أو على أنه الزمن، دون اختلاف كبير (لاحظ ذلك فى مسرحية “المطاردة” على وجه التحديد).
فلننظر كيف تناول الموت فى الملحمة، إذ نعده البداية، واليقين، والتحدى، والدفع جميعا:
الموت عند محفوظ -وفى هذه الملحمة خاصة- ليس عدما
(ص64): “الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه”.
والموت (لا الولادة الجسدية) هو البداية، والحياة هى إرادة التخلق من يقين الموت والوعى به، فمنذ السطر الأول يعلن محفوظ أن ملحمته تدور “…فى الممر العابر بين الموت والحياة “، وليس بين الولادة والموت، الموت هو الأصل، والحياة احتمال قائم. هذه الحقيقة هى سدنة الملحمة ولبانتها.
فالموت بمعنى العدم -كما يشيع عنه- لا وجود له . (ص403)
حين راح شيخ الزاوية (خليل الدهشان) يصبر جلال ( الأول) بعد موت خطيبتة قمر دون مبرر(!!)
- كلنا أموات أولاد أموات
فقال بيقين: لا أحد يموت.
لكنه يقول لأبيه فى الصفحة التالية مباشرة
- يوجد شئ حقيقى واحد يا أبى، هو الموت.
وفى الصفحة نفسها:
”كلهم يقدسون الموت ويعبدونه، فيشجعونه حتى صار حقيقة خالدة” .
وفى الصفحة التالية: “نحن خالدون، ولا نموت إلا بالخيانة والضعف“.
(وسوف نعود لكل ذلك بعد حين)
ومنذ البداية، واجهتنا الملحمة بالموت يسير على أرجل، حين أعلن عن نفسه بمواكب النعوش:
(ص 51): ” ميت جديد، ما أكثر أموات هذا الأسبوع”
(ص52):” وأحيانا تتابع النعوش كالطابور، ولا يفرق هذا الموت الكاسح بين غنى وفقير”
وفى مواجهة هذا الموت منذ البداية:
(ص54): ” جرب عاشور (الأول) الخوف لأول مرة فى حياته، نهض مرتعدا، مضى نحو القبو وهو يقول لنفسه إنه الموت.
تساءل فى أسى وهو يقترب من مسكنه: لماذا تخاف الموت يا عاشور”
وكأن الملحمة ظلت بعد ذلك حتى نهاية النهاية، تحاول أن تجيب عن هذا السؤال . فهل أفلحت؟
هذا ما سوف نحاوله فى هذه الدراسة.
2/2:
ثم اقترنت رؤية الموت رأى العين -يقينا- بالهرب منه- منذ البداية- بالحلم، فعاشور حين قرر شد الرحال هربا من الشوطة (الطوفان)، كان ذلك بناء على حلم رآه، فهم منه أن الشيخ عفرة زيدان ينصحه أن يشد الرحال، فكان قوله الموجز المكثف لحميدو شيخ الحارة:
- لقد رأيت الموت والحلم (ص58).
كان ذا دلالة خاصة، فقد استعمل فعل رأيت، وكأنه يعنى البصر والبصيرة معا، و حينئذ جاء رد شيخ الحارة:
- هذا هو الجنون بعينه، الموت لا يرى
ثم ننتبه إلى عطف الموت على الحلم دون زيادة، فنشعر أن ثمة دليلا آخر على خصوصية هذا الترادف فى التعبير، وكأن الحلم (فالضلال فيما بعد) هو البعد المكمل للموت، وفى الوقت نفسه هو نقيضه، والقطب المقابل له.
كل ذلك برغم البدايات المنطقية:
(ص56)
- بل رأيت الموت أمس، ورائحته شممت.
- وهل الموت يعانـد يا عاشور؟
- الموت حق والمقاومة حق
- ولكنك تهرب.
- من الهرب ما هو مقاومة.
لكن الملحمة بعد ذلك راحت تتناول صنوف الهرب وصنوف المواجهة بأدق ما يكون التناول.
وبداية يأتى اختفاء عاشور الناجى (الأول) دون موت، وكأنه تأجيل للحكم، ويظل عاشور طوال الملحمة هو الحاضر الغائب مثل الجبلاوى فى أولاد حارتنا، وآخرين، ولكن هذا الاختفاء هنا له وظيفة أخرى غير السعى إلى الأصل، والحنين إلى المطلق، فهو من جهة أخرى يترك الباب مفتوحا للتواصل بين نزلاء التكية الحاضرين الغائبين، الذين لا يعرف أحد هل يموتون أم لا، وإن ماتوا فأين يدفنون موتاهم (مثلا).
ومن جهة أخرى يعد هذا الاختفاء تكريما بتجنب الموت الفناء (ص130): ألم يكرم عاشور بالاختفاء؟، و يعد فى الوقت نفسه وعدا باحتمال العودة.
بعد ذلك، وطوال فصول الملحمة، تحدث المواجهة بالوعى بالموت، وحتمه قبل حدوثه.
2/3:
وها هو ذا شمس الدين الناجى: (ص127) ” لأول مرة يتساءل عما فات، وعما هو آت، ويتذكر الأموات”.
وفورا يرتبط ذلك بالشعور بتوالى ثوانى الزمن كما أسلفنا:
فى الصفحة نفسها:” إن هدم زفة مسلحة أيسر ألف مرة من صد ثانية بما لا يقال، وأن البيت يجدد والخرابة تعمر لا الإنسان، وأن الطرب طلاء قصير الأجل فوق موال الفراق”
(نتذكر هنا اكتئاب الشحاذ بشكل ما)
ولكن هل هو يخشى الموت نفسه، أم أنه يخشى الضعف والشيخوخة:
يواجه شمس الدين هذا السـؤال، وهـو يعى تماما مغزى الدعـــاء: “أن يسبق الأجل خورالرجال”، يواجه أكثر فأكثر بعد موت حميه، المعلم دهشان، ثم عنتر الخشاب صاحب الوكالة ” فهذا (الأخير) رجل يماثله فى السن، يقف معه فى صف واحد”، يواجه السؤال فيجيب عنه بأن (ص130): ” ولكن الموت لا يهمه، لا يزعجه بقدر ما تزعجه الشيخوخة والضعف، إنه يأبى أن ينتصر على الفتوات وينهزم أمام الأسى المجهول بلا دفاع”.
فهل صحيح هذا؟ وهل صحيح ان الضعف لا الموت هو قضية الملحمة؟ . أجيب بدورى حالا: بل هو “الموت يقينا”.
وفى بدايات المحاولة للتصدى للنهاية يهم شمس الدين بالمغامرة التى خاضها أبوه من قبل، والتى أدت إلى زواجه من فلة، أمه، فيذهب إلى الخمارة لكنه لا يتمادى، لا يستطيع أن يتمادى، (ص136) ” أفاق من جنونه فتلاشت نواياه المستهترة، استسخف سلوكه، كلا لن يتحدى الهواء، لن يتمادى فى ارتكاب الحماقات.
لكنه لم يتنازل تماما، فقد استعد للتلقى دون المبادرة، فهو ينتظر:
”ستسنح فرصة فينتهزها”، ثم:” ستعرض تجربة فيخوضها”
ولم تسنح الفرصة، ولم تعرض التجربة إلا فى ظروف أخرى ألحت وفرضت نفسها على حفيده البعيد: جلال، فيما بعد.
ومع التسليم للقدر الزاحف تمنى شمس الدين حسم الموقف “أليس من الأفضل أن نموت مرة واحدة “؟ (ص 137)
وبـموت عجمية زوجته يرى الموت (رأى العين) كما رآه أبوه من قبل، فيهرب منه إلى الخلاء، ثم استبدل به الاختفاء تكريما أسطوريا ليظل منتظرا مهديا طوال الملحمة، رأى شمس الدين الموت فى عجمية:
(ص138): رآها وهى تغيب فى المجهول، وتتلاشى
ولكن هل الموت هو مجهول بهذه الصورة، أم أنه مازال اليقين الذى مابعده يقين؟، فيكرر فى ( الصفحة نفسها): ” إنه لا يخشى الموت ولكن يخشى الضعف”
ويكرر: (ص139): “ماذا تعرفون عن لعنة العمر؟”
ثم: “ما أبغض قفا الحياة” .
ويأتى موت شمس الدين الناجى صورة مجسدة لنجاح ما، فقد مات وهو فى أوج انتصاره، وكأنه نجح فى أن يؤجل الضعف أو يخفيه حتى استقدم الموت المفاجئ تكريم لا يرتفع إلى تكريم أبيه بالاختفاء، لكنه أفضل من الضعف والشفقة على أى حال.
لكن ثمة مشاعر لم نرها فى أبيه عاشور الكبير، صاحبت خبرة النهاية عند شمس الدين، وهى مشاعر الوحدة المتعالية، لكنها ليست متعالية فحسب، بل “متعالية وموحشة ” ومنها تسحبت النهاية:
(ص141): ووردت كلمة تقول، إن كل شئ هباء حتى الفوز…إلخ،
وتعلن الوحدة فى اللحظة نفسها التى يعلن فيه الفوز الأخير، وبعده:
(ص141): ولكنه وحيد، وحيد يتألم….إنه يقترب من الحارة وفى الحقيقة هو يبتعد.
وصور الموت بذلك المجهول الذى يصارعه فى وحدته، إنه يصده عن السير يرفع أديم الأرض حيال قدميه، يسرق فوزه العظيم ببسمة ساخرة، يكورقبضته (المجهول) ويسدد إليه ضربة فى الصدر لم يعرف لعنفها مثيلا من قبل.
إذن فالموت هو المجهول، لكنه هو اليقين المعين فى قبضة حقيقية تضرب لـيتهاوى شمس الدين فتتلقفه أيدى الرجال .
مات..
وكأن هذه الصورة نفسها قد وصلت إلى حفيده جلال فيما بعد، فى ظروف أقسى كما ذكرنا، فطورها بجنون أعتى -كما- سيأتى .
سمى شمس الدين ” قاهرالشيخوخة والمرض” (ص143) وكأن وحدة النهاية، ويأس النزول لم يصلا إلى الناس بأى شكل يهز الصورة، فمضى مكرما مثل أبيه. وكأن محفوظآ يستدرجنا بإصرار فيقدم إلينا التصعيد المتزايد لمواجهة القضية
أولا: يمضى بعاشورالكبير دون موت، بعد أن يلف ويدور حول المسألة، بحجمها ويقينها
وثانيا: هو يظهرالمسألة فى وعى ابنه شمس الدين، دون أن يعلنها للآخرين، حتى فى شدة الوحدة، وعمق اليأس.
…ثم ماذا؟
دعنا نرى .
2/4:
(ص178): موت سليمان، (ابن شمس الدين وعجمية) أظهر لنا وجها آخر للموت، وهو الانقطاع .
حين أدرك سليمان، من الواقع ومن رد بكر ابنه الذى كان يعلمه مسبقا، أدرك أنه لا يوجد من بين ذريته من يكمله، من يحمل رسالته، حتى لو كانت رسالة الشر والطغيان، قالها مباشرة:
- إنى أودع الدنيا مثل سجين..أستودعك الحى الذى لا يموت.
فما البديل لذلك؟ وكيف يمكن أن يودع الناس الدنيا وهم طلقاء أحرار؟
إن النظر فى عكس مقولة سليمان هو الذى يمكن أن يوضحها بشكل ما.
وحين تحرك فى عزيز (إبن قرة وعزيزة البنان) الوعى الآخر، الوعى: الحياة، الجنس، الطبيعة، الفطرة (هل بوسعه أن يحول بين المطر وبين أن ينهمر؟) قفز السؤال حول الموت (مع الأسئلة الأخرى) سؤال هو أقرب إلى الجواب حيث تقدمته صيغة: هل عرف أخيرا: لم تشرق الشمس، لم تتألق النجوم فى الليل، عما تفصح أناشيد التكية؟ لم نحزن للموت ؟ فيحضر التساؤل حول الموت هنا مع البصيرة المتفجرة بمضمون آخر، أكثر منطقا، وموضوعية وحيوية.
ولعل السؤال اللاحق فى الصفحة التالية (ص326): لم لا نفعل مانشاء ؟ يزيد الأمور وضوحا
2/5:
مرة أخرى نلقى الموت فى ثلاث شخصيات فى صفحة واحدة (ص370)، بل فى بضعة سطور متتالية:
يموت رمانة فى سجنه، وتنتحر رئيفة هانم حزنا عليه مشعلة النار فى نفسها، ويقتل العريس الفتوة نوح الغراب برصاصة مـــن مجهول (فؤاد عبد التواب)
وإذا كنا قد أجلنا الحديث عن القتل والانتحار فى هذه الدراسة المبدئية، فإن الحرص على التنويه بتلاحق الإيقاع اضطرنا فى هذا الموقع إلى الجمع بين الموت والقتل والانتحار .
2/6:
ومن المنطلق نفسه أسمح لنفسى بفتح صفحة الموت الأهم والأكثر دلالة، التى منها ينطلق جنون/ ضلال الخلود بقتل زهيرة أمام طفليها (ص380) وخاصة أن الطفل – بعامة- يكاد يصعب عليه أن يفرق بين الموت والقتل، من حيث أن الاختفاء، وفقد الدعم هما الأصل، سواء انقض الخاطف من المجهول، أو مثل أمام ناظريه رأى العين.
يتأكد هذا من تساؤل جلال طفلا بعد فقد أمه (وهوالأكبر سنا)، فقد قام من نومه مفزوعا ذات ليلة (ص385) ليسأل أباه وهو يجهش بالبكاء:
- متى ترجع أمى؟
فلنا أن نعد هذه البداية الفاجعة هى أول صفحة فى القضية المحورية فى دراستنا الحالية.
وعلى الرغم من بدايتها المأساوية بقرع طبول الموت قتلا منقضا، إلا أن نغمتها انسابت، وخفتت وهى تتسحب إلى كيان عزيز (زوج زهيرة الثالث) لتسرقه استجابة لنبذه ” جسد الحياة” (ص381)، فهو الذى نبذ جسد الحياة، قبل أن تنبذ الحياة جسده، وكأن محفوظا يزاوج هنا بين الموت الزاحف، والانتحار التسليم، ثم يسرع الفالج بالإيقاع، فيقضى عزيز نحبه فى أسابيع.
وإذا كان تفجر الحياة/الفطرة قد أثار التساؤلات السالفة الذكر، ومن بينها: لم نحزن للموت، ومن قبل ذلك ثار تساؤل عاشور الأول: لماذا تخاف الموت يا عاشور ؟، فإن صراع الحظ مع القدر فى مصرع زهيرة، فموت عــزيز قد أثار تساؤلات مقابلة، مناقضة، ومكملة: ص 382: تساءلت (الحارة): لم يضحك الإنسان ؟ لم يرقص بالفو ز؟ لم يطمئن سادرا فوق العرش؟ لم ينسى دوره الحقيقى فى اللعبة ؟ ولم ينسى نهايته المحتومة؟
وملحمة الحرافيش برمتها تطرح هذا التساؤل: لم ننسى الموت ؟
ولكن ماذا نفعل لو لم ننسه ؟
هذا ما تصاعدت منه وبه الملحمة حتى وجدنا أنفسنا من ناحية: وجها لوجه أمام يقين الموت، ومن ناحية أخرى وجها لوجه أمام الزمن الزاحف، وهما صنوان يكادان-موضوعيا-أن يترادفا.
ثم ماتت قمر (خطيبة جلال) خطفت خطفا فى ريعان صباها دون مبرر أو مقدمات أو تفسير.
ماتت ووالده (عبده الفران) يغنى بطريقته الهمجية الساخرة فى ساحة التكية، (فى الحلم، ولا فرق).
ماتت فاستيقظ بموتها خطف أمه مضرجة بدمائها،
وبموتها، وهذه الاستعادة، تفجرت القوة/ الخرافة/ المستحيل فى كيانه:
(ص401) شعر جلال بأن كائنا خرافيا يحل فى جسده، إنه يملك حواس جديدة، ويرى عالما غريبا. عقله يفكر بقوانين غير مألوفة، وهاهى ذى الحقيقة تكشف له عن وجهها
واختلط الوجود بالعدم:
طوى الغطاء عن الوجه، إنه ذكرى لا حقيقة. موجود وغير موجود، ساكن بعيد منفصل عنه ببعد لا يمكن أن يقطع. غريب كل الغرابة، ينكر ببرود أى معرفة له. متعال متعلق بالغيب . غائص فى المجهول، مستحيل غامض مندفع فى السفر. خائن، ساخر، قاس، معذب، محير، مخيف، لانهائى، وحيد.
وغغمم بذهول وتحد:
-كلا-
وكان هذا هو أحــد الأجوبة المطــــروحــة-وأهمها-إجابة عن تساؤل الملحمة المحوري:
وإذا كان التساؤل/ المقدمة هو لماذا نخاف الموت، ثم يليه التساؤل التالى: لم نحزن للموت ؟ فإن التساؤل المحورى هو: لم ننسى الموت؟ ومن هذه الأسئلة الثلاث نستطيع أن نصوغ التساؤل الجماع بمواجهة السؤال: فما العمل ؟
إذا كان الخوف من النهاية ماثلا، وكان الهرب مستحيلا، أو فى أحسن الأحوال مؤقتا، وكان الحزن أقوى من الحياة، والنسيان أبعد عن التناول…
فما العمل؟
هنا قفزت إجابة جلال صريحة أنه: كلا.
فهو الرفض، والإنكار:
مازلنا (ص401)
يد غطت الوجه فأغلقت باب الأبدية
آه: لم يقل “فتحت باب الأبدية”، فالموت عادة، فى العرف الدينى، طريق إلى الأبدية (الحياة الآخرة)، بغض النظرعن أين سنمضى هذه الأبدية: فى جنة أم فى جهنم، فالخلد فى أيهما سواء، لكن التعبير هنا يشير إلى أن الموت هو الذى أغلق باب الأبدية، لا أنه فتحها.
فهل يعنى ذلك أن الأبدية ممكنة على هذه الأرض دون سواها ؟
لم يتأوه، لم يذرف دمعة واحدة. لم يقل شيئا، تحرك لسانه مرة أخرى مغمغما:
-كلا.
وتكاثفت صور الموت بما ينبغي:
رأى رأس أمه مهشما، وكأنها ما ماتت إلا هذه اللحظة (ألم يسأل أباه منذ زمن غير بعيد: متى تعود؟)
وحين نبهه الآخرون أن وحد الله ؟ فزع لوجودهم حتى أنكره، وكأنه وهو يلغى الموت، قد ألغى الناس والحياة جميعا بضربة واحدة.
وهو إذ يتساءل: من قال إذن أن الحياة خالية، خالية من الحركة واللون والصوت، خالية من الحقيقة، خالية من الحزن والأسى والندم .لا يتساءل متراجعا، ولكنه يشير إلى قراراته الصاعقة ضمنا، فالجواب المتضمن فى هذه الأسئلة هو: أنه هو الذى قال ذلك دون سواه، قال وقرر، كل ذلك، فى هذه اللحظة الصاعقة المولدة معا، قرر، فتقرر، ولا راد لقراره، وبقراره هذا تحرر فعلا من كل شئ: من الموت ثم من الناس، ثم من المشاعر: (ص402): إنه فى الواقع متحرر . لا حب ولا حزن. ذهب العذاب إلى الأبد . حل السلام، ولكن كيف؟: بالانسحاب والتبلد؟ أبدا. بل بالمحال والتوحش المتحدى:
(ص402): وثمة صداقة متوحشة مطروحة لمن يروم أن تكون النجوم خلانه، والسحب أقرانه، والهواء نديمه، والليل رفيقه.
وللمرة الثالثة يغمغم:
-كلا.
ويعلن إنكاره للموت (وللناس والأحياء) حين يرد على شيخ الزاوية:
- لا أحد يموت.
هام جلال بالمستحيل (ص404)
وحين كانت تعاوده ذكريات الحب كان يحتمى منها بالكراهية،
(ص405): أكره قمر، هذه هى الحقيقة. هى الألم والجنون، هى الوهم.
لكن مشاعر الكراهية نفسها هى مشاعر والسلام، وهى أفضل من اللامبالاة، لكنه يتمادى من الكراهية إلى التشويه:
كيف هى الآن فى قبرها؟ قربة منتفخة تفوح منها روائح عفنة، وتسبح فى سوائل سامة ترقص فيها الديدان.
ثم من التشويه إلى الاحتقار:
لا تحزن على مخلوق سرعان ما انهزم …لم يحترم الحياة، فتح صدره للموت
ثم ينسلخ إلى المستحيل:
إننا نعيش ونموت بإرادتنا
نحن خالدون، ولانموت إلا بالخيانة والضعف.
وحين ألغى / أنكر الموت، فمحا الحياة، والناس، وراح يستعمل الجميع محتقرا: فبعد أن اعتلى عرش الفتوة، وجاء أبوه يذكره بالعدل الذى يتساءل عنه الناس، فيرد عليه ” بازدراء”:
-إنهم يموتون كل يوم وهم مع ذلك راضون.
2/7:
ويجئ موت زينات (الشقراء) أم جلال الثانى، كالزلزال، ليقول لنا إن الموت أكبر من كل رتابة، وأقوى من كل هروب.
وعلى العكس من موت قمر (خطيبة جلال الأب) جاء موت زينات (أم جلال الإبن)
ماتت قمر وهى بعد الفتاة البكر، صغيرة السن، الخطيبة الطيبة العاشقة البطلة، ماتت بمرض عابر وهى فى ريعان صباها تستعد لزواج سعيد بعد أن انتصر الحب على صلافة أمها ومقاومتها.
أما زينات الشقرا، فهى بائعة الهوى، ثم هى عشيقة جلال الأب، وقد بلغت بها الجسارة أن تسمى ابنها منه، وهو ابن سفاح، أن تسميه باسم أبيه مباشرة، و هى تموت وهى فى الثمانين بعد أن تابت وأنابت، -وتحدت- ونجحت- أن ينشأ جلال ابن الحرام معروفا بالطيبة والأمانة وحسن الخلق والورع، ولا تموت إلا عن ثمانين عاما، وكان جلال قد بلغ الخمسين من عمره.
وكما قال جلال الأول للموت كلا، ثم راح يدرب نفسه على كره قمر فى تربتها، وتشويه صورتها فى شكل قربة منفوخة متعفنة يرعى فيها الدود، راح جلال الثانى-فجأة- يشوه صورة أمه، أمه التى “..هو نفسه كان يقول أنه طالما أحبها حبا جما، لكنه لم يكن يتصور أن يفعل به موتها ما فعل ” (رؤى فى الجنازة وهو يبكى وينتحب)، أما الأعجب من ذلك فهو ما حصل له عقب انقشاع الكآبة.
لقد قالها أيضا: كلا، ولكن بطريقة عملية مغايره، لم يقلها للموت، وإنما قالها الموت له، فأعادها، أن كلا للرتابة والاستقامة والفتور، كلا للمحافظة والدعة والسلامة، كلا لما فرضته أمه عليه، عكس ماهى، وما كانته من فجور وجنس وعشق وقتل، وكأنها أنشأته نقيضا لها، وتكفيراعنها، فحرمته حقه فى تجربته، ولم يولد إذن هذا الجديد “مجهول الأصل “(ص450)، إلا بقدر حسابات الظاهر، بل فعلا لقد قذفه قبو مملوء بالعفاريت، وهو الداخل المروض المكبوت، زينات الأولى بداخل داخله، فانقلب أول ما انقلب عليها:
تبدى له حبه لأمه عاطفة غريبة مضللة كأنها السحر الأسود، تبخرت فى الهواء مخلفة حجرا باردا شديد القسوة(نفس قسوة أبيه فى مواجهة موت قمر)، أصبح يثور لذكراها ويلعنها، لم يبق فى قلبه أثر لحزن أو بر أو وفاء، وثمة صوت يهمس له فى ذهوله بأنها ينبوع العداوة والمقت فى حياته، وأنه ضحيتها إلى الأبد(قبل الموت وهو الفاضل الأمين، وبعد الموت وهو النقيض الفار الضائع: وجهان لعملة واحدة).
وبديهى أن كل ذلك (مثل موقف أبيه) هو نتاج مواجهة الموت، فقهر الحزن حتى إخفائه، وهو فى الوقت نفسه هو دليل العجز عن التخلص منه (الحزن)، ثم إنه الاحتجاج القاسى على الميت الذى تخلى بموته عن الحى العاشق المعتمد عليه -بموته-، ثار جلال الأول على قمر، واتهــم -بعد موتها- بالضعف والتخاذل أمام الموت، وكأنها اختارت الموت بمحض إرادتها دونه، أما جلال الإبن، فقد ثار على أمه بأثر رجعى، فهى لم تخنه بموتها (وقد بلغت الثمانين)، وإنما خانته بما صاغته فيه، حين صنعته نقيض ما هى، وما هو .
وتأتى ثورته صريحة مباشرة ضد كل ما فرض عليه، تأتى بعد مشاهدته، فيقينه بهذه الحقيقة الموضوعية الأولى: عارية مجردة، يقول لدلال الغانية، العشيقة الجديدة ( زينات الحقيقية):
كرهت حاضرى وذكرياتى، حتى التجارة والربح، ومشاكل البنات المتزوجات، وكرهت ابنى شمس الدين الذى يعمل سواقا عندى، وكأنه حمار يسوق حمارا، وكرهت أمه التى يمضى محصنا ببركاتها، ورأيتها تستنزفنى بغير وجه حق، كما استنزفتنى أمى من قبل..(إلخ ….أنظر بعد)
فيقين الموت هنا، واقعا ماثلا، قد فاجأ جلال الثانى برغم بلوغ أمه الثمانين وهو فى الخمسين، ومحفوظ بذلك يذكرنا أن جلالا الابن لم يضع موت أمه فى الحسبان، أنكره فى غيبوبة الاعتماد والكبت، ثم حين فوجئ به، رغم كل التوقعات، كاد تحوله يقول إنه لم يولد من قبل، وكأن ظهور الموت هنا بهذه الصورة المــفــاجئة، بلا مفاجــــأة، وبشكل مباشر-هو الوعى بحقيقة الحياة، ومن ثم محاولة اللحاق بها، ولكن، كيف ؟
(3) ضد الموت؟
هذا هو الموت كما تصاعد حتى تجسد، وسحق، وأرهب، فأنكره جلال ابتداء، بدلا من أن يخاف منه، أو يحزن له، أو ينجح فى أن ينساه، أو يتصور أنه يفعل.
فما هو مقابل الموت؟ وكيف عالجت الملحمة هذه القضية ؟، وكيف المسار؟
يبدو أن الحياة، مجرد الحياة، ليست هى المرادف الحقيقى لما هو: ضد الموت.
فمن الموت تتفجر الحياة.، وكأن الموت هو هو صانع الحياة.
الموت، كما تقدم، هو حركة، بعكس الشائع عنه، إنه عدم وسكون
فإذا كانت حقيقة الموت هى الباعث للحياة، وهى المبرر والدافع لاستمرار الحركة، وهى المسئولة عن إعادة التخلق وتفجر الوعى ، فما السكون؟ وما الضد لما هو موت؟
فى الواقع أن نجيب محفوظ ألمح إلى عدة احتمالات أغرت بأن تكون هى الضد المحتمل، منها على سبيل المثال:
التكية، و الخلاء، وأحيانا الظلام، والظلمة، وأقل من ذلك الفراغ.
وفيما عدا التكية بسكونها وأناشيدها المعادة، لا نجد سكونا يقدر أن يكون ضد الموت بكل زخم دفعه كما صورته الملحمة، حتى التكية، فإنه يكسر سكونـها غموضها، ذلك الغموض الذى يسمح للخيال أن ينسج حولها، وفى داخلها ما يكاد يحييها .
وكل هذه المقولات والمواضيع هى موضوع دراسة لاحقة، ومكملة، لكننى فى هذه المرحلة سأكتفى بأن أشير إلى أن الخلود، كما قدمته الملحمة، هو السكون الجاثم، وهو الموت الحقيقى كما يشيع بين الناس.
وكأن الأولى بمن يرى ويتيقن-أى بنا إذا فعلنا-أن يخاف الخلود (عكس الموت) لا أن يخاف الموت . وكأن مأساة الإنسان الحقيقية ليست هى الموت بما هو شائع بمعنى العدم، فى مقابل حياة بما هو شائع بمعنى الاستمرار على وجه الأرض لا فى بطنها، وإنما القضية الأولى بالاهتمام والنظر، هى السكون فى مواجهة الحركة.
كذلك فإن الفضية -من ثم- ليست هى أن نولد بيولوجيا، ثم نقضى هذه الحقبة من الزمن المحدود التى ستنتهى بيقين، وإنما هى أن يكون فى يقيننا بالنهاية ما يجعلنا نولد مرة أخرى، بمجرد أن نعى موتنا.
بهذا تكاد تصبح الحسبة أنه لا معنى لولادة تنتهى بموت، إن آجلا أو عاجلا، فالموت بالصورة الشائعة يلغيها حتما، لكن الولادة تبدأ حين نعى الموت، فنتخلق بالحركة، لنتصاعد بالإبداع، والاستمرار فيمن يلى، وليس بأنفسنا.
فهل يا ترى قالت الملحمة ذلك حقيقة ؟
وكيف كان ذلك ؟
(4) الحركة / الزمن / التفجير
4/1:
لا دائم إلا الحركة. هى الألم والسرور. عندما تخضر من جديد الورقة، عندما تنبت الزهرة، عندما تنضج الثمرة، تمحى من الذاكرة سفعة البرد وجلجلة الشتاء.(ص247)
بهذه المباشرة، وفى قمة وسط الملحمة، أقرها نجيب محفوظ، وحددهـا، وقدمها، لكن كل ذلك لا يجعلنا نقر أنه بسطها أو سطحها.
لكن الحركة تبدو ذات أبعاد ودلالات متغيرة يستحسن الوقوف عندها حتى لا تختلط الأمور:
فثمة حركة راتبة متعاقبة، مثل مرور الأيام وتتالى الليالى.
وثمة حركة دائرية مستعادة، فيها من التغير والتفتح بقدرما فيها من التكرار والانتظام، مثل تغير الفصول، ودورات السنة. لكنها فى أغلب الأمر عود على بدء.
وثمة حركة متفجرة مغامرة، تعلن إعادة الولادة، والقفز فى المجهول الرائع إلى الجديد الواعد، متضمنة المخاطرة بالقديم، بغض النظر عن النتيجة إن بناء، أو هدما. لكنها تحمل فى الحالين من مقومات الحياة المتجددة ما يجعلها المقابل الحقيقى للسكون.
ثم ثمة حركة ممتدة عبر الأجيال، تقاس وحدتها الزمنية ليس فقط بطولها، وإنما بما تحويه من معانى التغييرالكيفي. وهى يمكن أن تحمل إيجابيات الحركات السالفة الذكر، ولكن على مدى أطول، وشمول أعم.
وسنتناول كلا منها بما تسمح به هذه المقدمة.
أما الحركة الراتبة المتعاقبة، فهى الزمن بمعناه التتابعى الـملاحق. (وليس الزمن بحضوره المكانى القابل للتخلق: ” الممرالعابر بين الموت والحياة”).
بل إن هذه الحركة الراتبة هى أقرب إلى السكون، ولم يعتن نجيب محفوظ بإظهارها لذاتها، بل كانت تطل من ثنايا الإيقاع، أو تستنج بالسلب من أحاديث الرتابة، ومسار العجلات الصامتة.
فالتكية كانت بمثابة جدار الزمن الثابت، ففضلا عن أنها تمثل رمز خلود غامض، كانت تمثل تحدى الهمود المرفوض فى الآن نفسه.
وتشبيه عاشور بالتكية ” نما نموا هائلا مثل بوابة التكية “، ثم اختفاؤه الواعد بالرجوع، له دلالة مبدئية لمانقول، فإن كانت التكية هى جدار هذا الزمن الراتب، فعاشور الناجى الأول هو طواره إن صح التشبيه.بل إن صراع شمس الدين مع زحف الزمن قرب النهاية، فى صورة معركته الإرادية مع ابنه وصف كالتالى (ص132):
شعر شمس الدين أنه يغالب السورالعتيق، وأن أحجاره المترعة برحيق التاريخ تصكه مثل ضربات الزمن.
فتكثف سور التكية العتيق، مع صلابة ابنه سليمان- برغم أنه ابنه-وتقدمه زاحفا بفعل تتالى الأيام، مع ما هو زمن يمضى دون توقف، يجسد الماضى فى المستقبل فى جدار الزمن (التكية) المتحدى، وقد راح شمس الدين يصارعه.
وهذا الزمن الراتب، عاجز فى ذاته، ولكنه باعث فى الوقت نفسه إذا بلغت حدة الوعى بحقيقته، ومآله (الموت) ما يكفى لإعادة التخلق، الولادة. ولننظر فى عجز التكية- رمز الزمن الراتب والخلود السلبي-
(ص19): إنهم يتوارون، لا يردون … فتر حماسه، انطفأ إلهامه.
ثم انظر إلى تعرية سلبيتهم:
(ص5): ألم تعلموا يا سادة بما حل بنا؟ أليس عندكم دواء لنا؟ ألم يترام إلى آذانكم نواح الثكالي؟
ثم (ص66): سكتت الأناشيد، وتلفعت بطيلسان اللامبالاة
وثمة إيقاع لاهث، لكنه راتب أيضا: مثلا:
وأنجب مع الأيام حسب الله، ورزق الله، وهبة الله،وفى أثناء ذلك يتوفى المعلم زين وزوجه، وتزوجت البنات.
فنلاحظ أن الأشخاص الهامشيين كانو يظهرون فى رتابة ليختفوا فى رتابة، وكأن ذلك مقصود لذاته، ولإظهار هذا البعد الخاص حيث يعلن أن من يستسلم للمألوف ورتابة الزمن، سوف يمضى بلاتاريخ:
(ص449): وتمر أيام رتيبة ومريحة فى حياة جلال عبد الله وأسرته، ويعرف الرجل بالطيبة والأمانة وحسن الخلق والورع. ويتوفر له الرزق، وعشق العبادة……وتدل البشائر على أن هذه الأسرة ستشق طريقها فى يسر وبلا تاريخ”
هنا نقف كما ينبغى عند: بلا تاريخ.
وبرغم أن الأسرة لم تمض فى هذا المسار كما أوحت البدايات (وإن طالت خمسين عاما)، ورغم أن الانقلاب وإعادة الولادة لم يكونا فى اتجاه البناء، فإن هذا الزمن الراتب المتتالى، الماضى فى يسر، هو والعدم سواء. فمن لم يع ذلك فولد ومات، فكأنه ما ولد وما مات، أما من استيقظ أمام الوعى بالموت، وبالرتابة، فهو مطلق مارده الوليد من غيابات المجهول، أو عباءات العفاريت، ثم يكون ما يكون، وهذا ماحدث لجلال الإبن حين واجه موت أمه، ولجلال الأب حين واجه موت خطيبته (أنظر فيما قبل)
4/2:
الحركة الأولى للزمن هى تلك الحركة الراتبة اليسيرة الهامدة المتتالية المعادة، التى هى ليست زمنا، بقدر ما إن نهايتها: الموت ليس عدما، فالعدم هو ضد الوجود، والذى يستسلم لهذه الحركة الراسخة الهامدة لم يوجد أصلا.
لكن الحركة الأخرى الأكثر وعدا، وخلقا، وتحريكا: هى حركة فى دورات، دورات الحياة، اقترنت فى الملحمة أساسا- ولكن بوصفها مجرد أرضية- بتتالى الفصول:
(ص194): لو أن شيئا يمكن أن يدوم، فلم تتعاقب الفصول؟
فهل يعلم القارئ أن هذا السطر الناقص قد أخذ رقم فقرة 45 فى الحكاية الثالثة من ملحمة الحرافيش: الحب والقضبان؟ هكذا مستقلا دون زيادة … !!!
وفى بداية الحكاية الرابعة:
(ص199): الشمس تشرق الشمس تغرب، النور يسفر الظلام يخيم
وهو يكرر مجئ الفصول بما هى علامات زمنية محددة فى أكثرمن موقع:
(ص230): وجاء الصيف زافرا أنفاسه، إنه يحب ضياءه..
(ص321): ودارت الشمس دورتها . تطل حينامن سماء صافية، وحينا تتوارى وراء الغيوم.
(ص355): ما يمر يوم إلا نرى الشمس وهى تشرق، ثم نراها وهى تغرب وما على الرسول إلا البلاغ.
كان هذا الحديث بالذات من أم هشام الداية، ردا على اعتراض زهيرة-الظاهر على الأقل-على طلب نوح الغراب القرب منها (أى قرب، بأى ثمن)، اعترضت زهيرة قائلة:- ألا ترين أنى زوجة وأم. فردت أم هشام الداية هذا الرد الدال، الذى انتهى بأنه: ما على الرسول إلا البلاغ (وكأن نجيب محفوظ قد قالها أيضا فى الحرافيش، وفى غيرها).
هنا إعلان ضمنى أن شروق الشمس اليومى فغروبها ليسا دليلا على حركة معادة، أو دائرة مغلقة، وإنما هو إعلان لدورات الطبيعة الموازية لدورات الحياة المفتوحة النهاية بشكل أو بآخر.
والفيضان، بوصفه مواكب لفصل بذاته، ودالا عليه هو علامة من علامات دوران الفصول، ولكنه ليس -بداهة-مجرد إعادة عقيمة، بل هو إعادة تحمل الحياة للأرض والزرع والناس جميعا، هو زائر فصلى معاود نعم، لكنه ولادة متجددة، وإن كانت دورية محددة، فهو أبدا ليس نسخة مكررة.
(ص354): وعندما وفدت الفلاحات يبشرن بالفيضان، ويبعن البلح، كانت زهيرة تعانى ولادة عسيرة أنجبت فى أعقابها راضى الإبن الثانى لها من محمد أنور.
ونرى الفيضان هنا، مع بشارة الفلاحات، مع الولادة العسيرة (من محمد أنورعلى التحديد)، كلها أحداث متوازية شديدة الترابط والدلالة على حيوية الدورات لا تكرارها، وعلى ارتباط ما هو طبيعة بما هو بشر، بما هو فرد، فى حلقات متداخلة فى نمط مواز بشكل أو بآخر.
وقد أعلن محفوظ بعد الإخفاق الأكبر لتجربة الخلود على يد زينات الشقراء، أن دورات الفصول ليست بهذه السلاسة التى تبدت فى أول الملحمة، بل إن الفصول حين تختل القوانين، فيلوح الخلود قسرا، ثم يقهر سفحا، إن الفصول تصبح كيانات متصارعة رغم تلاحقها:
(ص439): واستنامت (زينات) إلى نسائم بشنس، وقالت لنفسها إنه شهر غدار، سرعان ما تدهمه الخماسين، فينقلب شيطانا مغيرا يفتك بالربيع.
جاء هذا عقب أن قالت لنفسها:
إن الشر يرفع الإنسان إلى مرتبة الملائكة.
فهذه الحركة الدائرية ليست هى هى إعادة مكرورة. وإنما هى من ناحية: تعلن طبيعة الاستعادة القادرة على الإحياء والبسط، من ناحية أخرى تؤكد فرص المضى تصعيدا من خلال الفروق الكيفية، التى مهما ضؤلت فهى خطوة دالة خطيرة، إذن تعلن إستحالة عكس إتجاه الدورات:
(ص477): وثمة حقيقة تنشب أظفارها فى لحمه وهى أن الأمس لا يمكن أن يرجع أبدا.
جاء هذا فى سياق مأزق شمس الدين (الثانى) بين إبنه سماحة، وحميه سنبلة. والتى إنتهت بالتحام الأب مع الإبن-بالصدفة-وكأن هذا الالتحام دعوة للإستمرار رغم كل شئ (رغم الخلاف، والاختلاف، والذعر، والصفقات)، وكانت هذه النهاية التصالحية من أجل الاستمرار قد أشير إليها ضمنا بالهاتف القائل.
(ص481): لا تقتل إبنك، لا تدع إبنك يقتلك.
دعوة صريحة إلى مواكبة الزمن. ولكن ما الزمن؟ وكيف؟
على أية حال، فقرب النهاية يعلن محفوظ أن هذه الدورات المتلاحقة تحمل فى داخلها حسم التغيير حتى وإن بدت معادة، يقول:
(ص526): وحلت تغيرات حاسمة مثل تغيرات الفصول الأربعة.
غير أن هذه التغيرات الحاسمة كانت فى هذه المرحلة خارجية على أية حال، حيث كانت الإشارة بها إلى ما حل بحليمة البركة وأولادها من ربيع الناجى (آخر جيل فى الحرافيش) بعد عودة فايز من غربته ليرفلوا فى أثواب الوجاهة والأبهة، وما بلغنى هنا أنها تغيرات خارجية على كل حال، وكأن التغيرات الفصلية هى، فى أغلب ظاهرها أقرب إلى تغير المناخ، لا إلى طفرة التخلق الجديد كما سيأتى ذكره فى نوع آخر من الحركة.
4/3:
“لا تنفصل قضية الزمن، عن قضية الحركة بأنواعها”:
فالزمن الراتب المتتالى (مجرد مرور الزمن متتابعا) هو حركة خامدة، وإن كانت مرعبة بما تعد نهايتها: الموت العدم ( المفهوم الشائع)
والزمن/ الدورات هنا يعنى أن كل شئ يتحرك، وأن كل شئ يعيد نفسه فى الوقت نفسه، فإن كانت الدائرة مغلقة، فهو بعد لا يختلف فى حصيلته عن سابقه (الراتب)، أما إن كانت مفتوحة فهى دورات الحياة، بما تعد.. فتعيد.. لتدفع.
لكن للحركة بعدا آخر، أدق دلالة وأشد خطرا.
(5) الولادة الجديدة
مهما بدأ الزمن راتبا خاملا، فإن الوعى بخموله، دفع إلى عكس ذلك.
قد يمضى فرد دون ذكرى أو تاريخ، قد تتوالى أيام دون أحداث، وقد تعود دورات وكأنها هى هى، لكن كل ذلك هو ظاهر ليس إلا، ومهما بدا الخمول وفترت المشاعر الظاهرة. فثمة توترات كامنة، وثمة تراكمات تتجمع فى يقين متصاعد، وثمة طفرات واعدة، سرعان ما تتكاثف لتندفع، وهى فى ذلك لا تتبع ظاهر الأشياء إلا جزئيا، وإنما تمضي-تحت الظاهر ومعه- فى تضافر له قوانينه الخاصة المتجددة أبدا.
وهذا البعد المتجاوز لما هو راتب تتابعى، هو حصيلة ما هو متراكم متضافر، بقدر ما هو طفرة مكثفة لما هو دورة خلاقة. وهو المرادف للتغيرات النوعية فى تاريخ الأحياء من جهة، ولطفرات الإبداع فى أطوار البسط من جهة أخرى، وبلغة الزمن لعله يكون أقرب إلى ما يمكن أن يسمى الزمن/ البدء المتجدد.
وقد حذق نجيب محفوظ فى أغلب أعماله تقديم هذه النقلات النوعية، سواء فى صورة التحول المفاجئ والنوعى فى مسار شخصياته فى رواياته الطويلة والأطول، أو فى صورة دفقات الوعى فى قصصه القصيرة
وكنت أتوقع أن تكتمل هذه الخاصية المميزة لمحفوظ فى الحرافيش، بوجه خاص، وقد كان.
5/1:
أول تحول دال، ومميز، كان تفجر عاشور أثر رؤيته فلة، وهو يسلخ ولديه عنها:
(ص38): قال له بخشونة، وهو ينتزع عينيه منها.
(ص38): انتزع عينيه منها مرة أخري.
(ص38): فى ظلام الحارة تنفس بعمق، شعر بأن سراحه قد أطلق، وأنه تملص من قبضة شريرة. الظلام كثيف لا عين له.
(ص38): شعر وهو يشق الظلام أنه يودع الطمأنينة والثقة، هاهو تيار مضطرب يلفه فى دوامته، وهو يساوره الخوف كما يساوره النوم، وقال لنفسه: إن البنت بهرتهم بجمالها، وقال أيضا: إن البنت قد بهرتهم بجمالها الفتان.
وحين قال: لماذا لا يتزوج الحمقي؟(كان داخله قد قرر أمرا دون أن يدرى هو به بعد).
وحين أضاف: أليس الزواج دينا ووقاية؟
كان يحاول أن يخفى قراره عن نفسه من جهة، وأن يعمم الأمر على فلة وعلى أولاده من جهة أخري.
فهذه النقلات تحدث فى الظلام، والظلام عند محفوظ غير الظلمة، فهو الجانب الآخر للوجود.
(ص41): الظلام مرة أخرى، يجسد فى القبو…. ينطق بلغة صامتة يحتضن الملائكة والشياطيين، فيه يختفى المرهق من ذاته، ليغرق فى ذاته.
ثم يستشعر عمق القرار وصلابته فلا مفر فيردف:
إن قدرة الخوف على أن ينفذ من مسام الجدران فالنجاة عبث.
وهذا تعبير من أدق ما يمكن أن يوصف به داخل الذات (المرموز له هنا: بالقبو) فما أهون معارك الخارج مثل معركته مع درويش، أو معركته لتخليص أولاده. أما وقد صار الأمر فى داخل الداخل، فمع من تكون المعركة؟ فلا نجاة، أو… لعلها النجاة !!!
خرج الداخل إلى الوعى، الظاهر، أو اخترق اللاشعور الشعور أو وبتعبير محفوظ: خرج من القبو إلى الساحة.
فماذا تحرك من الداخل فى هذه النقلة- تحركت أمه.
والأم عند نجيب محفوظ من أهم ما يمثل الآخر، كما أنها مقومات شخوص الداخل ذى الدلالة المتميزة، وهى تطل علينا من داخل عاشور الناجى الأول رغم أنها لم تكن أبدا فى وعيه، لم يرها أبدا حقيقة مرئية مدركة.
وهو يتذكر أمه الحقيقية فى موقع ما أثير من تفجر حيوى يقع الجنس فى جوهره، ولا يتذكر أمه بالتبنى، سكينة زوجة الشيخ عرفة زيدان.
ونلمح قدرة محفوظ على إعادة تشكيل ما سمى خطأ الموقف الأوديبى، وصحته حنين الرحم، أو نداء الأرض، فطوال الملحمة، والأم تظهر بعنف مقتحم، وبحضور يستحيل تجاهله، وهى عادة ما تظهر مع دفقات الجنس والحب الغامر الدافق، تظهر بكل قوتها وجذبها ودلالتها، سواء كانت حاضرة بجسدها أم غائبة، إلا من حقيقة موقعها بداخل الداخل، وحقيقة توحدها مع الأرض الرحم، وكانت أدق هذه المواقف-مما قد يحتاج إلى أن يفصل فى دراسة لاحقة مستقلة-هى علاقة شمس الدين بأمه فلة، وصراع أمه مع عجمية، ثم ارتباط نقلة جلال الأول (الأب صاحب الجلالة) بموت خطيبته وما أثارته هذه اللحظة من إستعادة مقتل أمه ومنظر رأسها المهشم، وتكتمل الصورة حين ترتبط نقلة جلال الثانى، وإعادة ولادته بما هو تراجع وانحراف، وهو فى الخمسين من عمره بعد فقد أمه زينات الشقرا وهى فى الثمانين، فيرتمى فى حضن دلال الغانية، وكأنه يستعيد علاقته بأمه الغانية، عشيقة أبيه، بعد فوات الأوان.
ولعلنا نكتفى هنا أن نشير إلى أن محفوظ، وله ما له من علاقة شديدة الخصوصية بأمه شخصيا، قد تجاوز فرويد تجاوزا لا جدال فيه، بل إنه تجاوزه من قبل فى رواية مهمة من أولى رواياته وهي” السراب” التى يعدها أغلب النقاد الرواية التحليلية النفسية بوجه خاص، فقد ربط بين الأم والجنس والحب، دون الحاجة إلى مناورات تنافسية مع أب قادر وبأقل قدر من الشعور بالذنب.. ومن ثم عقاب الذات.
وها هو ذا عاشور يذكر أمه وهى لم توجد أصلا فى وعيه ولو لحظات عابرة، لكنه يحدد شكلها، وإغراءها، وعودها:
(ص41): ” لكى تحتدم المعركة لابد من بشرة صافية، وعينين سوداوين مكحولتين، وقسمات دقيقة مثل البراعم. لابد من الرشاقة والسحر وعذوبة الصوت، وقبل ذلك لابد من القوى الخفية المتدفقة المناسبة…“
إلى أن قال، إذ يعمم:
“ومن يتزوج الحياة فليحتضن ذريتها المعطرة بالشبق“.
أليست الأم هكذا هى الحياة، ولكن ليس بمعنى أننا نقوم بعملية تجريد أو ترميز ماسخة، بل على العكس، إن محفوظا، بذلك، يقوم بعملية تعيين لما يمكن أن يجرد من خلال الخوف والرمز والنواهى دون داع، فالحياة جسد (إنظر قبلا)، وأولى بنا أن نرى الجسد أما معجونة بماء الشبق، من أن نفرغها من حيويتها خوفا من مواجهة نبضها.
ومع كل هذه المواجهة الطبيعية المبررة بحقيقتها الموضوعية، فكل ذلك لا يكفى تفسيرا (أو تبريرا لما يمر به)
(ص42): “فلا مفر من أن تعترف بأن ما حدث لا يمكن أن يصدق. وأن تعانى إحساس المطارد إذا سبق“.
(لاحظ هنا ان المعاناة هى معاناة الخلاص، فقد قال: إذا سبق، ولم تكن المعاناة لأن مطارده قد يلحقه) ثم يؤكد محفوظ أن التعيير ليس مصادفة، ولا هو خطأ مطبعى كما قد يخيل لبعض القراء بما أورده بالصفحة التالية:
“وسرعان ما استنام إلى الهزيمة جذلان بإحساس الظفر“
هذه النقلة ليست ميل هوى، أو تغيير مذاق، أو قرار تحول، ولكنها التغير النوعى الصارخ والدال، وبنص ألفاظ الملحمة، فعقب كل ما سبق اقتطافه يردف محفوظ:
(ص42): “ها هو مخلوق جديد يولد مكللا بالطموح الأعمى والجنون والندم. ويسأل الغوث من الرحمن فتنسكب عليه خمر الفتن“.
كان هذا أول ميلاد جديد، وأهميته القصوى أنه بدأ من البداية، بدأ بعاشور الأول، فى داخل داخله.
لم ينتظر حتى تتشابك المسائل وتتعقد العلاقات ويحتد صراع الخير بالشر، أو يقتل الأخ ثم يعلنها: إن الولادة الأخرى محتملة، فضلا عن إنها حتمية، بل طرحها من البداية فى عاشور الكبير، وكأنها طبيعة أساسية لما هو بشر.
ثم إنها لم ترتبط جذريا بمعركة بين الخير والشر كما أعيدت صياغتها فى أولاد حارتنا مثلا، بل هى معركة الحياة كيفما اتفق والحياة كما تتفجر لتعيد بناءها، معركة الرتابة والتجدد، بل إنها ليست معركة بمعنى التضاد بقدر ما هى إطلاق ما هو طبيعة ثانية بوعى متجدد، بل إنها طبيعة أولى تكاد تكون أصلا، لأنه بغيرها تمضى الحياة بلا ذكرى، ولا اكتشاف، ولا تاريخ.
5/2
أما شمس الدين (الأول) فقد عاناها فأجهضها.
بداية، لم تكن ثمة معركة مع أبيه أصلا، بل لعل حضور أبيه فى كيانه فى السر والعلن هو السبب فى اجهاض ولادته المحتملة.
(ص112): “أجل إن عاشور الناجى هو أبوه، ولكنه يمثل فى الوقت ذاته حقيقة أكبر من الأبوة، وهو يهيم بهذه الحقيقة أكثر من الأبوة نفسها، هى محور حياته، ومعقد أمله، سر افتتانه بالعظمة الحقيقية“.
وهذا يبدو أصعب فى اعاقة الحركة تحديا فانطلاقا فمغامرة.
نتج عن هذه العلاقة أن تمركز أبوه فى الداخل مقبولا جاثما، بالحب، لكنه جاثم على كل حال، فهل تركت له أمه فى الخارج مساحة للحركة اللازمة لتفجر محتمل؟
(ص112): “اعترف شمس الدين بأن أمه قوية وعنيدة، اعترف أيضا بأنه يحبها ويحترمها، لا باعتبارها أمه فحسب ولكن بصفتها أرملة عاشور الناجى أيضا“.
فماذا تبقى له ليفعلها؟
حين أحاط به الزمن، رغم قدرته على الاحتفاظ بكل ما يقنع الآخرين- دونه- أنه ليس عرضة للشيخوخة، حين أحاط به مرور الزمن:
(ص136): ” دارت برأسه أفكار شيطانية وسرعان ما هرع إليه عثمان الدرزى. أفاق من جنونه فتلاشت نواياه المستهترة، استسخف سلوكه. كلا. لن يتحدى الهواء. لن يتمادى فى ارتكاب الحماقات، ستسنح فرصة فينتهزها. ستعرض تجربة فيخوضها“.
وكما قلنا من قبل، لم تسنح فرصة، ولم تعرض تجربة، فقد أجهضت فرصة ولادة جديدة قبل أن توجد أصلا.
5/3
وثمة نقلات واضحة تكاد تكون من النقيض إلى النقيض، وكان يمكن الوقوف عندها بوصفها نقلات كيفية، إلا أنها لا تمثل الولادة الجديدة فى عنف حضورها، لكنها تذكرنا- أيضا- بالتغيير الكيفى الذى لا تشير إليه المقدمات. مثل زواج محاسن البولاقية من حلمى عبد الباسط أو حتى مثل جنون ضياء ودروشتها، فضلا عن النقلات الطبقية، أو الاقتصادية، مثلما حدث عند استيلاء عاشور الناجى الكبير على بيت البنان، أو عند إفلاس بكر الناجى.
وحتى الانتحار، فانه يعد اجهاضا لإعادة الولادة المحتمل (ولهذا حديث مستقل لاحق).
وقد أوردت هذه الفقرة الإعتراضية لتوضيح الفرق بين ما أعنيه من إعادة الولادة، وما يمكن أن نلحظه من مجرد التغير الظاهر.
5/4
أما النقلة الصارخة التالية فجاءت فى اتجاه معاكس، أو قل: فى اتجاه له انحرافه الخاص، هى نقلة وحيد (ابن سماحة الناجى من محاسن البولاقية)، وبرغم التمهيد لها، وطبيعة سماحة الغاضبة الخاصة المستغرقة فى الخيال حتى قال له عمه رضوان.
- احذر الخيال واقبل على العمل!-
رغم هذه المقدمات فإن النقلة حدثت وكأنها مفاجأة، بدأت إرهاصاتها(مثل كثير من النقلات الدالة طوال الملحمة) بحلم، وكان الحلم فى هذه المرة صادرا عمن لا يهمه الأمر، وليس عن صاحب الشأن (بعكس أحلام أخرى مباشرة كثيرة، وخاصة حلم عاشور الناجى عرفة زيدان)، كان حلم ضياء امرأة عمه (الهائمة على وجهها فى جنون هادئ): أنه يمتطى جرادة خضراء، ثم تفسيرها لهذا الحلم، وهى تجيب نفسها (أكثر مما تجيبه):
انه إنما “خلق للهواء“.
ثم: من الحلم إلى الإلهام (كالعادة):
(ص263): “عندما استيقظ وجد نفسه مفعما بالإلهام“.
والإلهام هنا- وفى هذه المواقف-لايقف عند الإيحاء بفكرة، أوإضاءة زاوية رؤية، وإنما يتخطى هذا وذاك إلى فعل، إلى تغيير مفاجيء، شئ أقرب إلى السحر أو المعجزة.
“لم يشك انه قادر على المعجزة (وإن لم يتبين بعد طبيعة المعجزة)، وانه يستطيع أن يقفز من سطح الدار إلى الأرض دون خوف من الكسر“.
ويستقبل الناس هذه النقلات عادة على أنها الجنون ذاته،إذ عادة ما تكون المسيرة إلى تفكك، لكن أن يترتب عليه قفزة فى الهواء حقا، ثم لا يكسر، فهو الفعل الخارق الدال على ما نقول به من ولادة تغير المسار نوعيا فعلا، وهذا ما كان حين تحدى وحيد الفسخانى الفتوة، فصارعه-فجأة- وانتصر(بيده المسحورة!!) واعتلى عرش الفتوة فى نهار واحد.
5/5
ونستطيع أن نتابع بسهولة نقلات زهيرة، وتصاعد طموحاتها منذ أول زواجها بعبده الفران، ثم انتصارها على العواطف والشهوة ورسمها حتى تزوجت محمد أنور، فأحلامها بالفتوة (النسائية) بدت من البداية، لذلك فنحن لا نجد فيها التغير النوعى الواحد المحدد الذى نعنيه هنا بالولادة الجديدة، وإن كنا نلحظ بسهولة ماوراء هذه النقلات المتتالية من طموح، وثورة، وكلها تشير إلى داخل متفجر ومتوثب لا يهدأ.
(ص332): “باطنها يتغير ببطء، ولكن بثبات وإصرار“.
وحتى هذا البطء، لم يكن بطئا.
(ص 332) ” يتمخض كل يوم عن الحركة، كل أسبوع عن وثبة، كل شهر عن طفرة، إنها تكشف ذاتها وراء طية، تنبثق من جوفها أنواع شتى من المخلوقات المتحفزة الصارمة. وتحاكم فى الخيال أمها وزوجها ومسكنها وحظها، تحقد على كل ما يطالبها بالرضا على حكمة الأمثال وعطف الهانم وفحولة الرجل“.
فانظر برغم أنها موجات متلاحقة من الثورة والتغيير إلا أن حدوثها على مراحل متتالية فى الاتجاه نفسه: طموح وراء طموح، يعلن ما وراءه من طفرة مصغرة وراء طفرة مصغرة، إلى حد عدم إعلان الطفرة النوعية الكبرى التى نعنيها فى هذا العرض لإعادة الولادة .
وتتلاحق هذه الطفرات حتى لا تكاد تتوقف، حتى أنه من كثرة تلاحقها وما تترجم إليه من أفعال، وزيجات، وتقلبات اجتماعية وطبقية، من كثرة كل ذلك تصبح مثل نبضات القلب فى كثرتها، وحيويتها، وتتاليها.
(ص362): ” وعند كل نبضة تتشكل صورة براقة تخرق كل مألوف“.
وتتميز هذه الطفرات المتعاقبة بأن إرادة زهيرة الواعية تمسك بعجلة قيادتها بقدر متميز من التحكم، استجابة لقفزات التحرك الداخلى، ورسائله فالداخل يحفز، لا يفرض نفسه بنوع جديد تماما من الإدراك، فالنقلة، وزهيرة تلتقط هذا التحفز، وتسير به فى دروب الوعى بإرادة محكمة، لتؤكد التغير حلقة بعد حلقة، فى اتجاه يكاد يكون معلنا من قبل، وتظل تحافظ على الإتجاه نفسه طول الوقت.
وتتأكد الإرادة فى نقلات زهيرة فيما بعد:
(ص354): “إنها تطمح إلى اكتساب حق. فى سبيل ذلك وطئت قلبها بلا رحمة،. فى سبيل ذلك تحس أحيانا بجيشان الجنون السامى فى قدح من الخمر المقدسة“.
فتقرر- فى حلم يقظة- الانقضاض على عزيز الناجى، وسرعان ما تحقق حلمها من خلال حسن استيعابها لتفجرات الداخل، وقدرتها على صياغتها واقعا عيانيا يواصل مسيرتها.
5/6
أما نقلة عزيز، وعلى الرغم من أنها شديدة الإرتباط بآخر طفرة لزهيرة -الطفرات المترجمة أولا بأول إلى طموحات محققة-، فهى من حيث المبدأ أقرب ما تكون إلى نقلة عاشور الكبير التى انتهت إلى الزواج من فلة، وهى قريبة من النقلة المجهضة لشمس الدين الكبير، وذلك من حيث التوقيت (السن) والاتجاه، (الجنس والزواج أو احتماله)
(ص376): “وأغرب الجنون ما يصيب المرء فى كهولته“.
5/7
أما الولادة/ المارد/ الجنون، فهى ما حدث لجلال الكبير عقب أن اختطف المجهول قمرا خطيبته دون أدنى تمهيد أو تبرير.
وقد أشرنا إلى بعض تفصيلاتها ونحن نتحدث عن مواجهة الموت، فقرة 2 /1.
ولا مفر من إعادة، مع اختلاف السياق:
(ص401): ” شعر جلال كأن كائنا خرافيا يحل فى جسده“
(أنظر كيف كانت النقلة بيولوجية ذات لغة جسدية- لا مجسدة)
“إنه يملك حواس جديدة ويرى عالما جديدا غريبا“
(لاحظ تواكب الجدة والغرابة)
“عقله يفكر بقوانين غير مألوفة“
فالعقل يلحق بنقلة الجسد النوعية، فالجنون تغير فى الكيان الحى/الجسد، الذى أحد وجوهه ما هو عقل، وليس الجنون ذهاب العقل ابتداء.
ومن خلال ذلك ينفصل عن الواقع حتى ينكره، لكن انكاره ليس كاملا حتى يعفيه من استقباله بكل تحديات “الآن” إنه إنكار حاضر.
“إنه ذكرى لا حقيقة، موجود وغير موجود، ساكن بعيد منفصل عنه ببعد لا يمكن قطعه“
وإذا كان عاشور الناجى الكبير قد ولد فيه مخلوق جديد إثر تحريك الجانب الآخر(الأم/الغريزة/الحياة)
(ص42): “ها هو مخلوق جديد يولد مكللا بالطموح الأعمى والجنون والندم. ويسأل الغوث من الرحمن فتنسكب عليه خمر الفتن“.
فإن جلال قد أعاد استعاد الخبرة مضاعفة مغتربة مقتحمة، أثر تحريك العدم/ القهر/ الرفض، لا تحريك الحياة.
(قارن: ” مخلوق جديد يولد مكللا بالطموح الأعمى” بـ شعور جلال بأن كائنا خرافيا يحل فى جسده)
وإذا كانت زهيرة- أمه- قد تلقت طفرات الداخل باستيعاب فإرادة فتحقيق، فإن جلال قد تلقى الانسلاخ مضاعفا مكثفا ساحقا غائرا مغيرا فى جرعة واحدة.
(قارن (ص332): “يتمخض كل يوم عن حركة، كل أسبوع عن وثبة، كل شهر عن طفرة عند زهيرة“.
أو (ص362): ” وعند كل نبضة تتشكل صورة براقة تخرق كل مألوف“.
بـــــ: “ يد غطت الوجه فأغلقت باب الأبدية، تهدمت الأركان تماما“.
فالنقلة هى النقلة، والولادة هى الولادة، ولكن شتان بين ولادة نتيجة تحرك، تفجر وانبعاث فى اتجاه حياة، وقرار واستيعاب، مهما بدت النتائج شاطحة ومستغربة فى أولها(عاشور الناجى) وبين ولادة فى طفرات متلاحقة تسبقها وتلحقها إرادة طموح (زهيرة)، وبين ولادة تسمح لكائن خرافى أن يلبس فجأة وتماما كل الكيان الحالى المتجمد حتى العدم من هول الفقد والخيانة، خيانة القدر(جلال)!!!
وقد ترتب عن هذه الولادة أمران:
أولا: الرفض فالإنكار: “كلا”- ثم:- لا أحد يموت (أنظر قبلا).
ثانيا: الجنون “ضلال الخلود” (انظر بعد)
5 / 8
أما ولادة جلال الثانى إثر موت أمه عن ثمانين سنة، فقد جاء أكثر مفاجأة، وأقل تفسيرا، فقد يكون مفهوما أن سلب جلال الأب خطيبته بدون وجه حق، بعد تهشيم رأس أمه أمامه كفيل بأن يفقده توازنه، فيتجمد ظاهره، فيحل فيه الكائن الخرافى.
أما موت الأم وهى فى الثمانين، وابنها فى الخمسين، فهو أقل قبولا كتفسير لكل ما حدث من نقلة نوعية جسيمة وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك.
على أية حال: “ما يهمنا هنا هو انها ولادة جديدة“، وإن كان مسارها لم ينته إلى جنون صريح، أو زواج ثان، فقد جرى فى اتجاه انطلاق شبقى واندفاع تلذذى يعلن التخلى عن البلادة والرتابة لا أكثر.
(ص450): “أما الأعجب من ذلك فهو ما حصل له عقب انقشاع الكآبة، لقد ولد شخص جديد مجهول الأصل“.
وحكاية مجهول الأصل هذه تستدعى وقفة جديدة قديمة، إذ علينا ألا ننسى أن عاشور الأول كان مجهول الأصل من حيث ولادته الحقيقية، وأن إعادة الولادة -مهما بدت مبرراتها- تبدو لأول وهلة مجهولة الأصل، منفصلة عن أسبابها، لكن بالنظر فى تفاعلات الكمون نتبين أن ما هو مجهول هو الأصل من حيث حقيقة التركيب البدئى وتفصيلات التفاعل وما حدث خلال حركية الزمان.
وهذا البعد هو ما يؤكده فى قوة هذا النوع من الحبك الروائى حيث يساعدنا على تجاوز ما سمى بالشخصية النمطية، و الحتمية السببية التى غلبت على النقد فترة من زمان.
أما أنها ولادة، فهى ولادة بنص الألفاظ، وولادة بطبيعة التغير:
“وكان يخفق بصدرى قلب جديد، كرهت حاضرى وذكرياتى“.
حتى قال:
“وثار القلب، والعقل والكبد وأعضاء التناسل، وهتفت بشرى للشياطين“
(قارن عاشور الناجى حين استشعر الولادة: “يسأل الغوث من الرحمن فتنسكب عليه خمر الفتن بهذه الولادة: بشرى للشياطين!:”
ولا نجد ما نختم به هذه الفقرة أدق، أو أدل مما دار بين دلال، وجلال الإبن
- “إنك ألذ رجل فى العالم..
فقال بثقة:
سمعت أن الرجال يولدون من جديد فى سن الخمسين..
فقالت بيقين:
ومرة أخرى فى الستين والسبعين.
6- المقدمات.... و المسارات:
لا تسمح هذه الدراسة المقدمة بالتمادى فى إيضاح أطوار إعادة الولادة كما قدمها نجيب محفوظ فى الحرافيش خاصة، إلا أننى أجد من الضرورى الإشارة إلى تتابع المراحل على الأقل لحين الرجوع إليها مع إكتمال الدراسة بتفصيل أكثر:
أولا: فثمة استعداد خاص لهذه الولادة، بهذه الصورة المتبادلة، وما جاء طوال الرواية من اشارات إلى أن عائلة الناجي-بوجه خاص- تمثل: سلسلة من الدعارة والإجرام والجنون بالإضافة إلى صور الجوع إلى السلطة فى شكل الفتوة الغاشمة والظلم حتى القتل.
وهى فى الوقت نفسه عائلة تمثل سلسلة من المناجاة الصوفية، والتوق للعدل، وإطلاق إسار قوة الحياة، لإرساء دعائم الحق. فهل يا ترى هذا الاستعداد بشقيه خاص بأسرة الناجى أم أنه يمتد إلى سائر الناس؟
من رأينا أن ثمة عائلات تتميز بهذه الطاقة الحياتية المتدفقة المبدعة المدمرة فى آن واحد، أكثر من غيرها، وهذا ما يسمى الاستعداد الوراثى، لكن الملحمة ترينا أن هذا فى ذاته ليس استعدادا للجنون بقدر ما هو استعداد لوفرة حياة، أو زخم مخاطر، أو مفاجآت تدمير.
وبالرغم من أن هذا التركيب يخص عائلة أكثر من غيرها، إلا أنه بالتتبع الدقيق نتيقن أنه نمط عام لكل الناس، مع فارق الجرعة، وحدة النقلات، وبسطها على عدة أجيال، أو تكثيفها فى جيل واحد، أو فرد واحد.
ثانيا: إن ثمة أحداثا مرصودة، أو مغفلة، تتجمع وتتفاعل مع هذا الاستعداد المتحفز، وقد أشرنا إلى ذلك كلما سنحت الفرصة وقد نعود إليه فى دراسة لاحقة بتفصيل أشمل.
ثالثا: إن ثمة تغيرات مفاجئة، تبدأ بطفرات الداخل، مثارة أو غير مثارة بأحداث الخارج، ثم الولادة الجديدة.
رابعا: إن مسار الولادة الجديدة ليس دائما واحدا، بل إنه يتراوح بين تجدد الشباب (مثل:عاشور الأول) والرضا بالإنسحاب (مثل شمس الدين الأول) وسرعة الانحراف (مثل وحيد، وجلال الثانى) والجنون المطبق (جلال الأول).
خامسا: إن التغييرات فى السلوك، مثل تقلب محاسن البولاقية، أو ما طرأ على بكر الناجى فى بدايات الملحمة، أو على فايز الناجى قرب نهايتها، ليس مرصودا بوصفه إعادة ولادة مما تعنيه هذه الدراسة، وإن كنا لا نستبعد مثل ذلك من بعد أعمق، كل ما أريد توضيحه بهذا الاستطراد، هو أن المسألة ليست مسألة تغير نوعى فى السلوك، سواء إلى الإنحراف (فايز الناجى) أو الجنون (مثل ضياء الشبكشى)، وإنما التركيز لتوضيح طبيعة النقلات كما ظهرت فى الملحمة، بلا اعتراض على التعميم الحذر فى مجالات دراسات علمية أخري.
سادسا: إن إعادة الولادة لها علاقة وثيقة بالحدس التنبؤى و الحلم كارهاصات دالة، كما أن لها علاقة بالجنون الصريح كمسار محتمل وكل هذه الأمور قد وردت بتتابع وأناة وتفصيل وتنويع طوال الملحمة، على نحو يعد مما يعتبر إضافة تأكيدية لكل هذه الاتجاهات المعرفية، نفسر بها بعض الفروض والنظريات العلمية، أكثر مما نثبت بها طول باع محفوظ فى الإلمام بها.مما يستأهل المزيد من الدرس التفصيلى، الذى نأمل العودة إليه مستقبلا.
7 – .. فى مواجهة يقين الموت (.. ضلال الخلود)
فلما كان الزمن هو الحقيقة الماثلة، والموت هو اليقين الثابت، ووعى الإنسان بهذا وذاك هو التحدى المصيرى، أصبحت مسيرة الإنسان الفرد (بما يترتب عليها من احتمالات التأثير على مسيرة (الإنسان النوع) أصبحت متوقفة على:
كيف يواجه الإنسان- فردا- هذا التحدى اليقينى الكيانى فى آن واحد؟
وأحسب أن هذه هى قضية نجيب محفوظ فردا، ومبدعا.
7/1
وأول ما تناولته الملحمة فى مواجهة يقين الموت هو رفض إعلانه، بديلا عن رفضه، فما إختفاء عاشور الناجى الكبير إلا تعبير عن ذلك.
ويمكن ربط هذا الحل الأقرب إلى الوهم بفكرة الحياة الآخرة من جهة، وفكرة المهدى المنتظر من جهة أخرى مارين بقضية رفع سيدنا عيسى عليه السلام.
وقد عبرت الملحمة عن هذه القضية بشكل مباشر وغير مباشر كما شاء لها نجيب محفوظ.
وما ان قارب عاشور الناجى الأربعين حتى أعلن-باللفظ-أن فكرة الخلود تراوده، وكان ذلك مرتبطا بشكل مباشر بالموت ” القرافة”.
(ص27): “كان يحمل فوق كاهله أربعين عاما، وكأنها هى التى تحمله فى رشاقة الخالدين“.
بل إن تبادل العلاقة بالزمن (يحمل السنين أو تحمله) قد أوحى إلى منذ البداية بما يقدم عليه محفوظ فى تطور ملحمته من الوقوف على هامة الزمن للتحكم فيه، بديلا عن مواكبته، ناهيك عن التسليم له، أو إلغائه، ولا أتصور أنها كانت هكذا محسوبة مسبقا فى كامل وعى محفوظ، لكنها أطلت (هكذا) منذ البداية.
لكن لنر ماذا لحق- فورا- بتعبير رشاقة الخلود التى وصف بها محفوظ الناجى الكبير فى الأربعين؟
“همسة فى باطنه جعلته يحول عينيه نحو ممر القرافة فرأى رجلا يخرج منه يسير فى تكاسل“.
(كان هذا الرجل هو درويش زيدان، ابن الشيخ عفرة زيدان، رمز الشر الغبى واللذة العاجلة)
أليس فى هذا التلاحق ما نريد إيضاحه من دلالة؟
ثم تسير مسيرة عاشور كما ذكرنا، وهو لا ينسى الموت، ولا يفتعل الخلود، وهو أول من تساءل:” لماذا تخاف الموت يا عاشور؟”
ثم إنه كان منطقيا مع الحياة برغم ذلك، حتى وهو يهرب من الموت بمغادرة الحارة فورا من الطاعون، برغم اعتراض زوجته الأولى وأبنائه منها، وتنبيه شيخ الحارة له ألا يهرب.
وتكرر ظهور عاشور الناجى فيما يمثله (من عدل، وقوة، وتحد، وانطلاق، وتفجر، ووعود، وتناسق مع الغيب، وسعى إلى ما بعده)
كما تواتر القول بعودته شخصيا:
(ص93): ” وأصر أناس رغم اليأس على أنه سيرجع ذات يوم“.
حتى قالت سحر الداية لفتح الباب (ص489) وهى تحكى له أسطورة جده:
“كما أنقذه الله من الموت“ وتفصل ذلك فى الصفحة التالية:
” ــ .. وطال اختفاؤه حتى آمن الناس بموته، أما الحقيقة التى لا شك فيها فهى أنه لم يمت“.
ثم يعود محفوظ يعلن خلود عاشور الكبير فى سياق موقف ضياء
(آخر جيل الحرافيش، شقيق عاشور الناجى الأصغر) يعلنها.. حين يقول عن خروج ضياء:
(ص519): “…. خرج إلى الظلام، مسوقا بقوة خفية نحو ساحة التكية، نحو خلود جده عاشور”.
إذن فقد ظل هذا الحل بالإنكار، والتأجيل قائما منذ البداية حتى النهاية.
وفى الصفحة نفسها كانت ثمة مقابلة بين اختفاء عاشور الناجى، والزمن الذى لا يتوقف وقد جاءت المقابلة نصا، وفى سطور منفردة، هكذا:
“ لقد اختفى عاشور الناجى”.
“ولكن الزمن لن يتوقف، وما ينبغى له“.
وكأن الملحمة برغم كل هذا التكرار، والتأكيد، إنما تضرب هذا الحل إبتداء، بقولها إننا إذا نجحنا فى أن ننكر الموت، بإبدال الاختفاء به، فلن ننجح فى أن نوقف الزمن، فالتحدى قائم وممتد ولن يعفينا منه أن نسمى الموت اختفاء ونروح ننتظر من لا يعود.
وكذا تعرى حل “المهدى المنتظر“.
7/2
ومنذ استوعب شمس الدين اختفاء أبيه، وهو يواجه المشكلة نفسها، فجاءت دعوة أمه له وكأنها تقرأ الغيب: “فليمد الله فى عمرك حتى تلعن الحياة“وجاء رده:
“ استودعك الحى الذى لا يموت “
ويبدو هذا الحوار الباكر بمثابة تنبيه ضمنى لعبثية الخلود إلا لمن هو الله.
وعاش شمس الدين عمرا طيبا حتى لعن الحياة حقاحين رفض أن يتقدم فى العمر بمعنى الضعف داعيا ” أن يسبق الأجل خور الرجال” متمنيا أن يكرمه الله بالإختفاء مثل أبيه وهو فى غاية القوة والكرامة.
وكأن شمس الدين فى محاولته الإبقاء على شبابه، بالطرق الصحية والطبيعية، كان يقدم الحل العادي-إن صح التعبير-وإن كان لم يستطع أن يوقف ظهور علامات التقدم فى السن( رمز: الشعرة البيضاء، فالاغماءة العابرة)
ثم نكتشف أنه مهما نجح الشباب المتأخر، والاستقامة، والحفاظ على الصحة (مثل الأساليب الحديثة فى التخسيس، والعدو..إلخ)-مهما نجح كل هذا، فما هو إلا تأجيل، وليس أبدا حلا للموت القادم لامحالة.
و يعلن شمس الدين وهو وجها آخر يوقظه فينا يقين الموت، وهو ما يفرضه على الباقى منا بعد زميله من وحدة قاسية. فها هو ذا شمس الدين يقولها صريحة فى صيحته عند موت زوجته عجمية.
(ص138): “ لا تتركينى وحدى”.
7/3
تبدو المحاولة الثالثة فى مواجهة الموت كأنها حل مجازى إن صح التعبير، حل يقول: إنه ما دام الإنسان ميتا ابن ميت فليتكرر فى أبنائه من صلبه، ونلاحظ هنا كيف أن الملحمة لم تدع مجالا إلا وأشارت إلى هذا الحل، سواء بتكرار الأسماء، أو بتكرار السمات، فثمة عاشور وعاشور (البدء والنهاية) وثمة شمس الدين وشمس الدين وشمس الدين، وثمة سماحة وسماحة إلى آخر ذلك.
وكلما اعتلى عرش الفتوة من يشبه عاشور (مثل فتح الباب) أو من يعد بأن يشبهه (جلال قبل أن يعلن جنونه)، ارتفعت الأصوات أن عاشور رجع.
فكأن هذا الحل هو الحل العادى، بل لعله أقرب إلى ما هو عادى من محاولات استبقاء الشباب والصحة (شمس الدين)، لكنه حل بالنسبة للنوع، وليس حلا بالنسبة للفرد، اللهم إلا إذا توحد الفرد بنوعه، ولا يتم ذلك - طولا- إلا إذا توحد بناسه-عرضا-وليس فقط بأبنائه من صلبه، فالمشكلة هنا-كما تطرحها الملحمه، وكما هي- هى فى وعى الفرد بنهايته فردا، مع عجزه عن التوحد باستمراره نوعا.
ويبدو أن هذا الحل هو المبرر للإنجاب/ فالتوريث فى النظامين الدينى، والرأسمالى، ولكن التطبيق يجعله مبررا للخلود بالإستيلاء على وسائل البقاء، وليس على مسئولية الاستمرار إلى أفضل.
وهذا عراه أيضا محفوظ فى الملحمة:
(ص412): سأل راضى جلالا
“لم لا تتزوج يا أخى؟
………………
- لم الزواج يا راضى؟
– إنه المتعة والأبوة والخلد.
فضحك جلال عاليا وقال: ما أكثر الأكاذيب يا أخى!”
واندفع أكثر فأكثر للحل التالى:
7/4
وهو محاولة الاحتماء بالمال والسلطة ضد الضعف فالموت، أى فى اتجاه خلود ما.
ولكن أى خلود هذا؟ إنه خلود نسيان النهاية من خلال الإغماء فى بهر القوة المتزايدة أو الغيبوبة فى لين رفاهية مخدرة.
وقد ضربت الملحمة هذا الحل طوال الوقت برغم أنها لم تبرزه فى ذاته بوصفه حلا فى مواجهة الموت بشكل مباشر.
على أن الملحمة قد كشفت خواء الثراء فى ذاته ولا جدوى الجنس المنفصل عن الوجود، وقصر عمر الوجاهة المتعالية، وخواء الرفاهية المانعة، وانتهاء مفعول الخدر المؤقت، كشفت كل ذلك بإلحاح يغنينا عن إعادته، إلا إننا سنختار مثالين صارخين لإخفاق هذا الحل تماما:
صورتان أظهرتا هذا الحل ثم ضربتاه وعرتاه بشكل صارخ:
الصورة الأولى هى صورة نهاية سليمان شمس الدين الناجى التى بشعها محفوظ حتى بدت كاريكاتيرا منفرا.
(ص153): “ومضى يمتلئ بالدهن حتى صار وجهه مثل قبة المئذنة، وتدلى منه لغد مثل جراب الحاوى“.
فإذا تذكرنا تعبيرا سبقت الإشارة إليه وهو: “رشاقة الخلود”، يصف به عاشور الناجى الأول وقد بلغ الأربعين، لفهمنا إعلان إخفاق هذا الحل بتقديم هذه الصورة المقززة المنفرة، والتى أكملها بأن أوقعه العجز فى شلل نصفى بضعة أعوام، وفى عته عقلى (ص167): (وقد هجرته معانى الأشياء) ثم فقد نفسه أيضا
(ص.17) وتلاشت الدوافع والمعانى وتأكد أن الصورة المنفرة مقصودة حين يعيد تصويرها بعد أعوام:
“وظل يزحف على عكازين، ويجمد فوق أريكة مثل قدر المدمس“.
ثم تنتابه(سليمان) حكمة لم يعرفها فى حياته ليلخص فشل هذا الحل:
فقال: “إن الإنسان لعبة هزيلة والحياة حلم“.
الصورة الثانية للحل نفسه تبدو فى بداية إدعاء جلال الأول الفتوة:
حين فقد جلال قمر (بعد فقد أمه طفلا) فاهتز كيانه، وأعلن رفضه، وانمحى الآخرون من وجوده، وأعلن من ناحية أنه ” لا أحد يموت” (ص403)، ثم”هام بالمستحيل” (ص404) قبل أن يتبين ما هو المستحيل هذا، حين حدث كل ذلك انفرد بنفسه وتحدى فأعلنها.
” نحن خالدون ولا نموت إلا بالخيانة والضعف” (ص405)، حين حدث ذلك وانطلق بالكائن الخرافى الجديد بين ضلوعه فكان قوة خارقة:
“اعتلى الفتونة بعد أن حسم المعركة فى ثوان مع سمكة العلاج.
ثم أصبح يتحرك بإلهام القوة والخلود“
دون أن ندرك حتى هذه اللحظة: كيف انتوى أن يثبت مقولته هذه “اننا خالدون مالم نضعف أو نستسلم أو نجن“ ؟
بدا الأمر فى البداية أنها القوة، والاستغناء، القوة من كل مصادرها: ” غذاء الفتوات وتاج القوة والسيادة” والاستغناء عن الناس بإلغائهم والتعالى على كل العواطف مصدر كل حاجة وضعف.
“ ليس ثمة قوة تتحداه، ولا مشكلة تشغله، تركز تفكيره فى ذاته، تجسدت له حياته فى صورة بارزة واضحة المعالم و الألوان“.
لكن سرعان ما أعلن ضمنا أن هذا الحل الذى فرض نفسه فى حدود قوانين الحياة العادية، وهو اجتماع الثروة، والقوة، والسلطة، والإستغناء، أعلن أنه: ليس حلا، لأنه لا يمنع الموت، بل إنه أدرك أنه حتى بفرض استعمال كل هذا لإرساء العدل، وتعميم الخير، كما فعل عاشور الناجى الكبير، لن يكون هذا حلا أيضا، ما دام الموت ما زال يترصد لجلال (ظالما) وللحرافيش (مظلومين) لا يملكون إلا الرضا حتى بالموت.
“– إنهم يموتون كل يوم وهم مع ذلك راضون“.
ويخفق هذا الحل ” العادى” فيطل علينا التمادى فى الرفض الذى أعلنه عقب موت قمر مباشرة أن: “كلا”
وكل غير ذلك، على الطرفين، هو الغباء بعينه.
السلطة والقوة ليستا حلا، سواء كان من ملكهما هو العدل بعينه أم هو السلطة الغاشمة:
لقد انتهى سمكة العلاج كما انتهى عاشور، انتهيا إلى اللاشئ، وعلى من يستعيذ ألا يستعيذ من الكفر.بل:
“– أعوذ بالله من اللاشئ” (ص410)
نعم، غدا جلال “أكبر فتوة، وأكبر تاجر، وأغنى غني” (ص410)
لكنه:
“– …لا يغرنك (يا أبى) ما بلغت، واعلم أن ابنك غير سعيد“.
“الظاهر متألق ينضح بالقوة والسيادة والنهم، والقلب: أجوف تتلاطم فيه رياح الكآبة والقلق.
جمع الإتاوات، وتقبل الهدايا.. وشيد العمارات، كما شيد دارا خيالية سميت القلعة وفرشها بفاخر الثياب، وحلاها بالتحف كأنه حلم الخالدين“.
آه ها هو ذا يعلن ينص الألفاظ أنها المحاولة الفاشلة المخفقة لخلود مخفق.
ثم بنص لاحق أكثر صراحة:
“لقد غرق فى خضم الحياة الدنيا ولكنه لم يغفل قط خداعها، كان: كأنما يتحصن ضد الموت، أو يوثق علاقته بالأرض حذرا من غدره“.(ص412)
وكان على يقين منذ البداية-برغم تماديه-من فشل هذا الحل العادى المبدئى، كما كان على يقين من إخفاق الخلود فى الأولاد، أو عن طريقهم،
“سيرث المال قوم آخرون وهم يغمزونه بالسخريات، ستعقب الانتصارات الباهرة هزيمة أبدية“.
ويقبل دعوة زينات الشقرا، ويلوح الجنس بحل مبهج.
“- أقول لك إن الحياة ليست إلا الحب والطرب“.
وأتوقف عن الاستطراد هنا، فأنا لا أريد أن أفرد للجنس (فى الملحمة) موقفا خاصا كحل مستقل، فهو يحتاج إلى دراسة مستقلة لاحقة متى سنحت الفرصة، وإنما أكتفى بضمه هنا إلى ما يمكن أن يسمى الحل بالاستغراق فى الوسائل مع تعتيم النظر فى العواقب والغايات، وحتى تلميحات زينات الشقراء إلى أن اللذة لا تذهب معنا بل يمتصها الجسد والروح ولا يرثها أحد، هذه التلميحات تبدو لجلال مهربا تبريريا سخيفا مثل قولها اللاحق عن الموت
“ إنه علينا حق، وإن كنت لا أحب سيرته“ (ص415).
7/5
“ الانسحاب فى خلود ماسخ (الرهبنة/التكية).
كما قلنا أن جدار التكية هو جدار الزمن الصامت، نذكر بأن كل نداءاتها الغامضة، وأبوابها التى لا تفتح، وتساؤل عاشور الناجى عما إذا كانوا يحسون بما لحق بالحارة من طاعون أم لا، وأين يذهب موتاهم إن كانوا يموتون أصلا، كل ذلك فيه إشارة إلى إخفاق التكية بديلا عن الحارة برغم الإغراء بالسلام، والوجد فى الألحان، والهدوء الساحر، والهمس الواعد.
وبرغم أن محفوظا لا يشجب هذا الحل صراحة، بل إنه يكاد يدافع عنه، ليس فقط فى الحرافيش، وإنما فى تكرار صورة الدرويش فى كثير من أعماله، فإنه فى عمق بذاته يكشفه، وقد يعرضه ليقوم بدور تعريشة لالتقاط الأنفاس، أو محطة لإعادة النظر، لكنه سرعان ما يعريه بوصفه حلا فرديا تماما، بل حلا خادعا فيه من الزيف أكثر مما فيه من التفاعل الحركى الخلاق، يعلنهاجلال الأول فى موقفه من التكية بعد أن أطبق عليه المارد الخرافى بعد وفاة قمر:
(ص402): “باستهانة طرق الباب . لم يتوقع ردا. عرف أنهم لا يردون . إنهم الموت الخالد الذى يتعالى عن الرد“ .
ولا أحسب أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الإفصاح، ولكن هذا ليس شجبا للتكية فحسب، وإنما هو شجب للخلود ضمنا، وهو يعلن من مدخل آخر ان الخلود هو الموت. أليس هو السكون والثبات مهما صدحت الأنغام وانسابت الأناشيد ؟
7/6
أما الحل المجنون جنون العقم والوحدة فهو طلب الخلود الفعلى لفرد بذاته ضد كل القوانين، وبالذات ضد حركة الزمن. وهذا ما أسميناه ضلال الخلود:
وقد اقترن هذا الحل بشرطين منذ البداية (هما فى العمق شرط واحد) هما: الكفر، ومؤاخاة الجن.
ويبدو أن جلال وهو يغامر بدفع الثمن، كان يلوح له أنه، بشكل أو بآخر، يمكن أن يتجاوز هذه الشروط بعد أن يضمن الخلود، لم يـظهر هذا صريحا فى نص المتن، لكنـه، لأمر ما بلغنى متلقيا، ربما لتعاطف خاص مع جلال فى محنته.
تمثل جلال جانب الخلود دون سواه من سيرة جده الأول عاشور الناجى:
قال جلال وهو يحاور المعلم عبد الخالق:
“- إنى أعتقد أنه (جده عاشور) مازال حيا“
وواصل:
“– وأنه لم يمت“.
ولم يسمع لقول المعلم:
“إن الموت لا يخطئ الصالحين وإنه لايتطلع للخلود مؤمن“
ثم يتطورالحوار إلى مواجهة صريحة، وقبول كل الشروط، ولا ينفع التحذير:
جلال:
“– إنك تخاف الخلود“
عبد الخالق:
“يحق لى ذلك، تصور أن أبقى حتى أشهد زوال دنياى، يذهب الناس رجالا ونساء، وأبقى غريبا وسط غرباء، أفر من مكان إلى مكان، أبيت مطاردا أبديا، أجن، أتمنى الموت“.
“- وتنجب أبناء وتفر منهم، وكل جيل تعد نفسك لحياة جديدة، وكل جيل تبكى الزوجة والأبناء، وتتجنس بجنسية الغربة الأبدية“.
ولكن جلالا لا يهمه كل ذلك مقابل:
- “وتحافظ على شبابك إلى الأبد“.
لكن المسألة خرجت عن دائرة التحذير، والمنطق، خرجت من زمن بعيد، فقد بدا أن هذا هوالطريق/ المخرج الأوضح من كل حسابات والأقوى من كل عقل.
ثم إن المحاولة بدأت بعد النهاية، لم يكن جلال يبحث عن حل لحياته، بل كان يبحث عن شكل لموته، القائم فعلا، فقد بدا أنه انتهى بنهاية قمر.
(ص409): ” تجسدت له حياته فى صورة واضحة المعالم والألوان حتى النهاية العابثة، بدءا من رأس أمه المهشم، ومعاناة الحارة المهينة، وموت قمرالساخر، وقوته المهيمنة بلا حدود، وقبر شمس الدين الذى ينتظر الركب راحلا فى أثر راحل“.
ما جدوى الحزن؟ ما فائدة السرور؟ ما مغزى القوة؟ مامعنى الموت؟ لماذا يوجد المستحيل ؟
(لاحظ أنه لم يقل لماذا لا يوجد المستحيل !!! وإنما لماذا يوجد)
فقد راح بعد ذلك يحقق مستحيلا هو على يقين من وجوده، وإن كان لا يعرف معنى لوجوده لأنه ضد الطبيعة، مهما وعد وحل.
لم تنفع الحلول التسكينية بالقوة، فالسلطة، فالجنس، لأن ميتا مستعليا وحيدا هو الذى يمارسها.
ومنذ بداية جلسته عند الشيخ شاور، اتضحت فصلة هذا الحل المجنون عن الواقع الحى:
“وجد نفسه فى ظلام حالك، حملق فلم ير شيئا كأنما فقد الزمان والمكان والبصر“.
لكن فقد الزمان شيء، وأن الوقت يمضى شئ آخر، فبعد سطر واحد:
“مضى الوقت ثقيلا خانقا“.
وأيضا فى الحوار بدا التسليم مطلقا منذ البداية
عاد الصوت:
“- ماذا تريد؟”
أجاب (جلال) متنازلا عن كل شيء:
”- الخلود“.
وبعد تحذير عابر
” ستتمنى الموت، ولن تناله“.
يأتى القبول بقلب خافق (من الخوف أو من النوال)
“– ليكن!”
فتعطى له الوصفة كاملة: بالعزلة عاما لا ترى أحدا ولا يراك إلاخادمك، تجنب ما يذهلك عن نفسك
(ويلاحظ هنا في-جملة اعتراضية – كيف أن جلالا بعد كل هذه الثورة، لم يستطع أن يكفر، كما رجحنا)
كما يلاحظ أن شاور نفسه طلب منه ما يوقفه على جاريته حواء حتى تنفق من ريعه على تكفير ذنبه.
فرفض الكفر هنا، أو نفيه، ربـما يرجعان إلى موقف نجيب محفوظ أكثر من رجوعهما إلى طبيعة الموقف، أو لعلهما يفسران نقطة الضعف فى تجربة الخلود هذه بمايبرر إخفاقها على يد سم زينات فيما بعد.
أما أن هذا الخلود هو الموت عينه (مثلما كان خلود التكية: الرهبنة / الهرب) فقد أعلن محفوظ ذلك منذ البداية على لسان الناس.
(ص429): “وكأنه الموت وقد انتزع فتوتهم منهم”
أما المئذنة المستقلة بلا زاوية ولا جامع، فهى رمز رائع ومباشر لخلود عقيم، وهى إعلان آخر أننا أمام الموت لا الخلود.
ولما كان الموت الحقيقى ليس عدما، بل علامة وقوف مؤقت على طريق حركة ممتدة، ولما كان اليقين بحقيقته هو الدافع لتجاوزه بقبوله والحركة فى اتجاهه بما يتجاوز العدم الذى يهدد به سوء فهمه، فإن الموت الذى يرعب، فنفر منه بلا طائل هو شئ آخر، هو كل ما هو ضد الحركة والتغير، هو إيقاف الزمن، هو هذا الخلود (الموت الحقيقى).
وقد كان هذا الحل يشمل كل مظاهر الموت العدمى فعلا:
الحرمان من الناس، واقتلاع جذور العالم الخارجى، والتركيز على الذات، منفردة ومطلقة.
كل ذلك تأكد وتعمق من خلال علاقته بالزمن بما هو كيان متحد زاحف، لا مهرب منه إلا بإيقافه، والسيطرة عليه:
“عاشر الزمن وجها لوجه بلاشريك، بلا ملهاة ولامخدر”.
لا لم تكن معاشرة بل مواجهة.
“واجهه (الزمن) فى جموده وتوقفه وثقله“
لا.. لم يكن فى جموده ميتا بل إنه كيان “شيء” يتحدى:
“إنه شئ عنيد ثابت كثيف“ .
وبدل أن يتحرك الزمن مارا به أو حاملا إياه ( تذكر قول الملحمة عن عاشور الكبير إذ بلغ الأربعين: “كان يحمل فوق كتفه أربعين عاما، بل وكأنها هى التى تحمله”).
راح جلال يمسك مقود الحركة من يد الزمن ليسيطر على حركته حتى يوقفها:
“إنه هو الذى يتحرك فى ثناياه كما يتحرك النائم فى كابوس إنه جدار غليظ مرهق متجهم“.
ثم تتراءى الحقيقة التى تدور حولها الملحمة منذ البداية:
“كأننا لا نعمل ولا نصادق ولا نحب ولا نلهو إلا فرارا من الزمن“.
وتصل قمة المواجهة فى تعبير محفوظ:
“أما اليوم وهو يزحف فوق الثوانى فهو يبسط راحتيه سائلا الرحمة“.
ولايصبره على آلام هذه التجربة المجنونة إلا ما يؤمل به نفسه من أنه:
“عندما يدركه الخلود، سيجرب آلاف الأعمال بلا خوف وبلا كسل، سيخوض المعارك بلا تدبر. سيسخر من الحكمة كما يسخر من الحماقة، سيتقلد ذات يوم عمادة الأسرة البشرية“.
ما زلنا (ص430) ويخدع نفسه أكثر حين يؤكد لها:
“إنه مؤمن بما يفعل، لن يتراجع، لن يخشى الخلود، لن يعرف الموت“.
ويتجاوز- فى أمانيه التى يصبر بها نفسه- فصول السنة:
(ص431): “سيظل الكون خاضعا لتقلبات الفصول الأربعة أما هو فربيع دائم”.
ويمنى نفسه أيضا بتجاوز قانون الكون الحالى لأنه:
“سيكون طليعة كون جديد، أول مستكشف للحياة بلا موت، أول رافض للراحة الأبدية”
ويتصور، أو يصور لنفسه، أن الخوف من الخلود، هوالخوف من الحياة:
“إنما يخشى الحياة الجبناء“
(فيستسلمون للموت كما نعتهم منذ قليل (ص405): ” نحن خالدون ولا نموت إلا بالخيانة والضعف“، وهذا هو هوما فصله عنهم استعلاء: إنى أحتقر الناس )
ومع بلوغ القصد، وتثبيت الضلال، يمتلئ ثقة بالوصول إلى بغيته، دون أن يختبر ذلك: فاليقين هنا لا يحتاج إلى اختبار مثله مثل كل الضلالات.
(ص431): إنه ثمل بروح جديدة تملأ أعطافه، تسكره بالإلهام، تنفخه بالقوة والثقة”.
وتمتد قدرته إلى اختراق أسوار الآخرين (وهذا عرض آخر دال) دون استئذان:
“بوسعه أن يحدث نفسه فيحدث الآخر” (فى آن).
وحين يعدد المكاسب تبدو كلها فى اتجاه ما تمنى، إلا الأخيرة منها يقول:
“لن يبتلى بالتجاعيد ولا بالشيب والوهن“ (فيذكرنا برعب جده شمس الدين)
“لن تخونه الروح، لن يحمله نعش، لن يضمه قبر، لن يتحلل هذا الجسد الصلب“ (فيذكرنا بموقفه من موت قمر و يعيده)
وفجأة يكمل:
“ لن يذوق حسرة الوداع“
فنتساءل: كيف؟
إنه إذ يخلد.. فإن كل من سواه يفارقه كما نبهه الـمعلم عبد الخالق، ثم إنه إذ حصل على الخلود، لم يفكر ثانية فى أن يمد هذا الاحتمال إلى غيره، حتى ممن يحب أن يؤنسه، فكيف أنه لن يذوق حسرة الوداع، الأولى أن غيره ببقائه حيا هو الذى قد لا يذوق حسرة وداعه مادام (جلال) لا يموت.
ولا أريد أن أعتبرها سقطة لمحفوظ، ولكننى أتصور أن جلالا فى لحظة انتصاره المجنون هذا ..قفز إلى مكان ما من وعيه أصل الدافع إلى هذا الجنون: وهو هزيمته أمام موت قمر، وما صاحبه من حسرة الوداع، وكأنه بذلك يقول أنه لما انتصرعلى الموت كأنه استرجع قمر، لأنه هزم من هزمها، فلن يذوق-بذلك-حسرة الوداع...
أو لعله خلط يعلن بداية تخلخل الجنون بعد يقين الضلال.
وهو يعلم أنه الجنون، فبصيرته مازالت حادة بقدر كاف. فهو يتساءل بعد انتصاره، يسأل مؤنس العال:
“ألم يظن أحد بى الجنون؟“
ولا ينفعه انتصاره فى استعادة العلاقة مع الآخرين الذين ألغاهم من زمن، رغم الفتونة والقوة والنصر، ولا يزيده محاولات اقترابهم منه إلا إحساسا بالرفض والكراهية.
“ما أكثر الكره وما أقل الحب“
ويتوحد مع المئذنة بإعلان مباشر:
“سيفنى كل شئ فى الحارة، وتبقى هى”
ويعترف أبوه بذلك:
(ص437): “أصبح غريبا بين الناس غرابة المئذنة بين الأبنية. إنه مثلها قوى وجميل وعقيم وغامض“.
وفوق المئذنة يزداد انفصاله عن الناس الناس:
“كل شئ تحته غارق فى الظلام، لعله لم يصعد ولكن قامته طالت كما ينبغى لها. عليه أن يرتفع، أن يرتفع دائما“.
“وفوق القمة تسمع لغة الكواكب، ومسارات الفضاء، وأمانى القوة والخلود،
ثم يتوحد بالكون ذاته:
“من هذه الشرفة يستطيع أن يتابع الأجيال فى تعاقبها،…وأن ينضم بصفة نهائية إلى أسرة الأجرام السماوية“.
لم يعد بشرا !!!
ثم تأتى النهاية على يد زينات الشقرا
فبداية تعرى إخفاقه أمامها وهو فى عز انتصاره
وقالت لنفسها: “إنه فقد قلبه كما فقد براءته، وانه لا يتباهى وهو لا يدرى بقسوته مثل الشتاء“.
ومرة أخرى يفقد منطقه التسلسل0 فكما ذكر منذ قليل أنه لن يذوق حسرة الوداع، وليس ثمة ما ينتظره إلا الوداع، يرجع فيقول لزينات الشقرا إنه يعمل بنصائحها الغالية حول قصر الحياة.
أى قصر وأية حياة وقد بلغ-فى تصوره-مبلغ الخلود؟
وتلتقط زينات خرفه
وقالت لنفسها:”إنه لا يدرى ما يعنيه كلامه”
لكنها تضيف: “وأن الشر يرفع الإنسان على رغمه إلى مرتبة الملائكة”.
وهذا أيضا تعقيب يحتاج إلى إعادة نظر، لعلنا نستطيع التكهن بما تعنى زينات فى هذا الموقف، أهى الملاك إذ ستخلصه بالقتل مما آل إليه، إذ أنها إذ تقتله.. تعتبر ذلك بمثابة: أنها تنتحر بوعى وإرادة ولا تفعل إلا الخير له، ولها وللناس؟ أم أنها تعنى أن خرفه وكلامه الذى لا يعنيه بالنسبة لشكرها على ماتقوله بشأن قصر الحياة، هو عكس ماتراءى له من إمكانية الخلود فهو بذلك، وهو على قمة قمم الشر (بما هوخلود) قد تراجع إلى تواضع الضعف فبدا ملاكا؟
لست أدرى.
وتأتى النهاية حين أعلنته (وهى تنتحر بقتله)
“– الموت يطل من عينيك الجميلتين“.
فيرد بعناد
“– الموت مات يا جاهلة“
ثم يموت على حافة حوض الدواب، جثة عملاق بيضاء ملقاة بين العلف والروث.
وبموت جلال يعلن إخفاق آخر الحلول، “الحل بالجنون”.
ولعله من المناسب أن نلاحظ أن الوحيد فى الملحمة الذى عمر حتى ناهز المائة كان شخصا عاديا، سكيرا طيبا، فحلا حاضرا، تائبا متزنا، وهو عبد رب الفران (والد جلال الأول)
كذلك ماتت زينات الشقرا (أم جلال الإبن) عن ثمانين عاما.
فهل يريد محفوظ أن ينبهنا إلى أن الشخص العادى، الذى يواجه الموت العادى لاأكثر ولا أقل.. هو الأطول عمرا، إن كان طول العمر هدفا تسكينيا فى ذاته؟.
8 – الخاتمة ..
ليس من مهمة الملحمة أو الرواية أن تقدم مخرجا لمأزقها، أو مأزق الحياة، أصلا.ومع ذلك فقد بدا أن محفوظ يهمه أن يقدم حلا ما، بل لعلى لا أبالغ حين أقول أنه بدا وكأنه ملتزم بذلك.
ولعل أضعف ما فى هذا العمل هو نهايته، ونظرا لأننى أحببت هذا العمل عدة مرات بعدة سبل فى عدة مواقف، وأننى كلما عدت إليه ازددت حبا فيه، فإننى أميل ألا أشجب خاتمته فى هذه الدراسة المقدمة، وأكتفى بالتنبيه إلى بعض مايمكن النظر فيه:
فقد جاءت نبرة الخطابة فى الخاتمة عالية نسبيا، وإن لم تخل منها الملحمة طوال المسار
وقد وجه عاشور الأخير جهده لحمل الناس، لا القائد الفرد، على تحمل المسئولية برمتها، ولكن بصورة لا تتفق مع ما أوحت به الملحمة طول مسارها من خطورة دور الفرد بشكل يحتاج إلى جهد أكبر ومعاناة إبداعية بلا توقف، فى محاولة الخروج من مأزق لا يبدو له حل حتى فى التنظير الفلسفى أو السياسى المباشر، أما أن يعلن الإبداع الروائى (وهو متقدم عادة على التنظير الفكرى، وعن الممارسة الواقعية) – أن يعلن حلا بهذا الوضوح، فإننى رفضته.
يقول عاشور الصغير:
“لقد اعتمد جده على نفسه على حين خلق هو من الحرافيش قوة لا تقهر“.
وظاهرالتناقض هنا أنه هو الذى خلق، ثم ما هذا الاستقطاب (على حين)؟، وهذا الإطلاق ( لا تقهر) ؟
وبدون وجه حق أيضا – حق مستمد من مسار الملحمة أساسا- أعاد محفوظ للتكية موقعا ما كان لها أن تتميز به فى النهاية بعد ما عراها كل تلك التعرية، وإن كان محفوظ قد فتح بابها للإثراء مما هو غيب مفتوح النهاية مولد للإبداع، إلا أن حضور هذا البعد كان ثانويا إذا ما قيس بتأكيد السكينة الهامدة ( رغم وصفها بالصفاء).
ثم إنه محفوظ (عاشور الأخير)، وبطريقة قد تلغى احتمالات الإيجابية التى رجـحناها حالا عاد ففتح بابها، ليـخرج منها درويشا (كأنه مندوب فوق العادة لعاشور الناجى الكبير، المختفى ، المهدى المنتظر) يعلن أنه:
“غدا سيخرج الشيخ من خلوته، وسيهب كل فتى نبوتا من الخيزران وثمرة من التوت“ (ص567)
فنقف طويلا أمام يهب، وأمام ثمرة ..
فأين: يحصد .. (بدلا من “يهب”؟ وكيف البذرة ؟.
وأخيرا، فالوعد بفتح باب التكية كان لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة..
ففضلا عن الشك فى طبيعة براءة الأطفال وقصورها، ناهيك عن احتمال إسهامها فى التهيئة لكل شر من خلال التمادى فى تقديسها، فإنه -قطعا- ليس للملائكة طموح.
وأتوقف .
9- … المخـــرج:
وبالرغم من أن محفوظ قد أنهى هذا العمل الرائع بما لم أستسغه، فقد عشت الملحمة بما أعطت وما وعدت بحيث أستطيع أن أقول إنها قد أشارت إلى التوجه الخلاق نحو المخارج الحقيقية لموضوعية الموت وتحديات زحف الزمن على الوجود الفردى ، وهذا أيضا مبحث يحتاج إلى دراسة مستقلة، فأكتفى حالا بالإشارة إلى ما أشارت إليه الملحمة.
ذلك أنه بعد أن أخفقت كل الحلول المواجهة، مواجهة الوعى بيقين الموت، من أول الإنكار، والتأجيل، والعمى ، والهرب من …، والهرب إلى …، والهرب فى،… وبعد أن أخفق الجنون فى إيقاف الزمن وصد الموت، وحتى بعد أن أخفق الحل الأخير كما ورد فى الخاتمة بما أعده نوعا آخر من الهرب “فى الناس = الحرافيش”، وهو بديل أرقى من الهرب فى الأبناء من صلب الفرد، وإن كان أكثر تجريدا وأخفى أنانية، إلا أنه هرب أيضا، أقول بعد كل هذا الإخفاق تبدو المسألة وكأنها بلا حل.
وأكتفى هنا بالإشارة إلى أن الأمر ليس كذلك تماما، فقد أعلن محفوظ من خلال الملحمة ( وليس بنهايتها):
ان الفرد لا يولد إلا إذا ولد نفسه باستيعابه طفرة تخلقه من واقع جدلية وجوده.
وانه لا يلد نفسه إلامن واقع ما يختمر به داخله وخارجه من علاقات ونبض ومواكبة فاعلة متفاعلة مع الناس والطبيعة على حد سواء.
وان هذه الولادة ليست حلا وإنما هى خطوة ضرورية وبداية واعدة.
وانها (إعادة الولادة) إذا انتهت إلى التركيز على الفرد فهى موت جديد، فى صورة الانحراف، أو الاغتراب، أو الجنون، وكل ذلك يلغيها تماما إذ ينتهى إلى عكس ما تفجرت من أجله، وإليه.
وان هذه الولادة المتأخرة هى الإبداع البشرى الناتج عن اكتساب الوعى بكل طبقاته وتضفرها معا، وهو ما يمكن أن أسميه إبداع الذات.
وان هذا الإبداع لا يتمادى إلى غايته- للفرد- إلا من خلال احتمال تكراره عند الناس، كل الناس، وترجيح فرص هذا التكرار انطلاقا من المبدع الفرد، وهو أول علامات التوجه الإيجابى نحو المخرج الحقيقي.
وان هذا الاحتمال-ولادة الذات-لا يتم إلا بوسائل وفرص، ليست غاية فى ذاتها بقدر ما هى حق مواكب لمسئولية وعى الإنسان، ومن أهمها العدل الذى شغلت مساحته ما يحق لها أن تشغله طوال الملحمة.
وان ما يلى خطوة ولادة الذات، فالالتحام بالناس فى إطار العدل، هو الوعى بما بعد الإنسان، طولاوعرضا.
“من هنا يصبح الموت فى هذا الإطار نقلة فرد، لا تحتاج لكل هذا الجزع مادام ثمة من يكمله ويمثله عرضا، وما دام ثمة ما يذوب فيه ويتمثله طولا. وقد قالت الملحمة كل ذلك“.
10- آفاق واعدة:
لا يكتمل هذا العمل-وبداهة- إلا باكتماله من حيث محاولة ربط شتى أبعاده، ولست متأكدا إن كان ذلك سوف يكون من أوائل ما سأقوم به فى المدى القريب، لذلك فضلت أن أشير فى عجالة إلى هذه الأبعاد، مجرد عناوين، وملاحظات، لعل فى ذلك مايحفزنى إلى الرجوع إليـها من جهة، أو لعل فيه ما يذكر قارئ هذا العمل المقدمة إلى أن المسألة لم تتم فصولا. فيلتمس لى العذر فيما افتقده مما قصرت فى تقديمه، رغم أنه لم يغب عنى.
ومن تلك الآفاق الواعدة:
1- كيف تناولت الملحمة البطولة من كل الوجوه ؟
2- وماذا عن دورات الحياة فى تنوع حضورها فى الملحمة (مثل: دورات الثروة، ودورات الفتوة ودورات الخيانة..إلخ) ؟
3- و أين موقع الجنس – بصنوفه- وكما ورد فى الملحمة – من قضية الحياة والموت،؟ وهل له صور حية وأخرى ميتة ؟
4- و ما مساحة كل من الخلاء، والغموض، والظلمة، والظلام، والمجهول، ودلالاته كما وردت، وألحت فى الملحمة وكما ألحت عليها؟
5- وكيف وظف محفوظ الأحلام بطريقة مباشرة، أكبر دلالة، وأقل تكثيفا وروعة من عمله التالى (رأيت فيما يرى النائم)؟
6- ثم كيف تناول بـعد الجنون،؟ وكيف وظف لفظ الجنون، فاختلطت الأمور، أوتعددت الدلالات؟
7- ثم ما موقع الحدس التنبؤى من إعادة الولادة، والحلم، والجنون ؟
8- وما موقع القتل- وكم تكرر- (وفى درجة أقل الانتحار) من قضية الموت من خلال ما قدمنا ؟
9- وكيف تواترت العلاقة بالأم، والأرض، والرحم، وعلاقة ذلك بما يسمى عقدة أوديب ؟
10-وما دلالة الزواج الثانى، الذى بدا وكأنه حل جاهز فى أكثر من جيل (حوالى خمسة)؟
11- وأين يقع الدين، فالإيمان من مسيرة التحديات، بأبعادهما المتعدده، وحضورهما صراحة أو ضمنا؟
12- وما علاقة التكية، وطبيعتها، بما يقابلها فى مقام الجبلاوى مثلا ؟
13- ولماذا كان الإفراط فى إطلاق الحـكم والمواعظ التقريريةـ طوال القصيدة، دون مراعاة على لسان من تجرى الحكمة ؟
14 – وهل كانت للأسماء دلالة فى ذاتها ؟
15- وكيف تناولت الملحمة موضوع العلاقة بالآخر من خلال هذا اليقين بالموت خاصة، والوعى بالمسار؟
16- وكيف وظف محفوظ تكرار الرحيل والاختفاء لفتح آفاق ما لم يذكر صراحة ؟
17- ثم بوصفها رواية أجيال، ألا يجدر أن تقارن بأعمال محفوظ نفسه فى روايتيه: الثلاثية، و أولاد حارتنا، أو فى أعمال غيره، وأقرب ما بدأت به هو مقارنتها بمائة عام من العزلة لجابرييل جارثيا ماركيز ؟
تذييل:
حين هممت أن أكتب هوامش لهذه الدراسة وجدتنى أقوم بعمل آخر، مقارن ومتكامل، يكاد يفوق الدراسة الأولى، ثم لمحت كل هذه الآفاق التى أشرت إليهافى نهاية الدراسة، والتى لم أتمكن من تناولها، فقررت أن أتوقف بعد الهامش الأول الذى يقدم محفوظ شاعرا، ثم جعلت الهامش الآخر هو شجرة عائلة عاشور الناجى حتى إذا أراد القارئ أن يتذكر هذا الشخص أو ذاك أثناء السرد، ساعدته فى ذلك.
وقد قدرت أن هذه الدراسة هى بمثابة المتن الذى لا يحتاج إلى هوامش، بل إلى شرح على المتن أرجو أن أتمكن منه بما ينبغى.
ومع ذلك فقد يكون مناسبا أن أثبت الهامش الوحيد الذى بدأت تسجيله.
(1) نعم: هى ملحمة،
هى: قصيدة بأسلوبها الشعرى المميز،
هى قصيدة بصورها المكثفة، وإيقاعها المتصاعد المتناغم، المتبادل بين اللهاث الموقظ، والانسياب العذب، وبتخليقها للغة، وتفجيرها لطبقات المعانى فى المقطع الواحد إلى آخر ما يمكن أن يتصف = به الشعر.
- فى ظلمة الفجر العاشقة، فى الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة
- عندما تشرق الوجوه بضياء السماح، وحتى الحشرات تمسك عن الأذى.
- رغم ذلك هفت فى ضميره الوساوس كما يهفو الذباب فى يوم قائظ.
- سرى التوقع فى ثنايا الخمول
– حتى اصطبغ الأفق بحمرة نقية متباهية، تلاشت أطرافها فى زرقة القبة الصافية، وأطل من وراء ذلك أول شعاع مغسول بالندى، وتراءى الجبل رزينا صامدا لا مباليا.
- ركبه عناد ذو عين واحدة
- كان يذوب فى السماع تحت ضوء البدر الذى حول بكيميائه بلاط الساحة إلى فضة
- ترامى جيدها كالشمعدان الفضي. شئ هتف به أن الجمال الآسر قد خلق للقتل، وأن الأسى أثقل من الأرض وأشمل من الهواء، وأن الإنسان لا يتنفس بحرية إلا فى منفى الهجر.
- تسقط الأمطار فوق الأرض ولا تتلاشى فى الفضاء. وتومض الشهب ثانية ثم تتهاوي. والأشجار تستقر فى منابتها ولا تطير فى الجو، والطيور تدوم كيف شاءت ثم تأوى إلى أعشاشها بين الغصون. ثمة قوة تغرى الجميع بالرقص فى منظومة واحدة لا يدرى أحد ما تعانيه الأشياء فى سبيل ذلك من أشواق وعناء. مثلما تتلاطم السحب فتنفجر السماء بالرعود.
الهوامش:
[1] – قرنت فى صورتها الأولى فى المؤتمر العربى الرابع للطب النفسى صنعاء ديسمبر 1989.
(*) ثم قرئت فى صورتها الحالية فى الندوة الدولية لأعمال نجيب محفوظ. كلية الآداب. جامعة القاهرة. مارس 1990.
(*) ثم نشرت فى مجلة فصول المجلد التاسع، العدد الأول والثانى سنة 1990.