- المقدمة
- الضياع
- كرسى على عجل
- فى القفص
- الشعلة والحريق
- أبلة الناظرة
- العلامة
- كبيرهم
- الركوب بالدور
- أكبادنا
- قبل النهاية .. أو قبل البداية
- أغنية الحياة
جمعية الطب النفسى التطورى
بالاشتراك مع
دار المقطم للصحة النفسية
عندما يتعرى الإنسان
صور من عيادة نفسية
أ.د. يحيى الرخاوى
أستاذ الطب النفسى بالقصر العينى
الطبعة الأولى 1972
الطبعة الثانية 1979
الطبعة الثانية 2011
إهــداء
” إلى أطفال العالم وشبابه. . .
من كل الأعمار. . . “
“الرسوم بريشة “إنسان” رسمها دون أن يقرأ حرفا مما كتبت. . .
وأهداها لى. . . وحين استأذنته لأضمنها الكتاب
رفض ذكر اسمه، ماذا أقول لإنسان ينبض بالحقيقة.؟
الحقيقة واحدة، والأختلاف فى زاوية الرؤية. .
ليس إلا. .
فلنقرأ الرسم وحده. . أو مع الحكاية
وعذرا لقسوة الحقيقة. .
أحيانا”
”. . . من قرأ هذا الكتاب، ولم يفهم ما فيه،
ولم يعلم غرضه ظاهرا وباطنا، لم ينتفع بما بدا له
من خطه ونقشه، كما لو أن رجلا قدر له
جوز صحيح لم ينتفع به إلا أن يكسره”
برزويه (رأس أطباء فارس)
كليلة ودمنة
مقـدمة الطبعة الثانية
عندما صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب لم أكن أتوقع لها أن تلقى هذا القبول من مختلف الاتجاهات، وحين سمعت عنها ما طمأننى إلى إمكان التواصل، قررت أن أعيد طبع هذا العمل الذى لا أعرف حقيقة مكانه بين الأعمال الأدبية والعلمية: أهو قصة قصيرة، أم صورة كلينيكية أم حكمة عصرية؟ ولا أجد مفرا من الاعتراف من أنى تغيرت تغيرا جذريا منذ صدور هذا العمل حتى الآن، تغيرت حتى أصبحت أسائل نفسى: هل من الأمانة أن يوضع اسمى الآن على عمل لاينتمى إليه فكرى الآن بالدرجة المناسبة؟ ولكن للتاريخ أحكامه الخاصة، ومادام تاريخ صدور أول طبعة مثبتا فهذا هو فصل الخطاب.
إلا أن من حق القارئ أن يعرف بعد مضى هذه السنين موقفى الجديد من هذا العمل، ومن أعمال سابقة باعتبارى قارئ جديد لكاتب قديم كان هو “أنا”حينذاك
والحق أقول أنى كنت كلما عدت إلى هذا الكتاب أتصفح وريقاته كنت افاجأ بأنى كتبت فيه ما أظن أنى لم أكشتفه فى نفسى أو فى “الإنسان” إلا مؤخراً وهذه القضية جعلتنى أومن أكثر أن القلم قد يسبق التغير الكيانى لصاحبه، ومع ذلك، فإنى أعترف أن تلك القيم التى وردت فى الكتاب، والتى لقيت قبولا عند الناس تحتاج إلى وقفة طويلة وهادئة.
وإنى أحسب أن قيمتين اثنتين غمرتا الكتاب حتى بدا لى وكأنه إنما كتب ليوصلها إلى الناس أساسا وهما قيمة “ضرورة الحب” وقيمة “إنسانية الانسان” وبعد مرور هذه السنوات الحافلة بالخبرات، والإحباطات وإعادة النظر، ورحلات العمق، تبين لى أن ما يتلقاه الناس بحماس مناسب وتأييد خاص، قد لايكون هو هو الأقرب إلى الحقيقة أنما قد يعلن ماهية احتياجهم فى مرحلة بذاتها ويبدو أن الانسان المعاصر يحتاج إلى تدعيم هاتين القيمتين كأشد ما يكون الاحتياج، ولكن هذا لايعنى أن المفكر أو الكاتب لابد وأن يستجيب لاحتياج قارئه لا أكثر ولا أقل، بل إن عليه أن يأخذ بيده خطوة أبعد من احتياجه الحالى، خطوة تتعلق بتخطى هذا الاحتياج إلى بناء جديد على مسار جديد، وبهذا يسهم المفكر – إذ يلبس ثوب الفن أو العلم – فى دفع عجلة مسيرة الانسان لا فى الاقتصار على وصف مرحلته والحوار معها وتغذية احتياجاتها، وقيمة الحب كما شاعت، وكما استجاب لها قارئ هذا العمل . . تحتاج إلى وقفة طويلة ولا أظن أن الإنسان المعاصر فى حاجته القصوى إلى الحب والحنان – كما شاع عنهما – يشير إلى قيمة إيجابية بالضرورة . . اللهم إلا إذا تم تعريفها بشكل أعمق ومسئولية أكبر، ولا أحس أن هذا الكتاب قد قام بهذه المهمة كما أتصورها الآن، لكنى أعترف أنه قد فتح الباب أمام من يريد أن يعيد تقديمها، بحجم مسئوليتها، ولعلى أكون أحد هؤلاء فى أعمال لاحقة.
أما قيمة “إنسانية الانسان” فهى أيضا قد غمرت الكتاب من أوله إلى آخره كما ذكرت ولا أحسب أن هذا العمل قد استطاع أن يقدم للقارئ أكثر من ضرورة التفكير فى ماهية الإنسان بجوار التفكير فى احتياجه، ولو أن الماهية تحدد الاحيتاج بشكل أو بآخر إلا أن ماهية الانسان بلغت من التعقيد بحيث لا يكفى أن نستنتجها من احتياجه إلى الحب أو إلى غيره ، وهذه قضية أخرى أثيرت فى هذا العمل ولم يشفى الغليل منها.
وحين أدركت هذا القصور – كما يبدو لى الآن – هممت أن أعيد كتابه مادة الكتاب .. إلا أنى تراجعت فى آخر لحظة مدركا كيف يمكن أن أشوه عملا مفيدا رغم قصوره، لقدا أصبح ذا شخصية مستقلة ، وربما تكون هى الأصح والألزم للمرحلة، وليس لى حق الوصاية عليه، فليخرج إلى الناس ماداموا قد أحسنوا لقاءه أول مرة … وليؤد ما يستطيع، لا أكثر ولا أقل، ولا مفر من أن تأخذ كل مرحلة حقها وبالعمق المناسب.
ولكنى أنتهى إلى التحذير الضرورى ممن يتصور أن كاتبا ماهو هو الذى يكتب فى كل آن، فمن خبرتى علمت وتعلمت أن من لا يتغير لايمكن إدراجه تحت طائفه الكائن الحى المتطور بالمعنى الحقيقى.
وهأنذا أطرح تفكيرى كما كان راجيا من القارئ أن يأخذ منه ماشاء كيف شاء، شريطة أن يتذكر أنه ليس “أنا” الآن. .
أما من أنا الآن. . ؟
فالبحث جار والعمل متصل
وقد ألحقت بنهاية الكتاب ثبتا ببعض ما أخرجته المطابع لى ما بين هاتين الطبعتين، لعل فيه مايرد على بعض هذا التساؤل إن كان ثمة حاجة لذلك.
***
وقبل أن أختتم هذه المقدمة أود أن أعلن من موقعى هذا بقدر رؤيتى أننا -مصريين وبشر- نمر هذه الأيام بمرحلة ولادة جديدة تغير فيها كل القيم، كل القيم، وأننا سنطفر طفرة عملاقة لو استوعبنا هذه الفرصة بقدرها، وإنى إذ أعود بين الحين والحين للفصلين الأخيرين فى هذا الكتاب “قبل النهاية أو قبل البداية” ثم “أغنية للحياة” أحس أنهما يمثلان لى هذه المرحلة بحق، وأتمنى أن يصل ما أردت بهما إلى وجدان القارئ بالقدر الذى رأيته وعنيته، لتقوم الكلمة بدورها فى التغيير الجذرى الذى نحن فى أحوج ما نكون إليه.
ومن واقع هذه المرحلة الحاسمة لابد أن نضع فى الاعتبار حكما آخر غير قبول الناس، وهو حكم التاريخ، ولابد أن نضع هدفاً آخر غير هدف الانتشار . . وهو هدف التنافس الحضارى الشريف بين بنى البشر ذلك التنافس الذى نأمل أن يحل محل الصراعات المسلحة التى تمثل حاليا بحق عاراً للإنسان المعاصر وحطة من قدر تفكيره لم تعد تليق .
ألست معى أخى القارئ أن الكلمة أصبحت ذات قدسية مضاعفة والتهرب من التغيير الحتمى ليس له معنى إلا الضياع والهلاك . . .
فليكن العهد بيننا أن “نكون” وأن “نصير” بشراً بحق
ونحن قادرون عليها .. ..
وعليك السلام
يحيى الرخاوى
الاسكندرية فى 11 / 5 / 79
مقدمة الطبعة الأولى
على لسان الحيوان تعلمنا الحكمة، وقال بيدبا الفليسوف لدبشليم الملك حكمة الأمس. .
وحكمة اليوم أبعد منالا وأصعب تحقيقا. . فهى أشهد اختلاطاً بالوهم من أى وقت مضى، وبذلك فهى أقل تحديدا ووضوحا.
وهى لا تجرى على لسان الحيوان، ولكن على لسان الإنسان الذى رفض أن يجارى أغلب الناس نوع إنسانيتهم الحالى، وهم حين قالوا “خذوا الحكمة من أفواه المجانين” لم يتعدوا الحقيقة، ربما بغير قصد، أو حتى بقصد السخرية، لأنه ربما ثبت لمن يبحث عن الحقيقة أن المجانين هم العقلاء أو العكس، ونحن بذلك لا نحبذ الجنون ولكنا نحترمه ونبحث عن العدل والحق والخير من خلال دراسة مأساته.
وقد حاولت أن أبحث عن حكمة اليوم فى حديثى مع أصدقائى المرضى ووجدتها فى كل مرة بلا استثناء، وحين كنت أعجز أن أراها، كنت أعلم أنى لم أفهم لدرجة كافية، أو أنه – صديقى المريض – لم يعان لدرجة كافية. .
وسأحاول فى هذه اللقطات أن أعرض بعض زوايا من صور الإنسان حين يتعرى ليهيم على وجهه باحثاً عن حقيقة ذاته، وإنى إذ أعرض هذه الصور التى لا تصف إنسانا بذاته، أرجو أن يقبل القاريء ابتداء صداقه أصدقائى، فهم أعز عندى من أن أعرض صورهم إلا على أصدقاء، رغم أنه لا توجد لقطة واحدة يمكن التعرف على صاحبها الحقيقى احتراماً وعهداً.
***
قال أحد هؤلاء الأصدقاء، “الفتى الذى اتضحت رؤيته وأستقام على الطريق”:
- أما وقد انتهى بنا المطاف، فهلا حدثتنى عن بعض ماعلمت من أمور النفس وأحوالها لعى أتعلم منك ما لن أجده عند غيرك، وربما نفعت به غيرى.
قال الحكيم:
- أما عما رأيت فهو كثير كثير، ليس أكثر منه إلا ما لم أره، أما ما عملت فهو أقل مما رأيت فليس كل ما رأيته علمته، كما أنه ليس كل ما علمته أو رأيته. . فكم يرى العالم – مهما علم – رؤيا لا يجد لها فى علمه تفسيرا، وكم يبحث عن حقيقة تصورها قانونا فلا يصادفها فيما يرى أبداً، وليس هذا نقصاً فى قدرته، ولا هو قصور فى علمه، ولكنها طبيعة العلم. . وتقلب صور الحقيقة، وما دام العلم ليس له نهاية فى أى حال – وخاصة فى هذه الأحوال – فالمجال يتسع لكل ما يقال.
أما أن نتعلم مما أقول : فهذا مما أراه جائزاً ولا أحسبه قاعدة يمكن إطلاقها، فأحوال النفس لا يتعلمها الإنسان من الكلام، وقوانينها لا يصدر بها أحكام، وعلينا أن نقيم الحقيقة – أو المعرفة التى نتصورها حقيقة “الآن” – بقدر ما تحتمل اللحظة الحاضرة من إدراك الأمور، بكل ما أتيح لنا من وسائل حالية. ولكن علينا أن نحمل أيضا تفتحا دائما لكل جديد , ولتكن التجربة هى الأصل فى كل حال.
وتجارب الإنسان الفرد لا يعدها تجارب الغير، وإنما جعلت معرفة تجارب الغير خيرا لجواز النفع منها لا للاقتداء بها، فالانسان هو ذاته بكل معالمها الخاصة، ولا بد أن يعرف نفسه فى هذه الصورة الفريدة. . وأن يحقق وجوده كوحدة مستقلة فى تفاعل دائم مع الدنيا الصاخبة بالناس والأشياء، ولابد أن يهتدى فى ذلك بما يتعلم ويعلم، ولكن عليه أن يذكر دائما أن الحقيقة الأساسية هى أنه “إنسان فرد ليس كمثله أحد آخر” وأن وجودهجزء من وجود الآخرين، أنه بغير تحقيق هذه الذات لن “يكون” شيئاً، ولا حتى فى نظر الآخرين.
وأما ما تسمعه منى ولا تجده عند غيرى، فأعلم – بنى – أنه ليس عندى جديد غريب، وأن الذى يستطيع أن يرى كما أرى، ويحس كما أحس فإنه قد يجد كل طبيعى غريب أو كل غريب طبيعى، ثم هو لابد سيجد مفتاح الحقيقة، ولعل العثور على مفتاح الحقيقة هو الطريق الأول أو الأوحد، لأن الحقيقة ذاتها غير ثابتة ولا هى محدودة ولا محددة، وربما كان السعى إليها هو غاية تحقيقها فى نفس الوقت، فليس المهم أن ترى المنار الذى يضيء، ولكن المهم أن تمشى فى نوره، وليس ضروريا أن تصل إلى الشمس حتى تتمتع بضيائها ودفئها. . , ولذلك فإنك مهما سمعت ووعيت فستجد أن ما سمعت هو القليل وأن ما ستلاقى بعد ذلك هو الكثير الذىلا تنتهى حكمته ولا تبلى جدته.
وأما أن “ينفع حديثنا هذا غيرك” فهذا هو ما يدعونى إلى الاستجابة لمطلبك، ولكنه هو أيضا ما يخوفنى من الحديث معك، لأن العلم الذى لا ينتفع به أكثر الناس لهو أمانة ضائعة، وخزانه كسارق الحوهرة الذى لا يستطيع بيعها، فيحبسها ويعيش فى فقره مع أوهام المطاردة، وخدعة امتلاك شيء ثمين وما هو بثمين.
على أن الكلام كالسكين ذى الحدين: قد يأتى منه الضرر من حيث ترجو به النفع، وبما أنه ليس هناك وسيلة للتفاهم أفضل من الألفاظ فى مجالنا هذا، فلابد من الحذر ونحن نرسل الكلم، ولا بد من الحرص وأنت تسمع الخبر، ولتأخذ منه ما تحس أنه وافق مكاناً صالحاً فى فكرك، ولا تقحم على نفسك ما لا ترتاح إليه طبيعتك، وبهذا ينتقى كل من الحديث ما يصلح له أو يصلح به، لأنه ليست للتجارب قواعد ثابتة وإنما هى أمثلة تنفع أو لا تنفع، فانك انما تسمع منى جانباً من رؤيتى لكيان ما، فى لحظة ما. . ثم إن هذه الصور قد تصل إليك بإحساس حى يجعل إدراكها كواقع قائم أمر سهل ومفيد؛ أو هى قد تظل ملساء مسطجة لا تدرك منها إلا بعد الصورة. وفى هذه الحالة فلا فائدة منها وما هى إلا رواية تتناقل مثل بعض القصص الجوفاء. .
أما أن تنفع الناس بدورك، بما تسمع وتعى، فإنك إنما تفعل ذلك إذا أدركت ما راق لك فعشته وتمثلته; ثم حفظته ووعيته، ثم كان جزءا من كيانك ونفسك. . فإنه لا محالة ينضح بالخير على غيرك، فإنما تنتشر الحكمة إذا كانت هى الحقيقة، وإنما تتأصل الحقيقة إذا اختلطت بالذات لتصبح إيمانا; ثم يكون الايمان عملاً طبيعياً تلقائياً سلساً.
وأخيرا. . فإنى أحدثك اليوم لأنه كما قلت قد انتهى بنا المطاف فى تجربتك، ولو أن المطاف لم ينته لما كان لهذا الحديث مكان ولا معنى ولا فائدة، فإنما يقع الضرر من تناول القواعد العامة وكأنها الدواء الناجع لمرض بذاته، فلو أنك مازلت “الفتى المريض” لما كان لهذا الكلام جدوى، بل لكان السكوت عنه أبلغ وأجدى فالعهد القديم بيننا قد انقطع، ولنتفق على أن يدور الحديث بين “الفتى” و “الحكيم” لا بين “المريض” و”الطبيب”، لأن هذا الموقف الأخير دور له أبعاده وظروفه وشروطه التى تختلف من فرد لآخر اختلاف بصمات اليد، بينما حديثنا هذا لا يعدوا أن يكون رؤية عامة قد يهدى من هم فى مفترق الطرق إذا رأوا فيه شيئا من أنفسهم، يشرح لهم أمسهم بتجاربه وأحداثه، ثم يحدد لهم آنهم وحاضرهم، ليرسم لهم غدهم.
***
على أنى يا بنى لا أطمع فى الكثير، فإنى بهذا الحديث ألقيت فى بحر الركود والظلام حجرا شحنته بكل ما أحمل للانسان من حب، ومهما كان الحجر صغيرا فأملى أن يهز الصفحة الراكدة فتنزاح دائرة صغيرة لتصبح دوائر متتابعة.
فاذا خرجت من هذا الحديث كله ببضع من الناس مثلك يا بنى، اكتملت يقظتهم إذ هزتهم الحقيقة فساروا على الطريق حتى نهايته. . . أو إذا أثرت به علامات استفهام وتعجب عند بضعة عشرات آخرين يعقبها أنه “ربما”. ., أو حتى إذا هيجت به الرفض للقديم والجديد معا عند بضعة مئات., إذا تم هذا أو شيء من هذا فقد حققت ما أردت.
***
كما أوصيك – بنى – ألا تتعجل الحكم على الأمور، فأنت لن تدرك أول الحديث إلا بآخره، لأنه حديث يكمل بعضه بعضا، فاسألنى يا بنى ما شئت وسأبحث لك فى جعبتى عما يشفى غليلك.
قال الفتى:
فاضرب لى مثل هذا الجيل – وكل جيل – حين يرفض ما هو كائن قبل أن يجد بديلا يصلح أن يكون.
قال الحكيم:
فاسمع منى بنى مأساة ذلك الشاب الذى تحطم وهو يبحث عن داخله.
الضياع
كان ذلك أمر غلام ولد كما يولد الناس فى هذه الأرض الطيبة:
ففى ساعة متأخرة من لية شتاء – أو قل فى ساعة مبكرة من صباح يوم تال – طبقا لمواقفك من الزمن – ترددت بين جنبات ذلك البيت المتوسط فى كل شيء صيحات طفل أطلقت أمه سراحه إلى رحاب الدنيا، واستراحت فى هدوء عظيم، يحسبه الناس إعياء وما هو كذلك، فهى تنصت إلى هذا المخلوق الجديد بسعادة فطرية بالغة، فرغم الجهد ورغم كل شئ. . كا ن يخامرها شعور لم يصل إلى درجة الوعى بأنها أكملت عملا مجيدا طوال أيام وليال عاشتها تسهم فى خلق وتكوين كائن حى جديد، ولعله شعور فريد تختص به المرأة الأم، ولعل هذا هو ما يميزها عن الرجل، ولعل هذا أيضا هو ما يدفع الرجل إلى محاولة المساواة بالمرأة (!) حين يحاول أبدا عملا أصيلا يعوض حرمانه من هذه القدرة الطبيعية على الخلق بمجرد الاحتواء، لعل. .
قال الفتى:
إذا فقد خرج صاحبنا إلى رحاب الدنيا مثل كل البشر.
قال الحكيم:
- نعم، ولكن رحاب الدنيا كانت أضيق من بطن أمه، فمنذ ملأ رئيته بالهواء، وملأ أذن أمه وجدانها بالصياح، ابتدأت عملية ملء، رأسه بالأوهام، فها هو يفرض عليه أسلوب الحياة الجارى بتتابع وتصميم يلفانه ويعوقان حركته تماماً مثل اللفائف التى قيدت حريته بعد ولادته.
فقد تم الانقضاض على كيانه بهذه الكوافيل والأوهام فى آن واحد، وكأنه ارتدى قميص الأكتاف الشهير، ويفسر الأهل هذه التلافيف ‘بخوفهم’ عليه: من الجو مثلا، والجو. . هو الطبيعة، وهو لم يزل جزءا منها، والطبيعة هى مصدر الحياة وأصل التوازن، فكيف تحمل ابتداء تهديد الخطر.
ولكن هل هم يخافون عليه فعلا أم يخافون منه؟ أليس فى هذا الزعم الأخير تفسير لهذا الانقضاض، المزدوج بالكوافيل والأوهام جميعاً.
ولكن من أين يأتى الخطر من هذا المخلوق الضعيف الذى لم يتشكل بعد؟
ربما يكمن فى أنه لم يتشكل بعد، فى أنه مشروع إنسان لم يصغ بعد مثلما صيغ أبواه ومجتمعه؟
أهو احتمال أن يتشكل بشكل مخالف هو الذى يبعث الخوف فى الجميع لأنه يهدد ضمنا أوهامهم التى عاشوا فى أمن سخفها – أو فى سخف أمنها – حتى ذلك الحين؟
أيكون هذا هو السبب الذى يجعلهم يسرعون بإدخاله فى نفس الجهاز ليخرج بنفس الأبعاد التى يعيشونها، وعلى نفس الهيئة؟
ويبدو يا بنى أنه كل ذلك معاً.
فمن قبل أن يحس له بكيان ما، أخذوا يسارعو بإغراقه فى دوامة من التعويد، بعد التقييد، فمثلا هو يتعود على ذلك الشيء البارد الذى يلامس مقعدته فى مواعيد منظمة مع ما يصاحب ذلك أو يتناوب معه من تأنيب وهجر وهو يمارس وظيفة لا تختلف فى نظره عن الأكل والشرب، بلى حتى الأكل والشرب كانا يتحددان بساعة على الحائط يحترمون دقتها أكثر من احترامهم دقاته هو، فليصح أو تدق عنقه. . . فالساعة لم “تدق” بعد.
وتأتى سائر الأحكام على هذا النمط الفريد.
وهو يستسلم لكل ذلك، ويحقق بهذا رغبة والديه فى أن يكون نظيفاً ظريفاً، صالحاً “للعرض” على الزوار مع التحف التى على المناضد والصور التى على الحائط، والسجاد الذى على الأرض وسائر المميزات التى تحدد نوع طبقتهم ومعالمها، وكانت نظافته وهدوءه ضمن هذه المعالم المميزة فضلا عن أنه كان يقوم بوظيفة تبرير حياتهم التى لا بد أنها لا معنى لها بدونه، وإلا لما أجابوا السائل – وربما فى ذلك أنفسهم – بأنهم إنما يعيشون من أجلهم (الأولاد), وكأنهم بغير الأولاد ليس لهم حياة قائمة بذاتها، فلو أن لهم حياة وذوات مستقلة، لتركوا للأولاد حياتهم وذواتهم، ولكنهم يقنعون أنفسهم – ويتبادلون الإقناع مع الآخرين – أنهم يضحون فى سبيل الصغار. . فى حين أنهم يحتوونهم احتواء ليضمنوا لأنفسهم انتشاراً أو استمراراً.
وهكذا يتحمل صاحبنا ضياع والديه، كما يتحمل خوفهم ونقصهم، ويختلط الخوف بالوهم بالضياع ليصبح قالبا يصاغ فيه الأولاد، وهو قالب متين مضمنون، يحفظ صاحبنا ويحافظ عليه. . يحافظ على حياته التى هى حياتهم التى هى ‘لا شيء’ على قدر إدراكهم، أو قل على قدر عدم إدراكهم.
قال الفتى للحكيم:
- ولكنى أراك تصف الوالدين بلا رحمة.
قال الحكيم للفتى:
- بل أنا رحيم بهما قبل أولادهما، فإن المأساة فى أنهما ‘لا شيء’ بإدراك أو بغيره، وهما فى خوف وحسن نية يحاولان أن يعددوا اللاشيء غير مدركين أن حاصل الضرب دائما لا شيء.
قال الفتى:
- ولكن الوالدين ليسا كل شيء. . فسرعان ما سيتكلم صاحبنا وينطلق ويعرف طريقه إلى العالم الأوسع.
قال الحكيم:
- نعم . . . ربما . . . وياليته فعل.
لقد كان خليقا به أن يجد القيود تخف عنه بعد أن أصبح ناطقا متحركا، فهو يستطيع التعبير عن نفسه فى المرحلة الجديدة، ولكن اللغة الجديدة فى صورة الألفاظ كانت عليه لا له، فقد سهلت سبيل تضييق الخناق، وبالتالى تحقيق الصياغة النموذجية ‘اجتماعيا’ ولو عددت لك الأمثلة ما انتهى الحديث أبدا، ولكنى أعرض عليك بعض النماذج الرمزية لمعانى الألفاظ، فقد أصبح لفظ ‘الشارع’ يعنى عنده الموت تحت العجلات، و ‘السلالم’ قصف الرقبة، و ‘الظلام’ هو الجان و ‘القذارة’ هى ابن البواب … إلى آخر ذلك القاموس الذى تعرفه، وهو يعيش كل لفظ بمعناه المفروض عليه فى استسلام من لا يملك إلا الاستسلام، ولا تزال حصيلته تزداد بمرور الأيام لينمو قاموس المعانى بسرعة فائقة ويشمل أبوابا وفصولا جديدة تزيد حبكة الصنعة الاجتماعية فلا بد بعد أن تزدحم الصفحات من أن تصنف وتقسم: ففى فصل العيب، باب الحرام – مثلا – نجد ألفاظا تشير إلى أعضاء فى جسمه وأفكار فى رأسه، وعواطف فى صدره، وقد كانت تغلبه الحيرة، حتى وهو فى استسلام من لا يملك إلا الاستسلام، فيتساءل: لماذا خلقت هذه الأعضاء والعواطف ما دامت عيبا أو حراما
ويوضع فى رأسه – أى يقال له – إنها إنما خلقت لنخفيها، أو حتى لنحاربها، فيخجل وينكمش، ويستسلم أكثر.
قال الفتى للحكيم.
- ولكن هذا يحدث لكل الناس.
قال الحكيم:
-وربما كان هذا مأساة كل الناس.
قال الفتى:
- ولكن يبدو أنه لا بديل لذلك.
قال الحكيم:
- بل إننا نحاول أن نجد البديل، إذ نتدارس الحكمة الملقاة على الطريق فى صورة شظايا النفوس المتفجرة بدل أن نجمعها لمجرد لصقها لنمنع الأذى عن أنفسنا.
قال الفتى:
- ولكن ماذا فى الشظايا المتناثرة من حكمة.
قال الحكيم:
- إن لبابها الفطرة. . وهى أظهر ما تكون فى الشظايا عنها فى الكيان المغلق المتكامل والفطرة هى الحقيقة . . فالمعرفة . . فالحياة.
قال الفتى:
- ولكنه طريق صعب.
قال الحكيم:
- ولكن حياتنا تستحق كل صعب، إذا كان لنا أن نحياها
ونطورها . . وإلا فإن المصير كله ألم وضياع . . مثل ما حدث لصاحبنا.
قال الفتى:
- وكيف كان ذلك؟
قال الحكيم؟
- حمل صاحبنا قاموس الألفاظ بمعانيها الضخمة الفخمة، ومضى مكبلا بلفافات المجتمع وكوافيله يتحدث بلغة مفروضة ليس من حقه أن يسأل عن مصدرها، ومضى فى سعيه على طريق أكثره ممهد رغم ما به من قلاقل، كان ممهداً لأنه قد سار عليه طريق كثير كثير، ولا يعنى أنه مهد أو أنه طريق الكثرة . . أنه طريق الصواب . . , ولعل أسهل الطرق هى أسرعا توصيلا إلى الضلال.
قال الفتى:
- ولكن أى قلاقل فى الطريق ما دام ممهدا.
قال الحكيم:
-مثلا، حين ثارت وظائفه الحيوية فى سن المراهقة على بعض جاء فى القاموس الثقيل فى “باب العيب فصل الحرام”: وذلك أن غدده الصاء فى فورة إفرازها لهذه الهرمونات “العيب” لم يكن عندها
خبر مسبق بما أحدثه الوالدان والأقربون فى مشاعره، فتقوم معركة عنيفة فيها آلام وتأنيب وتهديد وتكتم، ومن عجب أنه فى هذه المعركة كان يتبنى المعانى المحشورة فى رأسه، ويستعملها ضد الثورة العضوية الهرمونية، وكان بالنسبة لأعضائه مثلما كان الوالدان بالنسبة له سابقا، وتهدأ المعركة ظاهريا وتزداد السلاسل ثقلا والهدوء ظهوراًَ، ويصبح مثالا رائعاً “يحتذى”.
ولا زال الأهل وغيرهم يعتبرونه من أجمل التحف التى يمتلكونها وأثمنها، ويعزون صفاته الممتازة: إما إلى طبعهم الذى أورثوه إياه، وإما إلى طرقهم ‘الحديثة’ فى التربية والتوجيه، والجميع يتحدثون عنه – لا … معه-،وهم يتمنون، بين أنفسهم أو علانية، اقتناء مثله، أو صناعة تحفة على شاكلته.
***
وفى وسط هذا النجاح، والهدوء، والتباهى، تبدأ التجربة.
قال الفتى:
- فهو المرض.
قال الحكيم:
- أو هو طريق العرفة أو الحياة فى فطرة سهلة منطلقة.
قال الفتى:
- فهى الصحة
قال الحكيم:
- لو أكمل الطريق . . .
ففى ذات يوم، أو قل ذات صباح بعد ليلة طويلة سوداء – مثل ليال كثيرة فى الفترة الأخيرة، قام صاحبنا وفى رأسه دوار وفى عينيه زيغ، وفى أذنيه طنين، وكان للطنين وقع خاص، وحين ركز صاحبنا على انتباهه سمع شيئا كالهمس آت من بعيد، وسرعان ما أخذ يقترب ويعلو ويتميز، حتى كأنه يقول شيئا ما. . نعم: إنه يكاد يتميز وسط الضجة الصاخبة نعم إنه يسمعه يزداد ووحا. . إن الهمس أصبح كلاما …. أصبح لفظا واضحا، أنه يقول ‘لا’ وتلفت حوله ى ذعر ليقع نظره على الحائط فيراها مكتوبة بين النقوش ‘لا’
ويقوم مذهولا يطرد عن نفسه آثار النوم ليجد نعليه وقد تقاصا بجوار السرير على هيئة ‘لا’ ويحاول أن يقول إنه الحلم، أو ما بعد الحلم، ويحاول أن يغمض عينيه وأذنيه وفكره جميعاً، ولكنها كانت ‘لا’ ثابتة واضحة أكيدة لم تكن مجرد اعتراض أو احتجاج عابر، كانت رفضا راسخا عنيدا، ليس مثل عصيان الطفولة أو خلف الصبية، ولا هى مثل معركة المراهقة حيث المعارضة والتطويع يسيران معا فى نفس الوقت، ولكنها كانت شيئا جديدا واثقا أكيدا، وأخذ يتحسس صدره يحاول أن يخفف ضيقه وضجره، فإذا به يعثر على ذلك السفر الضخم رازحا عليه كالهم الثقيل، إنه قاموس الألفاظ … حصيلة العمر … مفسر المعانى العظيم “المرشد الاجتماعى … فى حسن المساعى”.
وقال: لا … لابد من تمزيقه إلى غير رجعة، وحين أخذ يمزقه صفحة صفحة وهو يعجب كيف تحمله كل هذا الزمن، أحس بالثقل ينزاح ليترك راحة شاملة، وعاد يتحسس موضعه ليطمئن لا ختفائه فوجد فراغا هائلا، واطمأن . . . فالفراغ يعنى أنه زال فعلا، ولكن ما باله يحس بالفراغ يمتد إلى سائر أجزاء نفسه؟ بل جسد، والتمزق؟ لماذا يحس هو ذاته بألم التمزق مع فراغ كيانه؟ وتساءل: هل مزق قاموس الألفاظ أم مزق ذاته؟ هل أزاح الثقل المعوق أم أزاح كيانه؟ أين هو وسط الحطام؟
لقد كان يريد أن يتخلص من الألفاظ فقط، فلماذا ذهبت المعانى معها؟ هل معنى ذلك أنه لم يعد هناك معنى لأى شيء؟ إنه يكره الألفاظ ولكنه لا غنى له عن المعانى، كيف يعيش بلا معنى ولكن كيف يحتفظ بالمعانى دون الألفاظ؟ هل لا بد أن تصاغ المعانى فى ألفاظ؟ ولكن الألفاظ إرتبطت بأشياء مفروض فكيف تبقى – إن كان لا بد لها أن تبقى – دون ما يصاحبها من فرض وقهر وخوف وأوهام؟ هل يحتفظ بالألفاظ دون مصاحباتها؟ ولكن مصاحباتها هى التى جعلت لها معان بذاتها، إن اللفظ هو فى نفس اللحظة معناه، هل يمكن تفريغه ثم ملؤه من جديد؟
ووجد أنه لا يستطيع أن يحتفظ بالمعانى دون ألفاظ.
ولا يستطيع أن يحتفظ بالألفاظ دون معناها المفروض.
ووجد أنه لابد أن تبقى الألفاظ حتى يبحث لها عن معان جددة، ولكن إلى أن تأتى المعانى الجديدة . . . متى؟ وكيف تأتى المعانى الجديدة؟
كيف يتلاشى وهو يبحث عن الوضوح؟
كيف تضيع معالمه وهو يحاول تحديد ذاته؟ أو تجديد ذاته؟
ووجد نفسه حلقة وسط حلقات متشابهة تلف بسرعة فائقه فى تداخل عجيب، ووجد الأشياء تختلط ببعضها . . . ودخل التجربة ليعيش الألم والضياع.
قال الفتى:
- وهل قال الناس عنه أنه مريض حينذاك.
وقال الحكيم:
- ليس بعد، الناس لا يهمهم ما فى صدور الناس بقدر ما يهمهم ما يظهر منهم فى مجالات احتكاكاتهم معهم، فلو أن كل الأفكار التى يقولون عنها أنها أفكار شاذة أو حتى مجنونة ظلت فى عقل صاحبها فإنهم لا يهتمون بها، ولا يتعبرونها خللا حتى ولوتأكدوا من وجودها، ولكن حين يطلقها صاحبها عليهم، حين تهددهم بأن يكتشف زيفهم، حين يشعرون فيها إغراء مواجهة حقيقتهم التى هربوا منها وراء جدران قيم تحميهم بقدر ما تحجب عنهم الرؤية، حينئذ فقط يبدأون فى الاعتراض والامتعاض، ثم التجمع والتحفز، ثم الهجوم والعدوان، وتنطلق صفات المرض، ونعوت الخبل على مصدر التهديد ذاك، وتخرج من القاموس ألفاظ التخريف والشذوذ والهوس والجنون.
***
ولم يكن صاحبنا حتى هذه اللحظة قد أعلن شيئا يخافون منه، كان مازال يناجى نفسه:
”إذا كان هذا زيف كله . . . فأين الصواب؟”.
وبنفس متمزقة مع قاموس الألفاظ حاول أن يلم أجزاءه لدبر أمره، فلم يستطيع، وسكت، وطال سكوته، ولم يكن هذا غريبا عليهم منه، ألم يكن من طبعه الهدوء، فلابد أنه زاد بالسن هدوءاً . . . وعقلا (!), والهدوء عند واضعى القاموس ومؤرخى الصفات من علامات العقل الكامل. ثم جاء النذير. . .
فقد انصرف صاحبنا عن الدرس والاجتهاد المعهود فيه، فابتدأ الانزعاج مع الدهشة، وتصوروا أنها عين حسود حاقد. ألم يكن تحفة غالية تعرض دون معناها المفروض على الحبيب وغير الحبيب، ألم يكن وجهه يخطف الأبصار فى صالة العرض الاجتماعى؟ لماذا خفت البريق؟
وحاولوا أن يزيحوا التراب حتى تزهو التحفة مرة ثانية أمامهم وأمام الضيوف، ولكنهم وجدوا أن انطفاء البريق ليس نتيجة تراب يزاح، لقد ذهب فعلا من الجوهرة، هل يعقل أن تكون جوهرة مزيفة وقد خدعوا فيها؟ وحاولوا أن يعزوا ما كان لسبب من الأسباب غير الأسباب التى كانت مدعاة فخرهم حين كان موضع فخرهم، فهم السبب فى الوهج والأصالة والجمال. . . طالما هناك وهج وأصالة وجمال، وغيرهم هو السبب فى غير ذلك، وهم لن يعدموا أن يجدوا سببا يفسر استبدال نظرات الإعجاب بمصمصة الشفاه، فبعد الحسد يمكن اتهام المدرسة، أو إخوان السوء أو حتى العادة السرية – قالوها همس وتردد.
قال الفتى:
- وهل قالوا عنه حينئذ أنه مريض؟
قال الحكيم:
- لم يكن الأمر سهلا عليهم كما تظن، فلو أن حى أصابته لأعلنوا النبأ بلا توان لأن السبب معروف، وهو خارج عن إرادتهم قد بجلب الشفقة أكثر مما يجلب اللوم، ولكنه بالنسبة لهذه الأمراض شئ آخر. فإن خشية اللوم – ولو حتى لوم أنفسهم – يجعلهم يترددون ويتلكأون فى إعلان مايلاحظو، أو هم ينكرونه حتى يفرض نفسه عليهم فرضاً.
قال الفتى:
- وكيف فرض نفسه عليهم حتى اعترفوا به.
***
قال الحكيم:
- تجمد صاحبنا عند ‘لا’ وأصبحت تلاحقه فى أفكاره مشاعره جميعاً، ووقف عندها كل شىء . . . أو قل ذهبت هى بكل شيء حتى ما يعتبره الناس بديهيا.
وذات يوم جمع صاحبنا شتات نفسه وذهب إلى والده، وكان هذا ممسكا بمجلة دورية، وقد تمدد على مقعد طويل عريض فى شمس يوم دافىء من أيام شتاء ما، وكان يجتر الكلمات يعنيه فى ذات الوقت التى تحاول معدته أن تقوم بالواجب إزاء الحمل الثقيل الذى ألقاه إليها من وقت قصير، وحين خف العمل الهضمى قليلا وصعدت بعض الدماء إلى الرأس، أحس أنه يستطيع التفكير بدرجة تسمح له بالانتقال إلى الصفحة الأخيرة من المجلة، حيث تكمن مسألة من مسائل الكلمات المتقاطعة، وانهمك يبحث عن كلمة تصلح للعمود الرأسى والأفقى فى آن واحد، وفى اللحظة التى شعر فيها أنه “وجدها” كان أنف صاحبنا فوق رأسه، وحين تنهد الولد تنهيدة عظيمة . . . فوجيء ببقية الرأس تطل عليه من أعلى كتفيه ثابت النظرات جامد التعبير، وخرجت منه “لا” وكأنها خرجت من جوفه مباشرة، قد كانت شفتاه شبه مضمومتان؛ وقال الوالد فى تحد انتصار.
- بل “نعم”، و أكمل: لأن الكلمة هى “الرباط”، وهى تكمل العامود الرأسى فهى اسم البلد العربى، وتتناسق مع العمود الأفقى حيث “رأس الحكمة” اسم الشاطئ بمرسى مطروح، وما إن سمع صاحبنا ألفاظ “الرباط” و”رأس الحكمة” حتى أحس بالرفض يتملك كل خلية من خلاياه؛ الرباط هو القيد الذى يكاد يخنقه، أما الحكمة التى علماه إياها فهى الخوف بلا حدود ولا سبب.
وقال وكأنه يتكلم من بطنه ثانياً: لا
وأخذ الوالد يعيد دفاعه متحمسا أشد الحماس وأبلغه، ولكنه لم يجد استجابة لكل هذا الدفاع والحماس و سأل ابنه فى تحد:
- إذاً ماذا؟ إذا لم تكن هى “الرباط” فما رأيك؟
قال صاحبنا: رأيى أنى لست أنا.
ورد الوالد بأن هذا ليس وقت المزاح، ولكنه لم يكن مطمئنا لما يدور. . فهو لم يتعود من ابنه هذا العبث الجامد، ونظر إلى الوجه ملياً يداخله شعور بالتوجس، لقد كان وجها ممسوحا أملس لم يتبين فيه ملامحه العادية، ففيما عدا النظرة العميقة الثابته التى تطل من العينين لم يعد يميز الأنف من الصدغين من الشفتين من غيرها، لقد كان أمامه عينان تطلان من شيء مسطح أملس من اللحم الشاحب كالموت، وحين عاود المحاولة لتخليق الوجه أمامه من هذه الكتلة الملساء كاد يرى الموت نفسه يزحف إليه، وانصرف صاحبنا وهو ينتفض ظاهراً وباطناً.
وبدا للوالد أن الأمر جد خطير.
***
قال الطبيب الباطنى: لا حمى ولأ يحزنون لعله إرهاق الاستذكار أو قلة النوم أنا لا أجد مبررا لكل هذا الانزعاج.
قال الوالد: ولكنه يقول. ولم يكمل.
قال الطبيب: يقول ماذا؟. . ماذا يقول؟
قال الوالد. يقول “لا”
ولكن الوالد أدرك لتوه أنه تخطى الحدود التى اتفق عليها مع زوجته، وكما توقع … فقد كانت سهام نظراتها فى حلقة، وبطريقة ما انحرف الحديث عن مجراه.
وبعد مناقشة ” ثلاثية” فى الأسعار والسياسة والقسمة والنصيب، انتهى فنجان القهوة.
وانصرف الطبيب.
***
قال الفتى:
- فهو المرض.
قال الحكيم:
- هو الفراغ بديلا عن الحشو الفارغ، وهو الرفض الكامل بديلا عن القبول الكامل. ثم امتلأ الفراغ بكتلة هائلة من المعانى الفطرية غير المميزة. كتلة لزجة ليس فيها تمييز وليس لها معالم، وبدا فى تصرفاته وديعا كالطفل. . حين يفرغ رأسه من كل شيء إلا الطبيعة المتصلة بأصل الوجود.
ثم شابا يائسا حين يضيق عليه الخناق ويطالب بالسير فى الموكب القديم.
ثم ثورا هائجا حين يتصارع مع ذاته. . أو مع الظللال الذى يملؤها، الشيء الذى لم يتغير هو القوة الداخلية الدافعة له كى يحاول أن يجد شيئا. . وحتى يجد ‘شيئا’ لا بد أن يكون ‘شيئا’ أولا، كانت هذه القوة – زمان – موجهة إلى الدرس والتحصيل، وأصبح ليجدها موجهة إلى الحقيقة داخل نفسه، ونفسه تكاد تتمزق تحت وطأة الضياع والضغط معا، فتكاد القوة تصبح عامل تحطيم لا دافع توجيه.
وحاول فى أوقات تصالحه مع أجزائه وتجميعه لها بجهد حاول أن يجد ألفاظا جديدة للمعانى القديمة، حتى المعانى الحقيقية للألفاظ القديمة. .
وحين بدأ يتحدث عن ذلك قالوا هم هذه المرة ‘لا ‘ وجاءوا به إلى.
وهكذا رأيت صاحبنا لأول مرة.
***
جاء متردداً خائفاً من كل جديد أو قل من كل قديم، فما دمت من الطاقم الانسانى الاجتماعى التقليدى، فليس هناك فى الأمر جديدد، فأنا أحمل نفس الخطر الذى يحمله الآخرون ‘فرض المعانى فى قالب ألفاظ فارغة لتصنع عقولا جوفاء’ وأنا مثل الآخرين لأنى أعيش لهم ومعهم وبهم، ألست ارتزق من مسايرة أوهامهم؟ هكذا كان يفكر.
وبعد رواية الوالد المنزعج المسكين، والأم الولهى المشتتة عن “الحال”، وما كان مما “لا يصح” “ولا ينبغى”، ولا ”يجوز” دخل هو زانغاً ذاهلا، محصنا باللامبالاة، شاهراً حوله أسلحة الشك المضادة للواقع الذى رفضه.
وفجأة سألنى عما ألبس حول عنقى
قلت: رباط عنق
فضحك
فضحكت
وأحس أنى فهمت لماذا ضحك
وأحسست أنه فهم أنى فهمت، إذاً فمازال هناك احتمال أن يوجد من يفهم ما فيه. . ولكن سرعان ما ثارت الأسلحة المضادة وأطلق نظرة حذرة طمست الطريق الذى انفتح بيننا، وتوقف الاتصال الذى ظل لحظة من زمان.
والتفت إلى والده الذى بدا عليه الحرج فجعل يعتذر بأن لابنه أسئلة لا معنى لها.
ورفضت الاعتذار علانية “فربما نحن الذين لا نفهمها”.
واستأذنت أن يدعونا معاً، وخرجا وهما مترددان، وزاد تحوصل صاحبنا فى قوقعة الشك واللامبالاة، قلت:
- وبعد؟
- إذا ماذا؟
- نعم ماذا؟
- أنت تتصور أنك تعلم. . كل شيء
- بل أحاول أن أ تعلم. . كل شيء
- تتعلم فى؟
- بل أتعلم منك
- ماذا ستجد فى الفراغ؟
- الفطرة التى تملأ الفراغ. . . أصل كل شيء
- لا بد أن يكون هناك شيء ليكون هناك أصل
- ولابد أن يكون هناك ‘أصل ‘ ليكون هناك ‘شيء
سكت قليلا قال:
- وهل تبقى بعد أن تحطم كل شيء
- لابد أن نصنع من القديم جديدا. . .هذا هو الطريق
- وهل هناك جديد
-كل قديم جديد. . . ما دامت الحياة تسير
– ولكنها عندى لم تعد تسير
– بل أنت فى “محطة” تتأهب فيها للمسير
- يبدو أنك تحاول أن تفهم
- لنبدأ من الصفر
- ولكنى أنا الصفر ذاته، حين يصبح لا معنى لأى شيء، حين تفقد الألفاظ دلالتها، حين تصبح العواطف فجة فجاجة الجبال والمحيط. . . . يضيع الطريق . . ويختلط كل شيء بكل شيء.
- فلنحاول أن نرى من حيث نحن، ونعرف من أين، حتى نعرف إلى أين.
استمر فى نظرته وكاد يصمت ولكنه قال فجأة:
- إذا كان الظلام. . . كان الخوف، وإذا كان الخوف كانت الطاعة . . . وإذا كانت الطاعة فى ظلام كان الضياع، وإذا كان الضياع كانت النهاية، وآه لو صحوت قبل نهاية النهاية. . . آه لو رأيت الموت وهو يزحف إليك.
- المهم أن يوجد من يفهم ويحس أن يوجد طريق. . . ورفيق
- فأنت تدعى الفهم
- بل أحاوله
- ولكنك مثل الآخرين
- لا أختلف كثيرا ولكن
- ولكن ماذا؟
- ألا تحس بهذه الـ “لكن”
- أنا لا أحس بشيء ولا أفهم شيئا ولا أريد شيئا غير حريتى، أنا سجين الألفاظ. لن أستعملها بعد ذلك. . . سوف ألزم الصمت. فالننه الحديث
- فلننته منه أولاً
- وماذا تعنى هذه ‘لكن’
- إننا نحس بنبض الألفاظ دون حاجة إلى تعريفها بألفاظ أخرى ربما زادتها غموضا، بل إننا قد لا نحتاج إلى ألفاظ كثيرة إذا شعرنا بنبض القليل منها
- وهل للألفاظ نبض؟
- هو نبض الحياة. . . إذا صدقت
- وهل للحياة نبض؟
- هو نبض الحقيقة
- وهل هناك حقيقة؟
- هناك طريق إلى الحقيقة
- وهل نصل؟
- لا أعرف، ولكنى آمل. . . المهم ألا نخاف السير . . . إنما علينا أن نخاف الوقوف
- فما الداعى . . أصلا
- ما أنت فيه: هذه القوة غير الموجهة لابد أن توجه
- كفى توجيها
- ولكنك أنت الذى ستوجهها وإلا انفجرت فيك
- ولكن أين أنا الذى سيوجه، فلتقم القيامة
- ولكنها لا تقوم الآن. . . ولابد أن نصنع شيئا لما أنت فيه
- وما الذى أنا فيه؟ أنا صفر داخل كرة من الفراغ لا جدار لها
- ولكنك تحس بهذا
- أنا كتلة من التداخل، أنا الفراغ مليء بالضياع، أنا هو أنا الذى هو لست أنا
- فلابد من إعادة التوازن
عادت إلى وجهه نظرة التوجس مترددة وقال:
- آه. . .دخلنا فى الاتزان والتوازن، والتعقل والأصول و الكافولة فالسلاسل. ”والذى يصح والذى لا يصح” أنت لا تفترق عنهم
- لا أختلف كثيرا ”ولكن”
- فما هذا الذى حول عنقك؟
- أنت تعرف
– ولماذا لا تضعه حول رأسك؟
فضحكت
فضحك
وعاد الطريق الذى ينطمس للظهور، وقبل أن يختفى وراء دخان الشك مرة أخرى. . . قلت:
- هل نتفق؟
- على ماذا؟
- على رفقة الطريق
- لن أخسر شيئا. . فليس عندى شيء أخسره
- بل عندك شيء تكسبه
- ماذا ترى هناك
هذه القوة المهددة . . لو تجمعت هى كل شيء
- كنت دائما أحس بها أقوى مما يظنون، كانوا يوجهونها دون إرادتى كان هدفهم أن يعلمونى ليتباهوا بى أمام أصدقائهم وأعدائهم على حد سواء كانت قوة أرقام ومسابقات كانت طريقهم
للزيادة بغير هدف. زيادة المجموع فى الدراسة، زيادة النقود، زيادة الزيادة، كنت كالسجادة – فى حجرة المقابلة – يزيد قدرها بزيادة عقدها، وتزيد قيمتها بزيادة الدهس عليها، وهى فى النهاية رمز لطبقتهم ودليل ذكائهم – هذه القوة كانت لتجعلنى تلميذا مجتهدا، ومظفا نجيبا ورئيسا مهيبا، ثم شيخا محطما وجثه منسية.
ولكن هذه القوة كانت أكبر مما يحسبون، ومن شدتها دخلت المنطقة المحظورة، وأكلت الفاكهة المحرمة، وحين قلت “لا” قامت القيامة.
قلت:
- ليس بعد
- ولكنها الآن قوة مشتتة ضائعة بلا فاعلية، لقد استهلكها عملية الرفض والتحطيم . . حين رفضت واقعى حطمت فيما حطمت ذاتى، وحين عدت أبحث عنها وجدت حلقات الفراغ وأكوام التكاثف، قد أشعر بهزة هنا ورعشة هناك ولكنها تنزلق فى تشتت عجيب
- ولكنها متجددة دائما. . . هذه طبيعتها
- أنا لم أعد أحس بشيء غير الضياع
- ولكن هذا لا يعنى أنه ليس هناك شيء
- إذا كان هناك شيء آخر فلماذا لا أحس به
- سوف يتجمع. ثم تحس به ثم تنطلق . . . فقط لابد أن نعرف من أين وإلى أين.
- ماذا ينطلق؟
- أنت
- ولكنى لست أنا، لقد كنت كما أرادوا، وكان الدفع فى عكس اتجاه الطبيعة، وحين وقع الصدام تحطم كل شيء وأصيب الجميع بشظاياى.
- ولكنك “مازلت”
- بل كنت زيفا ووهما
- ولكن وراء الزيف: أصالتك “أنت”
- كان مشروع إنسان لم ‘يصبح’ بعد
- بل “يصبح”
- وكيف أصبح بعد ما تمزقت
- بأن تحس أنك أنت، وأنك لست وحدك
قال ولكنى وحدى، بل يا ليتهم تركونى وحدى. . فلا تخدعنى أنت أيضا
- فلنحاول
- ولكنى خائف
- من ماذا
- من أن تعلمنى ألفاظاً جديدة لا معنى لها
- بعد هذه التجربة لا يستطيع أن يعلمك أحد إلا ما تريد
- ولكنى لا أعرف ماذا أريد
- تريد أن ‘تكون ثم ‘تصبح’
- ما أقسى التمزق والضياع
- ليس لطريق المراجعة والبناء بديل
- لماذا لا تدعنى فى هذا الفراغ بلا حدود
- لأنه “ما أقسى التمزق والضياع”
- وهنا صاح بأعلى صوته:
- آه. . . آه
وحين دخل والده على صياحه ارتدى قناع اللامبالاة وعاد وجهه كتلة ملساء من اللحم البرد تطل منها نظرة فيها شعاع خافت قد يلمع من بعيد أحيانا ثم ينطفئ.
***
وانصرف الجميع على موعد
ولكنه قبل أن يخرج التفت إلى فجأة ليقول:
”لا تكن واثقا من نفسك هكذا”.
قال الفتى للحكيم:
- لقد كان على حافة الهاوية
قال الحكيم:
- أو كان على حافة الانطلاق، فهما حافتان متقاربتان على كل حال وكثيراً ما يحدث الانطلاق حتى بعد التردى فى الهاوية، فالقوة الدافعة واحدة.
قال الفتى:
- ولكن ما هذه القوة التى تتحدث عنها وكأنها كل شيء فى الإنسان: الخير والشر، الانطلاق والتحطيم، الخلق والجنون
قال الحكيم
- إنها قوة الإنسان الفطرية التى يطور بها ذاته وجنسه جميعاً
قال الفتى:
- ولكنها كثيرا ما تنزلق به دائرة مغلقة أو طريق خطر.
قال الحكيم:
- ولهذا لا بد أ نفهم طبيعتها واحتمالات مدارها
قال الفتى:
- فما هى طبيعتها واحتمالات مدارها
قال الحكيم:
– أما طبيعتها فهى قوة كل كائن حى. وهى متطورة وبناءة ما وجدت إلى ذلك سبيلا. وهى فى الإنسان أكثر قوة وتميزا، أما احتمال مساراتها فهذا يتوقف على أشياء وأشياء.
قال الفتى:
- مثل ماذا؟
قال الحكيم
- مثل لزوجة المجتمع أو زيف الهدف
قال الفتى:
- فحدثنى عن شيء من هذا أو ذاك أو عنهما معاً.
- قال الحكيم:
- أما حديث الحياة اللزجة فهو حديث “المحترم” الذى التصق بكل شئ فالتصق به كل شئ فعاش كلا شئ.
قال الفتى:
وكيف كان ذلك؟
كرسى على عجل
لا يولد المحترم على هذه الأرض محترما، فالفطرة لا تعرف الاحترام، الفطرة هى الجمال ومخالفتها قبح، والجمال هو الإنسان كما هو دون تشويه، والقبح هو مسخ الطبيعة السهلة، أما ما عدا ذلك من مقاييس فنحن الذين وضعناها ثم ألصقناها على أقفيتنا وجوه الآخرين مثل أرقام العربات. فقد ولد المحترم مثله مثل كل الناس عاريا إلا من سوائل أمه، ولكنه حين شب عن الطوق وأصبح شابا يافعا يحمل شهادة متواضعة ويأخذ مرتبا ضئيلا تغير الحال، ودخل مرحلة جديدة تماماً.
فقد تركه أهله حيث استطاعوا أن يوصلوه، وما كانوا يستطيعون أكثر من ذلك، يكفيهم أنه أحس منهم ‘اجتماعيا’ يلبس حلة ورباط عنق وينادى ‘بالأستاذ’، كل هذا جديد على الوالدين – الأسطى وزوجه – وهما به راضيان.
ووجد الشاب نفسه فى وضع جديد، أصعب ما فيه هو الاختيار، وتساءل كيف يصنع ذاته انطلاقا من هذه البداية الجافة، كان عليه أن يكمل الطريق . . ولكن . . إلى أين؟
ونظر فى الناس وفى نفسه فوجد أنه يمكنه أن يصنف البشر بمقياس شديد الأهمية مقياس ‘الاحترام’ وهو مقياس فرضته عليه بيئته منذ رأى التغيير الذى طرأ عليهم نحوه حين ارتدى حلة ورباط عنق . . حتى ‘قهوة المعلم زلط’ التى كان يجلس عليها طالبا بجلباب أو “قبقاب”،’ أو بهما معاً، وناسها هم ذات الناس، تغيرت نظرتهم له، وبذا أيقن ان ‘الأستاذ’ ذا الحلة. غير ‘الواد’ ابن الأسطى وقال: من هنا . . . أبدأ.
فالمقياس الأول الذى يقاس به الناس- فى تجربته – هو الأحترام، وهو مقياس صعب، لأنه تختلف قراءته باختلاف اتجاه العينين، هل تنظران إلى الداخل أم إلى الخارج.
***
قال الفتى للحكيم:
- ولكن كيف تختلف المعايير والصفة واحدة.
قال الحكيم:
- فاعلم يابنى أن الناس فى هذا السبيل أحد أربعة.
محترم فى نظر نفسه غير محترم فى نظر الناس، وهذا قد يقولون عنه شاذ أو عبقرى أو ثائر أو حتى مجنون.
ومحترم فى نظر الناس وكأنه كذلك فى نظر نفسه وهذا هو الذى يسمونه “الواصل الناجح” وهو يسمى نفسه بالخداع “الناصح الفالح”.
ومحترم فى نظر الناس وليس فى نظر نفسه، وهذا هو الناجح الذى لم يخدعه النجاح أو الوصول فهو ما زال باحثا عن شيء يبرر به حياته ووجوده واستمراره.
وغير محترم لا فى نظر نفسه ولا فى نظر الناس، وهذا هو المتشرد أو المهرج أو هما معاً.
قال الفتى:
- ولكنى أراها صورة محددة أكثر من اللازم، قاتمة أكثر من الواقع، فما هو الصواب، وسط كل هذه التصانيف.
قال الحكيم:
ولكننا يابنى لانتحدث عن الصواب والخطأ بقدر ما نتحدث عن الحياة كما هى حتى لو كانت كلها خطأ، كما أن هذا التحديد لا يعنى واقعاً مرسوماً بالحساب الدقيق، بقدر ما يعنى نماذج يتراوح الناس بينها جميعاً وإن لم يتصفوا بأحدها وصفاً يطابق كل التفاصيل، ثم إننا نتكلم عن صفة واحدة من الصفات لا يتحدد بقيمتها الإنسان، فهى بعد واحد تكلمه أبعاد، وقد تأخذ صفة من الصفات أكثر من حقها وتأثيرها عند أحد الناس وتأخذ أخرى نفس المكانة عند آخر، فنحن إذ نركز على ‘الاحترام’ هنا إنما نحكى حيرة إنسان بين رأيه الخاص فى نفسه ورأى الآخرين فيه، حينما يعتنى بالمظهر دون الجوهر.
قال الفتى:
- وكيف كان كذلك؟
قال الحكيم:
- تحير صديقنا أشد الحيرة بين هذه الأصناف جميعاً رغم أنه لم ير أبعادها تماماً، فقد كان فى أول الطريق، وراجع نفسه ونظر فى أمره وأمرهم، مرة ومرة، فأحس أن هذه الصفة تبدأ منهم “هم”، هم الذين اخترعوها، ووضعوا أبعادها، وحبكوا أطرافها، ثم ألبسوها من شاءوا، وخلعوها عمن أرادوا، هم الذين غيروا معاملتهم له حين تغير مظهره، هم الذين فرضوا عليه تغيير تصرفاته لمجرد أنه ارتدى الحلة ولبس اللقب . . فطبيعى أن يفكر فى أن يضعهم فى الاعتبار الأول. . أن يكسب احترامهم. . ثم يكون احترامه لنفسه مستمدا من ذلك ماداموا هم أصل هذه الصفة وأصحاب السبق فى صنعها، وأصحاب الحق فى منحها أو منعها.
قال الفتى:
- إذا فقد قرر أن يكتسب احترام الناس أولا، ليحترم نفسه كذلك، وكأنه أراد الاثنين معا.
قال الحكيم:
نعم ; ولكنه لم يجد الطريق سهلا كما تصور; فلكى يحترمه الناس كما ينبغى لابد أن يرضيهم أو يرهبهم.
ولكى يحترم نفسه – بينه وبين نفسه – لا بد أن يفعل ما يقتنع به وهو لا يمكن أن يفعل ما يقتنع به; وفى نفس الوقت يرضى الناس ويرهبهم فى آن واحد.
قال لنفسه: لعل الاحترام يأتى على مراحل; ما دام فى الأمر تناقض أو تعارض، وقال :فلأحصل على احترام الناس، ثم أرى ماذا يكون من أمرى بعد ذلك.
وتساءل: كيف يحترم الناس الناس؟
إنه فى تجربته القريبة تبين أن الاحترام جاءه أول ما جاءه حين ارتدى الحلة ولبس اللقب، فالاحترام يأتى – أوعلى الأقل يبدأ – بالمظاهر; سواء كانت فيما يرتدى الإنسان من أشياء; أو فيما يقتنى من صفات تلمع كما تلمع الأشياء.
وقال فلأ سلك هذا السبيل لأنه يبدو أن “الوصول” نهايته.
وبدأ يجمع الأشياء – والصفات التى هى كالأشياء – حول نفسه; بدأ يلتصق بكل ما حوله من دواعى الاحترام ليصبغه بذاته أو يصبغ ذاته بمتطلباته، بدأ يلمع صفاته مثلما يلمع حذاءه سواء بسواء.
وصعد الدرج بجهد عظيم.
فمن بعد الوظيفة المتوسطة بالشهادة المتوسطة; حصل على شهادة أكثر زركشة هيأت له وظيفة أكثر احتراماً.
ووجد نفسه لا يعترض على أحد أكبر منه أبدا حتى يكمل طريقا رسمه، ولا يخالف أحدا أصغر منه أبدا إلا إذا عاق طريقه الذى رسمه، وعاش ملتصقا بكل الناس وكل الأشياء حتى وصل إلى ما أراد وحقق خططه كما سعى إليها، فاقتنى فيما يقتنى من أربطة العنق والأحذية المميزة; كرشا صغيرا وضعه أمام بطنه فى وقار وهادىء، واختبأت عضلاته فى ثنايا طبقات الشحم دليل الراحة والعز… و… والاحترام، وأصبح مكتبه يقاس بالأمتار، ولابد أن حجرته تقاس بخمسات الأمتار لتسع هذا المكتب ذى الكرسى المتحرك على عجل، وكانت “النظارة” علامة أخرى تكمل الصورة المهيبة، وترجح احتمال أن الرأس الذى وراءها قد مر به شيءمقروء من الكتب الكثيرة التى تزين الحائط، وليس مهما بعد ذلك أن يتبقى شيء فى ذلك الرأس أو أن يخرج منه شىء.
ولما تأكد له أنه أصبح ‘محترما’ فعلا; اكتشف أنه قد قارب نهاية العقد الخامس من عمره; وكان قد بدأ الطريق ولما يدخل بعد فى العقد الثالث؛ وعجب كيف مرت كل هذه السنين فى “مرحلة” واحدة من مراحل؛ الاحترام; ألم يعاهد نفسه أن يكسب احترام نفسه فى النهاية؟ وكان يتصور أنه لابد أن يحترم نفسه التى حصلت على كل هذه المكاسب; وبذلت كل هذا الجهد.
إنه عصامى ناجح.
فلابد أن نفسه لذلك تستأهل الاحترام، لانها لو لم تبذل كل هذا الجهد الذى بذلت، وتصعد هذا السلم الشاق لأصبح الآن على أحسن تقدير مدرساً أولا فى مدرسة ابتدائية أو مدرسا عاديا فى مدرسة إعدادية . . ولكنه الآن مدير عام . . يجلس أمام مكتب يقاس بالأمتار على كرسى ذى عجل; وإذ بهذه الفكرة تمر برأسه دفع كرسية فتحرك فى نعومة على عجلاته دون أن يصدر صوتا ذا بال . . . ولكنه حفيف ناعم ينساب دون أن يشعر به أحد، ولكن حياته أصبحت تتحرك بهذه الطريقه تماما، لقد تعود حركة الأيام وهو “مطمئن إليها” مثلما تعود حركة الكرسى الضخم الفخم، ولكن هل هو مطمئن فعلا أو أنه فى سباق عميق؟ وهل حقق فعلا ما أراد؟
وحين انتبه إلى شيء عادى جدا. . انتبه لكل شيء.
ونظر فى كل شيء فلم يجد فيه نفسه لقد وجده ملتصقاً به وليس جزءاً من ذاته.
ولكن أين ذاته وراء هذه الواجهات الكبيرة؟
ما هذا الشعور الجديد الذى قلب كل شيء عادى إلى موضوع غريب يشغله ويؤرقه; حتى الملابس التى يرتديها أحس باحتكاكها بجلده، هل يحس كل الناس احتكاك ملابسهم بجلدهم هكذا؟ وكيف يعيشون ويتمتعون لو تتبعوا حركة ملابسهم على جلودهم؟ ولماذا تتحرك ملابسه هذه الحركة البطيئة؟ ولماذا تبدوا وكأنها مبطنة بمادة لزجة، لا هى شديدة القوة حتى يصبح الخارج جزءاً من الداخل، ولا هى شديدة الضعف حتى يحصل انفصال وتحديد، إن هذا الشعور باللزوجة لهو شعور لعين خانق.
ولكن هل يحس الناس بهذه اللزوجة مثله؟ مستحيل. . لو أحسوا بها مثلما يحس هو لما استطاعوا أن يعيشوا أو يتحركوا، فهو يحس بالأشياء ملتصقة به وليست جزءاً منه، كل هذه الأشياء التى اشترى بها الاحترام لم تدخل نفسه، هذا الكرسى والمكتب والشهادة والوظيفة، كل هؤلاء الناس وهذه الأشياء ملتصقة به وليست فى داخله.
كيف لم يلاحظ ذلك أثناء سعيه نحو الاحترام؟
لقد كان صادقا مع نفسه بدأ الطريق، لقد اختار أن يسعى إلى احترام الناس ليحقق احترام ذاته، لماذا؟ هل أخطأ الطريق؟ وحاول أن يصل إلى ذاته فحالت دونه هذه الطبقات الملتصقة بسطحها؟
وقال: فليتخلص مما لم يعد فى حاجة إليه من كل هذه الملصقات، وقام ينزع الشهادة المزركشة من على الحائط، فكل الناس تعرف أنه يحملها ولا داعى لمزيد من الإعلان.
ولكن ما بالها لا تخرج معه وكأنها ملتصقة بالحائط؟ وكأن حائط الحجرة سينزع معها إذا هو نزعها، وشدها بعنف حتى كاد ينطرح على ظهره ووضعها داخل الصوان، ولكنه أحس أن الحائط يتبعها مع الشهادة داخل الصوان، وأصبحت الحجرة بثلاثة حوائط، واكتشف انفتاحه على الخارج وتعريته بمجرد نزع غطاء من أغطيته اللزجة، وتأكد أن كل شيء ملتصق بكل شيء، ولكنه التصاق مائع لا قوام له، وكلما حاول أن يزيح شيئًا آخر من ناحية أخرى انزاحت معه سائر الأشياء.
ولم ينم ليلته.
ولا الليلة التى تليها. . . وليال أخرى كثيرة، قضاها يحاول الوصول إلى نفسه وراء هذه الأغطية المحترمة وهو لا يستطيع، فهى إما أن تنزاح جميعا ثم هو لا يجد نفسه وراءها حيث لا يتبقى إلا الفراغ غير المحدود، وإما أن تبقى كلها فى التصاق رهيب مقيت، ولم يستطع أن يصارح أحداً بشىء، واشترى منوما يتخلص به من أفكارالليل، آملا أن الانغماس فى العمل سوف يخلصه من أفكار النهار،وكانت الأفكار كلها تدور حول سؤال واحد.
هل هو محترم “فعلا”؟
ولكن يبدو أن النوم يحدث مفعوله بأن يزيد الأشياء به التصاقا فتجثم على نفسه فينام، ولكنه لايكاد يستيقظ حتى يحس باللزوجة المضنية المرهقة، وتثاقلت حركته وهو يحس بكل هذه الملصقات تروح وتجيء معه فى كتلة متشابكة تحول بينه وبين نفسه، ورغم أنه كان يحاول إخفاء كل ما يدور، إلا .. ‘أنهم’ بدأوا يلاحظون عليه تغيراً فى التصرفات، وشروداً فى الرد، وإهمالا فى المظهر.
وانشغلت زوجته عليه – وكانت من أسباب الاحترام. . وعلاماته كذلك – فقد كانت من عائلة لها اسم، والاسم له رنين.
وقالت: مالك؟
قال: ماذا فى؟
- لست كعادتك
-كل شيء كما هو (وأكمل فى نفسه: ‘من الظاهر’. . وهذا ما يهمكم).
- ولكن هناك شيئا يشغلك.
- لا شيء . . لاشيء. . البتة: المكتب هو المكتب، والمقعد لا يزال يتحرك على عجل ناعم ليس له صرير، والمنزل كما تحبين والمائدة أضيف لها قطعة جديدة لتسع عدد الضيوف المتزايد، والعلاوات فى مواعيدها، والشركة حصلت على ‘كأس الإنتاج’ . . كل شيء على ما يرام، لا بالك.
قالت:
- فهناك ‘أخري’
- أهذا ما يشغلك؟ وماذا أفعل بالأخرى؟ إنها ستلتصق بسائر الأشياء فتصبح من ذات الكتلة اللزجة.
- ماذا تقول؟ أى التصاق وأى أشياء.
- ما عليك. . كل شيء ‘تمام’. وليس هناك أخرى ولا يحزنون.
وكاد يقول: بل إنه ليس هناك شيء البتة، كل شيء على السطح يحول يبنى و بين نفسي، كل شيء ممسك بكل شيء آخر، وأنا عاجز، لا أستطيع أن أزيح شيئا واحدا إنها سلسلة متكاملة من دواعى الاحترام الذى يكتم أنفاسى ويكاد يزهق روحي.
ولكن من الذى يفهم حتى أقوال له ما بي، لو كانت زوجتى ليست “محترمة” ولو لم يكن اسم عائلتها بهذا البريق، ربما حدثتها فى أشياء صادقة ليست محترمة، ولكن لماذا أفترض مسبقاً أنها لن تفهم؟ فلأ حاول.
وسألها:
- هل أنا محترم؟
وقالت:
-ليس هذا وقت المزاح.
- ولكنى لا أمزح.
- لا تمزح؟ إذا ماذا تقول؟
- أنا أسألك: هل أنا محترم؟
ولما رأت الجد فى عينيه . . امتقع وجهها وقالت:
- وماذا تعنى؟
فأعاد:
- هل أنا محترم؟
ثم ضحك.
وتأكد أنه يمزح.
وعادت إليها ابتسامتها واستمرت تجدل خيوط الصوف بين يديها وقالت:
- أنت سيد الناس.
إذا . . فهذا هو الاحترام، هو سيد الناس، هل لابد أن يسود الناس ليصبح محترما، وهل هو سيد الناس؟ أى ناس؟ إنه لا يعرفهم ليس فى حياته ناس، الناس فى حياته وسائل لما هو فيه. . إن أى تعامل له معهم، له هدف آخر غير ‘التعامل معهم. . هم’ هو لا يعامل الناس لأنهم ناس، ولكن لأنهم وسائل للحصول على شيء يجلب احترامه.
أى خدعة عاش فيها عشرات السنين يحاول أن يكسب احترام ناس ليسوا فى حياته، إذا ما الذى بقى فى حياته؟ المكتب الضخم والكرسى على عجل، والشهادة المزركشة، والاسم، والمركز، والإنتاج . . . أى إنتاج؟ أهو مقتنع بأى شيء أم هو يسعى إلى إرضاء الكبار وإرهاب الصغار، لقد كان وهو أول الطريق يعتقد أن اكتساب احترام الآخرين يأتى بالرضا والرهبة فى آن، وقد خصصت الأيام الرضا للكبار والرهبة للصغار.
ولكن… ما ثمن كل هذا؟ ماثمن هذه الهيئة والاسم وكل شيء؟ وحتى بمقياس الاحترام هل أمكنه أن يعلم رأى الناس فيه فعلا؟ هل يحترمونه أم يحترمون مركزه؟ وهل هناك فرق بينه وبين مركزه؟
فليحاول.
ودق الجرس وحضر السكرتير يحكم رباط حلته، وطلب “سيادة المدير” منه قائمة بأسماء المستخدمين، وحسب السكرتير أن فى الأمر علاوات، فتملل وجهه وهو راجع بالقائمة، وقال له “صاحبنا”
- افتح أى صفحة.
وتساءل السكرتير.
- أى صفحة
- نعم أى صفحة.
وحاول السكرتير أن يحول دون حاجيبيه أن يرتفعا، وحين لم يستطع دار حول المكتب ليحول دون المواجهة الكاشفة، وفتح أى صفحة وبها قائمة طويلة من الأسماء، وقال له المحترم.
- أبسطها أمامى.
فبسطها السكرتير.
فأغمض صاحبنا عينيه ومد سبابته كيفما اتفق ليضعها على أى اسم فى أى مكان، وقال لسكرتيره.
- استدع هذا الموظف.
وبجهد بالغ تماسك السكرتير حتى لا تفلت أعصابه ويقول ما يعتقده وكان عقله مازال مشغولا بالعلاوات، فتصور أن كل هذا ما هو إلا تحقيق حلم رآه سيادة المدير فى منامه، وقال فى نفسه ‘ربما وزع سيادته جائزة الإنتاج هذا العام بهذه الطريقة، فتحل البركة فى إنتاج العام القادم؟’
وجاء الموظف الصغير، وانصرف السكرتير.
وطلب صاحبنا من الموظف – الذى كان حائرا بين الرهبة والأمل أن يجلس، وسأل “المحترم” الموظف :
- ما رأيك فى؟
وقال الموظف:
-عفواً
وقال المحترم:
-ما رأيك فى؟
- أنا؟
- نعم
- رأيى فى سعادتك ‘أنت’؟
- نعم
وقال الموظف فى نفسه ‘اللهم اجعله خيرا’ وأكمل.
- رأيى أن سعادتك. . . سعادتك . . . ‘المدير’
قال “المحترم”
- رأيك فى …. أنى “المدير”؟
قال الموظف وقد أحس أنه ربما أخطأ.
- بل “سيادة المدير العام”
قال المحترم:
- شكراً . . وآسف لإزعاجك
وقام يوصل الموظف الغير – لأول مرة – حتى باب المكتب، وهو يطيب خاطره.
وانصرف الموظف . .
وبدأ الهمس.
ومازال هو يفكر.
أين أنا؟ هل أنا ‘سيد الناس’؟ هل هذا هو الذى سعيت إليه منذ التاسعة عشرة من عمرى حتى قاربت الخمسين.
كيف نسيت نفسي، وكيف الخلاص؟
ولم ينم ليلته.
ولا الليالى التى بعدها
ولم يعد يؤر فيه المنوم
***
قال الفتى للحكيم:
- ولكن هكذا يعيش كل الناس. . . بل هذا ما يتمناه أغلب الناس. . . فما الذى أزعجه أن يعيش مثل الناس؟
قال الحكيم:
- وربما هذه هى المأساة. أن يعيش الناس مثل الناس وبالضبط فلا تصبح مجموعة أفراد ولكن نسخ ترقص كالقرد .. ثم
قال الفتى:
- ثم ماذا..؟
- ثم يصحو الانسان ليهاجم ذاته. . ويسقط احترام الآخرين
- ولكن إذا فقد الإنسان احترام الآخرين ماذا يبقى له.
قال الحكيم:
- ومن قال إن على الإنسان أن يفقد احترام الآخرين حتى يعيش حياته فى صدق.
قال الفتى:
- ولكن أليس الصدق فى الحياة هو فعلا مشكلة الحياة.
قال الحكيم:
- و لذلك يعيش أغلب الناس مغمضى العينين تسرقهم الأيام، وهم يحسبون أنهم يسرقون الأيام، وتنتهى حياتهم فى لحظة لم يضعوها فى الحساب.
قال الفتي:
- ولكن لو رأى الناس كلهم الحقيقة. . . . لا ضطربت المعايير واختفى من مظاهرالسعادة.
قال الحكيم:
- ولكنك تقول ‘مظاهر السعادة’ وليست السعادة، وربما لو رأى الناس الحقيقة لبحثوا عن معايير جديدة، وربما وجدوها، لأن الإنسان إذا رأى الحقيقة وحده وسط هذه المعايير الشائعة حدث له ما حدث للمحترم.
قال الفتي:
فماذا كان من شأنه بعد ذلك؟
قال الحكيم:
- لم يعد ينام ليله، ولم يعد يؤثر فيه المنوم وتبين أن رؤيته لواقع الأمر كانت أقسى مما حسب لأنها تأجلت سنين طويلة وأخذ يراجع مواقف حياته، ويسأل نفسه لماذا لم ينتبه عند كل ‘مفترق طريق’؟ ولماذا لم يضع لنفسه محطات من بادئ الأمر يقف عندها ويعيد فيها تقويم تجربته: ينظر فيما كان ويستطلع ما يكون، إنه كان فى شبابه أكثر وعيا وأدق حسابا، وهو حين بدأ الطريق بدأه وهو فى كامل وعيه، وقد كان مقدراً أن يكون احترام الناس خطوة نحو احترام نفسه، ولكن هذه الخطوة طالت حتى التهمت ثلاثين عاما بالتمام.
وتساءل ألا يمكن أن يكتفى باحترام الناس وتمضى أيامه الباقية مثلما مضت أيامه السابقة؟ ولكن كيف مضت أيامه السابقة؟ إنه لا يدرى، لقد انزلقت به الأيام وكأنها كانت تتحرك على كرسيه ذى العجلات، وما نهاية هذه المرحلة التى يخوضها مع الناس والأشياء الذين يمثلون كتلة واحدة تحول بينه وبين نفسه، أين الصديق؟ أين الانسان الذى يستطيع أن يحدثه فى كل شئ بلا “احترام” ولا حساب، وأخذ يبحث عنه وسط الناس، وتأكد أن حياته ليس بها ناس وإنها شخوص تستعمله أو يستعملها ليحقق كل واحد للآخر خدعة تلتهم بعض أيامه، وكأن الخدع قد صفت فى تسلسل تصاعدي، وجعلت وظيفتها الأولى هى التهام الأيام، وكلما كبرت الخدع وتضخمت كلما زاد عدد الأيام التى يمكن أن تلتهمها بلا حساب.
وتساءل: هل وجدت هذه الحياة لقتلها بالزيف، وهل جعلت الأيام لتلتهمها الخدع، ولماذا نضع الأهداف – ونحن لا ندرك لها قيمة حقيقية – ثم نستعجل الوصول إليها وكأننا نستعجل نهايتنا؟
ولم ينم.
وبدأ عليه شحوب ..، ثم ذبول…، ثم ذهول…
***
وبعد برنامج تلفزيونى سخيف، كنت أحد شخوصه، رأيته لأول مرة.
***
جاء وحده ليستكشف، ليتأكد من سخف هذا الطريق، فهو فى نظره مثل كل الطرق، سوف يلتهم بعض أيامه. . ويتركه أكثر ضلالا، وضياعا.
قال بعد أن جلس فى غير اكتراث
- هل هو أنا
- أهلا
- إسأل
– بل أسمع
-ماذا تريد أن تسمع
- ماتحب
- ولكنى لا أحب شيئا
- ماذا تشعر؟
- أشعر بالغرق الوشيك فى مستنقع اللزوجة. . . والركود
- فهو وشيك. . وليس واقعا بعد. .
- ولكنه أكيد الوقوع لا محالة
- هل هناك شيء أكيد . . بهذا الجزم.
- النهاية أكيدة
- ولكن النهاية توقيت، ووقتها غير معروف، فيصبح تأكيدها مغالطة.
- ولكنها حتم
- ولكنها نهاية طريق. فلابد أن نرى الطريق ولو كان طريق النهاية.
- لقد ضللت الطريق. . . لقد غصت إلى حيث لا قرار . . ولا أعرف السباحة.
- ولكنك تحاول
- وهذه هى المصيبة الكبرى، ياليتنى ما حاولت . . وما صحوت، فما أجمل أن تتمدد فوق سطح طرى ناعم . . على شرط ألا تفتح عينيك ولا تحرك أطرافك ولا تسمع ولا تشم ولا تحس ولا تدرك، إذا فستمضى من النوم إلى الغيبوبة إلى النهاية دون أن تحس بشيء، ولا أن يحس بك أحد، ولكن الويل لك لو استيقظت قبل أن تنتهي: ستجد السرير الطرى الناعم ليس إلا مستنقع الدهن والعرق، وسوف تجزع كما يحق لك الجزع، وتبدأ المحاولة التى تقول عنها، وآه من محاولة العوم فى مستنقع الدهن والعرق، وخاصة بعد أن تستيقظ حواسك، ماذا تسمع غير حفيف اللزوجة، ماذا تشم غير ثقل الهواء بلا رائحة، ماذا تحس غير قشعريرة الميوعة وخدر الهلامية.
هذا هو الحال، ولن ينفعنى مجييء أو ذهابي، فكل شيء قد التصق بكل شيء، ولا تزيدنى حركتى إلا إنهاكا وشعورا باثقل وأحاول أن أغمض عينى لأتصور البحر سريراً ناعماً فلا أستطيع، حتي النوم لا أستطيعه ماذا تستطيع أن تفعل لى؟ هل تستطيع أن تغمض عينى ثانية، لقد حاولت بالحبوب المنومة . . ولكن حركتى ثقلت أكثر وأصبحت أسبح فى هذا البحر وأنا مقيد بأثقال وأثقال . . فلا أنا نمت، ولا أنا توقفت عن المحاولة، وبعد ذلك البرنامج السخيف الذى شاهدتك فيه، قلت لنفسى فلنكمل الخدع، وحضرت فماذا تستطيع أن تفعله أنت؟
-أنا لا أستطيع شيئاً إلا من خلالك.
- هأنذا.
- هل تريد أن تبدأ.
- فى الحقيقة أريد أن أنتهى.
- ولكن النهاية كثيراً ما تكون بداية.
- كفى لقد خدعت كثيرا بهذه الحيل، لقد قررت فى أول الأمر أن أكسب احترام الناس، ومن ثم أكسب احترام نفسى وحين بدأت الطريق الثانى استيقظت صحت كل حواسى فجأة، واكتشفت بشاعة حياتى وخدعت السرير الناعم الطرى، وحين حاولت أن أنهض منه علمت ماهية بحر اللزوجة، وكلما حاولت أن أنفذ إلى نفسى وجدت طبقات من الناس والأشيياء تحول بينى وبينها. . وحاولت أن أبعدها واحدة واحدة . . . ولكنى وجدت أن كل شيء ملتصق بكل شيء . . لقد عجزت تماما .. ضاع عمرى دون أن أشعر، وهأنذا صريع النجاح واليقظة معا، ربما استيقظت لو أنى فشلت فى أول الطريق .. وعرفت معنى حقيقيا لكياني، ربما جاءت النهاية وأنا أغط فى سبات الاحترام . . لو أنى لم أصح فجأة ولكنهما النجاح واليقظة معاً: اليقظة جعلت النجاح بشعاً، والنجاح أخر اليقظة حتى لم تعد فرصة للتراجع.
- ولكن هناك فرصة لا ستكمال الطريق.
- لا لن أكمل هذا الطريق لقد شبعت احتراما، أريد نفسى أريد ذاتى الحقيقية أريدنى ‘أنا’ . . ‘أنا’ الذى لم أعرفه أبدا، بينى وبين نفسى أكوام من هياكل الناس أنا لا أرى نفسى إلا فى عيون الناس، ولكنى حين أتأملها هناك لا أجدها ‘هي’ التى أتصورها وأتمناها لأنهم يرون قشرتى دون حقيقتي، يرون شخصا محترما ذا لقب ومركز، ولكن أين ‘أنا’؟
- ولكنى لا أعنى طريق الاحترام، وإنما أقصد طريق الحياة.
- أى حياة وأى طريق؟ ليس هناك إلا طريق الموت، وياليته قريب وياليتنى شجاع.
- ولكن للأمر وجه آخر.
- نعم . . . لكل شيء وجه ووجه، ولكن أين وجهى أنا بين الوجوه، لقد لاحظت زوجتى تأملى مرآتى وأنا أحلق ذقنى كل صباح، وخشيت أن تظن بى الظنون، كنت أشد جلد وجهى لعلى أجد تحته وجها آخر أتعرف عليه، ولكن هيهات، بينى وبين نفسى يقف الناس حائلا بيننا حتى بينى وبين أن أرى وجهى الحقيقى وفكرت أن آخذ مرآة معى فى المكتب، وخلوت بنفسي، ولكن أحسست أن خيال زوجتى يقبع معى فى ركن الحجرة تنظر إلى بنظراتها الهادئة الواثقة الضاغطة، تطل على من صفحة المرآة . . حتى فى المكتب وخشيت إن أنا أخرجت المرآة أن ينادى خيالها الموظفين ليشاهدوا مديرهم وهو يبحث عن نفسه تحت جلد وجهه، ماذا بقى بينى وبين الجنون؟ لقد كنت أشاهدها أحيانا وهى تخرج لى لسانها؟ هكذا خيل إلى، بل إنى أحيانا أخرج لسانى لنفسى لأن كل ما عملته لا شيء . . . لا شيء، لقد صنعت نفسى من لا شيء فوجدتها لا شيء. . .
- ولكن هذا الألم كله. . . هل يخرج من لا شىء.
- الألم؟ إن الألم هو علامة وجودى . . إن ما بقى لى هو الألم، ولكنه ألم من نوع خاص . . إنه مأساة الحياة، إنه ثمن الخداع . . أريد أن أن أسير فى الشوارع أنادى الناس أن يصحوا قبل فوات الأوان. . أن يراجعوا الطريق . . أن يرفعوا العصابة، ولكن لابد أن أعرف أولا ماذا بد رفع العصابة من على العيون، لابد أن أعرف بديلا، لا بد أن أعرف الطريق حتى تكون صيحتى نداء هادفاً، وليست صفعة حاقدة تعرى الحقيقة ثم . . . لا شئ.
- فأنت تبحث عن طريق.
- ولكنى يائس من العثورعليه.
- لأنك وحدك.
- ولكنى حاولت أن أجد أحداً فوجدت حياتى ليس بها أحد، وجدت الناس أشياء أستعملها وتستعملنى كما ذكرت لك.
- ربما جئت هنا. . لنمضى معاً.
- نعم . . معاً، هذه وظيفتك، تستمر مع أى أحد إلى أى مدي، ماذا ستخسر أنت؟ أنت هو أنت، تستمر مع من تشاء كما ‘أنت’ ثم تخرج منصحبته ‘أنت’ أما أنا … فلست شيئا .. تقول ‘معا’؟ ستجد بجوارك صفرا عظيما، ستجد نفسك تسير وحدك، لا تضع وقتك وقل لى لا فائدة. . ربما واتتنى الشجاعة وعملتها.
- ولكن، ربماهناك فائدة . . . أى فائدة
- فائدة لك. . لقد قلت لك إن هذه هى وظيفتك أكل عيشك .. ومع ذلك فأنت هو أنت. وأنا لا شيء، أليست هذه هى الحقيقة.
- أنا لست “أنا” إلا بك، بصحبتك على الطريق.
- أى طريق؟
- طريق أن ترى نفسك كما تستحق … كما أنت أهل له.
- أنا أهل لماذا؟ ماذا أريد؟ لقد تصورت أنى أريد الاحترام، وهأنذا حصلت عليه . . فماذا كانت النتيجة؟
- ولكنك تتحدث عن تجربة، وعن زيف، وعن رغبة فى أن تجنب غيرك هذا الزيف، لو عرفت البديل
- لو عرفت البديل!
- فأنت تفكر فى الآخرين فى قمة أزمتك.
- ولكن الآخرين هم الذين ضيعوني، لأنى حسبت حسابهم أكثر مما حسبت حساب نفسي.
- ولكنك الآن تفكر بطريقة أخري، تريد أن ‘تعطي’ تجربة، لا أن ‘تأخذ’ احتراما.
- صحيح . . ولكن لابد أن تكمل التجربة . . أولا.
- ولذلك أنت هنا.
- لا . . أنا لست هناك، لذلك، أنا جئت هنا لأحرق هذه الورقة الأخيرة، ثم أجد مبرراً للاستمرار فى السخط والتحطيم، ولكن. . لكن يبدو أنه مازال هناك باب لم أطرقه.
- هو باب إنسانيتك.
- إنسانيتى؟ نعم لابد أ أكون إنسانا أولا.. ثم أبحث بعد ذلك عن الصفات الأخرى، لماذا بدأت بالبحث عن الاحترام وكان خليقا بى أبحث عن الإنسان فى.
- أنت لم تبدأ بالبحث عن الاحترام، هم الذين وضعوك فى أول الطريق. . . فسرت.
- وهل كان ممكنا ألا أسير؟
- كان صعبا جدا. .، ولكن الممكن الآن أن تجنب غيرك هذه المسيرة . . بعد أن تجد نفسك.
- لو عرفت الطريق
- نعم.
- لو أصبحت ‘أنا’ الإنسان.
- نعم
- لو أصبح الناس ناساً لا أششياء.
نعم.
- لو ‘أعطيت’ التجربة، ول أكتف ‘بأخذ’ الاحترام،
- نعم.
- ولكن كيف؟ كيف أكون إنسانا.
- إنما يكون الانسان إنسانا إذا مارس إنسانيته مع إنسان آخر.
- ما أصعب ذلك.
- وألزمه.
- ولكن ما أجدر البذل فى سبيله.
- ليزداد عدد “الناس الناس”، ويقل عدد ‘ الناس الأشياء’
- نعم.
- يالها من قضية.
- نعم.
- قال:
- وهل تصبر على؟
- قلت:
- وهل تصبر أنت على؟
***
قال الفتى للحكيم:
- ولكن كل هذا الألم. . هل تتركه يعانيه حتى يحطمه.
قال الحكيم:
- لقد استعان العلم على هذا الأم بالكيمياء والطبيعة، ولكن هذا ينبغى ألا ينسينا حقيقة المأساة الانسانية، وألا نرضى بتخفيف الألم دون اليقظة الشاملة. . لتحقيق الانسان الإنسان.
- ولكن ما ماهية هذه الإنسانية التى وعدت بها المحترم؟ إني أخشي، أن يكون فى الأمر غموضا، أو أوهاما.
قال الحكيم:
- إن خوفك له ما يبرره، فالسعى وراء ‘ألفاظ’ عامة، لا يقل خطره عن السعى وراء قيم زائفة، ولفظ ‘الإنسان’ إن لم يتحدد أبعاده عن … أصبح هو الآخر وهما كما تقول.
قال الفتي:
- وهل يمكن تحديد إبعاده؟
قال الحكيم: لكى يكون الإنسان إنسانا لابد أ يكون وحدة قائمة مستقلة، ولكنها تأخذ وتعطى بلا خوف ولا قهر، فهو يحس بحرية الاختيار النابع من كونه هو: ذاته
قال الفتى:
- ولكننا نخرج من تعميم إلى تعميم، فما أكثر الوهم الذى أحيطت به هه الأفاظ وأولها. . الاختيار والحرية
قال الحكيم:
وكأنى بك أصبحت الحكيم الحذر المراوغ، ولست الفتى طالب المعرفة المتسائل، وهذا يزيدنى إقبالا عليك وحماسا للحديث معك فما أكثر ما ظلمت الحرية. . وما أكثر ما ظلمت، وما أكثر ما عاش الانسان حياته يجرى وراء سرابها. . حتى اختلطت عليه الأمور وكاد يتردد فى غياهب الظلام مثل ذلك الفتى الثائر الذى قضى حياته يسعى وراءها وهولم يذق طعما لها أبداً.
قال الفتى وكيف كان ذلك؟
فى القفص
قال الحكيم:
هى حكاية فتى ضاق بسجن التقاليد والنظم، فآمن بكل ما اقتنع به وترك ما دون ذلك، والتزم بتنفيذ ما آمن به، وعاش يتنقل من نظام إلى نظام ومن مبدأ، ينبهر بكل فترة من حياته، ثم يكتشف عند التطبيق أن المسافة بين ما هو مكتوب وما هو واقع أكبر من كل ما يمكن أن يتصوره، فأخذ ينتقل من النقيض إلى النقيض حتى كفر بنفسه، وفقد أمله فى المستقبل بل وفى تطور الإنسان، وجاءنى يتساءل عن كل هذا بعد أن فقد عقله أو كاد، بالرغم من أنه كان يزعم أنه اهتدى إلى العقل الكامل، بل إنه قد اعتبر نفسه قد اختار هذا السبيل الضال اختياراً، بعد أن ضل الطريق إلى أى شيء يقنعه ويملأ فكره وحياته ووجدانه.
قال الفتى:
وهل يختار الإنسان سبيل الضلال اختيارا.
قال الحكيم:
حين تهتز القيم، وتصبح مواصلة الحياة عملية صعبة بل خطيرة، تحمل من التهديد أكثر مما تحقق من الراحة والارتواء، قد يختار الإنسان الهرب، بل إنى قابلت بعض الأصدقاء المرضى الذين حاولوا أن يختاروا طريق الجنون فلم يستطيعوا إليه سبيلا . . وكأنه هدف بعيد المنال، وقد تعجب لقصة ذلك ‘السارق’ الذى دخل ‘سجن مصر’ بعد أن عجز عن دخول ساحة الجنون.
قال الفتى:
لقد بدأ يثيرنى كل هذا الحديث حتى أنى احترت أيهما أسمع أولا، فلتقص على حكاية ذلك الفتى الذى فشل أن يجن، فما أروع أن يفشل الإنسان أن يضل. . .
قال الحكيم:
نعم .. ولكن هذا كله نابع من مشكلة الاختيار، هل يختار الإنسان مصيره؟ أم لا؟ وفى خبرتى وجدت أن الإنسان يختار فعلا متى ما كان سليما صحيحاً، وحتى وهو يعاني، ولكن لابد أ يكون له كيان مستقل، ولكى يكون هناك ‘كيان’ لابد أن يتخلص من صراعات عظيمة تتحكم فيه دون علمه، ليس مجرد صراعات الخير والشر، ولكن صراعات أن “يكون” أولا “يكون”، وهو بالتالى يختار كيف يكون، ولابد لتحقيق ذلك أن يتخلص من حب ذليل ومن حب مسيطر، وأن يحافظ على حب قوى مستمر يعطى بلا خوف ويأخذ بلا حذر، ولابد أن ينتصر على أطماع صغيرة وأهداف زائفة، ثم بعد ذلك يستطيع أن يقول ‘أنا أختار’ ثم هو قد يصيب وقد يخطيء.
قال الفتى:
- ولكن التخلص من كل هذا أمر عسير تماماً بل هو فى نظرى مستحيل.
قال الحكيم:
- هو كذلك، إذا أردت الكمال، ولكنه ليس كذلك إذ كانت الأهداف المطلقة لا تلزمنا بضرورة تحقيقها فى صورتها المثالية، ولكنها تنير طريقا إليها، وبالتالى يكون السير تجاهها هو تحقيقها فى آن واحد، مهما طالت المسافة بعد ذلك، إذ لا يهم ‘الوصول’ بقدر ما يهم السير الطريق الصحيح.
قال الفتى:
- “الوصول”؟ كم كرهت فى تجربتى الصغيرة – كلمة الوصول-، أنا لم أصادف فى حياتى إنسانا ممن يطلقون عليه (وللأمانة: على شرط أن يعتبر نفسه أيضاً) “واصلا” إلا وجدته لزجا لا قوام له، وما نظرت فى أهداف وصل إليها، أو أشخاص وصل بهم أو إليهم إلا وجدت داخلهم أجوف كعيدان البوص، قد يصفر فيها الهواء ولكن ضغط الأصابع يكسرها.
قال الحكيم:
ألم أقل لك إنك تتعلم الحكمة بأسرع مما حسبت، حتى أكاد أراك سبقتنى إلى معرفة جوهر الأشياء، إذ أراك تقترب من حقيقة الإنسان بأمانة سوف تجلى بصيرتك، وأكاد أتصورك بعد تجربة مرضك تساهم فى مسيرة الإنسان على طريق تطوره.
قال الفتى:
ولذلك فقد حرصت أن أسمع منك أكثر وأكثر، فلنبدأ بحكاية “السارق” الذى فشل أن يجن، ثم تحكى لى بعد ذلك حكاية ‘الثائر’ الذى اختلت موازينه.
قال الحكيم:
أما حكاية السارق الذى فشل أن يجن فهى حكاية ذلك الفتى الذى عاش مختنقا فى قفص نفسه، وحين حاول الهرب منه إلى حرية الجنون وجده حلا سخيفاً لأنه يوصل إلى حرية ضعيفة مشكوك فى أمرها، فلم يستطيع، ثم بمحاولة غريبة أراد تجسيد الواقع بالدخول إلى قفص من حديد.
قال الفتى:
- وكيف كان ذلك؟
قال الحكيم:
- هو شاب عاش مع الإهمال غير المقصود، حتى وجد نفسه فى “سجن مصر” متهما بجريمة “سرقة بالإكراه” حاول أن يحقق بها تجسيد واقعه المر. ولكن يبدو أنه لم يحقق شيئاً، وحين حوله المحامى الذى عينته الدولة بعد أن رفض تفويض محام خاص للدفاع عنه جاء إلى ساخراً ساخطاً ثائراً، لأنى لم أكن فى خطته، بل لعل من أهداف خطته الأولى أن يتجنب هذا اللقاء.
***
دخل على قصير الخطى محدد القسمات ثابت النظرات يضغط على أسنانه فتظهر عضلات فكه تحت جلد صدغيه فى انتظام رتيب. . . كان أقرب إلى القصر مليء الجسم عضلى التكوين، وجلس دون أن ينطق، وكأنه ما جاء إلا ليجلس، ومر الوقت ببطء سخيف قبل أن يقول:
- ماذا تنتظر
- أنتظرك.
- ولكنى هنا منذ فترة
- ليس تماما.
- هل تشككنى فى نفسى؟ … أنت أيضا؟ … ألست وكيل نيابة آخر بدرجة طبيب . . . سوف أضحك ما شاء لى الضحك. . افتح محضرك الطبى لتستكمل الصورة أبعادها. . افتح المحضر من فضلك
- أى محضر؟
- أليست تهمة جديدة. . تضاف إلى صحيفة سوابقي. . . أليست أمراضكم هذه تهمة . . . بل هى أشنع من السرقة والتهديد التى أحاكم من أجلها . . . المرض ضعف وأنا لست ضعيفاً . . أنا قوى أنا لص، أسرق فى وضح النهار وبالإكراه لست ضعيفا ولست مريضا مهما قلتم. . هذا المحامى المعتوه الذى عينته الحكومة هو الذى أصر على استشارتك … وهأنذا، لن تعرف منى شيئا. . . فأنا لست مريضا، لست ضعيفا ولن أكون، ولم أكن كذلك أبداً.
هيا افتح المحضر . . ولا تضع وقتى فكم سأتمتع بحوارك، ولن تدخلنى أبدا هذا السجن الجديد سجن الضعف والشفقة، لن أعترف بالمرض أبدا، بل لن أمرض أبداً، وعلى كل حال ليس لازما أن أعترف حتى أدخل السجن . . . هذه كذبة قديمة. . . ليس هناك علاقة بين السجن والجريمة، ولا بين الإعتراف والعقوبة، هذه أشياء وضعتموها لتبرروا بها ما تفعلون دون اقتناع، تبررون بها هذه القضبان وهذا الظلام وهذا البرد. .
- أى برد تعنى؟
- برد الوحدة والقسوة .. فى زانزانة إنسان جف وسط مجتمع لا يفهم، لا تنتظر منى شيئاً، لن أتكلم. . . لن أعترف بهذه التهمة الجديدة، سوف أخرج من هنا لأقول إنك مثلهم تماماً ألست منهم، واحداً منهم.
- ممن؟
- من وكلاء النيابة والمحامين والآباء المحترمين.
- نعم. . تقريبا. . ولكن. .
- اتفقنا، هكذا أستطيع أن أستريح، لقد جئت نتيجة لتصميم ذلك المحامى الأبله. وتحققت مما ظننت، وجدت أنك منهم لا أكثر ولا أقل، وعليه فلن أمكنك من بقية نفسي، لن يبقى لى إلا هذه الأسرار التى أجترها فى خيالى لأشعر بخصوصيتي، لأشعر بأنى أعرف شيئا لا يعرفه أحد، لأشعر بأنى أتمتع بحرية التفكير فى السر، ولكن هل هذه هى حرية تلك التى تمارس فى السر؟. . . هل يمنك أن تمارس الحرية سراً.
- لا أظن.
- ومع ذلك لن أطلعك على سري، بل لعلى أخدعك إذا قلت لك إن عندى أسرارا، بل إن حيرتك تعجبنى، هل عندى أسرار أم لا؟ عندى؟ ليس عندى؟ لابد عندى؟ ليس عندى؟ إنك تظن أنه عندى؟ وربما ليس عندى؟ ما أحلى حيرتك فى نظري، هكذا أتنفس أعمق، أنا الآن الذى أسأل وأنت تجيب، أنا الذى أمتلك زمام الموقف. . . أنا الآن حر . . . مسيطر. . . قوى بماذا تجيب هل عندى أسرار حقيقية أم لا؟
- لا يوجد إنسان بلا أسرار.
- ولكنى اعترفت بالجريمة وكنت أستطيع أن أحتفظ بها سرا ولكن هل تعلم لماذا لا يوجد إنسان بلا أسرار.
- لماذا؟
- لأن الناس لا يؤتمنون على الأسرار، ولو كان الناس شرفاء لما احتفظ أحد بسر يضنيه أو يضلله، ولعاش كل الناس فى النور وعشت أنا حرا لا يعوق حركتى أحد ولا شيء.
- وما الذى يعوق حركتك؟
- الناس. . . البوليس. . . المخبرون. . الحكومة. . المبادئ. الحق . . الواجب. . . أنت وأنا.. أنا أعوق حركة نفسى . . . إن نفسى سجينة داخل جسمي. أريد أن أتحرر من هذا الجسد دون أن أمو، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أترك جسدى داخل سجن حقيقى من أربعة جدران، وأطلق نفسى حرة وراء الأسوار هذه الطريقة العجيبة من اختراعى وحدي:
لكى تكون حرا يستحسن أن تدخل السجن، ربما هذا المنطق هو الذى دعا محامى أن يرسلنى إليك، لم يفهمنى ولم يفهم تمسكى بدخولى السجن وطلبى أقصى أنواع العقوبة. . إنى لا أمارس حريتى بالخارج لذلك لجأت إلى السجن لعل أمارسها فى الداخل، ولذلك تعجب القاضى وتعجب المحاممى وحولونى إليك.
- ولكن من الذى يمنعك من ممارسة حريتك.
- ما الذى يمنعنى؟ ولكن ما الذى يمنعك أنت؟ هل تمارس أنت حريتك؟ هل يمارس أحد حريته، إن كل إنسان يعيش داخل قفص وجد نفسه فيه، وراء قضبان يعتقد أنها تحميه… وهى فى الحقيقة تمنعه وتقيده وتعوقه، ثم هو يمارس حريته المزعومة داخل هذه القضبان التى تعود عليها حتى لا يكاد يراها . . . والفرق بينك وبينى أنى رأيت القضبان، ورفضت خداعها وقررت ألا أعيش فى هذا الوهم. . . وهم الحرية والاختيار. . . ثم قررت أن أجسد هذه القضبان من حولي، فلأقلبها إلى قضبان مادية ملموسة، وبذلك أكون أكثر شجاعة. . . وأطلق نفسى خارجها. وأثبت أنى أبعد نظرا من كثيرين.
- ولكن أليس وهم الاختيار يؤدى وظيفة الاختيار ذاتها؟
- أى اختيار وأى وظيفة .. إنك تستطيع أن تختار السير داخل القضبان . . . أو الجرى داخلها.، تستطيع أن تختار أن تطليها باللون الأخضر أو باللون الأحمر، أما أن تختار أن تخرج منهما فهذه هى المصيبة الكبرى، يسميها البوليس مؤامرة، ويسميها الجيش خيانة، ويسميها الحزب انحرافا، ويسميها القاضى جريمة، وتسميها أنت جنونا لقد مارست كل هذا وأنا أحاول أن أخرج منها، ويبدو أنى سأمارس النوع الأخير معك فى هذا القفص الجديد … إلا أنى بدأت أتمتع بهذا القفص لأن الحارس لا يكثر من الأسئلة، أنت وكيل نيابة فاشل … ليس عندك “سين” .. ولا “جيم”، ولكن ربما هذه طريقه جديدة للاستجواب … للحصول على الاعتراف بغير جهد كبير … لكنك لا تستطيع أى شيء إزاء إنسان اختار تحقيق حريته بأن يكون سجيناً.
- أنا لا أستطيع إلا بك . . . ومن خلالك.
- ماذا تريد منى أنت . . . ما هى تهمتى التى أتت بى إلى هنا؟
إن كان على السرقة فقد سرقت وهددت، وطلبت دخول السجن بنفسى، وهذا الذى لم يعجب المحامى ولا القاضى ولا أحدا، هذا المحامى الذى عينته الحكومة، يريد إثبات أنى غير مكتمل العقل، إنه لا يتصور أن إنساناً يفضل قضبانا حديدية معالمه على حواجز وهمية تحطم ذاته، أنت لا تستطيع فعلا شيئاً ولو كنت تستيطع لكنت فعلت، هكذا كل الناس. الذى يستطيع يفعل والذى لا يستطيع يبحث عن مبررات، الحرية هى القدرة على الفعل . . هى القوة … هى السيطرة ولكن حتى السيطرة لن تحقق لى شيئاً، فقد كنت أستطيع أشياء كثيرة ، ولكنى كنت مقيداً بأشياء أكثر، هل تريد أن تعرف كيف؟ هل تحب أن تسمع أكثر.
- أحب أن أسمع كل ما تريد أن تقول
- ولكنى لا أعرف ما أريد أن أقول، هل تعرف أنت؟ ربما أخطأ هذا المحامى الأبله العنوان، وكان ينبغى عليه أن يحولنى إلى ضاربة للودع أو قاريء للكف، لماذا لا تستعين بهؤلاء الزملاء يادكتور، لماذا لا تخصص هذه الحجرة المجاورة لهؤلاء المختصين بالغيب ربما أفادونى أكثر وأرشدونى إلى ما أريد، ربما كان ذلك أجدى من جلوسك هكذا بالساعات تحاول أن تفهم ما لا تعرف ، لأنه إذا كنت أنا نفسى لا أعرف، فمن أين لك أن تعرف أنت.
- نعرف سوياً.
-ولماذا تعرف أنت؟ إن ما أريد أن أعرفه غير ما تريد أن تعرفه أنت، أنت تريد أن تعرف إن كنت مجنونا أم عاقلا، إن كنت مسئولا أم معتوهاً، أما أنا فأريد أن أعرف أشياء أخرى، أريد أن أعرف من أنا؟ . . كيف أنا؟لماذا أنا؟. . كم أنا؟. . أريد أن أعرف نفسى بكل أبعادها، فكيف نعرف ‘سويا’ أشياء مختلفة أشد الاختلاف.
- ولكنا نلتقى بشكل ما، فكل ما يهمك يهمني.
- أنا؟ .. يهمني؟…أنا لا يهمنى شيء البتة، أى شيء يمكن أن يهمني؟ … أنا لا أريد شيئا ولا أستطيع شيئاً، أنا لست أى شيء لكى ‘تريد’ لابد أن ‘تكون’ وأنا لا شئ، ماذا عندك، هل عندك جديد.
- ربما وجدت شيئا.
- أى شيء تتصورونه أنت أو المحامى أو غيركم، هل قضبان القفص عندك من ذهب بدلا من الحديد الصدي، هل مستشفى الأمراض العقلية أرحم من سجن مصر؟ أنا خبرت كل الطرق ولم يعد هناك شيء أنتظره، لأنه لم يكن هناك أحد ينتظرنى.. أبداً، لماذا تحاول استدراجى وأنا لا أثق فيك، إن وسائل التفاهم بيننا مقطوعة من قبل أن أجيئك، أنا أعيش فى سجن الحذر والتوجس ولهذا فضلت ‘سجن مصر’ . . إن تجسد الأمور فى صورة حقيقية ملموسة أسهل على النفس وأقرب إلى الواقع. . . يعنى أقرب إلى الصحة، أليست الصحة فى نظركم هى احترام الواقع… إذن فأنا احترم الواقع … لقد عشت سجينا بكل معنى الكلمة، وقد قررت احترام الواقع ودبرت أموري حتى أدخل السجن الحقيقى حيث أستطيع أن أمسك بالقضبان بين يدى بدل أن أتحدث عن قضبان وهمية تنتهى بى إلى حضرتك يا سيادة الطبيب النفسى . . بل دعنى أقول لك الحقيقة: هربت لقد اخترت الطريق الآخر، اخترت أن أكون مجرماً هرباً منك، من أن أكون مجنونا، أليس ذلك أسهل على النفس؟ إن تكسير الحواجز الاجتماعية أسهل من أن تكسر ذاتك وأنت تحاول إثباتها.. ؟ ولكن ما باليد حيلة… هربت إلى السجن لأقع فى قبضتك أخيرا. كان ينبغى أن أخدع وكيل النيابة أكثر، فحين قلت له أنا هارب ‘إلي’ السجن، صحح قولي، حسب أنى أعنى الهرب ‘من’ السجن، وحين أكدت له أنى لم أخطيء وأنى هارب ‘إلي’ السجن فعلا، لم يفهم أن سجن مصر أرحم من السجن الكبير الذى نعيش فيه جميعا، أرحم من القيد الذى كبلونى به صغيرا…، ونظر إلى المحامى – محامى الحكومة الذى يدافع عني- ذلك الإنسان الذى يحاول الحكم على بالبراءة بأن يلصق بى تهمة المرض، أيهما أفضل يادكتور أن تكون لصا أم أن تكون مجنونا. . . مااذ تفضل أنت؟. . . لا ترد! وبعد ذلك تقول لى … لابد أن أثق فيك. حتى تساعدني، تساعدنى فى ماذا؟. .
ممن؟…أثق بمن؟ …ولماذا؟ هل تعرف ثمن الثقة يادكتور؟ هل تعف ثمن الثقة يادكتور؟ هل تعرف ماذا يحدث تثق بأحد الناس ثم يخيب ظنك؟ ثم يتخلى عنك؟ هل تعرف أن الثقة أغلى ما فى الوجود؟ وأخطره فى ذات الوقت؟ ماذا عندك يدعونى للثقة بك.
- ربما لأنه ليس عندى شيء معين . . أو فكرة مسبقة. . أستحق ثقتك، ربما لأنه ليس معلقا وراء رأسى ميزان العدالة، تستطيع أن تشعر أن الميزان بيدك أنت، وأن ما حدث هو نوع من اضطراب التوازن. . . ربما تكون المشكلة فى أن تجد أحدا… يسمع… حتى تعيد أنت وزن الأمور، تعيد رؤية الأشياء من زاوية أخرى، حتى بقصد تقويم ذاتك.
- ربما.. ربما.. كل شيء جائز… حتى ما فعلته يجوز أن يكون صواباً، ربما ما دامت هناك ‘ربما’ فليس هناك حقيقة، إذا لماذا لا تدعونى أدخل بنفسى حيثما أردت، حثيما وضعنى القانون… أو ينبغى أن يضعنى.”ربما”يكون ذلك أفضل، لماذا يحاولون حرمانى من تحقيق أفكارى. ربما وجدت حماية فى الداخل أضمن وأواقع من حماية الخارج … ربما.
– ولكن هذا الذى تفعله هو نوع من الهرب، لقد اخترت الابتعاد عن العالم الخارجى والمسئولية وراء أسوار حقيقية… متصورا بذلك أنك تتحدى العالم… وفى الحقيقة أنت تهرب منه.
– ربما كنت أهرب. . . بل إنى فعلا أهرب، الناس “فى الخارج” صعب، حين تحتاجهم لا يعطونك، وحين يعطونك تكون قد استغنيت عنهم ولا يعود لعطائهم معنى ولا فائدة، الناس’ فى الخارج’ صعب، ولذلك فقد قررت أن أدخل برجلى إلى الداخل… داخل السجن، هل تعلم يا سيدى لماذا دخلت السجن؟
رغم أنى لا أثق فيك ورغم أنك قد تعتبرنى مجنونا وتحاول تبرئتى إلا أنى الأحظ أنك تحاول أن تفهم، هذه ميزة فى حد ذاتها: أن تحاول، لذلك سأقول لك…. ربما تفهم، ربما أجد فى النهاية من يفهم وحتى لو لم تفهم فإنى لا أهتم بك. . . ولماذا أهتم بك. . . إسمع. . . ولكن: هل تريدنى أن أقول فعلا؟
وحين هممت بالرد عليه. . . أكمل دون دون أن ينتظر ما كنت سأقوله.
- على كل حال فإن ما سأقول سوف يقلب خططك، فأنت تحاول أن تثبت أنى مجنون . . . وربما ستعجب حين تعرف أى حاولت أنى أكون مجنونا . . . ولما فشلت – نعم فشلت – سعيت إلى تقرير
الواقع لأجلس وراء أسوار الحديد، فعلا، ما أجمل أن تكون القضبان ملموسة. . . واقعاً محسوساً، بدلا من وهم الحرية فى الخارج، هذا تصرف ربما تعتبرونه غريباً، ولكنه ليس جنونا على كل حال. . . فقد فشلت أن أجن: هذه مأساتي.
- مأساتك أنك لم تجن؟!
- نعم أليس الجنون فى تعريفكم بعد عن الواقع وعدم احترامه؟ أليس هو تحطيم الأسوار العادية فى دنياكم التقليدية؟. . . أليس هو تغيير كامل فى الشخصية؟ لقد فشلت فى كل هذا، فأنا مازلت أحترام الواقع بدليل أنى لجأت إلى السرقة حتى أوضع بحكم القانون فى السجن بعد أن فشلت فى الخروج عن الواقع بالجنون، بعد أن فشلت فى تغيير شخصيتى، هل تعلم ما الذى حال بينى وبين الجنون؟
- . . . ؟
- الشفقة. . وأسوار الألفاظ لقد أبيت أن يشفق الناس على ، لقد أبيت – أو قل لم أستطع – أن أبدو ضعيفا أمام أحد، لم أرضى أن أسجن وراء تشخيص من تشخيصاتكم التى لا معنى لها. . . الجنون الحقيقى هو الحرية الكاملة، ولا توجد كاملة حت وراء أسوار مستشفى الأمراض العقلية، لذلك فقد رفضت الشفقة والضعف والتشخيص الذى سوف تلصقونه بي، وفضلت أن أكون مجرما بمحض إرادتى على أن أكون مجنوناً رغم أنفي، فضلت تجسيم الواقع بالعيش وراء أسوار السجن على تزييف الحرية بتحطيم أسوار الواقع بالجنون، ووجدت أن تشخيصاتكم ومستشفى الأمراض العقلية واقع أمر من واقع الحياة التى رفضتها، هل تذكر أى قلت لك فى أول الحديث لقد اخترت أن أكون مجرما هربا منك … هرباً من أن أكون مجنونا؟ فى الحقيقة أنا لم أهرب من الحنون ذاته ولكنى لم أستطع أن أقبل الضعف ولا الشفقة، ولا الصورة التى ترسمونها فى أذهانكم للجنون، وجدت أن الحنون ذاته له أسوار، وأن مأساتتى ستنقلب إلى ألفاظ تتشدق بها أنت وزملاؤك، فرفضت كل ذلك، رفضت أن أصبح سجينك أنت بعد أن عشت سجن الناس والمجتمع، لذلك فأنا أنصحك لوجه الله أن توفر جهدك، فأنت تحاول أن تثبت ما لم أستطع أن أحققه، تحاول أن تثبت أنى غير مسئول، وأنا أحكى لك مسئوليتى كاملة، مسئوليتى عن الجريمة، عن الحياة، بل عن فشلى فى أن أجن لأصبح كما يزعمون.
- أنا لا أحاول شيئا الآن. . . لابد أن تدرك أنى أحاول مساعدتك ليس إلا، أحاول أن نناقش اختيارك الجديد، هل سيفي بغرضك أم لا؟ وأنا أطرح سؤالا عليك: هل اختيارك هذا حل لمشكلة وجودك.
- اختياري؟ وجودي؟ هل أنا اخترت، وهل يمكن أن أختار؟ يبدو ذلك ممكنا فى الظاهر، ولكن صحيح. . . أين وضعنى اختيارى هذا؟ هل السجن الحديدى أفضل من السجن النفسي؟ لم أعد أدرى هذه هى مشكلتى فعلا، أريد أن أختار “أنا” ‘ بنفسي، وهذا ما لم أحققه أبدا رغم أنى قضيت حياتى كلها أصارع من أجله.
- وكيف ذلك؟
- ولكنها قصة قديمة مكررة، لابد أنك سمعت مئات مثلها لأنها قصة كل يوم، أو هى خدعة كل يوم ‘أن تختار’! .. ماذا تختار؟ منذ كنت طفلا وأنا أحاول أن أختار أحاول أن أثبت لنفسى أنى أنا الذى اختار، كنت اختار عكس ما يختار أخى الأكبر… ،إذا اختار الأحمر اخترت الأبيض، وإذا قال ‘أخرج’ قلت “أبقى” أنت تعرف هذه القصة العادية فليس فيها جديد فهى فى كل بيت وكل أسرة، ولكنى أنا.، لماذا كنت أشعر بها وكأنها مأساة العالم؟ حين كنت طفلا لم يكن يعنينى أن ما يحدث عند الجيران أو حتى ربما كان يحدث لك أنت، الذى يعنينى أنى كنت فى محاولات دائبة لإعلان وجودى، ولم أنجح فى ذلك أبدا لأنى كنت خامس ‘ذكر’ فى عائلة تريد أن تقتن من كل صنف عددا ما. عندها الذكور فكانت تريد أن تكمل ‘المجموعة’ ببنت ظريفة تكون “حبيبة أمها”. ما ذنبى أنى كنت شيئاً مكررا فى المجموعة التى يقتنونها، لقد جئت على غير رغبتهم، ولكنها على كل حال لم تكن رغبتي، وحين جاءت ‘حبيبة أمها’ أحتى الوحيدة، جاءت بعدى وبعد حمل متعسر، كانوا ينتظرونها، ولكنها تأخرت إلى القطار التالي، كل هذا يفسر موقفى فمنذ أن وصلت خطأ قوبلت بالسخط بل بالرفض. لم يكونوا “ينقصوني” على حد تعبيرهم ومازلت أذكر هذه الجملة ترددها والدتى وترن فى أذنى حتى الآن ‘إحنا كنا ناقصينك’ وبعد أن وصلت ‘هي’ فى القطار التالى جف السخط على لأنهم نسونى تماما، هل تعلم ياسيدى أنى كنت أتمتع بالسخط لأنه كان يشعرنى بكيانى “المسخوط عليه”… ولكن ذلك الإهمال….هو الموت البارد ذاته… لم يعد لى وجود فعلا رغم أنهم لم يتأخروا فى “واجباتهم” تجاهى مثلى مثل الآخرين وحين كبرت وبدأت أناقش وضعى كانوا دائما يحتجون بأه لا ينقصنى شيء. . . وكان هذا كله يثيرنى حتى أفقدنى معنى كل شيء. . كان كل ما يعنيهم هو ‘الواجب’، كنت أحس بلفح العواطف تحوم حولى ولكنها لا تصل لكيانى أبدا، إن الذى يشعرك بالبرودة أكثر أن يقترب منك الدفء ولكن لا يصل إليك. هنا تصيح كل خلية فى عقلك وجسمك صيحة الحاجة. وكأنها قطط صغيرة ترتجف من البرد والجوع وتفتح أفواهها تموء طلباً للدفء. والحياة، ثم لا تجد شيئا، كانت العواطف توجه لمن جاء قبلى – بحكم العادة – ومن جاء بعدي- بحكم الصنف الجديد – ‘حبيبة أمها’. أما أنا . . فأنا الذى جئت خطأ، كنت أحس دائما أنى رقم. . مجرد رقم،ولكنه رقم بعد العلامة العشرية ليس له إلا قيمة الكسور، كنت أحس أنى جئت بعد ما استكفوا، فوضعوا علامة بعد أخوتى الأربعة، فجئت بعد هذه العلامة، هذا حين كنت ‘مسخوطا على مرفوضا’ أما بعد أن أصبحت مهملا … أصبحت صفراً عظيما على يمين العلامة أيضا. وأنت تعلم ما قيمة الصفر بعد العلامة العشرية … هل تستطيع أن تتبعنى يا دكتور.
- بكل تأكيد.
- ‘برافو’ … شاطر أنت فى الحساب، كنت رقم ‘خمسة’ بل بالأحرى كنت ‘الرابع مكرر’ حيث كان أخى الرابع – فى تقديرهم – أيضا بنتا، ولكنهم أكرموا وفادته لأن الدنيا لم تكن قد ازدحمت بعد، لم يكونوا قد وضعوا العلامة العشرية بعد، أما أنا. . . ما ذنبى أنا؟ هل خيرونى فى المجيء. لماذا لا يؤخذ رأى الأولاد قبل أن تصنعهم نشوة ليلة دافئة بهيجة، أو تصنعهم رغبة فى النوم عن طريق التخلص من توتر فسيولوجى بعد يوم قلق؟ فلتركزوا يا دكتور على ذلك فهذا أجدى من إلصاق تهم المرض بالناس . . . وأجدى من أبحاث العد والضرب والطرح والقسمة فى مشاعر الناس . . . أنت معى يا دكتور؟
- طبعا.
- وما رأيك؟
- فى ماذا؟
-فى هذا الاقتراح . . . أليس هذا مشروع بحث علمى يمكن أن تترقى به فى سلك وظيفتك… أليست الأبحاث العلمية عندكم وسيلة للترقي؟
- يبدو أنه صعب فى المرحلة الحالية فإن التحكم فى نوع الجنين سابق لأوانه علمياً.
- ولكنى لا أعنى نوع الجنين، وإنما أعنى قدومه أصلا، ماداموا لا يريدونه، لماذا يعرضونه لكل هذا الضياع. ماذا كان سيحدث لو نقص العالم واحدا مثلي؟ ولماذا لم يئدونى كما كانوا يفعلون مع البنات فى الجاهلية؟ ولعلك تسأل بدورك: ولماذا لا أذهب أنا؟ لقد فكرت فى ذلك ووجدته سخيفاً سخف الجنون ذاته. لماذا أنهى حياتى وأنا لم أصنعها، بل لم أعشها، إن الانتحار هو التخلص من الحياة، ولكنى لست حياً بهذه الصورة فمم أتخلص؟ لذلك قررت أن أحسم واقع الحياة بالهرب وراء تلك القضبان، لقد كنت مجرد رقم وفى السجن سيصبح لى رقم، فعلا، وسأعلق رقمى على ذراعى أو فوق صدرى سوف أحقق الواقع الذى عشته. هل تحب أن تعرف كيف كنت رقماً؟ هل أضرب لك مثلا؟ حتى تفهم إ كنت تريد أن تفهم
- نعم.
- كنا فى العيد . . . وقال أبى لأمى أنه أنه سيشترى أربعة أحذية. . . وقال أمى: اجعلهم خمسة، ورن الرقم فى ذهني، لماذا نسينى أبي، ولم لم تذكرنى أمى بالاسم؟ أنا ‘حذاء خامس’… نمرة خمسة. هذا هو كل ما هنالك
وحين تقدمت فى العمر، علا صوتى وتعلمت ما هو الاحتجاج وأصبحت صداع الأسرة المزمن، رفضت أن أكون رقماً مكرراً. . . فماذا صرت؟ صرت رقما معكوساً، كنت أختار عكس ما يختارون كنت أحاول أن أشعرهم أن المسألة أكثر من زيادة حساب الملابس والأحذية، بل كثيرا ما فكرت أنه حتى هذه الزيادة لم تشعرهم بى لأنهم ربما اشتروا الأشياء أرخص ‘بسعر الجملة’، وكثيرا ما كنت أتأخر عن ميعاد الطعام فلا يسأل عنى أحد، بل إنى كنت اختبيء بالساعات فى ركن مظلم بارد لمجرد أن أكتشف هل افتقدنى أحد أم لا، وحين يقرصنى الجوع أخرج من مخبئى. . . ولكن لا أحد ينتظرني. . لا أحد يفتقدني. وكأن شيئا لم يكن، ثم وجدت أنه لا داعى لأن أختبيء حتى أعرف من أنا، يكفى أن أجلس ساكنا بلا حراك حتى أضيع وسط الزحام. . ولا يشعر أحد بوجودى . . كنت أحيانا أشعر أن أى أحد يمكن أن يتعثر فى وهو يسير كما يتعثر فى الكرسى أو فى أى شيء ملقى على الأرض، وحين انتبهت لكل ذلك حاولت أن احتج فبدل أن كنت ‘زائد واحد’ أصبحت ‘ناقص واحد’ لأنى أخذت اختار العكس على طول الخط، حتي أصبح مفهوما مسبقا ما سأقول، وبذا فقد الاختيار معناه. كنت أخالف حتى أعرف، لكنى خالفت حتى لم أعد أعرف.
ألا يكفى هذا، هل يمكن أن نقفل المحضر الآن؟ ألم تتم أقوالى بعد؟
- ولكن لماذا تصر على موقف المتهم؟
- لأنى متهم فعلا. . . ألم أسرق بالإكراه؟ ألم يحولونى إليك لتقرير سلامة عقلي؟ ألا يكفى هذا لأكون متهما؟
- ولكنك من وجهة نظرك لست متهما، لقد اخترت هذا السبيل بنفسك.
- لقد سعيت إلى السجن، ولكنى لم أسع أليك، وعلى كل حال. . يبدو أن مقابلتك مصادفة لم تكن فى حسبانى، يبدو أن عندك شيئاً آخر.
- فهل نراجع اختيارك
- أنا موافق أنه يستحق المراجعة . . لا من حيث المبدأ، ولكن التفاصيل كانت مفاجأة . . لأنى وجدت أن بالداخل ناساً، يسمونهم مجرمين وهم كذلك من قسوة المجتمع، ولكنى لا أخافهم لأنهم مجرمون بل أخافهم لأنهم ناس، مجرد ناس، الناس يخيفون أكثر من المجرمين!
المجرم يفعل فعلته فى وضح النهار. . فالحذر منه سهل، والقانون له بالمرصاد … أما الناس حين يغتالون كيانك، حين يسجنونك فى آرائهم التى لا يعرفون لها قيمة حقيقية، حين يكرهونك إذا اختلفت عنهم. . . ليس لهم قانون يردعهم . . . بل أحيانا يكون القانون عليك.
- ولكن لا بد من احترام ما هو قائم حتى يتم تغييره إلى ما هو أحسن.
- تغييره؟… نعم ربما يكون هذا هو السبيل، لقد فوجئت فى الداخل بقيودى تسير معي، وكانت مفاجأة حين انتهكوا وحدتى وأنا جالس وراء القضبان، كنت رقما جديدا . . . ولكن هذا لم يحدد معالمى. . . ولا كان بديلا عن اسمي. . . الذى نسيته أنا ذاتي. . . ولكن كيف؟ هل تتصور أن إنسانا ينسى اسمه أحيانا.
- أحيانا.
- لقد نسوه دائما فلماذا أذكره، إن للاسم رنينا إذا كان لصاحبه كيان، ولكنه صدى أجوف إذا كنت لا شيء . . . لا شيء.
- وحين فعلت ما فعلت ماذا أحسست لحظتها؟
- لحظتها؟ لحظتها؟ كانت سيدة عجوز لم أحاول إيذاءها ولكنى تعمدت أن آخذ الحلى أمامها، بل أقول لك الحقيقة، لقد أرغمتها أن تناولها لى بيدها من داخل الصوان، لماذا لم آخذها أنا بنفسي، لا أدرى، ولكنى ساعتها كنت أريد أن تعطينى هلى أغلى ما لديها، أن تعطينى جزءاً من نفسها ولو بالإكراه، أنت تعلم كيف يكون الحلى قريبة إلى نفس عجوز، وحيدة، إنها تصبح جزءاً منها، وقد أخذت هذا الجزء، بل للدقة لقد اضطررتها أن تعطينيه، ولكنى حين استوليت عليه وخرجت، لم أحاول أن أبيعه . . . فقد العمل كله معناه، لم يعد له قيمة، شعرت أنى احمل ثقلا من النحاس والزجاج، وذهبت إلى اقرب قسم بوليس، وأبلغت عن نفسى وانا ممتليء بشعور التفاهه: ما فائدة أن أرغم إمراة عجوزاً وحيدة أ تعطيني، ما فائدة كل هذا، ما فائدة ان ترغم أحداً أن يعطيك، العطاء لا يكون عطاء إلا إذا خرج من نفس إنسان لآخر تلقائيا، برضي، باختيار، بحب نعم بحب. . . هذا هو الموضوع.
- نعم. . . هذا هو الموضوع “العطاء. . . والأخذ. . . بحب”
وسكت قليلا وتغيرت نظرته وأخذ يتأمل وجهى مليا ثم قال:
- ولكن كيف عرفت أن “هذا هو الموضوع؟”
قلت:
- لأن هذا – فعلا- هو الموضوع . . . ليس السرقة ولا التهمة، ولا الجنون ولا شيء يهم سوى هذا هو الموضوع.
- نعم . . . ولكن لابد أن تعيش مأساتى حتى تشعر أن هذا هو الموضوع.
- أو أن أعيش مشاعرك وأنت معي. . . أن أنبض بألفاظك. . هذا هو الطريق إلى فهم مأساتك
- إذا هى ليست مناقشة عقلية أو تمرين هندسة تحاول أن تحله لتأخذ عشرة على عشرة.
- بل هى مأساة إنسان أحاول أن أعيشها معه ولو لحظات .. لأشعر بخفق مشاعره فأفهم. فأحس. . . فأحب. فأساعد فيتقبل. . إن استطعنا
- وهل نستطيع
- نحاول.
- ولكن إذا كانت والدتى التى أنجبتنى لم تستطع . . فكيف تستطيع أنت.
- والدتك لم تقصد.
- ولكن الأطفال حين يقذفون الضفادع بالحجارة لا يقصدون قتلها، وحين تموت الضفادع تموت جدا لا هزلا، أليس هذا مثلا صينيا على ما أذكر؟
- هو كذلك. . . ولكنا نعيش لحظة ‘الآن’ و’أنت’
- فهل تعيشها معي. وهل تستطيع فعلا.
- ما رأيك؟
- أراك تحاول.
- فهل نتفاهم؟
- ربما. . . ولكن
- ولكن ماذا؟
- أنا بردان.
- . . .
- اريد الدفء . . . لقد ولدت فى شهر ديسمبر وما زالت الحياة كلها ليلا طويلا باردا. . . انا ارتجف احيانا واحس بالبرد فى عز الصيف الست طبيباً مثل الأطباء. . ربما كان عندى ‘ملاريا’ وهى اسهل فى التشخيص مما تحاولون إثباته. عينة من الدم. . . شريحة من الزجاج و”ميكروسكوب” وسلامتك وتعيش، أما ما تفعله أنت … كان الله فى عونك، ولكن قل لى يا دكتور: ما الذى دفعك لاختيار هذه المهنة؟.. هل تتمتع بالفرجة على ماساة البشرية، وإلا فلماذا أنت تتعب كل هذا التعب؟ وانت تستطيع ان تكسب أضعافا مضاعفة من مهنتك الأصلية.
- ولكن هذه هى مهنتى الأصلية.
- ماذا؟
- أن اكون إنساناً.
- طبيب يترك مهنة الطب التقليدى ليكون إنسانا . . هل هذه وظيفة؟
- حين يفتقر الناس لإنسان يفهم. . . من خلال مشاركتهم مأساتهم. . . لا لمجرد أنه يحفظ الكتب، تصبح – للأسف – صفة الإنسان مهنة.
- ما أعجب كل هذا. . . ومن هو الإنسان.
- هو الشخص الذى يستطيع أن يمنح الحب الدائم الدافيء … ويستقبل المشاعر بصدق وأمانة حتى يذوب الجليد الذى تعيش فيه.
- وهل يذوب؟
- لا بديل لذلك.
- وبعد أن يذوب . . . ماذا أفعل بالخوف من الناس لو تكررت المأساة: حين أحتاجهم لا أجدهم، وحين استغنى عنهم بالبرود العاطفي، لا أجد لأى شيء معنى ولا جدوى حتى إذا عادوا فأعطوني، يكون قد فات الأوان.
- إذا ذاب الجليد فعلا . . . دبت فيك الحياة . . . وأصبحت أنت مصدرا للحرارة … والحرارة ستذيب الجليد الذى يفصلك عن الآخرين حتى ولو كان يحيط بهم هم، لأنك تستطيع أن تمنح الحب فى قوة وثقة وأمان، ولن تنتظر الكثير بل أنت ستتأكد من الاستجابة المخلصة مهما طال الزمن.
- لا تعدنى بما لن يكون.
- ولكنك تشعر الآن بشيء جديد.
- قد تستطيع أن تحكم على نفسك، ولكن الناس شيء آخر.
- أنا من الناس.
- ولكنك تمتهن مهنة ‘إنسان’ ربما أثناء تواجدك فى العيادة، وربما تعود بعد ذلك مثل الناس.
- ولكنى مثل الناس فعلا. . . كل ما فى الأمر أن قسوة الحياة جعلتك لا ترى فى الناس إلا الشر والخيانة.
- ولكنهم كذلك.
- ليس بالضبط.
- كيف؟
- حين تحب . . . تمنح دون حساب ودون رجاء . . . وحين لا تنتظر الكثير. . . يتجمع القليل ليصبح كثيرا ، الناس جميعا رغم قسوتهم ‘مساكين’ لا يدركون ما يفعلون ببعضهم البعض.
- وهل أنت الذى ستصلح الكون؟
- بل أنت.
- أنا؟
- نعم أنت. . . حين تحب وتعطى ستشعر بالقدرة التى لا حدود لها . . . وسيصبح لكل شيء معني.
- كيف أعطى وأنا لم آخذ . . . وحين سرقت وسموها ‘سرقة’ بالإكراه’ كان الدافع أن أجعلها – هذه السيدة المسكينة – تعطينى حليها . . . أنا أريد أن يعطوني. أريد أحدا يعطينى ذاتي.
- إن أحداً لن يعطيك ذاتك. . . إنك أنت الذى ستخلقها من جديد. . .
- كيف؟
- لو قبلت ما تحسه الآن هنا. . . سوف ترى رؤية جديدة وتعلم أشياء جديدة، ثم تمارس مشاعر جديدة . . . ثم تنطلق إلى رحاب الناس بلا خوف
- أما أبعد ذلك.
- وأروعه.
- لعل. . . لعل للأمر وجه آخر
- لنحاول
***
قال الفتى للحكيم:
- آه لو تم كل هذا، إذاً لتغير وجه الحياة.
ولكن حديثنا عن ذلك الفتى الهارب إلى السجن، الذى فشل فى أن يجن، كاد ينسينا حديثنا الأول عن ذلك الفتى الثائر الذى آمن بكل شيء وحين لم يجد شيئا فيما آمن به فقد نفسه. . . واضطربت عليه الأمور . . . فحدثنى عنه، فقد طال بى الشوق إليه.
الشعلة والحريق
قال الحكيم:
أما حكاية ذلك الفتى الثائر فهى حكاية هذا العصر، بل وكل عصر، وقد شغلنا الاستطراد فى حديث “القفص والسجن” عن صديقنا هذا الذى آمن حتى كفر، وعاش الكلمات التى قرأها بكل عمق وإحساس نقي، وحين أراد تحقيقها وجد كل شيء مختلفاً. . .
أراد أن يضيء فاحترق. . . أو كاد.
قال الفتى:
- وكيف كان ذلك؟
قال الحكيم:
هو فتى من أرض هذا البلد الطيب، حمل فى نفسه تراث حضارة قديمة أصيلة، وفى جوفه طمى نيلها القوى الجبار، وانصهرت كل خلية من خلاياه بشمسها المشرقة الدافئة، وكان يؤلمه أشد الألم أن ينبض وجدانه بكل هذا الصدق والأمل، ثم هو لا يجد حوله إلا هذا التراخى والشلل، واتجه إلى الكتاب فعشق الكلمات من صغره، فمنذ العاشرة وهو يقرأ كل ما تقع عليه عيناه، آسف. . . لم يكن يقرأ الكلمات بل كان يعايشها، لم تكن الصفحات أمام عينيه مسطحة ملساء بل كانت دنيا زاخرة بالأشخاص، تنبض بالحياة، لم يفرق أبدا بين اللفظ والمعنى، كان اللفظ هو معناه فى نفس الوقت. . . بل هو حقيقته .. كانت لألفاظ حقائق قائمة تسير فى الحياة. بل هى الحياة. وكان من أول ما عرف من الفاظ هو كلام الله سبحانه وتعالى، ومثل أهل هذه الأرض الطيبة المنبسطة كان الإيمان عنده أمرا بديهياً لا يحتاج إلى منطق أو تفكير، فلأمر ما يدخل الإيمان هنا – إلى القلوب مباشرة دون تفسير ودون جهد ودون مراجعة، أهى دعة الطبيعة تثير هذا الشيء بداخل أنفسنا؟ الشيء النابض بالجوع إلى الاتصال بأصل الوجود؟ لماذا ظهرت الديانات السماوية كلها فى هذه الأرض أو قريبا من هذه الأرض؟ وكيف لا؟ كيف يمكن وسط هذه الطبيعة السهلة ألا يتحررالانسان من قشرته الزائفة فإذا به جزء من كل ما حوله، يحس بالأمن والخير، يحس بالقوة والحق، يحس بالصدق والأمل، إذاً هو الدين فى صورته الأصيلة، وقد كان نبض الدين فى عروق صاحبنا أصيل وعميق، ولكنه حين دخل حظيرة الدين دخلها فى صدر شبابه من باب جانبي، وإذا به فى متاهات وسراديب . . . وابتدأت تجربته.
جاء إلى شبه مختار. . . وجلس. . وقال:
- لقد كفرت بكل شئ.
قلت: بماذا؟
قال: كفرت بكل ما يقال. . وكل ما كان . . وكل ما هو كائن، وكل ما سيكون.
قلت: وأنت؟
قال: كفرت بنفسى أولا وقبل كل شيء. . كفرت بالأصل والفرع، بالسبب والنتيجة، بالحق والباطل، كفرت بالشيء وضده.
قلت: والانسان. . والغد؟
ققال: وبالذات كفرت بالإنسان. . . وبالذات كفرت بالغد. . لقد خدعت بما فيه الكفاية، وما بقى منى هو العفن الطافى فوق الجسد المتآكل، اشتعلت حتى احترقت، وحتى الحريق لم يأت على فيتركنى ترابا مقدسا، بل تركنى جسداً مشوها منتفخا سرعان ما فاحت رائحته. . . لست رمادا بعد . . لم أمت . . بل جننت. أو هكذا تسمون أمثالى، الموت هو رماد نقى نظيف، والجنون هو موت عفن كريه، لم أستطع حتى الموت. . لأنى كفرت بكل شيء حتى الموت قلت: ولكنك مازلت. . هنا
قال: أنا هنا لأتفرج عليك.
كنت قد قرأت عنكم معشر الدجالين والمشعوذين والفلاسفة وعلماء النفس والأطباء ما شغلنى وبهرنى لفترة من الزمان، ولكن مثل كل ما قرأت كان يشعل فى شمعة لها ضوء نورانى بديع، وما إن أقترب منه وأحاول أن أرى من خلاله الطريق حتى أحترق، يحترق إصبعى ثم تلفح النار وجهي، ثم تحترق نفسى وفكرى ومبادئى ومثلي، وياليتهم تركونى حتى النهاية … إذا لأصبحت رمادا نقيا، ولكن من حولى أطفئونى فلم يبق إلا جسد ممزق لا حياة فيه، ألا تعرف يا سيادة الطبيب تلك الرائحة المميزة فى من تسمونهم المجانين، نحن، أنتم تقولون أنها رائحة العرق لأنهم لا يستحمون هذا وهم سخيف، إنها رائحة عالمية تجدها تفوح مني، رائحة الحى الميت، ما علينا لا أريد أن أجهلك قبل أن أعرفك. .، أقول كنت قد قرأت عنكم معشر الدجالين وأطباء النفس ما بهرنى وأضاء فى شمعة من الشمعات التى أحرقتنى، ثم طفت جولتى بين الكلمات والأشخاص، بين النظرية والتطبيق، بين المبادئ والواقع، وانتهت إلى ما تري، وحسن ذكرك فى نهاية المطاف قلت أتمم الجولة بك.
قلت:
- قل ما شئت.، ولكن تذكر دائما أن هناك احتمالا آخر.
قال:
- أى احتمال آخر. . لقد جربت كل لاحتمالات. . هل أحكى لك من الأول. . أم تختار أنت. . لقد جربت كل الاحتمالات.
قلت:
- قل ما تشاء.
قال:
كان الطريق الأول هو طريق الدين. . وكنت مثل سكان هذه الأرض الطيبة – التى لم أعد أعرف لماذا هى رغم كل شيء ما زلت طيبة – كنت أحب الحق، الحق، كان هذ هو الدين الذى دخل إلى وجدانى دون تفكير، ولكنى أيضا كنت أحب الناس، كل الناس، ومن أى دين، وسمعت حينذاك دعوة تقول أن الدين هو دستور الدنيا والآخرة، هو الأول والآخر، هو السياسة والأخلاق، هو التجارة والصناعة، هو العدالة الاجتماعية والأشتراكية وكل شيء، هو الحل لكل معضل. . لكل مشكل، وكنت – وقبل أن أقرأ أى شيء أشعر بأنه لابد أن يكون الدين فعلا هو كل هذا، وبما أن الدين هو اتصال الانسان بأصل الوجود، وبما أن الدين هو الفطرة السليمة، والفطرة هى الجمال والسهولة والحرية والحق والقوة والحب فى آن، إذاً فلا بد أن الدين هو كل شيء.
ودخلت مع تلك الزمرة التى كانت تنادى بهتافات نهتز لها صدقا وحماساً. . وجلسنا نتدارس الدين فى حلقات كانوا يسمونها أسر، ما أحلى أن يجتمع الشباب حول كتاب الله يشرق بالنور والهداية، وتفقهنا – ولكن كان ممنوعا علينا أن نتفقه أكثر مما ينبغي، استبدلوا كتاب الله بكتيبات صغيرة تدخل إلى العقل من الباب الجانبى للوجدان، ثم تتربع فوق االعقل، ثم تشل حركته، وحين لتطبيق تشل حركة الإنسان حيث تضيع منه ذاته، وتقوم الحواجز بينه وبين ربه، كنت أحاول أن أرى نور الكلمات على الوجوه .. وكنت أجده أحياناً، ولكننى فى أغلب الأحيان كنت أصدم بالتزمت والقسوة، كنت أحاول أن أتلمس نبض الوجدان فأجد أن صفعات الألفاظ تنهى وتأمر، وأخذت أختنق رويدا رويدا. . وملأنى الغيظ والحنق وأنا أرى الألفاظ المضيئة وهى تستعمل لتنير دهاليز لا أعرفها، توصل إلى حجرات تحت الأرض كلها ظلام فى ظلام، هى حجرات الأسر االسرية قلت فى نفسى: كيف؟ كيف يكون طريق النور هو حجرات مظلمة تحت الأرض؟ وكيف يتجنبون كلام الله بشموله ورحمته، ولا نتدارس إلا الحرب والضرب والجهاد. . . لقد كان الجهاد وسيلة لتعميق وتثبيت الإيمان. . ولكنه لم يكن بديلا عنه. . ، وصعدت السلم درجة درجة، وكلما صعدت درجة فجعت فجيعة، فأسرة الشبيبة غير أسرة الشباب العلني، وهى أنقى وأطهر من أسرة الشباب السرى التى كانت بدورها أصدق وأشرف من مستويات المسئولين عن الإرشاد. . آه من ‘المسئولين’ . . كلما اقتربت من مسئول كانت فجيعتى أكبر، هل أنت مسؤل يا دكتور؟
- نعم . . أنا مسئول عن صحة االناس . .هذه مهنتي.
- إذا. فأنت لا تعرف معنى كلمة ‘مسئول’ لو عرفتها ما وصفت نفسك بهاا، أو أنك مثلهم تافه وسطحى ومتسرع، كنت وأنا صغير أعتبر المسئول مسئولا، فإذا بى أكتشف أنه كلما كان الإنسان مسئولا كلما كانت قراراته أكثر سطحية وتصرفاته اكثر انفعالية، وشخصيته من الداخل أكثر اهتزازا، لماذا هذا التناقض يا دكتور؟
- إن حكمك دائماا مطلق، على أن التناقض من قوانين الحياة وطبيعتها فى مرحلة ما. . . وتطور الانسان هو سبيل القضاء على هذا التناقض بمرور الزمن.
- آه. . تطور الإنسان؟ أنت تحلم كما كنت أحلم وأنا صغير، يبدو أنك لم تنضج بعد يا دكتور، كيف تقف هذا الموقف وقد شاب شعرك الباقى على صلعتك؟ سأعلمك أنا معنى التناقض والنضج: التناقض هو أن تؤمن حتى تكفر، أن تحب حتى تكره، أن تتحمس حتى تتبلد، أن تصرخ حتى ينحبس صوتك، أن تكبر حتى تموت. . هذا هو التناقض. . أما النضج فهو أن تتحور لتتكيف مع كل زيف حولك، ما علينا، دخلت باب الدين متسلحا بالإيمان وتهت فى سراديب الرسائل الصغيرة واختنقت برائحة الحجرات الرطبة المظلمة تحت الأرض، وأخذت الشموع تخبو فى نفسي، وأظلم عقلى ولكننى مددت يدى أتحسس وجدانى فلسعتنى النار، وفرحت فقد علمت أن الشعلة ما زالت هناك، لم تخمد بعد، استمتعت بلسع النار لأن أيقظنى قبل أن يفوت الأوان، قبل أن يعطونى مسدسا أقتل به إنسانا لا أعرفه، قالوا أنه عدو الله، لسعتنى نار وجدانى فأنقذتنى قبل أن يطمسوا عقلى بالترانيم والأقانيم والتعاويذ والتسابيح، وحفاظاًَ على نفسى كفرت بما يفعلون، ولم أكفر بجوهر الأشياء، احتفظت بالإيمان وكفرت بالكهنوت، حافظت على صلة الإنسان بأصل الوجود ورفضت أوامر القيادات الفارغة الجوفاء، رفضت اهتزاز اللحى وهى تعزف مقطوعة الإرهاب وأن يشوه الإنسان الخير؟ كيف يصبح الدين االنابض بالحب والتسامح هو هو طاقة الحقد والقسوة والتزمت؟ لماذا يفعل الناس بأنفسهم وبمعتقداتهم هكذا؟
***
وانتهت فترة نابضة قاسية من صدر شبابي. وانطفأت إحدى الشموع، ولكن ضوءاً خافتاً آخر بدأ فى الظهور، هل تريد أن تعرف بماذا آمنت بعد ذلك؟ ولكن قل لى يا دكتور هل تؤمن أنت بشيء، أم أنك ترتزق مثل سائر الكهنة المرتزقة من احتراف مهنة ما. . طبعا أنت مرتزق، هذا واضح، ولكن هذا لا يمنع من السؤال: هل تؤمن بشيء؟
- أنا لا أصلح لهذا العمل إن لم أومن.
- وبماذا تؤمن؟
- أومن بالإنسان. . بسلامته وتوحده. . بقدرته على التطور والتجديد. بوحدة الوجود، أومن بالغد.
- يا سبحان الله. . يظهر أنه لابد أن تسير طريقى كله حتى تكفر بكل هذا . . أنت تتفرج على الناس من فوق كرسيك هذا وتتشدق بالألفاظ، ولكنك لا تعايشها مثلما فعلت، ولكن قل لى بالله عليك كيف تحتفظ بإيمانك هذا وأنت ترى الفشل تلو الفشل فى صورتنا نحن المرضي. . ألاا نيئسك فى حياتك وآمالك حين نفشل ونستسلم؟ هل مازلت ترى نبض الإنسان وراء حطام الجسد الحى الميت؟
- إن ما حافظ على إيمانى بالإنسان هو قدرته الخارقة على أن يحمع شتات نفسه رغم كل شيء وبعد كل شيء. . . إن مازاد إيمانى بالإنسان هو رؤيتى له عاريا يصارع الزيف بالألم نعم بل حتى بالمرض. . ‘أنت’ الذى حافظت على إيمانى بالإنسان. . وبالغد.
- أنا . . الله اكبر!. . أنا الذى كفرت بكل شيء - وخاصة بالانسان وبالغد – أجعلك تحافظ على إيمانك بالإنسان، وبالغد، ما أعجب هذا: نبى كاافر يؤمن به الناس. . أليس هذا هو الجنون بعينه.
- انت ضقت بكل شئ. . ولكنك لم تكفر بعد . . وإلا لما كنت هنا.
- أنا هنا حتى أكفر بك أنت أيضا. . أكفر بالطب وبالعلم.
نعم العلم الطبى بعد أن كفرت بالعلم السياسى والاجتماعي. . هل تريد ان تسمع بقية حكاية الإيمان حتى الكفر؟
- اسمع يا سيدى: حين تهت فى سراديب الكهنوت، وانتهى الإيمان إلى غيابات التنظيم السري، وانقلب نور كلام الله إلى إرهاب كلام القادة والمرشدين، حين تصورت ما بين دفتى المصحف حلا لكل شيء فإذا بهم يستعملون وسيلة للقهر والقتل والإرهاب الفكرى وجدت نفسى أرتمى فى أحضان النقيض، وذهبت إلى حيث وجهتنى قراءاتى الاشتراكية العلمية، فقد كنت مازلت أتلمس الطريق بما أقرأ من كلمات توجهني، وهناك فى أروقة المادية الجدلية رأيت الإنسان ينتصر على شهواته، قرأت عن المساواة والعدل، عن الرحمة وحسن االتوزيع، عن العمل والإنتاج قرأت وطربت ورقصت الكلمات فى وجدانى رغم أنى تململت من بعض التفاسير المادية البحتة، ورغم أن داخلى رفض الالحاد والهجوم على الدين، رغم كل هذا فقد ارتقيت فى أحضان المادة و العلم المادى بعد أن كفرت بالكهنوت، بالمظاهر الدينية، ولكن داخلى ظل متمسكا بالنبض الصوفى الذى يحس بالله سبحانه رغم كل شيء، وبلا أى وسيلة، ولا حتى غاية، ولكنى تجاهلت داخلى واندفعت إلى التفسير المادى للتاريخ، وبما أن الكلمات عندى هى المعنى وهى الفعل قررت التنفيذ، ولم أدخل هذا السبيل من الباب الحانبي، بل بدأت الطريق فى الظلام، ومن أول لحظة، فقد كان النشاط سريا منذ البداية، وكنت قد تمرست على الرؤية فى الظلام من أيام الأخوة إياها، فلم يكن غريبا على أن أقبل السير فى الظلام وصعدت السلم من أوله: خلية صغيرة، ثم مسئولية كبيرة، وكلما صعدت درجة كلما أحسست بالغرابة والانزعاج، فقد كانت الكلمات المضيئة تتوارى وراء الإجراءات والأوامر والترتيبات، وبدا فكرى الحر يحتج، وقالوا أنت تحلم بغير الواقع.
قالوا: إن الحرية خطر على الناس، إنهم يستعملونها فى جمع المال وإذلال الآخرين، إن الحرية بهذا الشكل هى العدو اللدود للبشر، للطبقة العاملة، ونحن نمثل الطبقة التى تمثل الأغلبية، ونحن أحرار، إذا فالأغلبية أحرار، وهذا يكفى لقيام الحرية، ويبدو أن عقلى المثالى لم يقبل إلا الأحلام، وبعثونى فى مؤتمرات السلام، وما أبهج الكلمات حين تدور حول حلم الإنسان عن العدل والسلام.
ولكن. .
يا سبحان الله، مما هذه الأسوار العالية حول الفكر؟ ما هذه القيود حول الجديد؟ ما هذا الخوف من الرأي؟ إن الأفكار الجميلة حين تخرج إلى التطبيق لابد أن تتبناها حكومة، وللحكومة ‘بوليس’ ‘وللبوليس’ رئيس، وللرئيس صولجان وهيلمان، وللحزب “مفتى” وللفتوى تفسير، وللتفسير تأويل… إننا حين نمارس الفكر المشرق فى واقع الحياة نصاب بخيبة أمل لا حدود لها، وكانت خيبة أملى شديدة حين سافرت إلى بلاد اليسار الأحمر، حين رأيت الأمل يختنق فى الصدور، حين رأيت الكلمات تنحبس فى الحلوق، حين اكتشفت أن أفكارى أنا شخصيا تتردد فى الورود إلى ذهنى، إلى هذا الحد كان القهر وهو أن الإنسان: أنا أمنع نفسى أن أفكر خشية أن يجرنى فكرى إلى مناطق محظورة تضر بالطبقة الحاكمة – أعنى العاملة – فى كفاحها المجيد ضد الاستغلال، الطبقة العاملة هى السيد والباقى طماعون سفاحون خبثاء، ولكن لماذا نفكر نحن رجال الحزب للطبقة العاملة، أليست لهم عقول يفكرون بها، ولكن أين هى الطبقة العاملة؟ إنها بين دفتى الكتب العقائدية، ويبدو أن وجودها غير حقيقى، إذ أننا نتكلم باسمها، وهم يحكمون باسمها، ثم هى فى واقع الأمر. . أين هي؟. ويبدو أن تفكيرى كان مثاليا عجز عن استيعاب الدى يجرى ‘كمرحلة’ فاستعجل الوصول.
وتوقفت فجأة.
وأخذ إيمانى يهتز وبالمادية، ورفضت أن تحجز أفكارى على أفكارى، رفضت أن تكون الكلمات الجامدة هى لسجن الذى نسجن فيه الإنسان لصالح طبقه ما. . رفضت أن تكون هناك وصاية مذهبية على الفكر. . أو وصاية طبقية على الحكم أو على الشعب: طبقة الحزب وصية على الحكام، أوصياء على الشعب، والشعب مسموح له أن يفكر فى الطريقة التى يحقق بها المادية الجدلية ذاتها. . ممنوع الجدل فى الجدل. .لقد حلت النظرية كل شيء، الانسان يستغل الانسان منذ الأزل، وقد آن الأوان لتوقف كل هذا، وإذا بالانسان يستغل الإنسان من أجل أن يتوقف الانسان عن استغلال الانسان.
وكفرت، كفرت. . .
ذبلت شمعة جديدة . .ويئست وأنا أتحسس طريقى وسط الظلام على ضوء خافت يتراقص، وحين مددت يدى نحو لضوء احترقت وأفقت، ووجدت أن جذوة النار لم تهدأ.
وانحرفت . . هكذا قالوا!!
وصمونى بالانحراف وبالنكسة وبالتردى فى هاوية المرتدين االجبناء، وأرهبونى وحطمونى أمام نفسى، وكان جزء من نفسى يحاول أن يطفى داخلى حتى استمر فى طريق الفكر المجرد، والعمل المنظم لتحقيق الفكر المجرد، ولعمل لتحقيق الفكر فى الواقع، كنت أحاول أن أتصور أن الفشل فى التطبيق مرحلة لابد أن نتخطاها، ولكن القائمين على الأمر كانوا واثقين من أنفسهم ومن النظرية أكثر مما ينبغى، أكثر مما أطيق، لم يكن فى هذه االحياة إلا مذهب واحد. . وللمشاكل حل واحد و للأمراض تشخيص واحد، لم يكن عندهم إلا تفكير واحد وحرية واحدة وطبقة واحدة فكل شيء ورد فى أقوال الزعيم، كل شيء وضع له حل، اليوم وغدا وبعد ألف عام، ورفضت ورفضت. . كلما اقتربت أطفى االجذوة بأن ألقى عليها حجارة من الكلمات المرصوصة، كانت نفسى تتلقف الحجارة وتوقدها بالوهج حتى تحمر الحجارة وتنصهر، وأصبحت الكلمات الجامدة وقودا للثورة على نفسي، ولم أستطع يا سيادة االطبيب، لم أستطع. . .
أنا إنسان خيالى فاشل ورغم محاولاتى المتكررة أن أعيش واقعى … أن أواقع الكلمات، أنا لا أقرأ الكلمات. . أن أعيشها، أنا أعاشرها، أناغيها، أرافقها، الكلمات تدخل خلاياى وتسرى فى دمى وتنبض فى عروقى، تصبح هى أنا، وأنا هي، فإذا حاولت أن أسير بها وجدت الفرق شاسعاً بين ما فى أوراق الكتب وما فى وااقع التطبيق، وخاصة حين أشاهد مصير الكلمات فى تصرفات الرؤساء. ألم أقل لك أننى كلما صعدت الدرج كلما ازددت جزعا. كان المسئولون يتراشقون بالكلمات دون معانيها، كانوا يستعملون المباديء لتحقيق أشياء أخرى غير المباديء.
هل هو الطمع؟
هل هو السلطة؟
هل؟… ماذا؟. . لماذا؟. قل لى ياسياادة لطبيب النجيب ما هو ذلك االشيء لذى ينسى الانسان نفسه؟
- الخوف
- هو ذاك . . الخوف. . لقد خفت كل شيء، إنك إذ تخاف تفعل أى شيء وكل شيء حتى تنجو من الرعب الذى يتملكك، لقد خافوا على الانسان حتى قضو على الإنسان، خافوا على العمال حتى خنقوا الحرية، خافوا على أنفسهم حتى نسوا أنفسهم وخفت أنا أيضا، كما أن من حقهم أن يخافوا، فمن حقى أيضا أن أفر بجلدى وفررت. . . ولكن إلى أين؟ ياوحشة الطريق. . إليك، إلى الأمان المطلق إلى الجنون المطبق .. آه .. يا إنسان يا غريب الأطوار. . تبا لك من حشرة جبانة تهرب إلى الحجر بمجرد سماع وقع الأقدام.
- إن تجربتك مرة، ولكن لا تمتهن الإنسان، فقد عاش حتى الآن يصارع نفسه يصارع الخوف. . ومازال دائم التقدم بالرغم من كل شئ.
- نعم بالرغم من كل شئ. بدليل أنك جالس خلف كرسيك ترتزق من أشلائه المتناثرة
- أنا أعيش وأفعل ما أستطيع
- وماذا تستطيع حين يكفر إنسان بنفسه. . ماذا تستطيع أن تفعل له؟
- أستطيع أن أحبه رغم كل شيء، أحبه جزءاً جزءاً حتى يجمع شتات نفسه، أثق فيه وهو فى قمة تصدعه. . أصاحبه حتى يستمر كما ينبغى.
- ينبغى؟ وماذا ينبغى ياسيادة الطبيب؟ ينبغى أن أغمض عينى وألف أن أذهب إلى وظيفتى وأقبض راتبى آخر الشهر؟ أن أقتنى امرأة منبهة تنتفخ بطنها بين الحين و الحين ببعض ما ألقيه فيها من فضلات اللذة، حتى تزيد عدد لأحياء التعساء، مذا ينبغى يا سيادة الطبيب؟. قل لى بربك ماذا تفعل بالناس من على كرسيك هذا؟ أنت تساعد فى”مكينة” الإنسان وقتل مشاعره.
- بل أنا أساهم فى الحفاظ عليه حتى يكمل طريق الثورة والتطور. إن المرض رفض، والرفض لا يثمر إلا بقيام الثورة وأنا أقف بجوارك لتكمل الثورة الإنسانية. . فالثورة لا تكون ثورة إلا بعد تحقيقها . وإلا فهى الثورة الإنسانية . . فالثورة لا تكون نورة إلا بعد تحقيقه . . وإلا فهى محاولات مجهضة فى الظلام. لا يخرج منها إلا مسخ ناقص النمو.
- عليك نور. . أنا المسخ ناقص النمو أنا المسخ المشوه.
- ولكن هذا التشوه الذى يظهر عليك مرحلى وسطحى ، أما جوهرك فهو هو، وإلا ما مرضت، المرض يصبح نعمة حين تخرج منه أصلب عودا، وأقدر على الاستمرار.
- الاستمرار؟ لقد حاولت الاستمرار، وباستمرا. هل تعلم ماذا فعلت بعد أن ضللت فى دهاليز الكهنوت وضعت فى سرديب مادية التاريخ؟
***
ظهر فى هذا البلد الطيب تحالف لأبنائه، تحالف قوى الشعب العاملة شيء جميل للغاية: الشعب. التحالف القوى العامل. ما أروع كل هذا .. الميثاق االغد المشرق الأرض الطيبة . . مصر . . العمل. . العدل. . الحرية. . ، وقلت إذ كانت دهاليز الكهنوت قد ساقتك إلى الإرهاب الديني، وكانت مادية التاريخ قد حجرت على فكرك وحريتك، فها هى الشمس تشرق بهذه التعادلية الجديدة. تحالف قوى الشعب االعاملة. وتوكلت على الله – فإن مادية لتاريخ لم تستطيع أن تنتزعه من قلبى ووجدانى – وذهبت إلى التنظيم، وتحمست، فأنا طول عمرى متحمس، وفى هذه المرة كانت الرؤية واضحة، الأرض طيبة. . والحياة طيبة. . والناس طيبون والنيل يجرى سهلا. . والودى منبسط، والله مازال فى قلبى. كل شيء طيب طيب ولابد من تحقيق العدل. . ولابد من إقرار السلام مسألة ولابد من الحرية، لابد للناس كل الناس أن يعيشوا و أن يأكلوا، أن يفكروا، أن يتطورا.
وتحالفت مع قوى الشعب العاملة ولكن . .
ما هذا الذى يحدث؟ كلما حاولت تحديد شيء ساح كل شيء فى كل شيء، فأنت هناك بلا قوام، ميوعة ولزوجة وألفظ مرصوصة مرصوصة مرصوصة، مثل علب الأحذية الفارغة فى محل تاجر أوشك على الإفلاس، والشعارات الرنانة تطوف حول الرؤوس ولا تدخلها، وأحاول أن أصيح أن هذا الشيء جديد، ولذلك ينبغى أن يكون جديدا فعلا وأصيلا، ولكنى اكتشفت أن اليمين يريد أن يخدع به اليسار، وأن اليسار يريدانيحتوى من خلاله اليمين، وبدل أن يكون هو مجموع إيجابيات اليمين، واليسار، أصبح حاصل سلبيات اليمين واليسار، فبدل أن تجمع خمسة زائد خمسة ليصبح التحالف عشرة، كنت تطرح خمسة من خمسة فإذا بالناتج صفر، وهأنذا. . أنا هو الصفر. . أنا اللاشئ أنا المؤمن الذى كفر بكل شيء وحين انهار البناء فوق رؤوس الكهنة المتشدقين بالألفاظ الجوفاء كنت أنا قد انهرت من زمان. . سوف تقول لى إنهم يعيدون البناء. .ولكنى مريض لم أعد أومن بشئ . ولا أثق إلا فى أنا شخصيا، وأنا لا شيء. . حاولت كل طريق ولم أحصل إلا على التمزق فالجنون، آمنت بكل لفظ حتى سقط هرم الألفاظ فوق مبادئي، أنا الآن عار من المبادئ، ومن الألفاظ، ومن المعاني، ومن الحياة، فما حيلتك فى؟!.
قلت له:
- ولكنك مازلت ثائراً.
- لا تقل هذا. . كفانى ثورة
- بل أنت ثائر على تصور فشل الثورة، لذلك فأنت ترتدى مظر الاستسلام. . ومازالت الجمرة متقدة فى داخلك.
- لا تحاول أن تبعث فيها الحياة. . لقد انطفأت الشموع جميعا وعم الظلام.
- الشموع قد تنطفيء، والجمرة قد يعلوها الرماد، ولكنها متقدة فى داخلك.
- لا ترسل نسيم ألفاظك إلى حيث لا تعلم، فإنها لو أشعلت الجمرة فلا أحد يعرف كيف سأنفجر، سأتحطم تماما وقد أحطمك معى. . ألا تسمع عن المرضى الذين يقتلون. . أنا أشعر الآن بمعنى ذلك، فالإنسان القاتل فى جوف هذه الجمرة، فدعه يكتوى بها حتى يحترق ويموت .
- إذا فهناك جمرة.
- تحترق. . فيه ساعدها بعقاقيرك المهدئة العظيمة. . ولا تهيجها بألفاظك المثيرة.
- بل العقاقير تهدئها مرحليا حتى تصبح طاقة قادرة على الاستمرار.
- وماذا بقى منى حتى أستمر.
- هذه الأشياء لابد أن تتجمع. . وتعود إلى حياتك العادية.
لتجعل العالم كله غير عادى . . بالتطور والعمل والاستمرا.
- ولكنى فشلت. . فلماذا التطور ودائما التطور؟
- لأن الإنسان متطور بطبعه.
– ولماذا أنا بالذات.
- لأنك مرضت، إذاً فقوتك االداخلية أكبر من سائر البشر، إذ فأنت تحمل رسالة التطور.
- وهذه الرسالات التى آمنت بها حتى كفرت، ألم تكن وسيلة للتطور.
- وهى دليل التطور.
- إذا لماذا احترقت ينارها وشككت فى كل شئ . . على فكرة أنا أشك فيك.
- هذ بديهى.
- وأرى خيالات وصورا وأشياء كثيرة من حولى.
- مثل ماذ؟
- أرى أفلاطون وأرسطو وبعض الأنبياء، أى والله أحيانا أعيش فى جمهورية أفلاطون، وأحيانا أنام فى غار حراء. . ما أجمل كل هذا رغم كل شئ … ، أن تعيش مع هؤلاء الذين استمروا ليغيروا العالم دون أن يمرضوا، ولا أن ينهاروا، ولكن من يدرى؟ لعله لو كان هناك أيامها طب نفسى كنتم قلتم أنهم مرضى. . كل شئ جائز، فالعلم الحديث خليق أن يشوه كل شيء، أن يعطى رقما رمزيا أو إسما تشخيصيا لكل نبض إنسانى حتى يطمسه، على فكرة. . ما اسم مرضى؟
- ليس لمرضك اسم.
- طبعا … تخفيه لأنه الجنون .. فما معنى الجنون؟
- أنا لا أعرف معنى لهذا اللفظ. . . ولكن ما أنت فيه هو أزمة التطور. . أما ما يسمونه جنونا فأن لا أعرفه إلا حين تتم الهزيمة الكاملة.
- ولكنى هزمت نفسى. . . فعلا.
- ليس بعد
- إذاً ماذا؟
- لا بديل للاستمرار
- فما تفسير هذا الفشل كله؟
- لقد نسيت أن تطور الانسان يحتاج لآلاف السنين.
- إذاً لا بد أن أعيش آلاف السنين حتى أتطور.
- بل بمجرد أن ترفض الهزيمة والاستسلام فإنك تكون قد أديت دورك لتسلم لشعلة لمن بعدك، ليخطو هو أيضا نحو الغد.
قال:
- لفد خطوت خطواات وخطوات، وفى كل طريق حسبت أنه يوصل، ولكن الناس. . . السادة الكبار. . أفقدونى ثقتى بالمبدأ و بالكلمة وبالحق وبالغد. . هذه هى نهاية الطريق . . حطام فى حطام
قلت:
- بل إنها محنة على الطريق. . إن المبدأ لا يعيبه تأخر تحقيقه أو صعوبة تطبيقه; كل إنسان لابد أن يأكل ويعيش، لابد للحق أن ينتصر، لابد للحرية أن تزدهر، فقط. . . .الوقت، الإشكل الآن هو أن إنسان الأمس بخوفه وضضعفه ونقصه، يطبق اليوم. . نظرية الغد، فينشأ التضارب والفشل، ولكن الفشل فى التطبيق لا ينبغى أن يفقدنا الثقة فى المبادئ .. وفى الغد .. وفى التطور.
- إذاً ماذا؟
- أنت لا تملك إلا هذا.
- هذا ماذا؟
- أن تستمر.
- لم أعد أستطيع.
- الكيمياء تهدى لألم وتحافظ على قوة الجمرة وإن خفت بريقه مؤقتا. . ثم تستمر.
- وكيف أطمئن ثانية بعد أن هزنى الخوف والشك
- ليس هناك بديل.
- وماأدراك
- خبرتى وعلمى وحبى للانسان لذى لا يهتز.
- هل تحب الإنسان، فعلاً؟
- نعم
- حتى الشظايا المنتفخة بالعفن
- وبخاصة الشظايا المنتفخة بالعفن فوراءها طاقة الانسان المتطورة الخلاقة.
- ولن تتخلى عنى؟
- لا أستطيع
- مهما أصابتك شظاياى؟
- مهما حدث
- وهل أستطيع؟
- وهل تستطيع غير ذلك؟
- أبدا
قا ل الفتى:
إذا مازال الفتى المؤمن مؤمناً بالرغم من كل ما جرى
قال الحكيم:
- نعم وإن كان الطريق شاقا وطويلا، إلا أن الإنسان الذى يرفض الزيف حتى بالمرض، لا يستسلم إلا بعد جولات وجولات، ونادراً ماتكون الضربة قاضية إذا ما عرف الطريق.
قا ل الفتى:
- ولكن لماذا امتلأت حياتنا هكذا بالزيف، أنت تعرى فى حكاياتك كل الأشياء تبدو الحياة أحيانا وكأنها تمثيلية سخيفة.
قال الحكيم:
- وبالرغم من ذلك فإن القليل الحقيقى فى هذه الحياة هو لذى يبقى، ولكن يبدو يا بنى أنه لابد من الكثير الغث حتى يظهر القليل الجوهر، والانسان يلجأ إلى السيطرة والقوة وإلى العلم وإلى كل ما يغريه بالتفوق ولكنه لا يصل إلى جوهر الأشياء إلا بالصدق والحب.
قال الفتى:
- وكيف تكون القوة خدعة هى أيضا؟
قال الحكيم:
- مثل حكاية “أبلة الناظرة”، كانت إنسانة أمينة ثائرة متحمسة فرضت رأيها فى كل شيء. . وعلى كل من حولها خوفا على مبادئها، ولكن الخوف كان مرعبا وقاسيا حتى احتمت منه ورء مظاهر القوة، ونسيت . .، ولكن الإنسان الثائر فى داخلها لم ينس … لم يهدأ أبداً، لم ينم . . وجاءتنى تشكو الأرق.
قال الفتى:
وكيف كان ذلك؟
أبلة الناظرة
قال الحكيم:
دخلت على وقد انطفأ لون بشرتها الأسمر ، فظهرت تجاعيد وجهها كالحة صدئة ولكن عيونها لا تزال تلمع ببريق حاد ، وقالت عيناها لولا الشديد القوى وقال صمتى ” ماذا” ؟ وقالت نظراتها ما “رأيتك عمرى” وقلت – وهى تنظر إلى الكرسى مترددة تود لو انصرفت قبل أن تجلس – :
- تفضلى استريحى .
وقالت .
- أين هى ؟
وقلت :
- ماذا ؟
وقالت:
- الراحة
قلت :
- فى داخلك
- داخلى أنا ؟ إن داخلى هو الجحيم ذاته ، نار موقدة تطلع على الأفئدة ، ويشتد لهيبها فى الليل . . الليل وحش كاسر . . وأنا فريسة فزعة .. أخاف أن أنام .
- إذا هو ذاك
- لست أدرى ما هو ، وما ذاك ، ولكن هذا ما أتى بى إليك ، النوم وجنهم التى فى داخلى ، وقد رأيت الخطر من أول وهلة ، لم يكن أرقا كالأرق ، ولكنه الخوف ، ليس هناك ما يؤرقنى ، كل شيء يتم كما أريد . كل شيء بنظام . حتى الجولة الأخيرة . حاولت أن أتخطاها، حولت الهزيمة إلى مزيد من التحدى والقوة وكدت أنساها ، أو قل خططت أن أتعداها لأنساها ، ثم إن هذا الذى كان ، حدث فجأة وبلا مقدمات ، فحين وضعت رأسى فى تلك الليلة .. هى ليلة غير الليالى .
كيف حدث هذا فجأة دون مقدمات؟ . حين وضعت رأسى تلك الليلة على الوسادة دق الناقوس فى جانب رأسى فانتبهت .. ومن ساعتها وأنا منتبهة ، كأن بناء قد انهار ، كأنى مت فجأة ، هل تتصور أن الشعور بالموت يصاحبة شعور باليقظة الحادة ، هل تتصور أنى إذ أنتبه كل هذا الانتباه أشعر فى ذات الوقت بكل الضياع ، هل هذا ما يصدق عليه أن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ولكن كيف ينتبه الموتى الأحياء ؟ كيف يموت جزء منك ليستيقظ آخر . وفجأة.
***
- فى تلك الليلة انهار كل شيء .. تقوض البناء الشامخ على رأسى فأفقت ، كأنى مت وصحوت ، والغريب فى كل هذا أن ذلك يحدث فجأة ; وحين شعرت أن كل شيء قد انتهى للحظة ، استيقظت فى أشياء أخرى ، كنت فى سبات عميق لا أظن أحدا يستطيع أن يفهم إلا إن عاش التجربة ذاتها ، إن تجارب الإنسان الممزق لها اسم رشيق لديكم ، لا بد وأن يكون فيه مقطع لاتينى أو اثنين .. وينقلب الإنسان بين يديكم إلى صفحة من كتاب … إلى عنوان .. إلى لفظ جامد بارد لا حياة فيه ، التجارب لا توصف بالألفاظ ولكنها أكبر من كل هذا، سوف تجمع الأعراض وتضربها وتطرحها وتقسمها وتخرج منها باسم رقيق أو صفيق ، وتناقشها مع زملاء لك ، كل ذلك وأنت لا تعرف عنى شيئاً، بالله عليك كيف تجرؤ أن تحول الناس إلى ألفاظ ؟
- ليت هذه غاية مهمتى .. ولكن لا بد من الألفاظ أو أى شيء كالألفاظ ، لا بد من لغة حتى نتفاهم … أى لغة.
- ولكن الألفاظ انهارت مع الصرح المتداعى … ذهبت مع الأنقاض كنت قبلا أقول . . وكان لقولى صليل ورنين . . كان لا يرد قولى، كانت تعليماتى فى المدرسة مقدسة . . كل لفظ لابد أن ينفذ حرفياً . . حرفياً، حتى الحروف كان لها معان حتى الصمت كان له معنى; وحين انهارات الأشياء كلها وذهب النوم. جعلت أتساءل عن معنى كل هذا، ولكن مالى أتحدث إليك وكأنك تسمع وتفهم إذا كيف تفهم مالا أستطيع التعبير عنه؟
- أحاول
- يكفينى أن تحاول، فلابد أن أجد من يحاول بعد أن توقفت محاولتى أنا، وعدت أشك فى كل شئ
- كيف؟
- إنا اهتزت معانى الألفاظ فلابد أن تراجع ما كان حتى تعيد بناء المعانى من جديد .
- إذا . . . ماذا ؟
= كان كل شيء مرسوم . . له هدف وتخطيط ونظام وكنت أقول ” لا” يعنى ” لا”، كانت الـ ” لا” حرف نفى ، وكان الجميع يعرفون ذلك وكان على طرف لسانى دائما: أنا قلت لا يعنى لا وكان الجميع يعرفون ذلك، وبالتالى كانوا يعرفون أنى حين أقول نعم فهى الـ “نعم”، ولو انطبقت السماء على الأرض فلن تتغير ”اللا” إلى “نعم” ولا العكس، ما أغرب هذه الأيام.
حين كانت الأشياء عادية تماماً ، كان لكل شيء معالم محدودة فى دنيا غير محدودة المعالم . . كانت كل ألفاظى جملا مفيدة . . والأن . . تغير كل شيء وتداخل الكلام فى بعضه البعض … بغير سبب … أى والله بغير سبب.
لقد تخرج من تحت يدى أجيال أعتز بهم فى كل مكان .. كنت أدير مصنعا للنجاح، وكانت القوالب محكمة . . والطالبات نسخاً مكررة مطبوعة باسمى… أعنى باسم مدرستى ، ليس أجمل من أن ترى نتاج عملك أمامك تفخر به، ولكن الآن، لماذا أرى بناتى مثل العرائس الحلاوة التى تعرض بمناسبة مولد النبى، كيف يطيق الإنسان أن يفخر بعرائس الحلاوة بعرائس مذاقها شديد الحلاوة ولكن ليس فيها حياة؟! هل ذقت طعم حلوى تلك العرائس، أنا لا أطيقها، فكيف أفخر بها، ولكنها متقنة الصنع حسنة المظهر، ألا يكفى هذا ؟ كان يكفى زمان; أما الآن فلم يعد يكفى . . بل لم يعد شيئا البتة.
- كيف ؟
- حين أحكى لك عن كل ذلك النجاح أسمع فى جانب عقلى همسا يقول ” طز” أنا آسفة للتعبير ، ولكنك طبيب لا بد أن أصارحك بكل شيء . . ; وأحيانا حين أكون متحسمة غاية الحماس فى ذكر مباهج عملى يخرج لى هذا الجانب من عقلى لسانه، هل يمكن أن أعيش بعد ذلك. . بل أنه لا معنى للنوم ولا للأكل ولا للشراب إذا فقد النجاح قيمته بهذه السخرية اللاذعة ولكن ما معنى النجاح يا دكتور ؟
- أن يحقق الإنسان هدفه
- إذا كان كذلك فقد حققت هدفى ، فلماذا يسخر منى عقلى ، أعنى ذلك الجانب من عقلى ؟ أنا من عادتى ألا ألتفت إلى الهمس أبدا .. كانت المدرسات يهمسن ، والدادات يمهسن وأنا لست هناك ، ماذا يصنع الهمس ، أليس الهمس كلام ضعيف ؟ وأنا لا أحب الضعف ، فماذا أسمع الهمس الآن وأضطرب منه ، ومن أين يأتى الهمس . . منى أنا . .”أنا” أسخر من “أنا” ، كان هدفى أن أصنع تلميذات متفوقات ; مؤدبات ، منظمات ، يحفظن آرائى ويرددنها . . لأن آرائى هى الصواب ، وقد كان ، أليس هذا هو عين النجاح؟ أليس هذا هو تحقيق الهدف ؟
قلت :
- ولكن هل كان هذا هو الهدف ؟
قالت :
- يظهر أنك خبيث خبث ذلك الجانب من عقلى الذى يردد همس السخرية ; نعم كان هذا هو الهدف ، وهل يمكن أن يكون لناظرة ثانوية هدف آخر.
- مجرد سؤال عابر
- لا. . بل هذا هو السؤال الذى جئتك من أجله . . . ما هو الهدف
- النجاح . . مثلا
- إذاً ماهو النجاح ؟
- تحقيق الهدف
- اسمع يا دكتور أنا لم أجيء إلى هنا لألعب معك لعبة القط والفأر، ولست فى حصة منطق ، ولست أريد أن أضيع وقتك ووقتى ، وقتى ؟ ولكن ما معنى الوقت . . هل هناك زمن . . حين انهار كل شيء توقف الزمن . . بل تراجع إلى فترة سحيقة ليس لها بداية ، بل إنى شعرت أنه تراجع إلى ما قبل وجودى ، بل إنه كاد يتراجع إلى ما قبل وجود الأشياء كلها . ماأقسى كل هذا، ولكن هل أنت متأكد أن هذا المرض فى حدود اختصاصك ؟ بل هل متأكد أن هذا مرض أصلا ؟
- أنا متأكد أنى أستطيع مساعدتك ، لو أردت.
- وهل يمكن ألا أريد ؟ إذا لماذا جئت إليك ؟
- للمجيء هنا أسباب عدة . . ولا أستطيع أن أرجح إحداها حتى تتضح الأمور
- وهل تتضح الأمور ؟ وكيف تتضح إذ هى غامضة على أنا شخصا؟ إنه الغروب أو هو ما بعد الغروب وما قبل الليل ؟ هل تعرف هذا الوقت الكئيب ؟ إن الظلام الدامس شئ محدد المعالم مثل النهار المشرق ، ولكن ذلك الضباب الهلامى لا تكاد تمسك منه شيئا حتى ينسحب منك ، ويصبح الوصوح والتحديد فى عداد المستحيل .
- ولهذا جئت إلى هنا.
- هل أنت صانع المستحيل ؟
- بل الإنسان فى داخلك هو الذى يصنع كل جديد
- إن هذا هو المستحيل ذاته ، أن تجد إنساناً فى داخلى ، أنا فى داخلى شيء فى زنزانة من جليد ، ولا بد حتى يخرج ذلك الانسان أن ينصهر الجليد ، ولابد لكى ينصهر أن تضطرم فى النار ، ثم لا أدرى ربما احترق أنا شخصياً قبل أن ينصهر الجليد حتى إذا خرج ذلك الانسان الداخلى من زنزانته لم يجد إلا الرماد ، أو قل لى بربك كيف نصل إلى ذلك الانسان الخائف المتجمد دون أن أحترق . . ولكن لماذا كل هذه الفلسفة وقد كنت أشد الناس نجاحاً.
- رجعنا إلى النجاح ؟
- نجحت نجحت حتى أصبح النجاح بغير معنى ، فانقلب كل نجاحى فشلا، لماذا يفعل الانسان بنفسه كل هذا ؟
- لأن الانسان أحيانا تسرقه أهداف غيره وهو يحسبها أهدافه ، وحين يفاجأ بالحقيقة يختل توازنه.
- ولكنها كانت أهدافى أنا، واختيارى أنا، لم يكن فى حياتى أحد إلا أنا وواجبى وقوتى وقدرتى، ولكن كيف حدث كل ذلك ؟
- كيف ؟
- كان كل شيء على ما يرام، كنت قوية تماما، ولكنى كنت وحدى، كان الناس دائما يقتربون منى إلى قدر محدود ولكنى لا أسمح لهم بأن يقتربوا أكثر، لماذا؟ . . لقد كنت أعرف كل شئ، وأسير كل شيء، ولكنى أخشى اقترابهم منى، وآراؤهم لم تكن تعنينى فى شيء، لأن آرائى دائما هى الأصوب، لأن كفاحى هو الأكثر أصالة، لأنى صاحبة رسالة وهم أصحاب مهايا، موظفون ينتظرون العلاوات، وقد عشت وسط كل هؤلاء على بعد منهم ، حتى بناتى كنت أخشى أن يقتربوا منى أكثر ، كانوا أقرب إلى فى كشوف المدرسة أكثر من الواقع الحى، كنت أدير مصنع التفوق بمهارة لا مثيل لها، وكان يصنع عرائس جميلة المنظر، وأنا أحب أن أشاهد عرائس المولد ولا آكلها، وفى الفترة الأخيرة كنت أحاول أن أتذكر بناتى فيردن إلى خاطرى على بعد منى لا يقتربن ولا أقترب، كنت على قمة هرم من العمل والنظام وأنت لا تستطيع أن ترى إلا موقع قدمك وأنت على القمة، فى حين أنك ترى الهرم كله وأنت على السفح ، وتمنيت أن أصنع شيئا يجعله أكثر إشراقاً وقوة وبقاء ، ولكنى حين وصلت إلى القمة نسيت أشياء كثيرة وكان كل همى ألا أنزلق. هل يفيدك أن تسمع هذا . . أعنى هل يمكن أن يفيدنى ؟
- بلا شك
- بل كلى شك . . ومع ذلك فهى قصة ليس فيها جديد ، فتاة فى المعلمات بنت من ثمان بنات لأب متوسط فى كل شيء . . فى الطول والعرض والذكاء والطموح . . وكل شيء ، ما زبغض أن يكون الإنسان متوسطا فهو يكاد يكون بلا معنى ، ووسط هؤلاء البنات الثمان تفتحت نفسى أتساءل كما يتساءل الشباب ، لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا الفقر ؟ لماذا الألم ؟ لماذا الضياع؟ لماذا الحياة ؟ ومثل كل الشباب وجدت إجابات غير مقنعة ، وهروب مقنع ، وأحسست بالرغبة فى أن أصنع شيئا لنا نحن البنات ولماذا البنات ؟ لأنهن أصل الحياة
وصعدت السلم . . . واخترت مهنة التدريس وكنت ناجحة متحمسة أريد أن أصنع شيئا ما
وفى المدرسة عشت أتألم من منظر الناظرة، امرأة بيضاء مترهلة، ذات عيون صفراء ..أى والله صفراء .. . لا تهتم إلا بالهدايا ، وهى تفضل الحلوى كل أنواع الحلوى ، وتقرب إليها تلك الحاشية التى تجيد ”التكبيس” لزوم آلام المفاصل، أما فى العمل فكان كل همها أن تسدد الخانات وترضى الرياسات وتزين السلالم بزهايات الورد فى انتظار مدير المنطقة أو نائبة، أو قريب الوزير أو حاجبه، وثورت مع مجموعة من المدرسات ثورة هائلة ، وتخلصنا منها ، وأصبحت أنا الناظرة ، أنا ”أبله الناظرة”.
إلى هنا وكل شئ طيب
ثم تسلسلت الأحداث بعد ذلك وتغير كل شيء ، أم أنا التى تغيرت ؟ لست أدرى ؟
وما السبب فى كل ذلك ؟ الآراء التى كانت تستهزيء بها الزميلات أصبحت تنزيلا لا يأتيه الباطل وأصبح كل ما أقوله صوابا ، ورفضت ذلك فى أول الأمر ، ولكن خيل إلى أنى كنت فعلا على صواب، وابتدأ الجميع يصدقون على كلامى . . . وانزعجت ثم اتستأنست … ثم ارتحت
أنا أحب الحق
أنا أعرف ما هو الحق
أنا أقول الحق
وهم يوافقونى على ذلك
ومن يخالف فقد خالف الحق . . وكان أول المخالفين زميلاتى اللاتى ثرت معهن، ولا بد أن واحدة منا هى المحقة والجميع يؤكدون أنى أنا المحقة ; فلأتخلص من الزميلات حتى لا يعقن المسيرة . . وقد كان، ولم يبق حولى إلا من يصدقنى، وهكذا نوفر الوقت ونتفرغ للبناء، وحين كان يظهر بين المدرسات من رأى كانت المقربات يخفننى منها، كن يقلن ما دمت أنا على صواب فما الداعى لصواب آخر، وكن يقلن أنه إذا زاد الاختلاف فإنى معرضه للتخلى عن النظارة مثلما فعلت بالبيضاء المترهلة; وكنت أخاف على رسالتى ألا تتحقق.
أنا لا تهمنى النظارة ولكن يهمنى المبدأ ; وقد هممت مراراً أن أتركها ولكنى خفت على تحقيق رسالتى من بعدى ، كان الخوف يرعبنى . . الخوف على رسالتى ومبادئى ، وعلى نفسى ، لأنى أنا التى أمثل الرسالة والمباديء ، فكنت أعمل المستحيل حتى أنقل صاحب الرأى إلى مدرسة أخرى ، ويا حبذا خارج المنطقة ولم يبق من حولى إلا من يؤيدونى.
ومجلس الآباء
حتى مجلس الآباء كان يوافقنى على آرائى، وهو مجلس منتخب بلا أى شبهة فهو يحوى مختلف النزعات والحرف والثقافات، وأعضاؤه ليسوا موظفين لدى ، يمكن أن أشك فى نفاقهم، إذا فأنا على حق دائما على حق، وبالجماع . . دائما بالإجماع . . ولكن هل يمكن أن يتشابه الناس إلى هذه الدرجة، درجة الإجماع فى كل شى… كل شيء وكنت أتمنى فى قرارة نفسى أن يعارضنى أحد.
ولكن إذا ما عارضنى أحد أحسست أنه يريد أن يقضى على، أن يزيحنى من مكانى، وسرعان ما أتخلص منه، ولم لا ؟ فأنا أعرف كل شيء كانت خطبة الصباح تردد آرائى الغالية ، وصحيفة الحائط تزينها معتقداتى الصائبة وأصبح كل شيء هو أنا، وأنا هو كل شيء ، وظل الناس على بعد منى لا يدخلون حياتى أبداً . . . ولم أشعر حينذاك لقسوة الوحدة وأنا وسط الناس، إن ألعن الأشياء أن تكون وحيداً بين الناس لأنهم نسخ مكررة منك، أين التفاعل والتضارب الذى يصنع الحياة . . وحين جاءت تلك الاخصائية الاجتماعية ابتدأت أحس بالخطر المهدد و عشت أياما وشهورا أحاولى أن أصوغها فى قالب آرائى فلم أستطع، واهتززت أمام نفسى، ولكنى مضيت فى طريقى ، إذ كيف تأتى تلك الفتاة المتخرجة أول أمس ، والتى لا تدرى من أمور المدرسة كثيرا أو قليلا تحاول أن تصنع شيئا غير ما أرى، صحيح أنى أحب الاعترض ولكن فى حدود اختيار أحد آرائى، لا معنى أن يأتوا بأراء جديدة إذ ليس هناك جديد مادمت أعرف كل شيء ، صحيح أنى فى أول الأمر تململت من الاجماع ، ولكن الآن وبعد أن تعودته أجد أن هذا هو أقرب الطرق إلى العمل المنتج ، ماذا تعرف هى فى شئون مدرستى؟ أى خبرة لها حتى تقول؟ إن كل ما عليها أن توزع الصدقات وتعفى الفقراء من المصروفات وأنا لا أعترض، أما أن تتحدث عن العواطف والإنسانيات فإن هذا يعنى أنى بلا عواطف ولا أفهم فى المشاعر الانسانية …. لا … سوف أقضى عليها سوف أسحقها.
ولقد فوجئت بها وهى تحرض أولياء الأمور ليرشحوا أنفسهم فى مجلس الآباء ليصنعوا شيئاً جديداً ، أى شيء يمكن أن يكون جديداً عن آرائى ، وهل هناك جديد بعد كل ما حققت ؟
قلت :
- ولماذا نسميه تحريضاً. . . ألم يكن مجرد اقتراح.
قالت :
- ولكنى تعودت أن أقترح أنا، وأن أنتخب، أعنى أباشر الانتخاب، وأن أسير الأمور كم هى فى صالح المدرسة فإن هذا الاقتراح مغرض، وهو تحريض صريح .
- وماذا يخيفك ما دام الرأى الصواب هو الأغلب .
- لقد كنت تعودت الإجماع، وحين تتعود شيئاً يختل اتزانك إذا تغير ، إذ من أدرانى كيف تسير الأمور إذا أنا سمحت لها أن تسير بالأغلبية .؟
- فما وظيفة الانتخاب ومجلس الآباء إذا كان الإجماع دائما هناك ؟
- وظيفته أن تصاغ آرائى صياغة مقبولة، ذلك المستشار والد البنت هناء، كان بارعا فى هذا الشأن، وهو ينتخب دائما فى مجلس الآباء لذلك فالآراء التى تخرج منه، تخرج فى شكل مقنع .
- أليس هنااك سوى صواب واحد؟
- بالنسبة لى نعم ولكنى أحب النظام، والنظام يقول أنه لابد للمدرسة من مجلس إدارة، وأنه لا بد من مجلس آباء كذلك، ولا بد من ترشيح، ولا بد من انتخاب، وما دمت أحب النظام، وما دام النظام لا يضر ولا يتعارض مع آرائى، فلتكن مجالس للآباء وللإدارة وقد كان كل شيء يسير كما أريد، حتى جاءت هذه الاخصائية اللعينة . – وهل كانت لها أغراض خاصة؟
- لا أعلم … ولا يبدو عليها كذلك ، فهى متواضعة ترفض أى ترقية وتفضل دورها كإخصائية ، وقد رفضت التفتيش والترقى وتقول أن عملها مع البنات أقرب إلى الانسانية وأكثر فاعلية وأوسع مجالا للخدمة، هى إنسانة طيبة ولكنها شاذة وطويلة اللسان، هل تتصور أنها أصحبت أقرب إلى البنات منى أنا التى أصنعهن على عينى أنا التى أصوغ العرائس، وهى تقول أنها تحاول أن تدب فيها الحياة، فهى تتعهد عواطفهن وتسمع لهن وتحس بأحاسيسهن، وأنا أبتعد وأبتعد، ويلفح خلاياى هواء بارد، ويزيد شعورى بالوحدة وأمج النفاق رويدا رويدا . . . ربما كانت هذه بداية القصة.
- وسكتت فجأة .
وطال السكوت فقلت :
- ثم ماذا ؟
قالت :
- ليس هناك ثم فأنا لا أفهمم لماذا انهار كل شيء منذ تلك الليلة المشئومة .
لم يحدث أى شيء فى حياتى ، حتى تلك الاخصائية كانت ترعبنى من الداخل أما فى ظاهر الأمر فكل الأمور تسير على هواى أقول “لا” يعنى “لا” أقول” نعم” يعنى “نعم” أليس هذا هو المهم ؟
- ما رأيك أنت ؟
- نعم إن النجاح والقوة والتفوق هى كل شيء .
- هى أهداف عظيمة . . ولكن ماذا حدث ؟
- أنا لا أعرف مماذا حدث ، لهذا إليك ، قل لى أنت ماذا حدث ؟
- الوحدة . . . والمسافة بينك وبين الاخرين .
- الوحدة . . والمسافة . . والآخرين . . والعيون من حولى لها لغة أقسى من كل تصور . . لست أدرى كيف كان ذلك أول ما داخلنى الخوف حين اعترضت على آرائى تلك الأخصائية. كنت قد تعودت السيطرة وتعودت أذنى “آمين” وإذا بهذه النغمة النشاز تظهر فى الأفق شائهة كريهة ، وابتدأت أخاف.
- ولكن لماذا؟
- لا أعرف، ولكن الانسان إذا عاش وحده فإنه يخاف أى احتمال آخر ، خصوصاً إذا تعود الحل الواضح الصريح .
- ولكن ربما كان الحل الواضح الصريح خطأ … وربما كان الاحتمال الآخر أفضل .
- أنت تتحدث مثل الأحصائية، لأنه إذا كان فى الأمر”ربما” تداخلت الأمور وضاعت الحقيقة وضعت أنا أيضا
- ولكن الوصول إلى الحقيقة لا يأتى إلا إذا كان فى الأمر ربما
- كان ذلك أيام زمان أيام كنت فى ثورة شبابى . . .
– كنت فى سن الأخصائية؟
- ولكن
الأخصائية شيء آخر، أنا ثرت على البيضاء المترهلة، أما هى فلماذا تثور وليس فى الامكان أبدع مما كان.
- ولكن الدنيا تتطور.
- أنا التى أطورها. . . وأنا أعرف صالح بناتى.
- فماذا الخوف؟
- أنا جئت هنا أسألك لماذا الخوف.
- من الوحدة والاحتمال الآخر.
- ونظرات الناس، ولكن الجميع يحيطون بى.
- على مسافة.
- ولكنهم كثيرون.
- نسخ مكررة.
- وماذا فى ذلك؟
- وإذا كان كل من حولك مثلك فلا يصبح حولك أحد. . . فهى الوحدة الهائلة. بلا آخرين . . وسط الآخرين.
- وهل لابد من الاعتراض والنقاش والجدل حتى أشعر بالآخرين؟
- لابد من الاختلاف حتى نحس بغيرنا وبالتالى نحس بأنفسنا.
- وماذا أستفيد من الخلاف غير الصداع.. . والخوف.؟
- بل تشعرين بذاتك.
- ولكنى أفنى فى بناتى ومدرستي
- فلا يبقى منك شيء.
- ماذا تعنى؟
- إذا فنيت فى أى شيء مهماكانت قيمته، فأين أنت؟
- نعم أين ‘أنا’؟
- لقد كان لك جهازا خارجيا من النجاح والتفوق يخفى وراءه ذاتك الحقيقية، وحين تكرر النجاح دون أن تجدى ما تريدين انهار كل شيء.
- وكيف انهار؟
- أسمع منك.
- أنا لا أذكر شيئاً.
- إطلاقا؟
- أبدا.
- والاخصائية؟
- لا. . . الاخصائية أرعبتنى فقط ولكنها لم تكن سبباً فى هذا الانهيار وقد نقلتها من المدرسة على كل حال.
- إذا ماذا؟
- ربما مدرسة الراهبات
- ماذا؟
- ربما كأس كرة السلة التى ضاعت، ولكن هذا شيء بسيط سوف نسترده فى العام القادم.
- أكيد؟
- . . . هل تشك فى ذلك؟
- ماذا حدث؟
- هى مدرسة الألعاب الرياضية التى يسمونها ‘الضابطة’ خدعتنى.
- هذا نتيجة توحد الآراء
- قالت إن الفريق مستعد وسيأخذ كأس المنطقة
- ثم ماذا؟
- تحديت وراهنت وفاخرت أمام الجميع.
- ثم ماذا؟
- ثم انهزمنا ستة صفر
- أى مدرسة يمكن أن تنهزم
- ولكن هذه الهزيمة أثارت الشك فى كل شيء وكل أحد. . . ونظرت حولى فلم أجد إلا أبواق النفاق، ومع ذلك فأنا أحب سماع النفاق.
- إذاً لا ذنب للمدرسة أو الضابطة.
- بل هى كاذبة مغرورة حمقاء، وقد خدعتنى.
– خافت منك.
- وهل أنا أخيف؟
– ماذا ترين؟
- هم الجبناء.
- ولكنك تخافين الشجاعة. . فتحاربين الاخصائية
- هم الذين عودونى على ذلك
- وأنت التى أردت ذلك
- ولكنى سوف أنتصر فى العام القادم. . . إذا كان هناك عام قادم
- كل شيء جائز
- ولكن لماذا أنهار كل شيء. . فى داخلي؟
- لأنك اكتشفت الخداع. . والوحدة.
- ولكن هل تعلم إلى من لجأت حين لم أجد أحداً حولى؟
- إلى الأخصائية.
- أليس هذا هو الذل بعينه؟
- بل هى الإفاقة بعد سبات عميق.
- ليتنى أنام. . أّذهب فى سبات لا أفيق منه.
- ليتك تستطيعين.
- ولكنى شعرت بالمهانة.
- أى مهانة أن تستشيرى آخر.
- ولكن أنا؟ هى؟ لماذا؟
- لأنه لابد من آخر حتى تشعرين بذاتك
- كل هذا وأنا لا أشعر بذاتى؟!
- لقد نسيت الآخرين.
- من أجلهم.
- لا ينسى الإنسان أحداً ثم يقول أنه يعمل من أجله، فالنسيان حكم بالإعدام.
- ولكنى أعدمت نفسى أولا فيهم
- إذا عاش الإنسان فى وحدة كاملة من كثرة النفاق وتكرار الإجماع أعدم ذاته الحقيقة . . . واهتز كيانه
- أنا؟.. لقد كنت واثقة من نفسى إلى أى مدى
- كان غروراً وليس ثقة
- وكل هذه القوة؟!
- كانت سيطرة وليست قوة
- وكل هذا الحب؟
- كان احتواء وليس حباً
- وثورتى . . . ورفضى للقديم؟
- كان زمان.
- والآن؟
- هو النجاح وتحقيق آرائى.
- وعواطفى وحماسى؟
- لا يوجد حب فى الهواء الطلق، لابد من بشر نحبهم
- وكل هؤلاء ليسوا بشراً؟
- البشر لا يوجدون فى كشوف الفصول أو فى جداول الحصص، ولكنهم يوجدون فى القلوب المطمئنة
- لقد كانو حوالى.
- وليسوا معك
- كانوا معى فى الفصل وفى حفلات السمر، كنت هناك، وكانوا حوالى
- وسمعت قصائد المديح.
- لأعمال حققتها فعلا.
- والآراء الأخرى، والخطوة التالية، والحرية، والاستمرار والتطور.
- تريد أن تشككنى فى كل لك؟
- بل أنت التى جئت تشكين فى كل ذلك
- أنا لم أشك بعد.
- أن داخلك مازال قويا نقيا. . . وهو الذى فجر الكيان المتهاوي
- ولكن أين هو . . . ذلك القوى النقى؟
- وراء جدران الخوف البارد
- لمذا هو قوى وخائف؟
- أنت التى خفت منه، وخفت عليه من الناس، وهم خدعوك بالموافقة والنفاق، هم الذين ساعدوك إنكار وجوده حتى لم يبق له أن يقوم إلا بأعمال الفدائيين، يقوض الخراب الزائف ثم يختبئ.
- ولا يبقى إلا البرد والظلام
- ولكن بالثقة والحب يرجع كل شئ.
- أين؟ ما زال الجميع ينافقونى ويوافقونى.
- هنا
- أنا أثق فيك وأنا أشد الناس حذرا منك.
- لست أنت ولكن هو.
- من هو؟
- داخلك
- وكيف يثق؟
- بالوقت والشعور بى وبصدقى وحبى.
- فقط؟
- وأنه لا يوجد حل آخر.
- أريد أن أنام.
- نعلن الهدنة المؤقتة وتنامين بالكيمياء ثم تعيدين النظر فى كل شيء.
- ولا أصبح بنفس القوة؟
- بل أقوى لأنها قوة مستمدة من الآخرين.
- ولا تصبح آرائى هى الصائبة؟
- بل يصبح الصواب أقرب إلى رأيك.
- ولا يحترمونى مثل لأول؟
- بل يحبونيك وتحبينهم أكثر.
- وأنام؟
- بل وتستيقظين . . لقد كنت نائمة حتى الآن.
- كل هذا الزمان؟
- إلا فترة ثورة الشباب
- أين راحت؟
- ضحكو عليك بمظاهر القوة، وألحان النفاق
- قتلونى بجبنهم.
- ولكن الاخصائية تحبك
- الأخصائية؟
- تحب داخلك الضائع المنكش وليس مظهرك الخادع.
- وأنت؟
- أنا هنا دائما حتى تضئ الشموع ثم يطلع النهار بالحب وسط الناس
– ربما.
- كذا؟
- لا يوجد بديل
قال الفتى للحكيم: ما أروع كل هذا
قال الحكيم: بالصبر والحب يرجع كل شيء
قال الفتى: هكذا تخدع مظاهر القوة والنفاق الناس، فما هو السبيل إلى توقى ذلك، و لعل فى الأساليب العلمية الدواء الشافى المعافى.
قال الحكيم: أنت تريد أن تخوض فى أصعب المناطق حرجاًَ، فالعلم له وجوه كثيرة والعيب فى ذاته يعرضنا للخطر والهجوم.
قال الفتى: ولكنى أسأل ولا أعيب، فهل فى العلم أيضا خداع؟
قال الحكيم: نعم . . .وللأسف، فهلا عذرتنى.
قال الفتى: ولكنا هنا نناقش الأشياء عارية فلا تبخل على ولا تخونك الشجاعة.
قال الحكيم: إذاً فاسمع منى يابنى حكاية ” العلامة”.
العـلامة
قال الفتى للحكيم
أراك حطمت من الأصنام ما يهز معتقداتنا مرة ومرات . . . وها أنت ذا تقترب من إله العصر الحديث “العلم” وأخشى ما أخشاه أن يختلط الأمر على فتهتز ثقتى بهذا الإله أيضاً، وهو نور لهداية على طريق التقدم، وهو الحل الأول والآخر فى بلدنا هذا، فى عصرنا هذا.
قال الحكيم :
ليس على العلم خوف ولا فى حديثنا عنه حرج ، ولا ينتقص منه أن يمر أحد رهبانه بأزمة وجود ، وعلى أى حال فإن المبالغة فى تقديس معطياته دون تمحيص، وعبادة أرقام بطريقة عمياء، قد يزركش الطريق ولكنه ليس دائما دليلا على سلامته وصحته، وعلينا أن نعرف قصوره حتى نسكتمل أبعاده وإلا انزلقنا إلى سبيل ضال رغم بريقه، قد يعوق تطور الانسان بقدر ما يزين حاضر حياته، وحكاية اليوم لا تنقص من العلم بل تزيد من إمكانياته، ولا تنفى ضروته بل توسع آفاقه .
وهى حكاية “العلامة” الذى كاد يكفر بعمله حين اهتز كيانه.
قال الفتى :
- وكيف كان ذلك ؟
قال الحكيم :
- هو أستاذ مساعد أو مساعد أستاذ ، هو لا يعلم أى أستاذ
يساعد، وربما كان هذا من بعض ما يشغله إذ يبدو أن ذلك اللقب فى سالف الأيام كان له معنى، إذ كان يدل على طريقه صوفيه فى التعلم والتعليم ، حيث يكون للأستاذ طريقة، ولكل طريقة شيخ، ولكل شيخ مريدون، ومن المريدين من يساعد الشيخ ، كانت هذه المساعدة درجة يرفع بها المريد إلى أن يكون خادم الشيخ أو خليله أؤ صديقه ، ولما أصبح اسم الشيخ فى العصر الحديث أستاذاً . . . أصبح مساعدوه أساتذة مساعدين، ثم يفقد اللفظ معناه بسوء الاستعمال، ويفقد نبضه من كثرة الابتذال، ويصبح رمزا لوظيفة لها علاوة، وللعلاوة ميقات معلوم، حدث ذلك حين أصبح العلم كمية من المعلومات تنحشر فى أدمغة الحفاظ، وليس طريقة فى الفهم وتنمية للفكر الخلاق، حين انقلبت وسيلة التدريس من حب صوفى بين الأستاذ ومريديه، إلى درس إملاء من بوق إلى سامعيه، ويبدو أن كل هذا لازم لمواجهة الأعداد الكبيرة للحفاظ والانتشار الهائل لموجة التحفيظ ، وليس التعليم، إذا أن التعليم إذا فقد طريقة الشيخ والمريد فإنه يفقد النبض العاطفى، ويصبح حشوا منظما لكم متناقض من المعلومات فى خلايا مخ إنسان لم تضع فى حسابها وهى تتطور أنها ستصبح مخزنا لرموز الأشياء حيث يفقد الرمز اتصاله بالأصل .
كان هذا بعض ما يشغل صاحبنا فى أزمته الغريبة مع نفسه، وحين حضر إلى كان مثل غيره شاكا مترددا هيابا.
قال :
لولا بقيه من أمل . . . لذهبت إلى “كوديه زار” فقد كدت أكفر بالعلم من كل نوع، وحين شاهدت الشهادات على حوائطك انزعجت أكثر فإن كل ما تقوله هذه الشهادات أن دماغك فى وقت ما قد انحشر فيه كذا كيلو جراما من الكتب . . ماذا؟ هل تريد أ توهم زبائنك بعلمك ؟ هل جاءوا إليك تقديرا لهذا المخزن المتحرك من المعلومات أم طلبا لما تحمل فى جوانبك من عواطف . . لماذا لا توزع عليهم دليل أبحاثك “إياها” التى ترقيت بها؟ أو تكتب لهم بيانا برحلاتك العلمية التى اشتريت فيها الملابس الداخلية لزوجتك وصديقاتها، أليس هذا أوقع فى نفوسهم حتى يدخل الواحد منهم وقد استسلم لهيلمان معلوماتك فتلقى اليه ما تريد، أليست هذه الطريقة هى التى تجعلك مسبكا مثل المسابك الوالدية المحترمة، تصنع الناس حسب النموذج الذى فى ذهنك؟ تضغطهم على بعضهم حتى تغوص أنوفهم فى أقفيتهم ، وتنطبق شفاهم ويصبح المنطق فى حدود المقبول . . . . وبذا يتكيفون !
قلت :
لماذا أنت قاس كل هذه القسوة فى فروضك ، فرغم أنها تحمل ظلا من الحقيقة إلا أنك لم تر الكل بعد ، وأظن أنه من الأفضل أن تنتظر ثم تحكم
قال :
أنا أبدو قاسيا لكثرة ما قاسيت طول عمرى لأنى أقول الحق عارياً، والحق قاس وصارم، وعلى كل حال فأنا لم أجئ بالحديد، أليست الصحة النفسية عندكم هى التكيف، لماذا لا تغير اللافتة فتكتب الدكتور فلان أخصائى ”التكييف”، أو قل مثلا جهاز الكتيف الطبى الصحى المعتبر أليست وظيفتك أن تكيف الناس مع بعضهم، ألست هنا تخدم استمرار النظام كما هو، ألا تسمون بعض عقاقيركم المهدئات العظيمة ؟ أى عظمة أن تهدئ ثائرة الناس ؟ ومع ذلك فقد جئت إليك على رجلى . . . وسوف أسمع منك ؟
قلت :
أنا أساعد الناس أن يجدوا أنفسهم ، ويطلقوا قدراتهم ويمارسوا حريتهم ثم يختاروا طريق التكيف أو ينظموا هويتهم كما يشتهون . . . أما مجرد الرفض دون بديلا ، وإشعال النار دون إطلاق طاقة؛ فهذا ما لا بد أن تتفق معى على رفضه.
قال :
إذا أنت تحاول أن تستدرجنى . . فليكن . . أنا جئت هنا أحاول . . فلأحاول.
كنت طالبا ممتازا فى كل شئ رغم مرور السنين . . أذكر بخاصة يوم انتزعونى من البيت إلى المدرسة، أذكر تماما رغم أنى لم أكن بعد تخطيت الرابعة ، خدوعنى ، كانوا يتصورون أنى لا أفهم ، ولكنى مازلت أذكر هذا اليوم مثل الآن، ومازلت حتى هذه اللحظة لا أثق فيهم، قالوا أننا سوف نزور عمتى لألعب مع أولادها، وكانت وجوههم تقول غير ذلك.
وأيقظونى فى الصباح الباكر ، وكان وجه أمى عير وجهها، لماذا هى مكتئبة هكذا، لماذا نزور عمتى قبل طلوع الشمس، كنت أسمع قبل ذلك حديثاً عن المدرسة وعن المريلة وعن أشياء كثيرة لم أتصور أبدا أنها يمكن أن تكون حقيقة فى يوم من الأيام ، كانت علاقتى بأمى علاقة خاصة جداً، كانت جزءا من كيانى أو كنت أنا جزء من كيانها ، أو قل لم يكن لى كيان أو لم يكن لها كيان ، كنا واحد او السلام ، مرة أنا هى ومرة هى أنا ، ولكنها لم تحسن التمهيد لما سيكون ، لأنى أحسست أنها فى ذلك اليوم لفظتنى فجأة ، تقايأتنى من جوف أحشائها وهربت ، وياليتها أنذرتنى بل خدعتنى …، فجأة .. وجدت نفسى فى الجحيم ذاته .. هل أستطيع أن أنقل لك مشاعر طفل بعد تلك السنين ؟ كيف أنقل لك المشاعر بألفاظ اكتسبناها فيما بعد .. مشاعر عاشها طفل لم يكن يحذق بعد لعبة الألفاظ …
كيف أصور لك كيف انتهت الحياة ؟ كيف اتسع العالم وانمحت حدوده حتى اختفى؟ . . كيف أصف لك لوعة طفل تركوه فجأة ، وقالوا سنرجع حالا ولم يرجعوا أبدا، وهو يرتمى على رمل المدرسة ويتمرغ .. ثم يحس بالتضاؤل حتى كأنه يتحول إلى دودة صغيرة تسعى وحيدة فى صحراء شاسعة ليس فيها حياة … قالوا سنرجع حالا .. ومضى حالا وهم يقولونها، توقف الزمن عند هذه اللحظة، ولم يعد حال ولا ماض ولا مستقبل، واستمرت لحظة الحال الدهر كله، ومازلت أعيش هذه اللحظة أبدا ومع ذلك فأنى قد مرضت أو هكذا تقولون .. ما أقسى كل هذا وحين جاءت أمى لتأخذنى قفزت الدودة فى جوفها وزحفت قليلا فى أحشائها ثم تلاشت تماما.. كلام مجانين أليس كذلك ولكنك أنت الذى اخترت هذه المهنة فعليك أن تسمع كلامنا … وإلا لمن نتكلم .. شبعت كلام عقلاء … وجئت لأتكلم مثلما كنت أفعل قبل أن أذهب إلى المدرسة ” أى كلام” … أما بعد ذلك فلم أنطق إلا بالمفيد … وإلا !!
قالت الأبلة: “الذى سيتكلم سأقفل فمه باللزاق” ومن يومها لم أنطق إلا بالمفيد ، بالدروس … بالمعلم والجد، وكل ما هو غير ذلك فقد انحبس فى جوفى إلى الابد .. لا .. إلى الآن حتى انكسرت فجئت إليك أقول ما يحلو لى وأتمتع بفضيلة الجنون ، الدودة ..الصحراء ! على فكرة هناك من الديدان ما ليس له فم . وأنا لم يكن لى فى ذلك اليوم فم .. هل تجد صعوبة فى الفهم ؟ معك حق، ولكن مشاعر الطفل إذا ترجمها عالم متحذلق مثلى إلى ألفاظ ليعرضها على آخر كانت النتيجة كلام مجانين. أليست المشكلة التى تجعل الناس مجانين أنهم يحملون من المشاعر ما لا يستطيعون صياغته فى ألفاظ ؟ منذ ذلك اليوم انقطعت علاقتى بالحياة، كان الحزن العظيم الذى عاشه الطفل أكبر مما يحتمل فاختفت المشاعر كلها حتى حزن ذلك اليوم، وكان الضياع الهائل وسط صحراء المدرسة مفزع ولكن لا بديل له .. لم تضع أمى فى حسابها أنى ذاهب عنها لا إلى المدرسة ولا إلى أى مكان آخر، ولماذا يضعون فى حسابهم حزن الأطفال وهم لا يعرفونه، هم يتصورنه شيئا مثل حزن الكبار بل هم يتصورنه أهون كثيراً، فالأطفال سرعان ما سينسون. إن الكبار هم الذين يمكن أن ينسوا فاذا تذكروا فهى ذكريات حزينة، أما الأطفال فانهم لا ينسون، لأنهم يعيشون التجربة لا يعرفونها، فتختلط بكيانهم الغض حتى تغيره ، فكيف ينسون وقد أصبحت الذكرى جزءا من تكونيهم ، إن حزن الكبار هو الأسى هو الأسف هو اللوعة هو الحسرة، أما حزن الأطفال فهو الضياع الكامل هو الموت، هو الإحساس بشئ كبير هائل يجثم على أنفاس الصغير ويحيط به من كل جانب ويجعله يتضاءل حتى يكاد يتلاشى وياليته يتلاشى ، ولكنه يندمج فى هذا الشئ غير المحدود حتى يصبح هو بلا حدود ، لا يمكن أن أصف لك هذه المشاعر بمزيج من الحسرة والضياع والخوف واليأس؛ لأن كل هذه الكلمات اكتسبت معان نستعملها نحن الكبار ، أما شعور الطفل فهو شيء آخر . حدث كل ذلك فجأة … أحبتنى والدتى حتى تملكتنى فيها ، ثم تركتنى قهرا بالرغم منها … ولكنها خدعتنى .. كذبت على فانقطعت علاقتى بالناس وللأبد ، كانت أمى هى الجنة الوارفة المثمرة ، لا أبذل فيها أى جهد لأحصل على ما أريد ، أما فى الصحراء فقد كان الكتاب هو نبات الصبار وها أنا ، صلب مثل الصبار وذو شوك أيضا يؤلم من يقترب منى ، أصبحت أنا الكتاب ذاته وارتبطت المشاعر نحوى بكونى كتابا جيدا أو كتابا سيئا . . أو . . لا شئ.
***
- لماذا تحبينى يا أمى ؟
-لأنك تلميذ شاطر
- هل ترضى عنى يا أبى ؟
- طبعا ما دمت شاطرا فى المدرسة
- وإذا لم أكن شاطرا يا أمى ؟
- غير معقول
- وإذا قصرت يا أبى ؟
- لا . . ليس أنت.
***
غير معقول ألا أكون كتابا .. لست أنا إذا قصرت فهذا غير محتمل.
وهكذا استمرت الصورة وأصبحت كتابا محبوبا .. الشطارة مصدر الرعاية، والتفوق شرط الحياة ..
فليكن .
وأقلبت على الكتب .. غرقت فيها حتى أذنى وساعدتنى وحدتى وانطوائى .. وكان والداى يفرحان بهذا الهدوء والقراءة المستمرة، واستبدلت بالناس الصور المقروءة، واستبدلت بالكلمات النابضة بالحياة الدافئة، الكلمات المرصوصة على الورق ، وحين ازدادت حاجتى للناس فى سن المراهقة حاولت أن أبعث فى ألفاظ الكتب الحياة، حاولت أن أجد الآخرين بين الصفحات ، كنت قد فقدت الثقة بالناس الحقيقيين، كيف آمن لهم وقد يتركونى ممرة ثانية دودة ضائعة فى صحراء جرداء، أما الكتاب فأنا الذى أمد يدى أقرا فيه وأنا الذى أرده مكانه، أنا سيد الموقف لا أنتظر شيئا من آخر وحتى أنت جئت إليك – بصراحة – لا أنتظر منك شيئا ، حجتى أتفرج على علمك ، لعلك كتاب حى أسهل فى القراءة … أما كونك إنسانا “آخر” فهذا ليس فى حسابى رغم أن جزءا غائرا فى نفسى يتمناه .
قلت
- ولكنى إنسان قبل كل شيء
قال :
- بل “عالم” حتى قبل أن تكون طبيباً ، هذه هى صورتك عندى
قلت :
- وهل هناك تناقض
قال :
- هذا ما جاء بى إليك .. فقد عشت هذا التناقض منذ اللحظة الأولى بين الكتاب والإنسان ، بين العلم المجرد والنبض العاطفى للحياة، و كانت نهايتى بين يديك، هارب من الجنون أو قل هارب إلى الجنون . منذ اللحظة الأولى .. فقد تركتنى أمى دودة تسعى فى صحراء بلا ناس ، منذ خدعتنى وقالت: سآتى حالا ولم تأت أبداً ، منذ أحبتنى حبا لصقنى بها جزءا منها ، ثم تركتنى فجاة كتابا ملقى على الطريق تبعث بصفحاته عواصف الزمن ، حتى تمزقت وتطايرت ، ووصلت بقاياى إليك .. هذا الذى أمامك بعض نفسى .. أنا الغلاف والمقدمة والخاتمة، أما محتوى الكتاب فهو ضائع منى ، و بالتالى فهو ليس فى متناولك
قلت
- ولكنك كنت طالبا ناجحا ثم صرت عالماً ناجحاً غاية النجاح . قال : النجاح ؟ نعم النجاح هو القوة التى تساعد على المسير ..
هو الطاقة التى تجعلك تستمر ولكن هذه القوة لا تحدد طريق المسير . إلى أين؟ هى تنقلك من محطة نجاح إلى محطة نجاح تالية؟ ولكن الدفع شئ وصواب الطريق شئ آخر .
قلت :
- فماذا عن الطريق ؟
قال :
- كان طريقا باهراً مملوء بالنجاح والتنافس .. آه من التنافس قد يحلو لك أن تنتصر على غيرك ولو حتى تسحقه .. ولكن الطفل .. الطفل المسكين كيف يثيرون فى نفسه كل هذه الرغبة فى الانتصار على أقرانه ومن أول لحظة .. كيف يثيرون الحقد فى أعماق طفل لم يتعد الرابعة .. كيف يكون الهدف الأول والأخير أن يكون ”أفضل” لا أن يكون “فاضلا”، دائما أفضل من الآخرين. فيصبح الآخرون أعداء يتكالبون على شئ واحد .. وهم فى حاجة إلى بعضهم البعض أكثر من حاجتهم إلى ذلك الشئ الأوحد وهو التفوق .. وبدل أن يكون العلم منهلا ينهل منه الجميع. يصبح التفوق مطلبا فى ذاته .. ومنذ متى .. من أول خطوة على الطريق، لا شك أن التفوق ضرورى لهذه الحياة ذات الفرص الضيقة، لا شك أن التنافس حافز، ولكن ذلك التنافس الحاقد ومنذ الطفولة شئ آخر، هو إثارة لكل دناءة العصر الحاضر، هو تنمية للنوازع التى تخدم حرص المجتمع البرجوازى منذ الطفولة ، ولكن هذا شى عادى يحدث فى كل بيت ولكل طفل، وهو يأتى بأفضل النتائج، لا تعجب فقد جاء عندى أيضا بأفضل النتائج ، كنت الأول دائماً، كنت أرى نظرات أحمد وعمر وسالم ونبيل وأفرح فرحا بلا نشوة ، وأزهو بلا طرب ، ويدب فى حماس نحو نجاح آخر … ويزيد تعلقى بالكتب، بعدى عن الناس فى نفس الوقت .
ثم جاءت فترة المراهقة . وقد قلت لك أنى احتجت للناس أكثر وصنعتهم من ألفاظ الكتب ، واحتفظت بهم داخل الصفحات ، وبإذا تجنبت الآخرين حتى لا أدخل فى مغامرة غير مضمونة لا أريد أحدا يحبنى حتى أتلاشى فيه ثم يتركنى حتى أضيع … أما أصدقاء الكتب فهم مضمونون. تستخرج من بين السطور من تشاء تتقمصه وتصادق أصدقاءه وتعادى أعداءه ثم تحتفظ بالجميع على رف المكتبة، تسدعيهم وقت ما تشاء وتجدهم فى أى لحظة مل ليل أو نهار، وزاد تعلقى بالكتاب وأصبح بديلا للحياة .. وزاد تفوقى .. وأهلى راضون سعداء . حققت لهم ما يشتهون .. وحصلت على شهاداتى المزركشة بتقديرات عظيمة .. ورغم أنها لم تكن عملية سهلة إلا أنها كانت تتم بنجاح .. كانت الامتحانات رعبى الهائل .. كانت حدثا رهيبا فى حياتى لأنه: بما أنى كتاب ليس إلا، فليس لى خيار، ويصبح الامتحان بالنسبة إلى حياة أو موتا لأن معنى الإخفاق هو الضياع .. ماذا يبقى منى إذا فشل الكتاب .. وأنا كلى كتاب كتب أدخل الامتحان لا لأفرغ ما فى رأسى من معلومات ولكن لأتأكد من وجودى .. لأنه لا وجود لى بدون شهادة، وحصلت على الشهادة تلو الشهادة حتى البكالوريوس.
إلى هذا الحد .. كانت حياتى مفهومة ومعقولة – على الأقل من الظاهر – استعضت بالكتاب عن الحب، و بالنجاح عن الحياة الاجتماعية، وبالشهادة عن الوجود الإنسانى وكان كل ذلك طبيعياً بالنسبة لهذة الفترة من الحياة – لم أكن أدرك شيئا ولم يكن ينقصنى شيء .. لا تتصور أنى كنت أشكو من شيء حتى ذلك الحين ..
كان نجاحى يحفظ حياتى ويعطى لها معنى .. وما ظهرت هذه الرؤية إلا الآن ، فأنا أراجع نفسى وأنا أحكى لك كيف أرانى زمان
قلت :
- ولكنك تصورت النجاح تصويرا وكأنه الفشل أو الضياع ، فهل تعتقد مثلا أن الفشل كان سيصلح حالك ؟
قال :
- قلت لك إن الفشل هو الموت ذاته ، لأن النجاح كان الشيء الوحيد فى حياتى، النجاح طاقة ولكنه كان لى هدفا وغاية ووسيلة وكل شيء، إلا ان النجاح والتفوق فى ذاته لا يعطى للانسان عاطفة أو حياة، قد يتيح له فرصة أحسن ولكنه ليس هو ذاته الفرصة الأحسن، الناس تتركز على نجاح الأطفال والصبية وينسون مصير الناجحين حين يكبرون .. أين أوائل المدارس منذ عشرين عاما ، ألا يبلغون الآلاف فى كل المدارس ، هل هم الآن أسعد الناس وأنبغ الناس أم أنهم استنفدوا طاقاتهم فى النجاح فانتهو قبل أن ينتهى النجاح؟
ياسيدى أنا نجحت حتى لم يعد للنجاح طعم ، تفوقت على الآخرين حتى ابتعد عنى الآخرون ، وحصلت على الشهادات كلها .. وكلما تدرجت على سلم الشهادات كلما انزعجت من تلك المقاييس التى تقيم الناس ، وكان آخر المطاف شهادة الدكتوراه: رسالة وامتحان يرضى كل الممتحنين بلا استثناء – أى والله بلا استثناء – وتيقنت أن آخر شهادة هى أخطر شهادة، لأنها تعطيك حق الجهل ، وهى شهادة تعطى ولا تؤخد ، تدل على لرضا أكثر مما تدل على العلم ، أما أنها تعطى حق الجهل فهذا أخطر ما فيها.
قلت :
- لا تغال .. وقل لى كيف ؟
قال :
- أنا لا أغالى ، ولو لم أكن حاصلا عليها لحسبت ذلك شعورا بالنقص أو حقدا – ولكنى حاصل عليها من أول مرة وبامتياز ، ومع ذلك فأنا لا أقول إلا الحق ، فقبل هذه الشهادة يتمتع الطالب أو العالم بفضيلة الحياء ، فيخشى أن يفتى فتوى دامغة إلا أن راجعها وحسب لها حسابها ، أما بعد أن يحصل عليها فإنه قد يقول ما شاء دون حساب مباشر ، هذا هو الخطر عينه ، أن يحسب الانسان نفسه عالما بالشهادة ، فالشهادة قد تكون خدعة كبرى لأنها من الرموز التى تعدت معناها والتى أصبحت غاية فى ذاتها ، وأصبح تقويم الانسان صغيرا وكبيرا مرتبطا بها ارتباطاً وثيقا ، وهذا من ضرائب العصر التى لم نجد لها بديلا حتى الآن .. الأمتحانات والشهادات ، ولكن ذلك قد يجوز بالنسبة للأعداد الكبيرة حيث لا توجد وسيلة للتقويم أفضل من ذلك ، أما إذا اقتصر الأمر على وحد أو اثنين فى الشهادات الأعلى ألا ينبغى إعادة النظر فى هذه الأشياء جمعياً؟.
قلت :
- ولكن ماذا ضرك فى كل هذا .
قال :
- لا شيء حتى الآن إلا جفاف الحياة وفقد نشوة الانتصار أما بعد الشهادة الكبيرة فقد مارست الألم الرهيب الذى الذى انتهى بكسرى الذى أتى بى إليك هذه هى الحكاية .
قلت : ايه حكاية ؟
قال: حكايتى مع العلم والعلماء والبحث والمبادئ فقد كنت فى صدر شبابى كما قلت لك أنا والكتاب واحد، وكانت الكلمة المطبوعة هى حياتى، وكان أشخاص الكتب هم أصدقائى ، ليس لى فى الدنيا سواهم، ومن هنا جاءت قدسية الكلمة، فلما سلكت طريق العلم أصبح للكلمة محراب فيه أرقام وأرقام أهتز لها احتراما، وأنحنى أمامها تبجيلا، ولكن حين أصبحت أحد خدام هذا المحراب اكتشفت أن ليس به آلهة دائما، بل هناك أيضا أصنام من الحجارة تبدو عليها سمات الآلهة ، واهتززت وتشككت وكدت أتراجع والأبحاث فيها الحسن وفيها السئ، وحين تقرأ إما أن ترفضه وإما أن تقبله ، ولكنى كنت أحد خدام المحراب وولدانه ، فمارست تناول الماء المقدس من الداخل ولم يكن دائما مقدسا، خصوصا لدى المشايخ والأحبار .
قلت هذه الحياة “فيها” .. “وفيها”.
قال نعم هذه الحياه ، ولكن فى محراب العلم تصبح الأمور لا تحتمل أن يكون ” فيها”.. ”وفيها” ، إما أنه فيها ، أو أنه ليس فيها.
قلت : فلندخل إلى الموضوع ونخفف من الألغاز .
قال: ما دامت الأبحاث فى بلد نام، أو فلنسمه متطوراً فلا بد من احترام إمكانياته ، وقد سمعت أستاذاً ساخرا يقول أثناء التلمذة إن الأبحاث فى مصر – فى مجاله على الأقل – إما كلام فاغ أو كلام مفروغ منه ، أما الكلام الفارغ فهو بالبحث الذى يعمل وكأنه شيء مبتكر وهو ليس به شئ ، أما الكلام المفروغ منه فهو الذى سبق عمله فى بلاد أكثر تقدما وما تكراره هنا إلا من باب تحصيل الحاصل .
قلت : هل تعنى أن نوقف البحث العلمى فى بلادنا ؟
قال : كنت أتصور أنه إما أن يكون هناك بحث علمى وإما أن يوقف.
قلت : وكيف ننمى قدرة البحث ؟
قال : آه … إذاً فلتكن أبحاثنا لننم قدرة البحث .. ليس إلا .. ، فى هذه المرحلة ،إلا فى حالات الفلتات الخاصة فلها اعتبار خاص.
قلت : فليكن .
قال : لم يكن .
قالت : إذا ما الذى كان ؟
قال : كان يا ما كان أستاذ ذو كرسى ، والأستاذ عندنا صنفان :
واحد له كرسى والآخر يظل واقفا حائرا بدون كرسى، وعندنا من الأستاذة من يتراخى على كرسيه حتى يصبح الكرسى أريكة ، ويا حبذا لو كان سريرا يحاط بمساعدين يهوون عليه بمراوح من ريش نعام .
قلت : إنك فى أزمتك تذهب إلى بعيد وترسم صورة صارخة ليست هى القاعدة .
قال : أنا لا أتحدث عن قواعد، أنا أتحدث عن تجربتى الخاصة، أنا مريض نفسى وأنت طبيب نفسى ، وقد تحرجت طويلا أن أقول هذا الكلام بين الزملاء ، كانوايشعرون أنى أهاجمهم وأكشف عوراتهم فى حين أنى كنت أنقد نفسى معهم، كانوا يدافعون عن جلال العلم وهيبة ”الأساتيذ” دون محاولة لمناقشة صدق محاولتى وكان الأستاذ أستاذا لأنه أستاذ، وليس لأنه رائد وموجه ونقادة وإنسان، وظللت أكتب وأخطئ نفسى واضح حسابا للذى يصح والى لا يصح ، وأفوت وأصهين وأسكت وأغمض حتى انكسرت، وأصبحت عندك يا سيادة الأستاذ الطبيب النفسى ، ولكن قل لى هل أنت تعترض لأنك أستاذ أم لأنك طبيب ؟ لمصلحة من تحاول أن تزين حقائق عشتها بكل الألم والمرارة ، وتقول أنت تبالغ ؟ أنتم الذين تبالغون فى العمى والضلال .
قلت: العم والضلال ؟
قال: نعم بحجة احترام الواقع والمجاملات ، إن الواقع محترم . طالما هو صدق وأمانة ، والمجاملات عظيمة طالما هى الزيت الذى يلين تروس المعاملات الجافة ، أما أن نرص الأرقام ونتبع مبدأ “من سهل، سهل الله عليه” فإن ذلك هو العمى والضلال.
قلت: ولكنها تجربة خاصة . . فلماذا تعممها؟
قال : أنا لا أعمم سيئاً .. أنا إنسان مكسور ضعيف مهان ، وملقى فى كرسى فى عيادة نفسية، فى عقلى خلل وفى إدراكى شطط ، ومن حقى أن أخرف ما شذت، إلا ما فائدة أن يمرض الإنسان ، أليس المرض سبيلا إلى حرية ما ، ألا يمكن أن يكون دائماعذرا دائما علقه قبل وبعد الحديث الطليق . . أليس كذلك ؟
قلت: ولكنه مرض .
قال: مريض يمرض مرضا فهو مريض والجمع مرضى أو مريضون أو مريدون، يا هول الواقع وضيعة الحقيقة، نعم . . ولكنه ، لكى أقول ما أشعر به فى صدق وصراحة لا بد أن أمرض، وحين أمرض لا يصبح لكلامى معنى ولا يسمعه أحد لأنى مريض سوف” يسقطوا لى فارغة”.
- إذن فهو المرض .
- هو كذلك … ولكنه الحقيقة ، أن ترى الأوضاع مقلوبة ، أن ترى العجز سافرا ، أن تعيش يقظة الوحدة ، أن تعرى الأشياء ، هذا ما تسمونه مرضاً.
- ولكنها حقيقة هاربة مخبتبئة فى عيادة نفسية .
- لم يسمح لها بالظهور فى غير العيادة النفسية .
– ربا أنت لم تحتمل الاستمرار .
قال: ربما .. ربما لم أحتمل الاسمترار وربما خفت من الاسمترار .. فالإنسان ما لم يتيقظ فى كل لحظة انحرف وهو لا يدرى ، وأسلوب الانحراف يختلف ويتنوع ، وأخطر أنواعه النوع الخفى ذو الممبررات الواقعية وشبه الأخلاقية، اسمع يا سيدى هل انتهى وقتى أم استمر ؟
***
- قالوا أنت حنبلى ، ولوحوا أمامى بالترقيات والمؤتمرات وقلت لنفسى ، أنا لا أستطيع أن أصلح الكون وأنا صغير، فلأ كبر أولا ثم أصلح الكون ، إنهم يريدون عدداً من الأبحاث “كل شيء كان” فليكن، ولأصبح ذا مركز يليق، ثم أغير الكون .. وبدأت الطريق القاسى، لم يكن هناك سوى أرقام أريد ضربها وطرحها وقسمتها، وإيجاد معامل الإرتباط ومعامل الثبات إلى آخر هذه القصة التى تزين البحث لتجعل منه حقائق علمية، وكلما وصلت بهذه الطريقة إلى حقيقة تعجبت فهى حقيقة بديهية، ولكن البديهيات لا تتقدم بالعلم، والعلم يحتاج إلى أرقام ودلائل، ومضيت أجمع وأطرح وسجلت ملاحظات لا بأس بها، وكان لها رنين حلو منمق، ولكنى فى قراره نفسى كنت غير مقتنع بكل ذلك ، ماذا أفاد هذا البحث ؟ ماذا أضاف؟ أى سؤال أجاب؟ أى جديد؟ وكنت أسأل زملائى فأجد عندهم الإجابة، وحين اسأل نفسى فى علانية أو يسألنى أحد فإنى أستطيع الإجابة، ولكن .. داخلى، وكان داخلى يخرج لى لسانه لأنه ويلعب لى حواجبه، كان داخلى يسخر منى فألقمه مرجعاً ينشغل به، وأمضى فى طريقى وأقول حين يصبح لى من الأمر شيء سوف أعدل الكون، أما الآن فعلى أن أصبر وأتساهل، واستعمل الكلمات الرنانة والأرقام المقنعة وأمضى، وذات يوم .. نعم ذات يوم .. أكتشفت انزلاقى .. توقفت وانكسرت .. وجئت .. وها أنذا مريض مهان. أقول الحق فى عيادة .. لا بد لكى أقول الحق أو أدافع عن الحق أن أمراض ..
قلت: أى يوم .. ذلك اليوم ؟
قال: نعم ذلك اليوم .. كنت هناك، وكان بحثا ضخما مفتخراً به من الجداول أربعة عشر ومن الصفحات ما يربو على العشرين، كنت أعرف نقطا ضعيفة وكم هاجمتها فى غير هوادة ، ومضت الأيام .. حتى دخل لك البحث سرداباًَ خفياً فى جانب ذاكرتى ثم اضطررت فى ذلك اليوم أن أقدامه ، ووجدتنى أستحضر من ذاكرتى بصعوبة، ثم أقدمه، ووجدتنى أكاد أفخر به، ووجدتنى أدافع عن نقط ضعيفة، كم سبق أن رفضتها، وفجأة حدث الذى كان.
قلت: وما الذى كان ؟
قال:
- اخترق رأسى من الداخل إى ما بين عينى صاروخ مثل السيف المحمى على النار، واضطربت الألفاظ أمام عينى وأصابتنى دوخة وعجزت عن الاستمرار.
كيف أدافع عما لا أعتقده ؟ وفى أى مجال ؟ فى مجال العلم ؟ أحسست بأنى داعر، لا تؤاخذنى فى التعبير، ولكن لا تنسى أنى مريض، وأنى ما مرضت إلا لآخذ حقى فى التعبير، فحيث تكون السلامة تكون المجاملة ويكون الكلام ممنوعاُ والسكوت ممنوعاً أيضا، أو كما سمعت فى إحدى المسرحيات “السكوت” ممنوع كمان .. السكوت مشروع كلام، لقد مارست القهر الفكرى على آرائى: لا أجرح أحدا، ولا أجرح نفى، لقد كنت أخفف من غلواء النقد، كنت أجامل أساتذتى وأجامل نفسى حتى ذلك اليوم ..
قلت :
- ولكن هذا البحث .. بحث ذلك اليوم .. ماذا به ؟
قال :
- ليس به شيء ، والمصيبة أنه ليس شيء ، ولأنه ليس به شيء فقد انكسرت وأنا أدافع عن لا شئ ، هل يمكن تتصور إنسانا يمسك بكل أسلحته للدفاع ، يحارب أعداء حقيقين وأحينا أشباحاً؟ تقضى عمرك تدافع عن معتقداتك فى خزانه عقلك ثم فى لحظة يقظة تفتح الخزانة فإذا بها خاوية من غير سوء . حينئذ تصعق وتدور الأسئلة تلسع رأسك كسياط ن معدن محمى ، “عما كنت تدافع”؟ … عن الهواء ؟ بل عن الفراغ … ” لماذا كنت تدافع ؟ حتى تحافظ على الضياع ..
قلت:
- ولكن ليست كل الأبحاث هكذا .
قال:
- عليك نور… كنت أقول ذلك دائما، حين تكون بعيدا عن القبة يخيل إليك أنه تحت القبة شيخ ، وحين تقترب منها تعرف أنه الحمار الذى نفق، وحين تختلف مع زملائك فى قيمة هذا العمل، يقسمون بمقام الشيخ، وينسون أننا دفناه سويا.
قلت:
- ولكن ليست كل الأبحاث هكذا .
قال :
- آه .. مرة من ذات المرات كنت أجلس وكان ذهنى خاليا من كل شيء، كنت فى حديقة ما .. أمسك زهرة جميلة وكأنى مراهق يتأمل التوافق بين ذاته وبين الكون، وخطر ببالى وبدون سابق إنذار”أنه ليست كل الابحاث هكذا” .. فرد آخر من داخلى يقول ”هكذا كل الأبحاث”، وأفقت من لحظة التوافق والانسجام ، وجعلت أتأمل مشكلتى المحيرة ، وارتسمت ابتسامة ما على عقلى ، ونظرت للوردة فى يدى وأخدت أقطف أوراقها وأنا أردد ”ليست كل الابحاث هكذا … هكذا كل الابحاث … ليست كل الأبحاث هكذا … هكذا كل الأبحاث”، وظننى الناس عاشقا ينتظر عشيقته ويسأل الوردة “ستحضر.. لن تحضر..” ووجدت عنق الوردة وقد تعرى من جمال الورقات ، وأنا اتساءل تساؤلى الذى لا ينتهى ، وهتف لى هاتف أن مصير الطبيعة فى المعمل الجاف الذى ينسى نبض الانسان … مثل مصير الوردة بين يدى إنسان قلق أوشك على الانهيار ، وتبينت ساعتها أن الانهيار قادم لا محالة ورفضه وتمنيته فى ذات الوقت . . رفضته خوفا من أن ينطلق المارد فيحطمنى قبل أن يتحطم زيفى .. وتمنيته ليخلصنى من قيود حبست نفسى فيها بمحض إرادتى ، وحين تخاف الشئ وتتمناه يصبح الألم صريحا قاسياً، وحين يزيد الألم ويهدد يصبح الانكسار وشيكا . . وقد كان، فانكسرت، طارت أفكارى كالطيور تسرح فى حرية المرض النفسى، وأخرجت لسانى لأبحاثى الزائفة. ومضيت أحرق الكلام المكتوب جميعه، آه من الكلام المكتوب، حرمنى فى طفولتى من أمى، ثم قيدنى فى شبابى من حريتى، ثم زيف المعرفة فى عز رجولتى، أنا حين أمسك بالكتاب تصبح الصفحة أمامى بيضاء من غير سوء، تتداخل الألفاظ أولا، ثم ترقص الحروف، وتخرج لى لسانها وتلوح لى بالسلاسل، ثم تتشابك لتصبح سلاسل من حديد وتقترب من فكرى، فأخاف وأخاف حتى ينمحى كل شئ .. أليس هذا هو الجنون بعينه ؟
قلت: أو هو الرفض الصارخ الشامل.
قال: وأظن أنى هنا لأقبل ما لم أستطع قبوله، ولكن كيف، لقد حاولت أن أحشره فى رأسى حشرا فلم أستطع، حين تحمل الألفاظ أجنحة المرض تنطلق بغير حدود ، وساعتها يصبح للحياة معنى.
قلت: كيف يعطى المرض معنى للحياة؟
قال: هذا ما خيل إلى فى أول الأمر . . ولكنى أحسست بالوحدة الرهيبة تكاد تسحقنى، وفى نفس الوقت أحسست باستحالة دخولى القفص مرة ثانية وهذا ما جاء بى إليك، فهل عندك من ترياق:
قلت:
- سوف نبدأ برفض ما رفضت.
- حقاً ؟
- ولم لا ؟
– أنه المرض.
- بل هو رفض الزيف والخداع.
- بل هو الوحدة.
- ما دام هناك آخر . . فليس ثمة وحدة.
- وأين الآخر؟
- مؤقتا. . .هو العلاج.
- وهل تقبلنى بكل فكرى الصاخب . .أو الشاذ ؟!
- إنى أقبلك بكل ما تحويه وتمثله وتقبله وترفضه . . فهل تقبلنى أنت ؟
- أنا ؟. . أنا أخاف منك.
-عندك حق، فى أزمتك هذه تخاف من كل الكلام وكل الناس . . ولكن للأمر احتمال آخر.
- وأخاف من الاحتمال الآخر.
- ولكنك لا تعرفه.
- حين تفترضه . . لن يصبح مجهولا.
- أنا خائف . . طيور فكرى تهرب من كل الأقفاص.
- ولكنها لو استمرت فى السماء بلا حدود . . فسوف تهلك.
- ستبحث لها عن عش ولو فى القطب المتجمد.
- تهلك من البرد والوحدة.
- أفضل من السجن داخل الخداع.
- ولكن هناك احتمال آخر.
- أى احتمال؟
- الانسان.
- هو الذى أشقانى وعذبنى حتى انكسرت . . أمى كانت الإنسان الأول فى حياتى ثم تركتنى دودة تسعى فى صحراء المدرسة بين حروف جافة وطباشير أكلح لا نبض فيه، ثم سجنت وأنا أبحث عن الانسان بين صفحات الكتب، ثم فجعت وأنا أفتقد الإنسان فى مجال العلم الجامد
قلت: ولكن هذا لا يعنى أن تكف عن التعليم أو تهاجهم الكتب أو تحطم قديسة العلم .
قل: إذا ماذا يعنى ؟
قلت: يعنى أن تخرج من تجربتك أقوى وأصلب فتدافع عن المدرسة ولا تنسى الحب وتتصالح مع الكتاب، فالكلمة وسيلة الاتصال بين البشر على أن يكون هناك بشر، ثم لنسخر العلم فى خدمة الحياة بكل نبضها العاطفى وجمالها الفنى..
قال : ولكن كيف ؟
قلت : بأن تستمر
قال : الألم والخوف والسجن والانهيار
قلت: الانهيار يمكن أن يكون ضياعا ودمارا كما يمكن أن يكون إطلاقا لقدرات لا حدود لها مثل تفتيت الذرة سواء بسواء، يمكن أن تفنى البشر كما يمكن أن تدفع بهم على سلم الرقى البناء.
قال: هل يمكن أن يكون بالإنسان طاقة مثل الذرة؟
قلت: بل أقوى وأبقى .
قال: أين هى ؟
قلت: هى الخبر والحب والإرادة والفضيلة ، هى التى استمرت بالتطور حتى الآن ، هى التى انتصرت دائما وستنتصر دائما.
قال : أين هى ؟
- فى داخلك
- الحب فى داخلى أنا . . ؟ لو أن هناك أن هناك حكما عدلا لحكم بيننا الآن . . من الذى يخرف ؟ أنا . . أم أنت؟ لقد كان الخوف فى داخلى ، أما الحب فقد ذهب منذ خدعتنى أمى ; ذهب ولم يعد.
- لم تكن تقصد.
- ولم أكن أعرف.
- والآن تعرف.
- وأين هى ؟
- هى تمثل الآخرين فترة، وأنا قد أمثلهم فترة أخرى.
- ماذا تعنى ؟ أأبدأ من جديد ؟
- ولم لا ؟
- ومن يضمن لى ؟
- قوة الخير التى استمرت بالانسان حتى الآن.
- تعلمنى نظريات الحياة.
- بل تحس بنبض الصحة
- على ألا أرجع للكتب ومعمل الأبحاث.
- بل حين ترجع للكتب ومعمل الأبحاث سوف تملؤها من فيض حياتك وإنسانيتك.
– أنت تحلم
- أنا أمارس هذا الحلم
- عندهم حق
- من ؟
الذين يقولون أنكم مثلنا
- حتى نفهمكم ؟
- من يفهمكم ؟
- أنتم
- لغة خاصة ؟
- نخترق بها الحواجز
- أى حواجز ؟
- كل معوقات التطور
-ولن تتركنى ؟
- لا أستطيع
- لماذا ؟
- لأنى أحتاجك مثلما تحتاجنى
- تحتاج هذه النفاية البشرية!
- وراءها طاقة الذرة المتفجرة
- لماذا تحتاجنى ؟
- ليزداد البشر واحدا
- يا صلاة النبى
- الوقت ……
- تبيع الأمل ؟
- الحب . . . .
- تعبث . . بالألفاظ ؟
- الصحة.
- لا أعرفها.
- والآخر.
- أين هو …؟
- هل شعرت به ؟
- خائف .
-ولكنك شعرت به ؟
- خائف.
- ولكنا اثنان.
- يبدو ذلك – إذا . . لقد شعرت بى
- ولن تتركنى كالدودة على رمال الصحراء
- سوف يكون هناك آخرون وآخرون ، وحينذاك لن يغير أن ينقصوا واحداً ، وحتى هذا لن يحدث أبداً.
- متى ؟
- الوقت
-أين ؟
- الحب
***
قال الفتى للحكيم . مالك تتحدث بلغة كالألغاز ؟
قال الحكيم : لأن اللغة فى مثل هذه الأحوال – كمجرد رمز أو ألفاظ – لا تعنى شيئاً ، أما الذى يصل ويتأصل ويطمئن ويبنى فهو نبض المشاعر وصدقها .
قال الفتى :
وهل يشعر المريض بصدق الإحساس وهو فى بؤرة تدهور؟
قال الحكيم:
كلما كان الإحساس صادقا كلما كان أقدر على اختراق الحواجز.
قال الفتى:
قد علمت هذا المثل فحدثنى عن ”خدعة المال” .. فقد خيل إلى أحيانا أنك تتناساها عمداً.
قال الحكيم :
وكأنك تقرأ أفكارى … فقد كدنا نصل إلى كبير الأصنام الذى اتهمه سيدنا ابراهيم أنه حطم باقى الأصنام .. فلما سألوه عن المسئول عن تحطيم الأصنام . . تحطم هو ذاته.
قال الفتى : وكيف كان ذلك ؟
كبيرهم
قال الحكيم:
جاءنى شيخا متهالكا لا يكاد يقوى على المسير، وعلاج الشيوخ عندى مشكلة ليس لها علاج ، ولى من الزملاء من يحب هذا النوع من التطبيب ، وله فى ذلك فلسفة هادفة ; إنسانية وكريمة ، وأنا أشفق على الشيخ حين يتحطم وأسير بجواره يتكيء على كما يتكيء على عصاه حتى يأن الله فى أمره ، ولكنى لا أعتبر ذلك علاجا بالمعنى الذى أمارسه ، فالعلاج عندى هو التحول والثورة والطفرة وإعادة البناء والتجديد والاستمرار ، ولكن هذا الشيخ بالذات كان شابا فى ثورته وإذا كنت غير واثق ماذا يفعل به الغد .
قال الفتى :
وهل للثورة ميعاد وتوقيت ؟
قال الحكيم :
الثورة هى الشباب ، وهى تبدأ بالرؤية الحادة الأمينة ، والرفض والسخط والاحتجاج، ولكنها ليست ثورة ما لم يصبح الرفض فعلاً، والسخط مسئولية، والاحتجاج تغيراً.
قال الفتى:
ولكنك تقول أن هذا الشيخ كان شابا فى ثورته .
قال الحكيم:
عندك حق ، خطأتنى يا فتى ، كان ينبغى أن أقول أن هذا الشيخ كان شاباً فى رؤيته لا فى ثورته ، لأن الثورة شيء ، ولكن الرؤية دون ثورة هى ألم الضياع وإفزاعه، وربما كان هذا السبب هو الذى يجعلنى أتردد أمام علاج ثورة الشيوخ الشباب، فكم بقى لهم فى العمر حتى يجعلنى أعرضهم لآلام المخاض، وكم فى الغد ينتظر بعد طول الخداع، أنا أشفق عليهم وقد أحاول أن أساعدهم فى إغماض عيونهم حتى لا يمارسون ألم الرؤية بلا فاعلية، وقسوة الصحوة بلا مسيرة، وانهيار القديم بلا بديل .
قال الفتى:
ومع ذلك تحكى لى قصة صديقنا الشيخ من ضمن حكاياتك التى تعلمنى بها الحكمة.
قال الحكيم:
أنا أحكى لك ولا أحكى له، أنا أتكلم عن الشيوخ للشباب، ولكنى لا أستبعد وجود شيخ ثائر يستطيع الاستمرار، على أن يكون قد بدأ المسيرة من زمان – ولو نظر الشباب إلى من سبقوهم فى طريق الخداع وحاولوا أن يغوصوا فى أعماقهم ليعرفوا مدى تحقيقهم لأهدافهم لا تعظوا قبل أن يفوت الأوان ، ومهما خافوا الألم يهدد سكينتهم الراكدة فهم سيعلمون هول المصير الكالح ممن سبقهم ، لذلك فهم لا بد سيثورون فى الوقت المناسب مهما كلفهم ذلك من مشقة.
قال الفتى:
- أخالك تصعب عليهم الحياة.
قال الحكيم:
- ليس عندى بين الأبيض والأسود ظلال، إما أن نحيا أو لا نحيا، ليستسلم من شاء، وليخالف من شاء وليتردد من شاء، ولكن الذى سيستمر هو الذى سيختار الحياة ليوقف التدهور.
قال الفتى:
- ولكن الناس كلهم يختارون الحياة .
قال الحكيم :
- هم يختارون البقاء سواء كان بقاء فيه حياة لها صفات الإنسان أم كان بقاء يماثل بقاء أولاد عمومتنا القردة، يرتضون الحياة التى تشكلت ولكنهم لا يشكلونها، هم يتسابقون فى حجرة مغلقة مبطنة بالكاوتشوك الطرى فلا يتآلمون، ولكن الحياة التى أعينها هى الصراع للتطور وليس فقط المحافظة على البقاء.
قال الفتى:
وكأنك تريد القضاء على الإنسان فى مقابل وهم رأسك تزعم أنه ممكن .
قال الحكيم :
أنا لا أزعغم شيئا ولا أتوهم خيالا ، ولكن قانون الحياة فرض على أن أكون فى موقع من المعركة هو المقدمة، على خط النار، وأنا أرى الصراع الممثل فى المرض النفسى يمثل صراع الإنسان مع أجداده الحيوانات الذين يحملهم بين خلاياه ، فالانسان يحمل كل آثارة القديمة وكل الصفات التى ورثها عن أجداده جميعاً، إلا أنه يتحكم فيها ويوجهها لتخدم صفاته الإنسانية، وهذه الآثار القديمة تثور عليه حين ينساها فيكون المرض ، لذلك أنا لا أملك أن أزعم شيئا خاصا لنفسى، وإنما وجودى على خط النار يلزمنى بترجيح الغد على الأمس ، على أن يستمد الغد قوته من طاقة الأمس ، فيصبح إنسان اليوم وحدة متكاملة متناسقة تخدم مرحلة التطور الحالية : لا تنسى التاريخ وهى تصنع المستقبل ، وقد كنت فى أول رحلتى مع النفوس المتصدعة أتصور أن الطبيب ينبغى ألا يتصور نفسه مصلحاً اجتماعياً، ولكن بعد فترة وجدت ذلك امتهانا لانسانيتى ، فلا يمكن أن تأتينى الثورة حتى عندى وأنا أتفرج عليها … أحجم عن توجهها للغد .. لا لقد قررت أن أعيش ، وأن أشارك ، وأن أرجح كفة الغد.
قال الفتى:
فأنت تفرض معتقداتك على المرضى أو قل على الثائرين … سمهم كما تشاء .
قال الحكيم :
بل هم الذين علمونى معتقداتى ، هم الذين جعلونى أومن بالانسان وبالغد ، وهم الذين فرضوا على التطور من ”مطبطاتى” إلى إنسان يضع خبرته وعواطفه مع التطور مهما كلفه ذلك من جهد.
قال الفتى:
لن ينته النقاش . . فحدثنى عن كبير الأصنام ، الذى حطم كل القيم زائفة أم حقيقة – ثم تحطم.
***
قال الحكيم :
جاءنى شيخا متهالكا انطفأ فيه كل شيء ، لونه أقرب إلى الزرقة، وعيناه كقطعة من حجر الجير، وذقنه فى صدره، وبقايا شعره نافرة على صلعته مثل الشعيرات المتناثرة أعى كوز ذرة جاف فى يوم قائظ .
قلت: أهلا
فارتفع حاجبيه واهتزا ولم يرد .
قلت: ليس بعد.
وانتبه أكثر.
***
قلت: ربما
قال: ماذا ؟
قلت: أهلا
قال: بكم
***
وبعد عقاقير عظمية وأيام مظلمة وصبر وإلحاح، ضغط على يدى ذات يوم وهو يصافحنى، فشجعنى كل ذلك .
***
قلت: ما هى الحكاية.
قال: هى حكاية النهاية قبل البداية، فى الوقت الذى كنت أحسب أنى اقتربت من البداية لأسمع بكل ما كان جاءت النهاية فجأة وبغير حساب، كل شيء عندى بالحساب بدأت عصاميا وحسبتها ونجحت، لم تخب حساباتى أبدا، ولكنى لم أضع ما حدث هذا فى الحساب، كنت دائما أؤجل البداية حتى جاءت النهاية قبل البداية، هل تفهم؟
قلت: أسمع . . وأحاول . .
قال: ولكن الكلام متعب . . الذكريات تمر بفكرى بالرغم منى، أريد أن أنسى ولا أستطيع، ألا يكفى ما حققنا .. لقد أصبحت أنام أحسن، ومعدتى تتقبل بعض الطعام، وتتحرك أصابعى على مسبحتى ربما تحاول أن تذكر الله أو تستغفر، أو هى تجذب انتباهى بعيدا عن أفكارى، ألا يكفى هذا وشكرا.
قلت: لا شكر على الواجب.
قال: إذا فهو الواجب … وقد حسبت أنى وجدت من يفهمنى، أنت تفعل الواجب فحسب، سواء كان من أمامك إنسان أم جماد، فى الأول حسبت أن الأمر غير ذلك، حسبت أنه حب وليس واجبا.
قلت: ولكن الواجب ليس مفروضا من الخارج، الواجب اختيار أصلا، وأنا اخترت أن أكون بجوارك، ومن واجبى على نفسى أن أعيش إنسانا .. هذا ما عنيته فلا داعى للشكر .
قال : لا أستطيع أن أكتفى بهذا التحسن وأسكت، لا أستطيع أن أعيش مع أفكارى وحدى , أنا فى حاجة إلى إنسان يسمعنى حتى ولو لم يصنع لى شيئاً، أريد إنسانا يفهمنى من وجهة نظر أخرى , أنا لا أجد من يفهم، كلما حكيت عن النجاح انبهروا بما حققت ونسونى تماما ,وربما هزأوا بى وشكوا فى عقلى , أو ربما تصوروا أنى طماع لا أحمد النعمة وكل منهم يقول “ما أغباه هذا الساخط، فليعطنا ثروته وسوف يرى على وجوهنا السعادة التى يفتقرها، سوف نعلمه كيف يعيش …” وترتفع الحواجب وتمصمص الشفاة وينحبس الكلام فى حلقى، فهل أنت مثلهم .
قلت : ماذا وجدت ؟
قال : وجدتك مختلفا، ولكنى أخشى المنطق العام والسخرية، ولكنى مرضت فمن حقى أن أتكلم بمنطق خاص ومن واجبك ألا تسخر، أمرى إلى الله
سأتكلم:
. . .
قال والدى: “أنت مش نافع”، وقالت أمى: “والله ما انت فالح”،
قال والدى: “هذه ذقنى : إن كنت مازلت حيا تبصق عليها، وإن مت تتبول على قبرى لو فلحت”
وفشلت . .
لم أنجح فى أن أعرف أين تقع “ألبانيا”، ولا مصير الأكسجين مع الشمعة داخل الكوب المقلوب فى الماء، ولا متى مات الاسكندر الأكبر، ولا مقدار المسافة التى تتركها فى الشتاء بين قضبان السكة الحديد لكى تتمدد فى الصيف .
وفشلت فى أن أدخل الجامعة لأصبح رئيس الانشاءات فى وزارة الرى مثل أخى ”ممتاز” أو مستشارا فى مجلس الدولة مثل أخى ”عبد القوى” فشلت وجربت المهانة والرقاعة والانحلال، وتخلى عنى الجميع .
وجربت نفسى فى أكثر من مهنة حتى احترفت الجريمة بعض الوقت، لم يحكم على , ولكن ليلتين فى السجن كانتا كافيتين للعدول عن هذا الطريق، فضلت السرقة المشروعة والضحك على ذقون البسطاء، عن السرقة الرسمية والتعرض لقهر القانون .
ووجدت البسطاء فى القرية المصرية، ولما عضنى الجوع ركبت عجلة بصندوق وعملت موزعا بالعمولة قومسيونجى لمصنع ”صابون الوحش”، كنت فى أشد الحاجة لأى قرش يحمينى من الجوع. ويرضى”مزاجى” أيضا، وكان صاحب المصنع خواجة، له عين واحدة كعين الصقر والأخرى من الزجاج، وكنت أركب العجلة ذات الصندوق وألف على البقالين فى القرى المجاورة، كنت أسرق وأغالط الخواجة والبقال على حد سواء، ولكنى كنت أوزع أضعاف ما يفعل الباقون، أنا لا ينقصنى الذكاء، ولكنه ذكاء خاص لا يقاس بالقدرة على حشر المعلومات فى الدماغ ثم تقايؤها على ورقة إجابة، ذكائى يمكن أن يقاس بمقياس جديد : القدرة على اللعب بالبيضة والحجر، لماذا يا سيادة الطبيب لا تخترعوا هذا الاختبار وتسمونه مثلا ذكاء المكسب أو ذكاء “الجدعنة” أو “القدرة على التهليب”، سجل هذا الاقتراح من فضل واحتفظ لى بحق النصف فى استغلاله، هل تحب أن تسمع التفاصيل .
- أنا أسمع كل شئ .
- تعطى المختبر بيضة وحجرين فى حجم البيضة وشكلها، وتجعله يقف بهما فى الهواء بين يديه الاثنين على الا يكسسر الجحر البيضة،
وتقيس الوقت بساعة إيقاف لتعرف أطول مدة يمكن أن يستمر فيها فى اللعب، وبعد ذلك تطلقه بعدة دست من إبر الوابور والغلايات فى إحدى القرى التى يسكنها ناس طيبون وتحسب المبلغ الذى جمعه فى يوم وتضرب الزمن الأول فى كمية النقود يطلع لك مقدار العمر النقدى فتقسمه على “العمر الدراسى” وتضربة فى مائة . . فتكون النتيجة “معامل الفهلوة” .
- يبدوأن ذهنك صفى .
- طول عمرى ذهنى صاف قبل هذا الكابوس اللعين، ولكن صفاء الذهن لم ينقذنى من مصيرى , كان ذكائى سلاح ذو حدين، على وعليهم . . وهذه هى النتيجة.
. . .
خلع الخواجة عينه الزجاجية ومسحها ووضعها مكانها، ثم ضيق عين الصقر كأنه ينظر فقط عبر الزجاج وقال:
- أنا أعرف . . ولكنك ذكى .
- تعرف ماذا؟
- أنت تسرقنى . . ولكنى أنا الكسبان .
- لا سبيل إلى المداراة. . ولكن علمنى .
- المهم أن تكون العملية رابحة
- أهذا هو المهم ؟
- طبعا
- اتفقنا
- فهل تعمل معى ؟
- ما دام هذا هو المهم قد اتفقنا .
. . .
واتفقنا .
. . .
وصعدت الدرج، ووجدت نفسى، وتيقنت أنه بالنصب المشروع يمكن أن يكون الإنسان شيئا ما . , وحين يجد الإنسان نفسه بأى وسيلة مهما تكن تافهة أو خاطئة أو صورية فإن هذه الوسيلة تصبح هى حياته، إنه يصبح هذا الشئ الذى أشعره بوجوده، أنكرنى أبى وأنكرتنى أمى وأنكرنى الناس وتعرضت للسجن وللجوع، وأنقذنى القرش، إذا فالشئ الوحيد الذى رد إعتبارى هو القرش، إذاً فأنا هو القرش، وقد علمنى الخواجة الشئ الكثير، علمنى كيف يكون الدفتر المسطر ذى الخانات – دفتر اليومية – والمفاتيح والخزانة هى حياتى، علمنى أن هذا الأمان الوحيد فى هذه الحياة، ولم أكن فى حاجة أن يعملنى كل هذا فقد تعلمت أكثر منه، كنت أنا وهو أقرب الناس واقعا، وأبعد الناس فعلا، كانت الكهرباء تسرى بيننا من خلال ورق البنكوت، لم أكن أعرف أن الورق موصل جيد للحياة – حاولوا فى سنة ثانية ابتدائى أن يعلمونى أن المعادن هى التى توصل الحرارة، ولكن الحياة علمتنى أن الورق موصل أقوى، ولكن هل كانت حياة تلك التى كان يوصلها القرش، وحرصت على أن أجمع أكثر وأكثر، وكلما جمعت أكثر حرصت أكثر – قصة قديمة قدم خوف الأرنب من الثعلب وقد سعى النمل إلى جحورها من برد الشتاء، مثل كل الحكايات، ولكن الحياة أيضا قديمة، والأيام معادة، وحين تصل إلى نهاية العمر مثلى ويصبح اليوم نسخة مكررة من أمس إلا من وهن أكثر وآلام فى المفاصل أحد تعرف أنه لا جديد – فعلا – تحت الشمس، ومهما كانت القصة قديمة فهى حكايتى أنا، وأنت طبيب وعليك أن تسمع الحكايات مهما تكررت، وأنا لم أجد من يسمع هذا الجانب من حياتى أبداً، كل حديثى كان كذبا على العملاء أو أوامر للعمال، فدعنى أستفيد من ميزة مرضى … أن أتكلم كلاما آخر.
. . .
وجاءت القوانين الاشتراكية على خيرا وبركة، خاف الخواجات، شبعوا من عصير الطيبة المصرية وهاجروا.
قال الخواجة:
- عملتها، ونفعت.
- المصنع مصنعك فى أى وقت.
- لم يعد لى مكان.
أنا ملكك.
- لست عميلا .. انتبه.
- أنا تحت أمرك.
- ووسيلة الدفع؟
- التهريب.
- لا أضمن.
- بشرفي.
- هذا أدعى للشك.
- تأخذ كل ما عندى بالمصري.
- والباقي؟
- أرسله لك.
- ليس لى خيار
وقمت بعمل وطنى مجيد، لم أدفع له مليما بعد السفر، واسترددت حقوق الشعب المصرى المكافح من المستغلين الأجانب (!), وأصبحت صاحب مصنع ‘صابون الوحش’ وأصبحت شهرتى ‘الوحش’، ونجحت. . . وفلحت، وكلما عقدت صفقة رابحة كان لعابى يسيل وتتجمع بصقة فى فمى، كان والدى أيامها على قيد الحياة، وبعد أن فارق الحياة لم يعد لعابى يسيل وإنما كانت رغبة أخرى تسرى فى أحشائى، أنا آسف لذكرى والدى بهذه القسوة ولكنك طبيب، وهذه أعراض جسمية نتيجة لوعيد دخل فى قلبى كالسكين… هل تذكر الوعيد .. كنت أنفذ الوصية، وكثر المال وتكدس، وارتفعت طوابق عماراتى فوق بعضها، ولكن لم تتغير علاقتى بالقرش، لم أفرط فيه أبدا، كل شئ بالحساب، كان يموت ابن العامل عندى فلا تهتز فى شعره لأنى لم أضع موته فى الحساب، حتى تأمينات العمال حسبت كيف أتخلص منها.
. . .
- أنا لا أعرفكم.
- التأمينات؟
– اسألوا الأسطى حسن.
- ونحن؟
- اسألوا الأسطى دسوقي.
- ولكنا نعمل عندك أنت.
- كل عملية لها مقاول.
- ولكنا عمالك منذ سنوات.
- التأمينات لم يمض عليها سوى شهور.
- نحن نعمل فى المصنع.
- أنا لا يعمل عندى إلا الأسطى حسن والأسطى دسوقى و……
- ونحن؟
- تعملون لديهم من الباطن.
- والتأمينات؟
– اسألوهم.
وتفتت من حولى كل الحلقات. لم يستطع أن يحدنى قانون أو تنظيم، نجحت ألا التزم بشئ إلا بالقرش .. القرش هو أنا.، هو أمانى وحياتى، ليموت أولادهم جوعا فهذه مسئولية الحكومة الاشتراكية، لماذا وجدت الاشتراكية؟ لتحمى الطبقة الفقيرة، أما الأغنياء فالقرش يحميهم، أنا إنسان عاقل أحترم القانون وكل شئ عندى بالحساب.
وبدأت أحطم كل شئ لأشعر بذاتى التى هى نجاحى، كنت أحاول أن أثبت أن القرش هو الأبقى وهو الأقوى، هو الأصل والنتيجة، هو الأول والآخر، وحطمت القيم جميعها، وفى كل مرة كنت ألعق لعابى وأنتشى نشوة نمر التهم نصف غزال، وشبع، ووقف يتفرج على بقية الفريسة.
***
قالوا لى أن ‘واحد بيه’ على الباب يريد مقابلتى ويقول أنه أقرب الناس إلي.
وضحكت ملء عقلى – فليس لى قلب يضحك – ضحكت وأنا أسمع أن هناك فى حياتى ‘ناس’, وأن بينهم القريب والأقرب، ضحكت من هذا الذى يقول أنه أقرب الناس إلى … ودعوته للدخول.
ورأيته …… رأيتنى وقد ارتديت حلة كحلية تلمع مثل حذائى وشعرى – لو كان لى شعر – وجلس أمامى وعلى وجهه ابتسامة عريضة جدا ومرسومة جدا ومترددة جدا، ما أشبه هذا الانسان بى …. لوسارت الأمور كما حسبوها لي.
قال فى تودد ظاهر:
- ما أغرب الأيام … نلتقى بعد عشرين سنة .. وأنت لا تسأل عن أحد .
وكنت مازلت أحس أنى أتكلم من على الكرسى الآخر، وراح ذهنى إلى الوراء عشرون سنة، ورن فى أذنى وعيد والدى ووصيته معا، إذا فهذا الذى أمامى هو أخى ”ممتاز”
قلت له :
- دنيا … لا تترك الراكب راكبا، . ولا السائر سائرا
قال :
أى والله عندك حق . . ناس بأولها وناس بآخر
قلت فى نفسى سندخل مباراة فى الحكمة، ثم التفت إليه قائلا فى لهفة حقيقية:
- وكيف حال الوالدة ؟
قال :
- ألم تعلم ؟ .ماتت فى الحج ولم ننشر نعيها حسب وصيتها، وظننا أن هذا الأمر لا يعنيك فأن لم تحضر جنازة الوالد.
قلت :
- خشيت إن حضرت أن أنفذ وصيته
قال فى استغراب :
- أية وصية ؟ هو لم يترك وصية، ولم يترك ما يوصى به.
- هى وصية خاصة بى أنا وحدى … لا عليك منها.
- ولكنا انتظرناك.
- حتى اسمى تغير ولم يعد يعنيك أمرى فى شئ، ألا تعرف بأنهم ينادونى هنا “بالوحش”
- قالوا ذلك وأنكرته؛ حسبت أنه اسم المصنع
- أنا المصنع
- ولكنك مازلت واحدا من العائلة .
وقال عقلى “انتبه” قلت فى تراخ لأقطع سبيل المودة غير المأمون
- ..أيام !
قال:
- الأحياء يتلاقون
قلت فى نفسى رجعنا إلى الحكمة والمودة الزائفة، ماذا يريد ابن المرحوم، عجل وإلا بصقت عليك أنت، ولكنه أكمل:
- وكيف حال الأولاد ؟
- أنا ليس لى أولاد.
- لماذا ؟ …لا بد من ذكرى.
- ذكرى الذين راحوا لا تشجعنى .
“لو علم المرحوم كيف أذكره للعن تلك الليلة المشئومة التى أنا نتاجها”
- تعيش وحيدا؟
- حياتى مليئة بكل ما أريد
- ولا زوجة ؟
- اللبن يباع فى زجاجات فما لزوم أن تقتنى البقرة … هيا حدثنى عما تريد، أين أنت ؟ وما الذى جاء بك
- أبدا، تخرجت من كلية الهندسة بتقدير ممتاز، ولم تكن هناك فى ذلك العام وظيفة معيد، وأنا الآن رئيس قسم الإنشاءات بوزارة الرى , عندى ست بنات تخرجت كبراهن من الجامعة.
قلت :
- ثم ماذا ؟
قال:
- أبدا، ولكنى تذكرتك، والأيام تمر، “والدنيا تلاهى”، ومرة سأل البنات عن أقاربهن بمناسة سعيدة، قلت أزورك
قال عقلى :
“هات ما عندك . . هاك هو المطلوب إثباتة يا باشمهندس، وسوف ترى”
- ربنا يتمم بخير.
- بركتك معنا.
- كله على الله
- هم بناتك طبعاً، العم والد.
قال عقلى “يا صلاة النبى” ثم خطرت فى بالى فكرة وحشية، وسال لعابى على الفريسة، قلت:
- أنا تحت أمرك.
- هذا ما قلته لنفسى، الدم عمره ما يصبح ماء.
- نحن إخوة.
- “هذا ما توقعت”
- ولكن لى بعض الاستفسارات، هل تجيبنى عنها أولا.
- بكل تأكيد .. أنت أخ عزيز.
- ما هو معامل تمدد الحديد ؟
- ماذا ؟
- ومتى مات الاسكندر الأكبر ؟
- ما الذى جرى ؟ أنت تمزح بلا شك
- لقد وعدت أن تجيب.
- ولكن هذه معلومات قديمة.
- هى التى أدخلتك كلية الهندسة.
- ولكن لم يعد لها لزوم.
- فما الذى تبقى فى عقلك مما له لزوم ؟
-أنا رئيس الانشاءات، فئة ثانية.
- ولكنك تعلمت أكداسا من الكتب حتى وصلت.
- ولكن لم يعد لى بها حاجة.
- أما أنا، فأنا لا أتعلم إلا ما ينفعنى، وكل حرف تعلمته مازلت أعيه.
- أنت رجل أعمال، والعمل الحر يخلق الرجال.
- يوجد عمل حر، ولا يوجد إنسان حر، أنا عبد القرش، وأنت عبد فقط.
وضحك ضحكة جوفاء.
- أصبحت فيلسوفاً.
- لا أفهم هذه الكلمة.
- يعنى .. أنت ملئ بالحكمة .. و.. والكرم.
- أنت تأمر
- بنتك ستتزوج بعد شهور .. ونحن نعتمد على عطفك وكرمك.
- يعنى ؟
- أنا موظف ولى ست بنات، وأنت أدرى , لا يغرك مظهرى.
- أنا تحت أمرك.
. . .
وبعد ستة شهور
. . .
– أنت وحش ولست إنسانا
- لم أدع غير ذلك.
- لهذه الدرجة تبلغ بك القسوة ؟
- اسمى الجديد
- أطمعت البنت وخطيبها.
- أنا حر.
- وانتهى كل شئ بسببك.
- لست السبب وحدى.
- أنت وعدت.
– إذا .. لماذا وعدت.
- إسأل نفسك أولا لماذا جئت.
- أنت لا تحس.
- هذه ميزة على كل حال.
- سوف ينتقم الله منك.
- ذاكر دروسك جيدا.
. . .
ولكن يا سياة الطبيب ألا يكفى هذا، هل أستمر ؟، ألم تتقزز نفسك بعد ؟ ولكنى مريض ومن حقى أن أتكلم ومن حقك أن تتقزز، فلتسمع كيف حطمت الأصنام، قبل أن يتحطم الصنم الأكبر
قالوا لى أن ”واحد بيه” على الباب يريد مقابلتى ويقولو أنه أقرب الناس إلى . . وضحكت ملء عقلى . . الخ.
- إذاً فأنت ”عبد القوى”.
- ما أبعد الأيام.
- وأنا الوحش.
– هذه شهرتك ولكنى مازلت أراك أخى “وحيد”
- وحيد مات منذ عمر طويل.
- جئت أعاتبك.
- على العين والرأس.
- ماذا فعلت بممتاز ؟
- لى وجهة نظر.
- ماهى؟
- لم يعجبنى خطيب البنت، ولا يمكن أن يقتنع ممتاز برأيى , فأنت تعلم غروره بذكائه، لذلك صنعت ما صنعت حتى يفشل الزواج رحمة بالجميع.
- ولكن ما عيب الولد ؟
- ضابط مغرور.
- كان يحبها.
- لماذا تخلى عنها ؟
- أحس بالإهانة.
- ليس فى الحب كرامة.
- ولكنها تحبه.
- غبية مثل أبيها.
- وأنت ما شأنك؟
- كنت فى حالى هو الذى لجأ إلى.
- فتهدمها على الجميع.
- ليس من الشرف أن أكتم النصيحة.
- لم تكن مجرد نصيحة.
- من رأى منكم منكرا فليغيره بيده . . وقد فعلت.
- أى منكر ؟
- فتاة غبية، ابنة موظف محترم، تتزوج ضابطاً مغروراً . . ألا يكفى هذا المنكر
- ماذا تعنى ؟
- ما عليك. .. علمت أشياء “سرية” عن الخطيب لا أستطيع البوح بها.
- ولكن ممتاز يشنع عليك فى كل مكان.
- لا ينقصنى التشنيع، ولكنى أديت واجبى.
- ولكنه لن يكف عن التشنيع.
- مثل أبيه.
- الله يرحمه.
- ويبلل الطوبة التى تحت رأسه. .. هل تعرف كيف ؟
- ماذا تعنى ؟
- لا شئ … تذكرت الوصية.
- ماذا تعنى ؟
- شئ خاص … ما عليك . . كيف حالك أنت ؟
- مستشار بمجلس الدولة
- طول عمرك تحب الحق، وأخيراً أصبحت حامى القانون.
– آه لو تعلم.
- ماذا ؟
- إن حماية القانون أصعب من خرقه.
- ولكن التحايل عليه أسهل الأشياء.
- سمعتك التجارية ممتازة.
- علمتنى الحياة.
- أولادى صغار.
- عرفت ذلك من ”ممتاز”.
- لا أريد أن أخطئ خطأه وأفاجأ بمطالبهم كبارا.
- أنا تحت أمرك
- عندى قرشين أريد أن أستغلهم، أريد مشورتك.
- ولكن لى بعض الاستفسارات، ربما تبدو غريبة، فهل تجيب عليها أولا ؟
- بكل تأكيد .. أنت أخ عزيز.
- كم حكما أصدرته يخالف ضميرك ؟
- نعم ؟
- وكيف تميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود ؟
- أنت تمزح طبعاً.
- وهل تصدق كل من يحلف فى المحكمة ؟
- البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
- وهل النوم على الجانب الأيمن سنه مؤكدة ؟
- ما الذى جرى ؟ دع هذا المزاح
- فعلا، لنرجع إلى الموضوع . . أنا آسف.
- أريد أن أستغل “تاكسى”.
- إذاً أنا مستشار المستشار !!!
- ملاحظة فى محلها.
- أنت تأمر.
- هل لديك فكرة أفضل ؟
- تفكيرك عين العقل.
- باسم زوجتى.
- أكثر أماناً، … كم معك ؟
- حوالى ألفين
- يكفى عربة مرسيدس قديمة.
- يقولون إثنين نصر أفضل.
- واحدة جيدة هى ثروة متنقلة.
- والتأمين الشامل ؟
- لا داعى . . شركات التأمين تتاجر بخوف الناس.
- والسائق المضمون.
- خل هذا . . على أنا.
- نعم الأخ . . . وما أغبى “ممتاز” فعلا .
. . .
وبعد ستة شهور
. . .
– أنت السبب.
- كل شئ قضاء وقدر.
- ولكن السائق سليم.
- من لطف الله.
- هو يعمل عندك صباحاً بالمصنع.
- كان يحاول أن يزيد دخله … وأنت ارتضيت أن يركب التاكسى مساء.
- لو كنت أمنت عليها كنت أخذت ثمنها.
- قسمة ونصيب.
- أنت ”وحش” فعلا.
- لا تسئ الظن.
- ليس عندى ما يثبت سوء نيتك.
- هذا عيب القانون الذى تطبقة.
-تنتقم منا . . . كان والدى على حق.
- يرحمة الله.
-كان ينبغى أن أتعظ من ”ممتاز”.
- ممتاز ذكى، وأنت صاحب حق، لكن الحياه صعبة.
- منك لله
– لى حساب خاص معه.
وهكذا يا سيادة الطبيب حطمت كل من يقترب منى لأشعر بالقوة وكان كل ذلك يزيد إيمانى بأن القرش هو السيد فعلا، رأيت تدهور التلاميذ النجباء فى خضم الحياة، ورأيت حيرتهم وارتباكهم أمام دراهم يقطتطعونها من قوتهم ثم لا يعرفون كيف يتصرفون فيها، العلم لا ينفعهم لأنه كان جواز مرور للوظيفة ثم راح كل إلى حال سبيله، والمبائ لا تصونهم لأنها سريعة التبخر حسب درجة الحرارة، وأفواه الأولاد ومتطلبات العصر تحنى ظهورهم، وشئ فى لا يرحمهم، والذى يضحك أخيرا يضحك كثيرا، ولكنى لم أعرف الضحك أبداً، ربما كشرت عن أنيابى ولكنى لا أضحك، كنت أنتشى بلذة النصر، ولكنى لا أسعد.
قلت له :
-إذاً ماذا فعلت بكل هذا الانتصار والتحطيم ؟
قال :
- لم يبق أمامى شئ أحطمه، والمكسب لم يعد عندى مشكلة، ولكنى لم أفرط فى قرش واحد، ولم أسمح للناس أن يقتربوا منى أبدا، أنكرونى فأنكرتهم ولكنى كنت حاذقا فى استعمالهم.
قلت :
- والعواطف ؟
- قال :
- أية عواطف ؟ أنا لا أعرف معنى حقيقياً لهذا اللفظ رغم كثير استعمالى له، فإن كنت تقصد الجنس فقد اشتريت كل الأصناف، وربما كانت حكايتى معه هى التى جاءت بى إليك.
. . .
كنت أشتريهن من كل الأصناف، وكانت متعتى الحقيقية أن أستولى على عواطفهن بشبابى الذى كان يستمد قوته من قرشى الذى هو أنا، لا تتصور أنى اشتريتهن من سوق البغاء، إذ أن ممكلتى امتدت للبيوت والنوادى وكل مكان، كان يرضينى تماما أن أشعر أنى مرغوب فى , واستعملت كل الحيل والألاعيب لأثبت أنى ناحج حتى فى هذا المجال، ونجحت هنا أيضاً فى أن أحطم قيما كثيرة، نجحت ونجحت . . ولكن لم تنجح امرأة أبدا فى أن تدخل قلبى، كنت أستولى إليهن استيلاء حتى تنمحى ذواتهن فى , وبعد ذلك أمارس اللذة الذاتية .
ومرت السنون.
وأخذ الحيوان فى يتكاسل، واضطررت أن أكمل هذا النقص بقروشى , فأنا وقرشى واحد، ونفعت اللعبة، ولكن بدأت المرارة تغص حلقى كل مرة .
وبدأ التساؤل الخبيث يثور فى عقلى : ثم ماذا ؟ وكنت أطرد السؤال قبل أن يظهر فى دائرة الشعور، ولكنى كنت أحس به يلف فى قاع جمجمتى ينثر الشك فى كل مكان، وعلى كل شئ.
ثم ماذا ؟
وأخذت هرمونات ومنشطات ومنبهات، ولكنى كنت كحمار يجر عربة محملة بصابون الوحش، يحاول أن يصعد بها من تحت نفق شبرا، وتلوح له زميله تتبختر فى النور من الناحية الأخرى , أعذرنى يا سيادة الطبيب ليس فى الطب عيب .
. . .
قالت وقد تراخت أو صور لى خيالى أنها تراخت.
- لا تبتئس مازلت سيد الرجال.
- هل أنت سعيدة معى ؟
- طبعا
- وهل أرضيك ؟
- أنت سيد العارفين.
- أصبحت أشك فى نفسى، واختلطت على الأمور.
- هيا ولا تضع وقتك واطرد هذه الهواجس.
- هل أنت متعجلة.
- اخاف عليك أن تنتهى قبل أن تبدأ.
– لا تذكرينى.
- آسفه . . ولكن قلبى عليك.
- وأنت ؟
- اللمسة منك تكفينى. … أنت مفعولك أكيد .
وحين اهتزت وتراخت، تصورت أنى أرضيتها . . ولكنى لمحت يدها فى نفس لحظة التراخى تعبث تحت الوسادة تعد رزمة النقود التى أتركها فى خفاء، وانهرت.
إذا فهى تتصنع.
لم أنبس
ولم يستيقظ ذلك الحيوان ثانية أبداً رغم محاولاتى المرهقة.
. . .
ثم جئت إليك.
الدنيا سوداء ولا يوجد معنى لأى شئ، فقد القرش بريقه، وهمد الحيوان بلا رجاء فيه، وتحطمت كل الأصنام وراحت لذة التحدى , وأخذ مصباح الحياة يذبل شيئا فشيئاً، كنت أنتظر نهاية الجرى المستمر لأتفرغ للمتعة الخالصة وأجد الأمان، ولكن النهاية جاءت قبل أن أشعر بالأمان لحظة، وتذكرت قول أشرف ”منك لله..”
ولو كان الله أذن فى أمرى وأنا فى عنفوانى لمت مثال الناجحين المهرة. ولكن أن تموت قوتك الزائفة . قبل أن تموت خلاياك فهذا هو قمة الألم والضياع، لا غد لى . . . ولا أمل فى … وذكريات الأمس أصبحت مصدر للعذاب لامجالا للفخر.
. . .
قلت له :
- ولكنك أحسن.
قال:
- عقاقيرك العظيمة تجعلنى أنام، ومعدتى تتقبل الطعام، ولكن الأمل راح إلى غير رجعة.
قلت :
- الأمل فى ماذا ؟
قال :
- الأمل فى .. فى .. نعم فى ماذا ؟ القرش وعندى منه الكثير، والحيوان فى مات فلا نساء، وأنا شخصياً لا أريد له صحوة، فكفى امتهانا وذلا، والناس عمرهم ما كانو فى حياتى , ولكن .. عندك ! هناك ما يشغلنى حتى أموت : التحف والفازات فى منزلى، أنا أعيش فى متحف نادر المثال، وأملى أن يحوى أندر ما من العالم.
- لماذا ؟
-لأصبح فريدا فى مقتنياتى.
- ولكنك مرضت وسط تحفك وفازاتك.
- وتربية نبات الصبار .. هى هواية نادرة تميزنى.
- ولكنك تمارسها من سنوات.
- ماذا تعنى؟
- أين الأمل الحقيقى الذى يمنع المرض.
- يبدو أنك أنت الطبيب الذى فقدت الأمل.
- مهنتى تقول أنه ينبغى على ألا أفقد الأمل.
- ولكن الذى ينبغى شئ، والواقع شئ آخر.
- إذا فقدت الأمل . . فماذا يتبقى لدى.
-إذا ماذا ؟
- عمالك مازالو عندك والأطفال يولدون كل يوم.
- وبعد ؟
- أنت ذاهب لا محالة.
- أفصح . . لم أعد أستطيع الانتظار.
- يكفيك حق المنفعة، بل وجزء منه أكثر من الكفاية.
- أترك مصنعى للغوغاء ؟
- بعد عمر طويل.
- الانتحار أفضل من آرائك.
- مازال فى العمر بقية.
- ماذا تريد.
- تبدأ من سنه الفشل المزعوم.
– يعنى.
– تعمل مؤسسة للذين لا يدخلون الجامعة يتلقون فيها الحب ويتعلمون مهنة للحياة.
- تنصحنى بالبر والتقوى.
- أفضل من المرض.
- المرض أفضل . . وعقاقيرك تكفى.
- هى مرحلة .. ثم لا تفيد.
- تهددنى.
- أقول ما أعلم.
- هذه انكسة لا جدال.
- هل عندك بديل ؟
- دعنى.
- حرام عليك أن تستمر فى الطريق الذى أشقاك.
- ولكنه أسعدنى.
- صحيح ؟
- أرضانى.
– صحيح ؟
- أنجحنى
- ثم ماذا ؟
- ثم جئت إليك
- فهو المرض
- فليكن.
- هل تفكر ثانية.
- أنت خبيث .. تريد أن تقلب أحوالى رأسا على عقب.
- ألم تنقلب بعد ؟
- لا تحيى فى الأمل حيث لا أمل.
- الأمل موجود باستمرار.
-انتهى العمر.
- مازال الأولاد يولدون.
- ليس لدى أطفال.
- كلهم أطفال.
- كفى.
– إلى اللقاء.
. . .
قال الفتى :
- ما أصعب الألم فى آخر العمر، وما أبعد الأمل.
قال الحكيم :
- ليس هناك حل آخر . . إلا التأجيل، ثم إما أن يلحقه الموت أؤ يعاوده المرض.
قال الفتى :
- ولكن هل المرض حتمى لصاحبنا حتى لو كان عنده زوجة وأولاد؟
قال الحكيم :
- قد يكون الزواج صحة وغناء، وقد يكون صورة أخرى للضياع.
قال الفتى :
أتنوى أن تهز ذلك الرباط المقدس أيضا.
قال الحكيم :
- بل أحاول أن أجعله مقدسا فعلا.
قال الفتى :
- ولكن كيف يكون صورة للضياع ؟
قال الحكيم :
- مثل الرجل الذى يستعمل زوجته لتكمل نقصه حتى يضعف، فتركب المحمل بقيه العمر، كل بدوره.
قال الفتى :
- وكيف كان ذلك ؟
الركوب بالدور
قال الحكيم :
- أكاد أقول لك كفى . لا أريد أن أفجع فى الحب ونحن نقترب من الزواج، أنا شاب فى مقتبل عمرى، أريد أن أستمتع بالحب حتى وأنا مغمض العينين .
قال الحكيم :
- ولكن حديثنا كله حب، الحب هو طاقة التطور، هو أغنية الحياة فمم تخاف ؟
قال الفتى :
– حكمتك التى تهز كل الأشياء جعلتنى أتوجس منك، فما لمست شيئا إلا تحطيم .
قال الحكيم :
- لو كان أصيلا ما تحطم، إنما تسقط القشرة البالية التى ستقع يوما لا محالة. أما الجوهر فهو ثابت وأصيل ومتجدد أيضا، فلا تندم على ما يقع من مجرد هزة، فإنما نحن نعجل بما هو حتمى … ليس إلا.
قال الفتى :
- كلامك مقنع، ولكنى مازلت أتمنى ألا نسكب الماء البارد على قلوب غضة تنبض بالدفء مع كل همسه غرام، لا أريد أن تدمى الأصابع الرقيقة التى تتلامس فى لهفة حانية، بأشواك الحقيقة، لا أريد أن أعرف . . أنا شاب مثل الشباب فدعنى أفتح عينا وأغمض أخرى .
قال الحكيم :
- أنت الذى سألت وألححت ومشيت معظم الطريق، وما أنا إلا مرافقك، المستقبل مستقبلك، والاختيار اختيارك .
قال الفتى :
ألا يكفى ما قطعنا من شوط، لهثت فيه وراءك وكادت عيناى تغشيان من شدة الضوء .
قال الحكيم :
- المسيرة لا تنتهى إلا بالوصول إلى الهدف، وعبادة صنم واحد مثل عبادة ألف صنم.
قال الفتى :
- ليس لى إذاً خيار
قال الحكيم :
- الرجوع دائما محتمل، ولكن كيف تنسى ؟
قال الفتى :
وحتى لو، أغمضت عينى , فالمنظر فى خاطرى يملؤ وجدانى ولا يبرح عقلى، هات ما عندك، وليسقط الخوف والتردد . . ولكن رفقا بالحب .
قال الحكيم :
- يا بنى . لقد امتهن هذا اللفظ، مثل كثير من الألفاظ، حتى فقد معناه، ونحن لا نحطمه، وإنما نعيد له معناه الأصيل .
قال الفتى :
هاتها ولا تتردد، فقد اخترت الطريق حتى النهاية .
. . .
قال الحكيم :
- جاءتنى تشكو مرضا عاديا يعالج عادة بالأسبرين والشاى، جاءتنى تشكو الصداع
قال الفتى :
- الصداع ؟! حتى الصداع . يهدد الكيان القائم وينذر بالزلزال
قال الحكيم :
- يقولون أن الصداع ألم بالرأس، ويضروبون ويطرحون ويقسمون، ويربطون الظواهر ببعضها ويستنتجون، وإذا جاء مريض بعد ذلك يصف وصفا لم يسمعوا عنه، قالوا مبالغ يتخيل، مع أنك لو دققت النظر فى هذا الألم الذى بالدماغ عند كل مريض لوجدت أن كل فرد يختلف عن الآخر، ولوجدت أن أجزاء الرأس التى تتألم تتنوع بتنوع المحتوى , بل إن مسار الألم يختلف، فضلا عن نوعه، وقد وصفوا ذلك كله فيما يتعلق بالتهاب الجيوب الأنفية وارتفاع ضغط العين، ولكنهم لم ينتبهوا بالقدر الكافى لالتهاب الجيوب الفكرية وزيادة ضغط المجتمع، مع أن القصة كلها فى الدماغ، والثورة فى خلايا المخ، وصراع التيارات المتضاربة تسرى كالكهرباء أو هى الكهرباء فى دوائر خاصة: سوف تتحدد لا محالة .
قال الفتى :
- تريد أن تضع كل هذه الحكمة فى سجن الخلية العضوية .. فى المخ ؟
قال الحكيم :
- أنا لا أضع شيئا ولا أنزع شيئا، وإنما الحياة بدأت فى الخلية، وكل ما ليس فى خلية ليس فيه حياة، ولا يمكن أن ننكر على الإنسان بعد مئات الملايين من السنين حق خلاياه فى أن تكون مصدر الحياة لمجرد جهلنا بالتفاصيل، وكما تعلم فإن قمة تطور الخلايا هى مخ الإنسان .
قال الفتى :
- كنت أحسب أن وضع الحكمة فى الخلايا جزء من بدعة الميكنة والتكنولوجيا
قال الحكيم :
- بل هو تسخير للميكنة والتكنولوجيا لخدمة الحياة.
قال الفتى :
- والحب أيضا … فى الخلايا إياها ؟
قال الحكيم :
- هل نسيت أن الحب هو الحياة؟
قال الفتى :
- لم أنس، ولكن الكلام النظرى يحدث لى صدعا، فلنرجع إلى صداع المرأة التى جاءتك تشكو، فقد اشتقت لمعرفة الحكاية.
. . .
قال الحكيم :
جاءتنى تشكو الصداع
قالت :
– ليس صداعاً مثل الصداع، ولكنه شئ صرخ فى مؤخرة رأسى وجذبنى فى اتجاه قفاى حتى كاد يطرحنى على ظهرى، هكذا خيل إلى ثم أحسست ببرودة تسرى فى نفس المكان من مؤخرة الرأس ثم سرت فى جسمى كله، وتغيرت بعد ذلك الأشياء.
– كيف ؟
- لست أدرى كيف، ولكن الأمور اختلفت .. هكذا، ولا أستطيع أن أصف لك من ذلك، المهم خلصنى من الصداع .. ثم .. ربما تعدلت الأمور المقلوبة، حدث شئ لا أدرية بظهور الصداع، ولربما إذا اذهب الصداع ذهب الشئ، وهناك سأقول لك شكراً، وبالتالى لا أرهق الألفاظ بمعان لا أعرف كيف أصفها، ولا أرهقك بأحداث لن تفهمها، هات مهدئاتك وأقراصك فقد ملأت أمعائى بالأسبرين والنوفالجين .. ولا فائدة.
- الصداع مظهر لما حدث . . . فماذا حدث؟
– أنا لا أعرف ماذا حدث … ولست على استعداد للكلام فيما حدث لأنه لم يحدث شيئ . . . عندى صداع فلا تزدنى صداعا بأسئلتك، لقد ترددت مائة مرة قبل أن أحضر إليك، ويبدو أن ما قالوه عنك حقيقة فعلا، يبدو أنك تحاول أن تقلب رأسى بالبحث.
عن أوهام فى رأسك ليس لها أساس إلا عند شيخكم المعقد، حياتى كلها ”عال”، لم أعشق والدى ولم أشعر بالغيرة من أمى , وتزوجت عن حب وأقوم بواجباتى على خير وجه، وأولادى متفوقون بالمدارس وكل شئ على ما يرام .
- إذاً لماذا جاء الصداع … هكذا فجأة ؟ ولم يذهب
- يا سبحان الله ! أنا أسالك أم أنت تسألنى
- أنا لا أسأل … ربما أتساءل
- إما أن تعطينى عقارا من عقاقيرك وإما أن أنصرف
- أعرف بعض التفاصيل حتى أحدد العقار المناسب.
-هكذا ؟ نعم . .
- هل الصداع موجود بنفس الشدة طول الوقت ؟
- كان الألم فى أول الأمر مثل سيخ بارد رشق فى رأسى من الخلف، وتغير الأمر بعد ذلك، فهو شعور مكتوم تغير ; كأن شيئاً يمشى فى رأسى , كأنه الهمس، كأنه التنميل كأنه اللسع، كأنه ثقل بالداخل يتحرك فى حيز ضيق، كأن شيئاً يسرى فى غير اتجاه كأنى لست أنا، كأنى عندى صداعاً.
ليس كالصداع
- والنوم ؟
- مرة ثانية تستدرجنى … وسأجيب عن النوم أما الأحلام فهذا سرى الخاص، جئت أعالج بالعقاقير فالنوم من حقك والأحلام خاصة بى، فليكن . .، أنا أنام، لا ليس نوما هذا الذى يحدث، ليس مثل زمان، أنا أموت، أعنى أنه نوم كالموت، أنا مستيقظة.
أحس أن القوة فى مؤخرة رأسى تجذبنى إلى السرير من الخلف، وحين أنام أذهب إلى عالم سحيق لا قرار له، وحين أستيقظ أقوم وقد حملت على صدرى الهرم الأكبر، ولكن هل هذا استيقاظ ؟
- إذاً ماذا ؟
- لست أدرى . . اختلط النوم باليقظة، وكأن النوم موت واليقظة نوم، أما اليقظة الأخرى , أعنى الحياة فهى . . . أين هى ؟ هل أنا حية .. أعوذ بالله، يكفى هذا . . ربما هو الصداع . . . ربما شملنى حتى لم أعد أشعر بالأشياء بنفس الدقة، هذا يكفى وأعطنى عقاقيرك … أو أنصرف فورا.
. . .
وأخذت العقاقير العظيمة .
. . .
- كيف الحال ؟
- الحمد لله.
- بمعنى ؟
- يعنى لا بأس.
- أريد أن أعرف . . . حتى نحدد الخطوة التالية
- مازلت أخاف الخطوة التالية . . . كل شئ توقف ولا أريده أن يتحرك .
- لا أقصد . . وإنما أعنى نزيد العقاقير أو ننقصها . . أو نغيرها مثلا .
- وماذا فعلت العقاقير ؟
- وهذا هو سؤالى.
- الصداع أحسن.
- وبقية الأعراض ؟
- ليس للأعراض بقية.
- إذا نستمر.
- إذاً ماذا ؟ ولكن هذه هى المشكلة . . لم أعد أستطيع الاستمرار.
- نستمر على العقاقير.
- آه . . على العقاقير ربما . . ولكن الحياة ؟
- مالها ؟
- كيف تستمر هكذا.
- مادام الصداع أحسن.
- نعم ؟ تتحدث مثلما كنت أتحدث أنا فى المرة السابقة.
- أكلمك بلغتك.
- وماذا فعلت لغتى.
- أنت تريدين هذا.
- عليك أنت أن ترفضه.
- ما فائدة رفضنى أنا.
- تساعدنى على نفسى.
- بالعافية؟
- نعم .
- تثقى بى أولا.
- حصل . . . أول كاد.
- ثم نعرف ماذا جرى .. . . وماذا يجرى
- قد أعرف ماذا جرى . . وعليك أنت أن تقول لى ماذا يجرى
– ماذا يجرى ؟
. . .
– أصبحت حياتى بين النوم والموت، أصحو وكأنى أنام، وأنام وكأنى أموت، اختلط النوم بالموت واختفت الحياة.
- ماذا حدث . . . ذلك اليوم ؟
- لم يحدث ذلك . . ذلك اليوم . . ولكنها أيام وليال وشهور سابقة، أما ذلك اليوم فهو يوم انهيار البناء المتصدع، بدأ التصدع من سنوات : قل ثلاثة أو خمسة، لم تكن الرؤية واضحة ثم انهار كل شئ.
- . . . أى شئ ؟
- انهار شئ ما كان قائما . . صورة أو تركيبة أؤ بناء سقط .
فجأة . . حدث ذلك إثر حادث عادى . . التواء فى مفصل القددم اضطر زوجى أن يضع رجله فى الجبس ثلاثة أسابيع
– ثلاثة أسابيع فقط ولكنها كانت كافية، كان البناء متصدعاً بما فيه الكفاية
- لا أكاد أتتبعك . . عم تتحدثين ؟
- عن زوجى
- ماله ؟
- وضع قدمه فى الجبس
- إذاً ماذا؟
- رأيته من الداخل
- ثم ماذا؟
- فجعت . . فى . .
- فى ماذا . . . لماذا ؟
- فى كل ما كان . . بدا ضعيفا حتى لم أعرفه، كان العجز والاستجداء معاً، أثار شفقتى فلم أعرفه، لا ليس هو، ولست أنا، دارت رأسى ولم أصدق، ضباب كثيف، ثم أفكار تجرى وراء بعضها، وعلامات استفهام بلا سؤال، كأن عينا انفجرت من تحت الأرض تحمل ألفاظاً وحروفاً ومشاعر من كل الأنواع . . . لا أكاد أميزها، يومين كاملين كنت كالمسحورة أو التائهة، كنت أحاول أن أستجمع غبائى كله حتى لا أفهم، كنت أربط رأسى حتى أغطى عينى ربما حجبت عنها الرؤية … ثم … ثم اخترق رأسى ذلك السيخ البارد . وتغير طعم الأشياء، وتحدد الصداع، وجئت لك .
-ولكن كيف بدأت الحكاية
-الظاهر أنه لا بد أن أحكى لك من الأول . . حكايتى أنا… وليس فقط حكاية الصداع
. . .
– أنت أحسن الطالبات لدى
- شكراً يا أستاذ . . هذا بفضلك
- وأحلاهن .
- نعم ؟
- كم عمرك ؟
- سبعة عشر . . وأسير فى الثامنة عشر
- وأنا تخطيت الثلاثين
- نعم ؟ نعم يا أستاذ ؟
- لا شئ . . هل . . ؟
- هل ماذا يا أستاذ ؟
- هل يمكن أن أقابل والدك ؟
- طبعا يا أستاذ . . طبعا
- أنت أحلى البنات
- وأنت أعظم الرجال
- لا أصدق كل الذى حدث بهذه السرعة
- أنا فى حلم . . لا أريد أن أفيق منه
- سأصنعك على عينى . . سأشكلك كما أريد
- أنا عجينة بين يديك . . اصنعنى كما تشاء
- أنت أجمل ما اقتنيت
- وأنا سعيدة بك
- أنت سبب نجاحى فى الماجستير
- أنا جارية تحت أقدامك
- أنت نور حياتى
- وأنت شمس الوجود كله
- ما أحلى الحب
- اسمك لا يحيط باصبعى فقط ولكنه يلف كيانى كله
- أنت جزء من وجودى
- لقد ذبت فيك تماما
- أصبحنا واحد ا
- وسنجعل من بيتنا جنة
- أنت ملكة الحوار
- أكاد لا أصدق
- حقيقة كالحلم
. . .
– بيت رائع . . وحب لا ينتهى
- أنا سعيدة
- وأنا أسعد
- يقولون أن زواج الحب لا يدوم
- وحبنا يزيد كل يوم اشتعالا
- ليس فى الدنيا سوانا
- ولا نريد أحدا معنا
- أنا أنت . . وأنت أنا
- لا أشعر بأحد فى العالم سواك
- ولا يخطر على بالى غيرك
-أنت الأول والآخر
- وأنت معى إلى الأبد
- انتهيت من الدكتوراه بفضلك
- ما أنا إلا صنع يديك
- سأعين فى الجامعة عن قريب
- أقل مما تستحق
– أنت ملكى وحدى
- أنت كل شئ فى الوجود
- ليس فى الدنيا أسعد منا
- أبدا
. . .
– أنا خائف
- من الحسد ؟
-من فرط السعادة
- لا تدع نفسك للظنون
- نكاد لا نختلف
- نحن روح واحدة فى جسدين
- بدأت أخاف الأيام
- أنا تحت قدميك
- أنت تزدادين جمالا . . . وأنا أزداد انشغالا .
- مجرد وجودك يكفينى
- أخشى عليك من الفراغ
أنت تملأ حياتى
- إلى متى ؟
- إلى آخر العمر
- آخر العمر عندى غيره عندك
- ماذا يدور فى رأسك
- فارق السن يزعجنى
– ولكنك أبى وأمى وحياتى وأملى
- إلى متى ؟
-يجعل الله يومى قبل يومك، أنت ترعبنى , ماذا يدور فى رأسك ؟
- لا شئ . . هل لى فى قدح قهوة يديك الجميلتين
- سمعا وطاعة .
. . .
– هل نسيت فاتورة التليفون ؟ قطعوا الحرارة اليوم
- أحسن، أنا لم أدفعها عامدا
- لماذا ؟
- لست صاحب أعمال . . ولا طبيب
- ولكن التليفون يصلنا بالعالم الخارجى
- نحن لا نحتاج للعالم الخارجى
- كيف ؟
- ألا يكفيك حبى
– يكفينى وزيادة
- فلتذهب تلك الآلة المزعجة إلى الجحيم
- أمرك
- مازلت تحبينى ؟
- مادام قلبى ينبض . . .
- هل الإفطار جاهز
- سمعا وطاعة
. . .
– . . . . . .. .
- سمعا وطاعة
. . .
- . . .
- سمعا وطاعة
. . .
هكذا كنا . . .
هو يأمر وأنا أطيع، هو يفكر … وأنا أناقش فكرة الذى هو فكرى، هو يضطرب فلا أنام، هو يقرر وأنا أنفذ، هو كل شئ وأنا لا شئ ولكنى كل شئ به، هو الأول والآخر، هو نبضى وجسمى وكيانى وأملى وحياتى وكل شئ فى هذه الدنيا، هو هو هو; وأنا هو هو .
هذا بعض ما كان
وقد كنت سعيدة بكل ما كان، أعنى كان سعيدا بما كان . . وبما أنه سعيد فأنا سعيدة، وإذا خاف فأنا خائفة، وإذا جاع فأنا جائعة، ليس هناك مشاكل، وكيف يمكن أن توجد، كل شئ حب فى حب وليس فى العالم سوانا .
- كل شئ ماذا؟
– حب وعشق وهيام، خلاياى كلها تتجمع فى كفه يلمسنى، جسدى يتلاشى فيه، وعقلى ووجدانى وكل شئ فى ينمحى.
- يحدث ذلك طبعا أثناء ممارسة الحب . . فقط
- فقط ؟ أثناء محله . . فى كل الأثناء
- . . ثم ؟
- ثم ؟ ! . . ”وياليت” ثم لم تأت أبداً، ولكن يبدو أن هناك دائما ثم . . ثم . . .
. . .
– الناس كلاب
- أنا لا أعرفهم
-الناس يأكلون بعضهم
– الجامعة مليئة بالمشاكل ؟
- الجامعة وغير الجامعة
- ولكنك قادر على كل شئ
- الشباب أصبح وقحاً
- كنت شابا وتعرف نزعاتهم
- كنت ماذا ؟
- كنت شابا
- والآن ؟
- – أت دائما سيد الرجال
- لم أعد شابا ؟
- أنت شباب على طول
- ولكنك لم تقولى ذلك فى أول الأمر
- أهون عليك
- تجرحينى؟
- أنا خادمتك . . يقطع الله لسانى
- ”هذا” ما علمت حسابه
- ما ”هذا” ؟
- الطلبة فى الشقة المقابلة
- مالهم ؟
- سفلة
- فى منتهى الوقاحة
- كيف علمت ؟
- أنت تقول وأنا أصدق عليك
- لا بد أنهم أظهروا وقاحتهم معك، ولم تخبرنى
- أنا لا أعرفهم
- إذاً كيف تصفيهم بأنهم فى منتهى الوقاحة
- أنت الذى قلت أنهم سفلة . . فلا بد أنهم فى منتهى الوقاحة
- سنقفل الشباك بالمسامير
- خيراً تفعل . . ولكن لماذا ؟
- يبعدون وقاحتهم عنا
- فى ستين داهية
- موافقتك هذه تهزنى
- ولكنى طول عمرى أوافقك
- ولكن هذا أمر آخر . .
- كل كلامك أوامر
- أنا محتار
- لا تشغل بالك
- هاتى المسامير والقادوم
- سمعا وطاعة
. . .
وحتى هذه اللحظة لم أكن أتصور أن فى الأمر شيئاً، كان قويا واثقا، ولكن . . حين بدأ يلين ويتراجع بدأت أنا أهتز، كان من المفروض أن أرحب بهذا التغيير وأرتاح له، ولكن الذى حدث هو العكس، كنت قد تعودت على التحديد والأوامر والوضوح، وحين أصبحت الأمور أحسن، وحاول أن يشعرنى بنفسى , تهت فى مجاهل لا أعرف أولها من آخرها، تغيرت لهجته، وكان ينبغى أن يبدو ذلك طيبا للغاية، ولكن مع ظهور هذا الشئ الطيب بدأت أسمع صوت التشقق والتصدع .
قال لى فى يوم ما دون مناسبة :
- أحس هذه الأيام أنى احتاجك أكثر
- طول عمرى تحت أمرك
-ولكنى أحتاجك بشكل آخر . . ربما ليس تحت أمرى
- طول عمرى تحت أمرك
– ربما أحتاجك هذه الأيام فوق أمرى
- ماذا ؟ العين لا تعلو على الحاجب
- أحس بالوحدة
- ولكنى معك
- أنت لست معى، أنت فى
- لا أفهم
- أحس بحاجتى لإنسان بجوارى
- أنا بجوارك
- أنت جزء منى ولست بجوارى
- لا أفهم
- أحس بدبيب الضعف قادماً من بعيد
- أنت لا تضعف أبداً
- أنا إنسان
- لا . . ؟ !
- ماذا ؟
- أعنى لست ككل الناس
- كان ينبغى أن أصنعك بشكل آخر
- إصنعى كما تشاء . . أنا بين يديك
- لم أعد قادرا على صنع شئ . . يداى ترتعشان
ولم أفهم ما الذى جرى له، لم أفهم ماذا يريد، ولا ما الذى ينبغى على عمله ; لم أفهم ما الذى حدث، ربما حدث له شئ من أمراضكم، أصبحتهم كالوباء تنتشرون بالماء والهواء، توقظون الناس من غفوتهم، وتطمعونهم فى حياة أحسن، ثم ماذا، لم أفهم ما الذى جرى له، كان الناس قديما يعيشون مغمضى العينين ويموتون قبل أن يفيقوا من غفوتهم، ربما كان ذلك أفضل، ربما!، كان يستعملنى مثل الحذاء ورباط العنق والمعطف ولم أقل لا، وكان يأخذنى على صدره كالنيشان فى الحفلات والاجتماعات، ولم أقل لا، هو يحتاجنى فى أى وقت فيجدنى معلقة بجوار السرير، ولم أقل لا، لماذا يريد أن يكف عن استعمالى ويقلب حياتى رأساً على عقب، ماهذه اللهجة الغريبة التى بدأت تلون حديثنا، يحترمنى أكثر، ويقدرنى أكثر، أنا لم أتعود على ذلك، ماذا جرى له يا ترى، روحى وعينى وحياتى، ماذا جرى له ؟ ولكنى حتى ذلك الحين لم أتصور أن فى الأمر شيئا يستحق الجزع واتهمت فهمى , لم أفهم، فليكن كما يريد يكفى أن يفهم هو، حتى التوت قدمه، واضطر من باب الحيطة أن يضعها فى الجبس ثلاثة أسابيع، فقط، ولكنها كانت كافية .
. . .
– هكذا الأيام، ألم أقل لك أنى لم أعد أحتمل
- التواء بسيط سرعان ما تقوم منه بالسلامة
- وهذا الجبس، أصبحت عاجزا
- يبعد الله الشر عنك . . إجراء احتياطى
- أنت تستهينين بحالتى
-أنا أهون عليك
- كنت انتظرك قوية فى هذه الأحوال
- أنا قوية بك
- ومن غيرى ؟
- أنا لاشئ بدونك
- إذا . . فأنا أطلب المعونة من لا شئ
- حيرتنى . . ربنا يبقيك لى ألف عام
- ولكى أنا أتغير
- أنت كما أنت . . طول عمرك سيد الرجال
- أنت لا تعرفين ماذا تفعل الأيام بالرجال
- تزيدهم قوة ورجولة .. أنت مثل أول أيام الزواج
- ليست هذه هى المسألة . . أعنى قوة أخرى
- أى قوة أخرى
- كيف أفهمك … ليتك كنت قوية
- أنا قوية بك
- أريدك قوية “لى” . . لا “بى”
- لا أفهم
- ولن تفهمين . . ويحى . . ! كان ينبغى أن أعمل حساب كل ذلك، أنا وحيد . . ضعيف و وحيد
. . .
لهجة جديدة لم أتعود ها لأول وهلة أن أفهمها، وابتدأ الدوار فى رأسى , وانفتحت عين الذكريات من تحت الأرض، وانطلقت نافورة الأفكار والألفاظ والحروف، وحاولت أن أحول دون أن تضع تلك الحروف والألفاظ معنى، كان أى معنى يخيفنى، يهدد سكينتى، وفى نفس الوقت كنت أحس بصليل قوة غريب تريد أن تدمر كل شئ، وخفت، عشت أياما وليالى طويلة مرعبة، وكان يراودنى منظر نسيته طول عمرى وكأنى لم أعشه أبدا، منظر أبى وأمى . . ؟ ولا أريد أن أتذكره . . الآن، لا أريد، لا أريد، أفضل الصداع والمرض على أن أرى تلك الصورة . .
أنت الذى اضطررتنى للكلام . وعليك أنت أن تسكتنى، أين أقراصك التى تسد بها الأفواه ؟ أليس عندكم أقراص للكلام وأقراص ضد الكلام ؟ طلبت منك أن تتركنى فى حالى وإذا بك . . سامحك الله .
قلت لها :
- ولكنك أنت التى عجزت عن أن تستمرى كما كنت
- هو الذى أرادنى غير ذلك فلم أستطع
– وأنا أساعدك
- فتحت مخزن الألم
- ماذا كنت أستطيع أن أصنع
- كنت تتركنى أذهب فى ستين . . لا أريد . لا أريد
- ولكنه حصل
- منك لله . . يبدو أنى لا بد أن أحكى لك الحلم .
- أى حلم ؟
- الحلم الذى حاولت أن أهرب منه بالصداع والأقراص والنوم
- بداية المرض – , حلم بشع مفزع . . فلتسمعه إذن ولتشمئز كما تشاء أنت السبب . . وعليك أن تحتمل
-. . . . . .
. . .
رأيتنى فى قاعة الاحتفالات بالهلتون، وكان المدعوون تكاد تغطس رؤوسهم فى فجوات بالموائد، وكانت أقدامهم مربوطة تحت الموائد، كل الأقدام مربوطة مع كل الأقدام
. . .
ثم تغير المنظر…
المكان هو نفس المكان ولكنه أصبح كالسوق، سوق للحمير، وكنت – ولا تؤاخذنى – حمارة جميلة بين الحمير، ليس مثلى حمارة أخرى وجاء المعلم . . سيد المعلمين، وتحسسنى برفق . ثم اختبرنى وفتح فمى ليرى أسنانى وركبنى ودار بى، ثم تحسسنى ثانية . . واشترانى
. . .
ثم انتقل المنظر..
حظيرة جميلة فيها كل وسائل الراحة : الدفء والبرسيم والهواء والنظافة، وكان لى سرج من الحرير، ومهماز مغطى بالقطيفة حتى لا يجرح بطنى , ولجام رقيق لا يعض لسانى، فقد كنت هادئة ومطيعة، وعلمنى المعلم كل شئ . . الجرى و”الرهونة” وحتى الرقص على المزمار . . كنت حمارته المفضلة . . للركوب الشخصى فقط . . لا أحمل ترابا ولا سمادا…
. . .
ثم تغير المنظر
رأيتنى أقف على رجلى الخلفيتين وكلما حاولت أن أسير على أربع لا أستطيع، ثم . . . ثم انقلب نصفى الأعلى إلى إنسان . . . .
. . .
ثم تغير المنظر
رأيت حماراً عجوزاً تقترب منى وتتسمح فى . . , ولكنى نصف حمارة ونصف إنسان، وتعجبت من هذه الحمارة المنهكة وهى تتمسح فى كأنها تدعونى للركوب . . ولكنى لا أستطيع وأنا مسخ مشوه لا أنا حمارة ولا أنا إنسان، ولكنى – وهذا هو أكثر ما أرعبنى – نظرت فجأة إلى نفسى فوجدتنى حمارا ولست حمارة
وأخذت أصرخ وأصرخ وأصرخ حتى أيقظنى زوجى وأنا أقول
“لا يمكن . . لا يمكن”
. . .
يا ساتر . .
لماذا يا دكتور، لماذا ؟ اضطررتنى أن أحكى لك كل هذه البشاعة ؟، ولكن . . عندك . . لا تطلق لخيالك العنان، لا تحاول ان تتحدث باللغة الداعرة عن تفسير الأحلام، لا تتصور أن لى رغبة فى أن أصبح ذكرا . . بل أن الذى أزعجنى هو هذا الأمر ذاته، لا نفكر فى عقدة الخصاء والذى منه، فليس هناك قضيب فى الخيال ولا شذوذ جنسى . . .
قلت :
- أنام لم أقل شيئاً
- ولكنى أعلم عنك الكثير، أنا مثقفة رغم ما أنا فيه، كنت أقرأ فى مكتبة زوجى، لست أدرى ماذا جرى لنا، أنا أعلم تفسيرات شيخكم الخاطئة، أو القاصرة على أحسن الفروض
- صبرا . . فالدنيا تغيرت
- هل تاب الله عليكم من حكايات الجنس هذه؟ أليس الجنس عندكم هو الأصل؟
- بل الإنسان
- ماذا تعنى ؟
- كيان الإنسان أولا
- ماذا تريد أن تقول ؟
- الجنس دافع واحد . . وهو عند الحيوان والإنسان على السواء ولكن سعى الإنسان ليكون له كيان مستقل هو الأصل . . هو الحقيقة الأولى .
- كيان ؟ مستقل ؟
- نعم . . كسان مستقل
- وكيف يمكن أن يكون للإنسان كيان مستقل ؟
- أظنك آمنت أن مجرد الكلام لا يفيد
- نحن نتكلم لأننا لم نعرف كيف نعيش
- فلنعش
- كيف ؟
- أنت هنا تحاولين
- باجترار الآلام وتفسير الأحلام ؟
- …و إعادة بناء
- أى بناء ؟ وأنا مازلت لا أكاد أعرف أين أنا ؟ . . من أنا ؟ مازلت متجمدة أمام الحلم وما يذكرنى به الحلم
- وما الذى يذكرك به الحلم
- أحاول أن أنسى
- وهل يمكن ؟
- أنت تصر
- وهل الأمر يحتاج لإصرار ؟
- دعنى … لعلنى أنسى . . أو حتى أتناسى
- وهل يمكن ؟
- إنها صورة فظيعة
- ومع ذلك
- أمرى إلى الله …ولكنها صورة فظيعة
. . .
“أبى يضرب أمى وهى تقبل قدميه”
أبى يبيع حليها . . . أكثر من أقة كاملة بميزان اللحم، وهى تدعو له بالتوفيق فى إتمام الصفقة، الدموع على خديها، ووجهها يضئ بابتسامة بلهاء
أبى يحضر مع أصحابه، وأحيانا – هل تصدقنى – صاحباته – فى المنزل . . . وأمى فى غاية السعادة . . تخدمهم
– ثم يمرض ابنى ويفقد أغلب ثروته فى صفقة لم يحسبها جيدا، ويصفى حسابه ويعتمد على إيراد ثابت من بقايا عماراته .
وتنقلب الصورة
بعد فترة انتقال إهتزت فيها أمى تماما واحتارت، لم تجد بدا من أن تركب… جاء عليها الدور، ركبها أبى طالما كان قويا، ثم جاء عليها الدور ولكنها لا تعرف كيف تركب، وترددت، وتلكأت حتى ظهرت عمتى فى الصورة، بدأت تتدخل رويدا رويدا، وأبى الجبار يطيع فى لين وطراوة، أمى لا ينقصها الذكاء ولكن ينقصها التدريب، لم تفهم فى أول الأمر ماذا يجرى، ثم أثار دخول عمتى المسرح كل إمكانياتها الكامنة .
ذات يوم فاجأت أمى عمتى وهى تضع قدميها فى الركاب تستعد للقفز على المسرح، كانت تتدخل فى إدارة ما تبقى من عقارات وهو يسمع ويطيع، وهجمت أمى بكل غرائز المرأة وحب الحياة، وضعت قدمها بدلا من عمتى وقفزت واعتدلت فى جلستها . . وهزت رجليها ونسيت كل شئ .
. . .
وعشت بقية عمرى أشاهد امرأة أخرى لا أعرفها، ولا تكف عن هز رجليها بداع وبغير داع
ما أبشع هذا المنظر، ما أبشع كل ذلك
لماذا ؟ . . لماذا . . . لماذا ؟
. . .
– حلم مفزع
- وصورة أفظع
- معك حق
- والآن كلما استيقظت من نومى وقبل أن يكتمل وعيى , أرى أمامى قدمين فيهما خلخال يهتزان بانتظام.. لا .. لا يمكن، لا أستطيع، كفى، لا يمكن أن تكون هذه هى ذكرى أبى وأمى الطيبين، الحلم هو أبى وأمى . . أليس كذلك ؟
- وأنت ؟
- مالى أنا . . الحلم هو أبى وأمى
- غير أنك كنت فى الحلم . . أنت وليس أمك
- فى الحلم ؟ أنا أمى طبعاً فى الحلم فقط، أما فى الحقيقة فشتان بين الصورتين : كان أبى يضرب أمى ولكن زوجى لم يضربنى
أبدا، كان أبى يستغل ثروتها ولكن زوجى لم يفعل ذلك أبدا، كان أبى يجرح أدق مشاعرها ولكن زوجى لم يخدش كرامتى أبدا . . . الفرق واضح
- فى التفاصيل
- ماذا تعنى ؟
- لكل مرحلة شكل
- ماذا تعنى ؟
- هل تقرئين الصحف ؟ السياسية ؟
- طبعا . . . أنا مثقفة، وهذا منتهى الحرية، زوجى يسمح لى بالقراءة فى حين أن أمى لم تكن تعرف القراءة أو الكتابة
- هل سمعت عن الاستعمار الجديد
- بكل تأكيد، الصحف ليس وراءها إلا تريد كلمة الاستعمار حتى ولو كانت هى نفسها نوع من الاستعمار
- ذكاؤك ثروة فى العلاج
- أمى كانت ذكية أيضا
- أنت التى تذكرين أمك
- ألا تقولون أن الذكاء وراثة ؟
- ليس فقط الذكاء
- ماذا تعنى ؟
- حدثينى عن الاستعمار الجديد
- كان ”زمان” لا بد من جندى وبندقية، والآن تكفى اتفاقية واحتكار
- تماما . . أليس هذا هو الفرق بينك وبين أمك
- كيف ؟
- نفس الحال
- حال الركوب
- ماذا تعنى ؟
- كان المهماز من الحديد قديما . . والآن هو هو ولكنه مبطن بالقطيفة . . هذا هو كل الفرق
- ما أبشع ذلك
- كان ينبغى للرجل أن يضرب المرأة ويستولى على مالها حتى تتم السيطرة
- والآن ؟
- الآن . . ليس عليه إلا أن يستغل كيانها وينميها لحسابه
- إذا فهو ينميها
- لحسابه
- ولكن الرجل الآن اختلف
- يتمنى أن يعيش إنسانا
- مما زاد ضعفه
- وقربه إلى الإنسان الحر
- كان إلى “زمان” لا يقعده إلا الشديد القوى , وحين يبرك يقوم
- والرجل يبرك الآن بمحض إرادته . . طمعا فى الأخذ الحر..
طمعا فى استرجاع إنسانيته التى ضاعت تحت وهم قوة لا معنى لها
- ولكن الأوان قد آن ؟ لا بد من توقيت صحيح
– هذه هى المأساة
- التى ظهرت فى الحلم
- أنت خبيث
- حكم الصنعة
- ألا يكفينى أنى حكيت لك الحلم . . وعليك أنت تفسيره
- الحلم لا يحتاج إلى تفسير، ولكن ما الذى أفزعك فيه
- ربما أفزعنى ذلك المسخ المشوه، الذى لا يستطع الركوب أو أن جنسى تحول، وأنا أحب لا تغيير جنسى على آخر الزمن
- ربما
- أو ربما أفزعنى أن تتكرر مأساة أمى . . وحتى ذلك لا يمكن تحقيقه
- كيف ؟
- أن نعيش حيوانات فهذه سعادة العمى والضلال، أما أن نعيش أنصاف حيوانات وأنصاف بشر فهذا ألم الضياع وقسوته
- ولكن هناك احتمال آخر
- أى احتمال آخر ؟ . . المرض والهرب أليس كذلك، حتى الصداع والنوم الميت لم ينقذانى
- نحاول أن نكمل حياتنا بشرا
- حلم إبليس فى الجنة
- الشمس تشرق كل يوم
- لا تخدعنى . . كفانى مابى . . أنا لم أعد أعرف من هو الانسان
- الانسان هو الكائن البشرى الذى يمارس حياته مع إنسان آخر ولا يكتفى باستعماله .
- إسمع . . . أنا لا أفهم هذه الأشياء، يعيش معه ؟ يستعمله؟ ماذا تريد أن تقول ؟
- كنت أنت وزجك واحداً لا اثنين
- هذا هو الحب
- هكذا يسمونه؟
- إذاً ماذا تسمونه أنتم؟
– صبرك بالله . . . نبدأ من الأول
- نبدأ
- ضاع كيانك فى كيانه
- حصل
- ذبت فيه
- تماما
- إذاً . . . لم يكن هناك آخر
- لا أفهم
- كان يحتويك، فيملأ كيانه بك
- وماذا فى ذلك
- لا شئ . . ولكنها حياة بلا آخرين . . ولم تستمر
- ماذا تعنى ؟
- إذا كنتما واحداً . . فأين الآخر ؟
- وكيف نكون اثنين ؟
- لو كان هو كامل . . أو كنت كاملة لما اندمجتما حتى الفناء
- إذاً لم أحبنى ؟
- هو ؟ . . . هو استولى عليك فذبت فيه
- كل هذا الهيام والغرام لا تسميه حبا
- هذه هى النتيجة
- دعايتكم هى التى أفسدت عقول الناس، لو لم يعاملنى أحسن لسار الحال على ما يرام
- لتأخر رفع الستار عشر سنوات
- مثلا
- ثم تتكرر المأساة . . . هل نسيت ؟
- أعوذ بالله . . . ولكنى أنا.. أنا أيضا أحببته بكل حواسى وكيانى
- أنت ؟ . . أنت ضعت فيه، سكنت داخله
- إذاً ماذا ؟
- لم تكن تلك الحياة التى سعيتما إليها ؟
- فما الحياة الانسانية ؟
- ألا يرضى الرجل إلا بمشاركة إنسان آخر . . يعطيه ويأخذ منه . . والمرأة كذلك
- هذا ما أراده زوجى . . أو تمناه
- بعد ماذا ؟
- حقيقة بعد ماذا . . بعدما اهتز من قشة . . من التواء قدم
- مجرد عجزه بضعة أيام أظهر حقيقة ضعفه
- ولكن ما ذنبه.. وما ذنبى
- نحن لا نحاكم أحدا.. أنا أضعف من أمى . . .، أمى استطاعت أن تركب
- حين خافت أن يضيع منها . . خافت من عمتك أن تستولى عليه
- لماذا لم أستطع أنا ؟
- لأنك تريدين أن تكونى إنسانة
- وأمى ؟
- لم تتح لها الفرصة
- أنا مسخ مشوه، نصف حمار ونصف إنسانة . . . ماذا أفعل ؟ ما أبشع كل هذا
- ليس أمامك خيار
- ولكنه حين ركبنى كان إنسانا
- كان يلبس جلد إنسان، ويحاول أن يكونه
- وكيف أضمن ألا أكون مثله . . ألا أستعمله بدورى
– سوف تشعرين بكيانك.. فلا يلزمك أن تستعملى أحدا… لا تستطعين
- يخيل إلى الوقت فات . . لماذا لم أولد إنسانة من الأول
- أنت رأيت والديك . . فكيف بالله يصنع هؤلاء الإنسان ؟
- . . . . . ؟
- …
- فعلا . . وهو ؟ زوجى ؟
- كان خائفاً
- سيذوب فى كما ذبت فيه
- لا يستطيع
- لماذا ؟
- لأنك لن تحتاجى من يذوب فيك
- كدت أتوه فى ألفاظك
- رغم أنك تشعرين بها تماما . . أقرأ هذا فى عينيك
- ياليت .. . . متى . . متى أستطيع ؟
- حين تعطين بلا حساب ولا خوف، حين تأمنين الالتهام تمارسين الحياة
- متى ؟
- حين تمارسين الحب
– الحب ؟ لقد صيرته أنقاضاً . . كل ذلك الذى كان، قوضته على رأسى . . ثم تقول الحب
- أنا لم أحطم الحب . . وإنما حطمت العشق والأنانية، أنا أحاول أن أروض الحيوان الكامن تحت جلودنا ليخدمنا لا لنخدمه
- وما هو الحب الذى تعنيه ؟
- هو البناء، وهو الأخذ والعطاء، هو العاطفة التى تغنى الاثنين
معاً، حين يكون قربك من إنسان حافزا أن تحبى نفسك، أن تشعرى بإنسانيتك ويجد هو فى قربه منك ذاته وكيانه، ثم تنطلقا معا إلى رحاب الناس جميعا حينئذ يحق لنا أن نقول : هذا هو الحب
- ومالهم الناس بنا ؟
- لا يوجد حب بلا ناس
- ألا يكفى اثنين
- تبدأ البداية باثنين، فإذا أحبا بعضهما فعلا أصبحا ملايين، وسط الناس وبالناس وللناس
- ولكن هذا صعب جدا
- الصعب هو التشوية، وتعقيد الحياة
- لست أدرى . . أشعر أنى لن أستطيع
- جربى أن تستمرى كما كنت وحين لا تستطعين، وحين تضطرين . . اختارى طريق الإنسان
- أضطر ؟
- المضطر يركب الصعب
- أركب الصعب ؟ وأنا لم أستطع أن أركب السهل !
. . .
قال الفتى :
- ولكن الزواج هكذا من قديم : سيطرة الرجل كاملة . . . ثم سيطرة الرجل ظاهرة .. ثم سيطرة المرأة خفية .. ثم قد تصبح صريحة
قال الحكيم :
- ولكننا نسعى الآن إلى حياة أفضل بلا سيطرة.
قال الفتى :
- ولكنها صعبة
قال الحكيم :
- ولكنها تستأهل
قال الفتى :
- وكيف نميز الحب من الذوبان والالتهام ؟
قال الحكيم :
- المقياس الذى لا يخيب هو مدى انتشار الحب على الآخرين .. على الناس الناس
قال الفتى :
- أنت تصعب الأمور، كيف نميز بين الإنسان والحيوان .. بين الإنسان والشئ ؟ قال الحكيم
- الإنسان هو الذى يجعلك تحب نفسك فى وجوده، ثم تحبه، ثم تحب كل الناس
قال الفتى :
- كل الناس ؟ ألا يكفى الأولاد ؟ لو كان عند هذه السيدة أولاد فهل تختلف الصورة؟
قال الحكيم :
إذا سخروا الأولاد لإكمال النقص وتغطية الضعف فلا فائدة فيهم فى قصة نمو الانسان، ستطحنهم أنانية أهلهم وتلتهمهم سيطرتهم ثم لا يفيدونهم شيئاً .
قال الفتى :
وكيف يلتهم الأهل الأبناء . . ثم لا يغنونهم من أنفسهم شيئاً
قال الحكيم :
هل تذكر أول حكاية . . حكايةالضياع . . الإبن ضاع حين ثار على الألفاظ والمعتقدات التى حشرها الأهل فى رأسه . . فلتكن آخر حكاية . . حكاية الأهل الذين ضاعوا حين اكتشفوا خدعة امتلاكهم أبناءهم وماهم بمالكيهم .
أكبادنا
قال الحكيم :
دخلا على . . . هما هما، الأب، والأم، كانت الأيام قد طحنتهما طحنا، لم أكد أتذكرهما، سنوات مضت منذ انقطع ابنهما عنى منذ عاد إلى الحياة شاعراً محارباً، ترقص المعانى فى أفعاله قبل أن ينطق بالكلمات، يصنع المستقبل ولا ينتظر التعليمات، هما هما . . . ماذا فعلت بهما الأيام ؟
قال الأب :
- لعلك تذكرنا
- طبعا
- ما كنا لنجئ لولا . . لولا . . لولا زوجتى، والشديد القوى
- لا عليك; فأغلب حالاتى يحولها إلى “الشديد القوى”، لا أحد سواه
- تمزح ؟
- أهون عليك .. لم أركما من زمان
- زوجتى ليست على ما يرام
- لا بأس عليها
- وأنا كذلك
- ما الذى حدث ؟
- أنت تعرف الذى حدث . . أفسدت كل ئ وعليك إصلاحه
- أنا تحت أمرِكم
- بعد ماذا ؟ لا نعرف كيف نعيش، التليفزيون والإذاعة والصحافة وأنت . . . كل ذلك من علامات الساعة، تلوحون للناس بالأمل ونجنى نحن الشقاء، كانت حياتنا مثل الساعة، لا تؤخر ولا تقدم، تك .. نصحو .. , تك . . ننام، تك . . نأكل، تك . . نقرأ، تك . . نقبض، تك . . نصرف . . .إلى آخره إلى آخره
- وما آخره ؟
- كل ما يتصوره عقلك . . . ماذا تريد أن تقول ؟
- تك . . نموت
- وماذا فى ذلك . . تك نموت ؟ . . تك نموت
- ولكن لا بد أن نعيش حتى نموت
- هذا هو الكلام الفازع الذ يأفسد عقول الشباب، والأدهى والأمر أنه كاد يفسد عقولنا أيضاً
- يبعد الله الشر عنكم .
- وكيف يبعد الله عنا الشر وهو بيننا يرعى ؟ كيف يبعد الله الشر والأولاد يفكرون ؟ كيف . . . وهم يتعلمون أشياء غير ما تعلمنا ؟ كيف . . وهم يرون أخاهم قد فقد عقله ؟ . . بفضلكم .
- بفضلنا ؟
- هذه قصة قديمة ولكنكم أنتم الذين ترفعون الغطاء عن الأعين ثم… ثم… هذه هى النتيجة .
- ولكنه ولد من جديد . . وانطلق يبنى .
- ماذا ؟ ضاع مستقبله والحمد لله . ربما كان الآن أستاذاً بالجامعة على أقل تقدير، كنت أهيئة للوزارة، كان نابغة ليس كمثله أحد، منك لله .
- ولكنه الآن يعيش، يكتب ويعمل ويحب الناس .
- يحب الناس ؟ من أين أصرف هذه العملة ؟ . . ونحن ؟ منك لله . . ضاع الولد، كاتب مجهول . . يمكث فى القاهرة يوما وفى الجبهة عشرة، يعرض نفسه للهلاك دون إذن منى (!) لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم … إنا لله وإنا إليه راجعون .
. . .
قالت الأم :
- أكثر الله خيرك . . . لا تتضايق منه فقد خاب أمله فى الجميع، أنا لا أنسى جميلك ما حييت، كاد الولد يضيع ولم تتخيل عنه أبدا، صحيح أنه لم يحقق ما كنا نرجو، ولكن صحته بالدنيا .
- بل هى الدنيا . . . لا عليك، هل أستطيع مساعدتكما ؟
- تستطيع .
- أنا تحت أمركم .
- زوجى مضطرب تماما، لا ينام ولا يصحو، دائم السخط والقلق، لا يستقر فى مكان، ولا نكاد نمكث فى زيارة خمس دقائق حتى يقوم كالمفزوع، وأحيانا يجرجرنى وراءه فى الشوارع بالساعات حتى بدأ الناس يتقولون عليه، وهو لا يأكل بانتظام، والأدهى والأمر أنه لم يعد يصلى , وصل سخطه ويأسه إلى أبعد الحدود .
- وأنت ؟
- دعنى فى حالى , لم يأت الدور على بعد، أنا أقوم على خدمته وأسمع المصحف المرتل بقية الليل والنهار . . ضاع كل شئ . . . لا ولد ولا زوج ولا مستقبل، ننتظر الموت فى كل لحظة . ولكنه أصبح أغلى من كل ما انتظرناه، لم ننتظر شيئا وتحقق، نمارس الوحدة والانتظار بلا رؤية . . ولا صبر.. ولا غد ,… كل أمانينا ذهبت
هباء . . فلماذا تتحقق آخر أمنية لنا – الموت..!! بينى وبينك أنا أؤمن أن هذا هو الحل الأوحد، ولكنه أمنية عزيزة … مثل كل الأمانى العزيزة … حين نريدها لا تحدث أبداً .
– لماذا كل هذه القتامة .. لقد أدتيم واجبكم على أحسن وجه عرفتموه .. ربيتم أولادكم على قدر ما استطتعم .. وهم يكملون طريقهم وحدهم .
قال الأب :
- وحدهم ؟ . . . آه . . . هذا هو بيت القصيد.. وحدهم.. كيف يكملون الطريق وحدهم، وأنا الذى بدأت الطريق ؟ .. الذى وضعتهم داخل أمهم, وهى حملتهم وهنا على وهن، وأنا الذى صرفت وربيت وعلمت، ثم يكملون الطريق وحدهم، إذا ماذا كنا نصنع بهم ؟ ضحينا بك لشيء، بأنفسنا، بحياتنا، لم نعش لحظة إلا لهم، لم نعش لأنفسنا إطلاقا، وفى النهاية يكملونه وحدهم . . . وماذا أصنع أنا بدونهم؟ ألعب الطاولة أو الورق على رصيف قهوة مهجورة ؟ أنا لا أتقن شيئاً من هذا، أذهب للسباحة على الشواطئ بين العرايا والفاجرات ؟ أحج؟ حججنا خمس مرات حتى منعوا الحج المكرر، ماذا نصنع نحن ؟ لم يكن فى حياتنا غيرهم .. وأصبحنا فى سن لا تسمح لنا بالإنجاب .
هل نتبنى أحد الأطفال فى آخر العمر نربيه بالطريقة التى تنصحونا بها ..ثم نخبركم بالنتيجة ؟ . آه من كل هذا آه ! لماذا لا تقوم القيامة ؟
قالت الأم :
- أنت لا تعلم ماذا صنعنا لهم … ربما أفادك أن تعلم :
. . .
– بارك الله فيهم سوف أجعلهم أحسن الناس … أحسن الناس .
- يبقيك الله لى ولهم .
- ليس مثلهم أحد فى الدنيا .
- يبعد الله عنهم الضيق .
-سأقطع من لحمى لأربيهم .
- كل شئ بهم ولهم .
– ليس لنا وجود بغيرهم .
- إلا إبننا الصغير .. جوهرة ليس لها مثيل .
- كلهم أحسن من بعض .
- ربنا يحميهم . . هم أحسن الجميع .
- أحسن من كل الناس .
. . .
- الولد حرارته 39 .
- يانهار إسود .
- الطبيب قال انفلونزا بسيطة .
- أملى وحياتى . . ماذا أصنع بدونه .. روحى . . قلبى . . عقلى .. مستقلبى ..
- المسألة بسيطة .
- ابنى حبيبى .. نحضر طبيبا آخر .. لا بد أن تهبط الحرارة الآن
- الطبيب نزل لتوه .
- أنا مالى .. هذا ابنى وليس ابنه .
- ننتظر حتى الغد .
- أولادى .. ليس لى فى الدنيا سواهم . . ماذا أنا بدونهم ؟
. . .
– خط الولد مثل سلاسل الذهب .
- إبنى .. !
- شهادتهم تفرح القلب الحزين .
- أملى .
- ربنا يبعد عنهم العين .
- ليس كمثلهم أحد
- هم كالكتاب الجيد ذو الورق المصقول
- تفتح الواحد منهم فيكر العلوم “كالمكنة”
- ماشاء الله
- عماتهم وأخوالهم يحقدون عليهم
- دائمو المقارنة بينهم وبين أولادهم
- ربنا يكفيهم الشر
- لن نزورهم بعد اليوم
- الحسد يأكل قلوبهم .. ألا يكفيهم أنهم أغنى مالا
- أولادنا هم ثروتنا .. ليس لنا شئ سواهم
وأنت تعلم بقية القصة، ربما سمعتها من ابننا الذى زارك فى الأول، أو من أمثالنا، أو من أمثاله، ولكن لابد أن تعرف وجهة نظرنا، عليك أن تسمعها قبل أن تحكم علينا
- ولكنى لا أحكم عليكم، أنا أعذركم، كان الله فى العون، لو كان فى حياتكم شئ آخر لما تدهور الحال هكذا .
- أنت تتحدث عن تدهور الحال . . فأنت حكمت علينا مسبقاً
- لا تتعجلوا .. معنى حضوركم هنا أن الحال متدهور.
- ياليتنا لم نحضر . . ولكن ما العمل ؟.. أصبحتم مقررين علينا مثل صفحة الوفيات فى الصحف .. متى تقرأ أسماؤنا ونستريح
-ولكن كل ما حدث كان بالرغم منكم
- تعزية لا معنى لها
- أنا معكم .. ولكن ..
- كله من هذه ”اللكن” إما أنك معنا أو معلينا
- الحياة لم ترحمكم .. لو أنكم أطمأنتم، لو أنكم شعرتم بالناس كأفراد منكم، لو أنكم أمنتم، لما نكببتم على أولادكم هكذا، ولما حدث ما حدث، فالذى حدث لم يكن باختياركم تماما بل نتيجة ظروفكم
- يبدوا أنك لن تفهمنا أبداً .. إن الذى يحدث .. حدث قد حدث بالرغم مما عملناه لا بسببه، لقد أحببناهم أكثر من أنفسنا، بل إننا لم تكن لنا حياة أصلا إلا بهم
هذه هى الحكاية
. . .
جاء إبنى الأكبر يقول:
- ألم يئن الأوان ؟
- بماذا يا بنى ؟
- أكمل نصف دينى
- دينك كامل والحمد لله .. أنت أول من تؤدى الفروض
- أتزوج
- مازالت صغيرا
- عندى سبعة وعشرون عاما وأخشى أن أقع فيما يقع فيه الشباب
- لا تكبر نفسك
- أنا موظف منذ خمس سنوات
- ثم ماذا ؟
- ليس عندى مليم
- ماذا ؟
- مرتبى أعطيه لكم أول الشهر، وحالتكم المالية مستورة والحمد لله
- ولكنك تأخذ أكثر منه
- أعلم ذلك
- إذا ماذا ؟
ماذا لو احتفظت بمرتبى ودعفت نصيبى فى التكاليف
- هل قالوا لك اننا فتحنا فندقا
-هذا أوفر لكم
- ومن قال لك أننا نريد أن نوفر
- أريد أن أشعر بكيانى، مازلت آخذ مصروفا بعد خمس سنوات من التوظف !
- مرتبك لا يكفيك ملابس فقط
- أنا حر . . أنا على استعداد أن أجوع
- مجنون . . والله العظيم . . يغوى الفقر
. . .
كنا نحبهم أكثر مما يحبون أنفسهم، نقبض منهم خمسة ونعطيهم عشرة . . . ولا فائدة
- أنا مصمم وانتهى الأمر
- سوف تلحق بك لعنتى
- لا أستطيع أن أستمر هكذا
- فسدت أفكارك من أصحاب السوء
- هى زميلتى فى العمل
- ضحكت على عقلك . . أنت لا تعرف شيئا
- أنا أعرف كل شيء عنها
- أهلها من السوقة
- ونحن ؟
- . . . . . .
- أنت تستاهل بنت الملوك
- الثقافة تقرب بين الناس
- هل تعتبر أنك بحفظك عدة كتب فى الكيمياء والأحياء والزراعة . . أؤ بوظيفتك فى مركز الأبحاث قد عرفت الحياة ؟
- أنت الذى حرمت علينا قراءة الكتب
- كنت أخاف على عقلك من الفساد
- ثم تعيرنى بضعف ثقافتى
- البيت كان مليئا بكتب الدين والفقه، تقرأ فيها كما تشاء
- أنا أعرف الله خير المعرفة
- معرفته تكفى عما سواه
- ولكنها لا تمنع من القراءة
- كنت تريد أن فى الحب والكلام الفارغ
- خلاياى تنبض بالجنس منذ خمس عشرة سنة ولا أعرف له مخرجا
- . . . صفاقة
- أريد أ أجد متنفسا مشروعا . . . أمارس فيه إنسانيتى
- تمارس ماذا ؟ . . . قلة حياء
- أريد أن أستقل . . أشعر بكيانى
- طفل يلعب بالألفاظ
- عندى سبعة وعشرون عاما
وذهب إلى كندا … ولم يعد
يقال أنه يتقدم تقدما علميا ملحوظا . . وأنا ؟ أنا مالى . . يكتب لى كل عدة شهور، تزوج من أجنبية . . وأولاده لا يعرفوننا . . . منكم لله .. أفسدتم عقولهم
يرسل صورهم أحيانا . . صورهم تفرح .. ولكن أى فرح وبيننا بحور ومحيطات، ذهب الفرح إلى غير رجعة، ولن يعود .
مات بالنسبة لى . . ولا قوة إلى بالله . . أحيانا أفخر به فى المجالس وقلبى يتقطع من الداخل، أفخر بما لا أملك.. كله منكم
والبنت أيضا . . لم يعد لها فى حياتنا أثر، قد تزورنا أحيانا . . وياليتها لا تفعل، لا أملك من أمرها حلا ولا باطل منذ تزوجت . . هل تريد أن تعرف كيف حدث ذلك ؟
- زميلى يريد مقابلتك
- لماذا يا بنتى ؟
- لا أعرف
- ألم تسأليه ؟
- خجلت
- إذاً . . . الأمر كما أظن
- أنت سيد العارفين
- أنا آخر من يعلم
- أنا لم أفعل شيئا
- لم نتمتع بخيرك
- أنا ابنتكم دائما
- خسارة ترببتى
- أنا رهن إشارتك
- لعن الله يوم أن علمتك
- ماذا . . . ؟
- كنت تبقين بالمنزل تخدمين إخوتك
- غير معقول فى هذا الزمن
- كل شيء معقول أصبح غير معقول فى هذا الزمن
- الأمر أمرك
- لم يعد لى أمر ولا نهى , تطبخون الطبخة والأمر أمرى , حدثينى عنه
- هو أقدم منى بخمس سنوات . . على وشك أن يأخذ الدرجة الثانية
- هكذا ؟
- نعم
- أفكر . . على شرط
- أى شرط ؟
- ألا تحبينه
- ألا ماذا ؟
- ألا تحبينه . . لو أحببته فسيمسح بك الأرض، هكذا الرجال وأنا أعرفهم . . سيلعب بك الكرة . . ولن نأخذ منه حقاً ولا باطلا
-. . . .
- الحب عمى والعياذ بالله
كنا نعرف مصلحتهم أكثر من أنفسهم، كنا نخاف على مستقبلهم أن يضيع، وعلى أفكارهم أن تشوه، وحتى على عواطفهم أن يساء استعمالها، وحين تأكدت أنها لا تحبه وافقت على الزواج، ولكنها
للأسف أحبته بعد الزواج، أكل عقلها ونسيتنا . .
كانت العلاقة طيبة فى الأول . . ولكنها لم تسمع النصح أبدا، كان لا بد أن تأخذ الخادمة من طرفنا نحن حتى لا تخرج أسرارنا لأهلة . ولم تسمع
كانت أمها تدير لها شئون منزلها . . ثم لا يعجبها خدمتنا لها كنت أنظم لهم ميزانيتهم بمالى من خدمة طويلة فى الحياة، يقبلون الفكرة على الورق، ويفعلون ما شاءوا بعد ذلك
لم أعد شيئا بالنسبة لها .
لماذا أنجبتها إذا؟ . . كنت أعلمها، وأسمنها، وأكبرها، حتى يأتى صاحب النصيب يلهفها جاهزة على السكين…؟
ماتت هى الأخرى . . تزورنا كلما تذكرت من باب الشفقة وأنا لا أقبل الشفقة . . ياليتها لا تعود تزورنا
. . .
وبقية الأولاد . . مثل سائر الأولاد
. . .
الوحيد الذ ييشعر بنا . . وأشعر أنه يشعرنا بنا هو الصغير الذى تعرفه ذلك الصغير الذى جاء من سنين يبحث عن معانى الألفاظ، نحن لا نناقشة فى شيء، ولكنه لا ينسانا أبدا . . يعطينا شيئا عميقا غريبا من الاهتمام والحنان . . ولكنى للأسف لا أشعر أنه يخصنا بهذا الشعور، إذا ما الفائدة ؟ أحس أنه يعطى نفس الشئ لآخرين وآخرين، إذاً ماذا اختص به أبويه، أحس أنه مجرد إنسان . . يحبنا مثلما يحب الناس . . وهو لا يكف عن حب الناس . . فماذا نحن فى حياته
- أنتم ناس
- نحن والداه . . نحن ربيناه بعرق جبيننا . . نحن حرمنا أنفسنا من كل شيء فى سبيلهم . . ثم يحبنا مثل كل الناس ؟ ماذا فعل له الناس
- حبه للناس أنقذه من الضياع .. من الجنون
- تعنى .. . وحبنا له أورده الجنون
- أنا لا أعنى شيئا . . ولكنكم معذورون . . تربيتم بلا ناس بلا أمان لم يعطكم أحد حتى تعطوا، كنتم ملكا لهم وأوردتم أن يكونوا ملكا لكم، عملتم كل ما عرفتم، أردتم أن يكون أولادكم أحسن الناس وهذا طبيعى , ولكنه هو، أراد أن يكون الناس أحسن
- أحسن منا ؟
- لا..، أحسن مما هم عليه الآن
- ولكن طول عمرنا نعطف على المساكين
- الشفقة جميلة . . والزكاة واجب، ولكن الناس تحتاج للحب . . للناس، أن يعملوا . . أن يحبوا، ثم يعملوا فى أمان فتنطلق عواطفهم ويصبح البشر بشرا بحق
- ماذ تقول ؟
– آسف أعنى أن الحياة تصبح أرحب إذا شملت كل الناس
- يا سلام ! تريد أن تهدم الأسرة . . ويعيش الناس فى شيوع
- أنا لا أريد شيئا . . إن الأسرة هى الوحدة الإنسانية الأولى فيها تترعرع العواطف الكريمة، فيها يجد الإنسان نفسه مع آخر، على أن يكون آخر، فيها ينضج الأطفال فى أمان، الإنسان حيوان طفولته طويلة طويلة، وهو يحتاج إلى أب وأم وبيت ملئ بالحنان، لينطلق فيما
بعد، أما إذا كانت الأسرة هى غاية فى حد ذاتها، إذا أصحبت بديلا عن العالم، إذا انتهت اهتماماتها عند عتبة الشقة، أصبحت مقبرة للإنسان ونكسة لتطوره
قال الأب :
- لا أفهم !
قالت الأم :
- ولا أنا !
– قلت لهم :
- لقد عملتم ما عليكم، وأولادكم بخير، سيحققون أمانيكم ولكن بطريقة أخرى , ربما يزرع ابنكم الذى فى كندا البحر، ربما تكتشف ابنتكم الطيبة علاجا للسرطان، ربما يجد ابنكم الأصغر – صديقى – لغة جديدة نفهم بها الانسان فهما أفضل، سوف يكملون الطريق لا محالة . . وكله بفضلكم بشكل ما . .- بالرغم من كل شيء – أنتم الذين أنجبتموهم فى هذه الدنيا .. وصاحبتموهم على الطريق حتى تفرقت الطرق، وإذا كنتم لم تفهموا . . فإنهم قد فهموا . . لن ينسوا فضلكم . . وسيربون أولادهم أفضل .. إذا وجدوا أنفسهم فعلا
قالت الأم :
- ماعلينا، أولادهم سيعلمونهم قيمة الأبناء، وربما انتقموا لنا منهم
- على كل حال، إذا فشلوا هم أيضا فى إطلاق سراحهم بدورهم دفعوا الثمن
- ولكن الآن . . . حالة زوجى يا دكتور . . هل نسيت ؟
- قلت : – يأخذ هذا الدواء ويعود إلى الصلاة، ولا ينسى أن السماء تحب المؤمنين وتحب الصابرين
قالت :
- أنت تقول هذا !!
قلت :
- لا بد للمريض أن يهدأ . . وللشيخ أن يرتاح . . طالما فيه نفس يتردد .
. . .
قبل النهاية … أو قبل البداية
قال الفتى :
- ولكنى وجدت بعد هذه المسيرة الطويلة أن هذه الحكايات جميعا تريد أن تقول شيئا واحدا : يولد الإنسان على الفطرة، ثم يسعى فى الحياة، يحاول، وهو لا يسأل “لماذا” ولا .. ثم ”ماذا” وإذا سأل تلقى إجابات لا تغنى , بل ربما تزيد غموض الطريق، فيكف عن السؤال والتساؤل، ثم عن المحاولة، وينسى أو يتناسى , ويستمر هكذا فترة تطول أو تقصر ثم يصحو فجأة، وتبدأ المأساة، وتصبح حكاية، أو هو يستمر فى سباته فى ليل بلا نهاية … ويمضى بلا حكاية .
قال الحكيم :
- هو ذاك و فمسيرة الحياة – فى أغلب الأحوال – واحدة مهما اختلفت الصور، نبحث عن خدعة أو عدة خدع متتالية تشغلنا حتى نموت، وكأننا بذلك نتعجل الموت خوفاً من اكتشاف الحقيقة قبل أن ينتهى الأجل، كأننا نريد أن نموت قبل أن نموت .
قال الفتى :
- تقول أننا بذلك “نريد” أن نموت ونحن مازلنا نتنفس !
قال الحكيم :
- أنت تعرف أنى استعمل الألفاظ استعمالا خاصا، فالإرادة هنا خفية، والإنسان إذا لم يستطع أن يعيش .. فليس أمامه إلا أن يموت بشكل ما .
قال الفتى :
- يموت ؟
قال الحكيم :
- هناك من يشنق نفسه بحبل .. ومن يشنق نفسه برباط عنق
– هناك من يغرق فى النيل .. ومن يغرق فى بحر الحقد والحسد
– هناك من يموت بالتسمم الغذائى ببكتريا السلمونيلا .. ومن يموت بالإفراط الغذائى والجنسى
هناك من يلتهم الأقراص المنومة حتى الموت .. ومكن يلتهم التحف ويغوص فى طبقات السجاد حتى الموت .. وكلهم يسعون للهلاك بجد وتصميم .
قال الفتى :
- ولكن أغلبهم راضون سعداء
قال الحكيم : ...
- راضون ؟ نعم، أما السعادة فهى شيء آخر .. ولا تنس أن كثيرا من أولاد عمومتنا الحيوانات راضون كذلك.
قال الفتى :
- وكأنك تساوى بين الحياة التقليدية والموت والانتحار ؟
قال الحكيم :
- الانتحار هو إنهاء الحياة ؤراديا بطريقة علنية، وهو يقضى على الحياة والإنسان معا، ولكن الحياة إياها موت سرى مثل النزيف الداخلى .
قال الفتى :
- فليس هناك فرق بين الانتحار وهذه الحياة ؟
قال الحكيم :
بل أنا ضد الانتحار الرسمى أكثر لأن مجرد البقاء على هذه الأرض بأى صورة مكسب لقضية الانسان
قال الفتى :
- أى مكسب إذا كان الفرد حيا ميتا؟
قال الحكيم :
- مرت على فترات كنت أتساءل فيها عن هؤلاء الأحياء الموتى “لماذا يعيشون”؟ وخاصة إذا أصروا على ألا يشوهوا حياتهم فحسب، بل أن يعوقوا المسيرة بوجه عام، ولكنى بعد فترة أصبحت أحترم مجرد وجودهم، لعل أحد ذريتهم – وهم يعطونهم ويرعونهم بلا حساب – يثور ويكمل الطريق كما رأيت .
قال الفتى :
- إذا فالكل يساهم بشكل ما
قال الحكيم :
- نعم نحن نحتاج للكم كما نحتاج للكيف
قال الفتى :
- كيف ؟
قال الحكيم :
- لابد للحياة أن تستمر، وأن تضاء البيوت بالليل، وأن تطبع الكتب، وأن تغطى جلودنا بالأقمشة الصوفية فى البرد، وأن نأكل وأن تصح أجسادنا، فلا شك أن الانسان الآلة يقوم بدور لا غنى عنه وهو يهييء الفرصة للانسان الانسان أن يجد ذاته الجديدة ويصنع غده .
قال الفتى :
- فهى تفرقة أو عنصرية
قال الحكيم :
-أبدا . فالفرصة ستكون واحدة أمام الجميع بالعدل، وعلى كل فرد بعد ذلك أن يختار طريقه، فالذى يرضى “بالميكنة” ليتجنب آلام الولادة من جديد يصبح آلة عظيمة تخدم مجرد البقاء، والذى يقبل الألم ويمارس الحب والفضيلة، يسلك سبيل التطور ويعيش السعادة الحقيقية .
قال الفتى :
- ولكن الذين تسميهم الانسان الآلة ينعمون بأهدافهم ويفرحون بها لذاتها . . . فلماذا نوقظهم
قال الحكيم :
- أن يجد هذا الانسان شيئا يشغله حتى يأتى أجله، فهذه نعمة جزيلة، حتى قيل أن هذه الأهداف اللامعة رغم زيفها أعظم من الأقراص المهدئة .
قال الفتى :
- فماذا نوقظهم ونهاجم أهدافهم وننتقص من شأنها، وأنت أول من يستعمل الكيمياء للتهدئة .
قال الحكيم :
- إن لاستعمال المهدئات فائدة عظمى , ولكن الافراط فيها فى بعض الحالات، أو الاعتماد الكلى عليها قاتل لا محالة . .
وكأنى أرى هذا الانسان يهرب من رؤية الحقيقة بتناول تلك المهدئات التقليدية بجرعات متزايدة تتناسب مع هربه المتزايد، وكلما زاد توتره وقلقه التهم تحفه من التحف، أو تكالب على منصب أفخم، أو أطلق شره على غيره، حتى يهدأ، ولكن – كما تعلم – فإن الإفراط فى المهدئات والمنومات هو الموت نفسه.
قال الفتى :
- ولكن يبدو أنه موت لذيذ وله فوائد أيضا . . فلماذا نوقظهم ؟
قال الحكيم :
– إذا استسلمنا جميعا لهذه اللذه . . ورضينا بهذه المرحلة كنهاية . . فإن الانسان يكون قد ارتضى لجنسه التوقف عندما نعشيه من شقاء وجشع وضياع فى دنيا الحقد والتنافس، وهذا ضد كل قوانين الطبيعة . . وضد الأمل . . وضد الغد .
قال الفتى :
- ولكنك تقول أن التطور حتمى لا محالة .
قال الحكيم :
- رغم أن التطور حتمى إلا أن التدهور محتمل لفترات قد تطول، وكلما اتسعت دائرة اليقظة، كلما دنت فرصة الوصول إلى حياة أفضل، ومن ثم فرصة خلق نوع من البشر أحسن .
قال الفتى :
- نوع من البشر أحسن ؟
قال الحكيم :
- ولم لا ؟ أظن أنك لا ترضى أن تنتسب إلى وحوش كاسرة تلبس جلد الانسان، فلا يخدعك مظهر الحضارة والقوى الآلية، فالطريق طويل، واليقظة الكاملة لازمة حتى نستمر
قال الفتى :
- فلنترك الناس فى حالهم، ونساعدهم من يستيقظ بمحض الصدفة
قال الحكيم :
- الصدفة ؟! ولكنا حتى لو تركنا الأحياء الموتى فى حالهم، فهم لن يتركوا التطور فى حاله، إن التهام التحف والتفاخر بالمظهر والتملك المستعر يتم على حساب آخرين، يمكن أن يكونوا مشروع الانسان الجديد، فلماذا نضحى بهم فى سبيل هؤلاء الوحوش الذين يغطون فى نومهم بعد أكلة هنية من لحم الآخرين، ألا ترى مضاعفات هذا التكالب الوحشى من ضحايا تداس بالأقدام وتموت من الجوع، وياليت هذا الوحش الآدمى يشعر بالسعادة، إلا أنه ينحط بذلك إلى مرتبة أدنى من الحيوانية رغم الشعور باللذة والارتواء . . فلماذا لا نوقظة مهما تألم – ليرحم نفسه ونرحم الآخرين منه.
قال الفتى :
– ولكن الصورة مفزعة، ونحن نرى الطفل وهو مشروع إنسان يشوهه الزمن والنسيان والعمى . . ثم هو ينكسر ويتشتت . . ثم هو يصارع الضياع والجنون .. أى رؤية تلك وأى معرفة ؟
قال الحكيم :
– ولكن هذا هو صراع التدهور والتطور، وأنت يابنى هو كل الناس، والناس هم أنت، والمعرفة الحقيقية هى رؤية كل الأشياء فى نسق واحد متصل، وما ينطبق على الفلسفة يصلح للطب، وما يسرى فى الطب ينطبق على ما وراء الطبيعة مهما اختلفت اللغة وتنوعت الأساليب، فهناك حقيقة واحدة وراء كل هذه المظاهر، وهى صراع الانسان نحو التطور، وليس مجرد البقاء .
قال الفتى :
- وهل لا بد للانسان أن ينكسر وهو يتطور
قال الحكيم :
- فى يقينى أن تاريخ التطور الطويل يقول أن النوع إذ ينتقل إلى نوع أرقى يتنازل عن صفات قديمة ويكتسب صفات جديدة، وأثناء هذه العملية التى تتم أثناء الملايين من السنين، تستمر تلك المجموعة التى قاومت التطور كما هى، ولا تنس أن القردة مازالت على الأرض، وأن هذا الصنف الحالى ليس جدنا مباشرة وإن كنا نلتقى معا فى جد بعيد، أما المجموعة الأخرى فهى تتحدى الظروف القديمة، ثم تخلق ظروفا جديدة أفضل ثم تتكيف فى صورتها الجديدة مع الأفضل، ثم يصبح الجديد قديما وتتكرر القصة، وأثناء هذه المحاولات يبلغ الألم مبلغا يعرض المحاولة للاجهاض، ويعرض الجنس للهلاك .
قال الفتى :
- لذلك كان انكسار الانسان فى هذه المحاولة خطيرا ومخيفا.
قال الحكيم :
- لأن الانسان هو الكائن الوحيد – مما نعرف – الذى يتطور وهو يعرف أنه يفعل ذلك، بل إنى أكاد أقول أنه الكائن الوحيد الذى يتطور بإرادته الواعية، وليس فقط بقانون الحياة الطبيعة، إلا أن تكون إرادته الواعية من قانون الحياة . . وأظنها كذلك.
قال الفتى :
- ولكن ألا يوجد ما يساعده على نفسه فى هذه المعركة
قال الحكيم :
- أن تتسع دائرة اليقظة، فلا يترك الانسان الثأثر وحيدا
قال الفتى :
- إذاً . . . فلتتسع دائرة اليقظة .. ولتعلن الحقيقة .. وليعيشوا الألم كله .. ليلدوا أنفسهم من جديد، وليستمر من يستطيع .. وليزدد عدد الشباب والأطفال من كل الأعمار، وليمض الكهول من كل الأعمار أيضا مغمضى العينين وليغطوا فى نومهم حتى يموتوا .. وليكن ما يكون
قال الحيكم :
- ولن يكون إلا غد مشرق
قال الفتى :
- ولكن لا بد من وضوح البديل . . لقد رأيت خيوط الفجر فى كل مرة، ثم تركتنى أنتظر طلوع الشمس فى كل مرة
قال الحكيم :
- ولكن الشمس تطلع حتما بعد نور الفجر
قال الفتى :
- فحدثنى عن ذلك . . . وليملأ النور والدفء الحياة
قال الحكيم :
- فاسمع بنى أغنية للحياة
****
أغنية للحياة
هى مدرسة تعمل فى رياض الأطفال، جائتنى بعد غيبة طويلة، رغم أن صورتها كانت تخايلنى فى كل لحظة، فتاة فى أوج شبابها ترقص بعينيها إذ ينبعث منهما بريق بجذب ويطمئن، وتلمع قسماتها إذ تشع نورا ما .
فرحت برؤيتها فرحة هائلة ظهرت آثارها على قفزتى من مقعدى وطريقتى فى السلام
****
قلت لها :
- أين أنت؟
قالت:
- فى كل مكان
- عشر سنوات أم عشرون؟
- ولكنى كنت دائما معك
- أحيانا كنت أشك أنك اختفيت إلى الأبد
- علمتنى ألا نيئس
- كانت المقاومة رهيبة والظلام حالك
- ولكنى دائما هناك
****
سألتها:
- ما أخبارك ؟
قالت:
- كل خير
- كل هذه السنوات! لم تغيرك الأيام
- أنا لا أكبر بمرر الزمن
- إذاً . . . حقيقة ما تصورت
- أنا الحقيقة مجسمة
- ولكنها أقرب إلى الخيال
- بل قدمى على الأرض
- لم تنس تاريخك
- وأتطلع للمستقبل
- ملاك على الأرض؟
- بل إنسان كما ينبغى
****
– ما تصنعين هذه الأيام؟
- أعمل وأحب
- ما أروع ذلك . . . وزوجك ؟
- معى على الطريق
- والأولاد؟ كانوا أربعة على ما أذكر
- أصبحوا ملايين
- أهى ألغاز؟
- بل الحقيقة .. هل نسيت؟
****
– وماذا عن جاركم الشاب .. الذى كاد يغرق فى بحر الألفاظ
- وجد لها معان جديدة ..، وانطلق يكتب الشعر بالمدفع
- وزوج خالتك المحترم؟
- أحيل إلى المعاش .. وذهب إلى قريته يعلمّ الفلاحين القراءة والكتابة
- الدنيا تغيرت؟
- هذا قانون أزلى
- وأولاد عمك ؟
- خرجوا من المعتقل
- وخالك – صاحب المصنع ؟
- افتتح معهدا لراسبى الثانوية العامة، يتعلمون فيه مهنة جديدة
- مهنة جديدة ؟
- صناعة حديثة
- ماذا يصنعون ؟
- يصنعون ألواحاً ضخمة تحتفظ بالحرارة، يبنون منها بيوتا كاملة فى ساعات، فيها درجة حرارة ثابتة تبعث الدفء والحنان
- الدفء نعم، ولكن كيف يصنعون الحنان ؟
- يعيدون الثقة للرجال فتتحرر النساء، وتتعلم البنات الأمومة
- يطلقون إنسانية الإنسان؟
– بالحب والثقة
- حدث..! أخيرا…!
- كان لابد أن يحدث
****
- ومشاكلك مع “أبلة” الناظرة ؟
- ماتت فى عنفوانها . . كانت تريد أن تعمل شيئا
- يرحمها الله
- يرحمها الله
- . . والله ؟
- يملأ وجدانى
- مازلت مؤمنة
- حين يتحرر الإنسان، ينبض كيانه مع الوجود كله، ويخفق وجدانه مع أصله، وتتردد فى أرجاء الكون أنغام الصحة العذبة
- إيمانك راسخ
- ويزيد كل يوم
****
– وأخبارك مع العلم ؟
- أقرأ كل شئ حى
- وهل هناك بين الكتب موتى
- الصفحات مليئة بالتوابيت والموميات
- فكيف حال الأحياء؟
- سخروا الكيمياء لخدمة التطور
- كانت اقراصاً تقمع الإنطلاق وتعيد الثائر إلى حظيرة المجموع بالضربة القاضية
- أصبحت تنظم الطاقة فقط، ثم يولد الإنسان من جديد
- ولادة جديدة ! والخلايا الثابتة بالوراثة ؟
- يعاد تشكيلها وتنظيمها لتنطلق معاً توكد ما هو إنسانا
- بالكيمياء أيضا ؟
- بالكيمياء والحب والطبيعة
- لا أكاد أصدق
- هل سمعت آخر الأخبار ؟
- خيرا ؟
- زادت الحواس عدداً
- الحواس طول عمرها خمسة
- ألم تعلم أنها زادت على وجه التأكيد
- أهو ارتفاع فى “البورصة”
- صدقنى … العلم الحديث يقول أن الحواس زادت عددا، وأن كل التأخر والاضطرابات اللذين كانا … لم يكونا إلا نتيجة لنقص الحواس
- وسيطرة العقل الحسابى … والألفاظ ؟
- أصبحت مجرد وسائل للحواس الجديدة
- أكاد لا أفهم … ولكن وجهك ينطق بالصدق
- المسألة فى غاية الوضوح . . والبساطة
– أصبحت مطلعة أكثر منى .. وماأنت إلا مدرسة فى روضة أطفال
- نور العلم يشرق على الجميع
- وصراع العلم مع الإيمان ؟
- كان صراعا صوريا
- وما السبب ؟
- رجال الطائفتين
- كلهم أفاضل
- كانوا سجناء الحواس الخمسة
- أصبحت عالمة ومؤمنة
- ليس هناك فرق
- والطقوس التى أرهقتك وحيرتك
- لكل مرحلة التزام واجب
****
– ومشاكل الميراث . . هل مازالت المحكمة تؤجل القضية ؟
- عندى ما يكفينى
- ماذا تعنين ؟
- أنا سعيدة
- أكاد لا أصدق عينى
- عائدى من عملى يكفينى وزيادة
- أكاد لا أصدق
- الحقيقة أغرب من الخيال
- أهى الجنة ؟
- ربما .. ولكن لا بد للوصول إليها أن تمشى على الصراط
- أهى الصحة ؟
- سمها ما تشاء
****
- ولكن السنين تمضى
- الأطفال يولدون كل يوم
- لا تخشين الشيخوخة ؟
- قلت لك أنا لا أكبر بالزمن، هل نسيت ؟
- والموت.
- ولا أموت.
- اسمعى . . إلا هذا . . كل حى سيموت
– قد يتوقف القلب عن الخفقان وتتوقف الخلايا عن التمثيل الغذائى، ولكن ما أنا فيه يقول أنى لا يمكن أن أموت.
- وكيف جاءك كل هذا اليقين ؟
- سنوات طويلة مرت لم أتغير، ومن الماضى نحكم على المستقبل
- كل إنسان يتغير
- أزداد ثقة وانتاجا وحبا
- أهو الخلود ؟
- سمه ما تشاء
- هل هناك غد إذاً ؟
- دائما أرحب وأغنى
- مهما تكاثف الظلام!
– مهما طال الأمد
- أملك لا ينتهى، فيم تأملين الآن ؟
- أن يشعر كل الناس بما أنا فيه أن يصدقونى , أن يعيشوا سعادتى مع زوجى وأولادى الذين لا حصر لهم ؟
– ربما لك وضع خاص .. ربما أنت هكذا لأن جوهرك طيب
- الطيبة وحدها لا تكفى .. والإنسان الحقيقى موجود داخل كل كائن بشرى
- إذاً ما الذى يكفى؟
- القوة مع الطيبة .. الضعف يشوه كل خير ويعوق الانطلاق
- أكاد لا أصدق
- ولكنك أنت الذى صنعتنى هكذا
- أنا؟
- فاقت التلميدة أستاذها
- قسوة الزيف كادت تنسينى
- الزيف فى كل مكان .. ولكن الحق والخير أيضا فى كل مكان
- ألا تخافين ؟
- أنا أتقن الجودو .. وأتمرن عليه مرتين فى الأسبوع
- المسألة صعبة
- أنا لا أيأس
- أبداً؟
- أبداً
- وهل تجدين من يسمع لك؟
- أكثر مماعندك . . مئات وألوف يتزايدون باستمرار
- الناس بخير رغم كل هذا؟
- طبعا
- فرط التفاؤل يخيفنى
- التفاؤل لا يمنع الحذر
****
- هل أنت متأكدة أن هذا واقع فعلا . . أم أنها لحظات وتنتهى
- ماذا جرى لك ؟ أنا هكذا منذ سنين
- ولكن أين تركتنى كل هذا الزمن
- كنت معك فى كل مكان ..
- كنت ألمحك فى الطريق وأنا أسير أحيانا، ولكنك كنت تختفين بسرعة مذهلة قبل أن ألحقك
- بل إن زحمة الطريق كانت تشكك فى وجودى
- العمارات شاهقة والمواصلات صعبة، وحوادث المرور فى زيادة، والعربات تسحق الانسان فى كل الشوارع والحارات، ووجه الطبيعة يختفى فى سحابات الدهان والغبار
- ولكن الزهور ما زالت تتفتح فى كل مكان
- حقا؟!
- والطيور تغنى
- حقا ؟!
- والإنسان كذلك
- الانسان يغنى؟!
- فى كل مكان .. وغناؤه يتردد فى أرجاء الكون
- وسط حطام الحوادث وبين أشلاء الموتى ؟
- فى كل مكان
- لمن يغنى الانسان!
- للحياة
****
وذهبت
ولم تذهب
****