الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / يوميات: فى ‏شرف‏ ‏صحبة “نجيب‏ ‏محفوظ” (الحلقة الثانية)

يوميات: فى ‏شرف‏ ‏صحبة “نجيب‏ ‏محفوظ” (الحلقة الثانية)

“يوميا” الإنسان والتطور

4-10-2007

يوميات: فى ‏شرف‏ ‏صحبة  “نجيب‏ ‏محفوظ”  (الحلقة الثانية)

‏[11 / 12/ 1994 – ‏الجمعة‏: 17 / 8 /1995]‏

شيخنا يعود إلى بيته، وتعود إليه – إلينا- ضحكته

قررت‏ ‏ألا‏ ‏أذهب‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏استدعونى ‏ثانية‏، فى الزيارة الأولى: ‏لم‏ ‏أضف‏ ‏دواء‏ ‏واحدا‏، ‏ولم‏ ‏أغير‏ ‏نظاما‏، ‏ولم‏ ‏أحدد‏ ‏نصيحة‏، حتى بدا لى أننى لم‏ ‏أقدم‏ ‏عونا ذا بال‏. كان غاية ما عشته أنْ ‏عصرنى ‏الألم. ‏هل كنت أشفق ‏على‏ ‏نفسى‏، ‏أم عليه؟ ‏لعل كل ما ملأنى أثناءها وبعدها أننى دعوت الله لى وله، (ولم أتوقف عن الدعاء حتى الآن أكتوبر – 2007)

بعد الزيارة الأولى، ‏انشغلت‏ ‏فى ‏مؤتمر‏ ‏من‏ ‏تلك‏ ‏المؤتمرات‏ ‏التى ‏هى ‏ليست إلا ‏“تحصيل‏ ‏حاصل‏”، أو على أحسن الفروض: بوفيه مفتوح، وأحضان وأحيانا أشواق فى ‏‏الأروقة ‏‏بين‏ ‏الجلسات‏، بغض النظر عما يجرى داخل القاعات من محاضرات أو كلمات، ولا داخل المكاتب والمعامل بعدها وقبلها من  – صفقات – ‏سعدت‏ ‏بانشعالى ‏هذا‏ ‏لأننى ‏اعتبرته‏ ‏حجة‏ ‏أبرر‏ ‏بها‏ ‏انقطاعى ‏عن‏ ‏شيخى المصاب، ربما ‏ ‏حتى‏ ‏لا‏ ‏أعانى ‏ما‏ ‏عانيت‏ ‏أول‏ ‏زيارة‏، ‏ثم‏ ‏إننى ‏قررت‏ ‏ألا‏ ‏أزوره‏ ‏ثانية‏ ‏بصفتى ‏الطبية‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏استدعيت‏ ‏ لجديد لا قدر الله، ‏ثم‏ ‏إننى‏ ‏أفتِ‏ ‏بمشورة‏ ‏طبية‏ خاصة جدا، مهما تصوروا غير لك، فلماذا العودة؟

 ‏رغم كل ذلك،‏لم‏ ‏تفارق‏ ‏ صورته خيالي‏، ‏لست متأكدا هل هو خيالى أم وعيى الأعمق، كانت‏ ‏صورة‏ ‏صعبة، رقيقة، وحية، ومؤلمة، ومتألمة،  وقوية فى آن واحد.

روشتة “الناس”

إنتهى ‏المؤتمر‏، وكنت قد أبلغت العميد د. الحسينى به اعتذارا مؤقتا تمنيت أن يكون ممتدا، ساورنى هاجس فجأة، وشعرت باحتمال أنانية هرابة أوتخلٍّ، انتهى المؤتمر ولم يعد عندى حجة، ‏رفعت‏ ‏السماعة‏ ‏وطلبت‏ سيادة  ‏العميد‏، ‏قال‏ ‏أين‏ ‏أنت ومتى نراك إذن، الأستاذ يسأل عنك، قلت: حاضر،

وذهبت.

‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏الحال‏ ‏أحسن‏ ‏بل‏ ‏العكس‏، ‏سألنى ‏العميد‏ ‏د‏. ‏الحسيني‏، ‏ألا تنصح بعقار معين ‏‏أو‏ ‏إجراء‏ ‏معين‏؟، ‏فأخبرته‏ ‏بعد تردد: إن‏ ‏أستاذنا‏ ‏عاش‏ ‏طول‏ ‏عمره‏، ‏يتزود‏ ‏بجرعة‏ ‏محسوبة‏ ‏من‏ “‏الناس‏” ‏الأوفياء، ‏‏ومن‏ ‏عامة‏ ‏الناس‏، ‏وأن ما‏ ‏يعانى ‏منه‏ ‏الآن‏ ‏هو‏ “‏فقر‏ ‏ناس‏ علينا أن نحترمه ‏كما‏ ‏نتكلم‏ ‏عن‏ ‏فقر‏ ‏الغذاء‏، ‏وفقر‏ ‏الفيتامينات‏ … ‏الخ‏، ‏

ضحك‏ ‏د‏. ‏الحسينى ‏وقال: ‏هل‏ ‏نضيف‏ ‏له‏ ‏على‏ ‏التذكرة‏ ‏جرعة‏ ‏معينة‏ ‏من‏ ‏الناس‏؟ عدد كذا من الناس ثلاث مرات يوميا مثلا؟ وضحك،

 ‏أخذت ‏ ‏ضحكته‏ ‏مأخذ الجد، وقلت له: ‏هذا‏ ‏بالضبط‏ ‏ما‏ ‏يحتاجه‏ ‏أستاذنا‏،

‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏إدارة‏ ‏المستشفى ‏كانت‏ ‏قد‏ ‏منعت‏ ‏الزيارة‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏توافد‏ ‏الناس‏ ‏عليه‏ ‏بكل‏ ‏الحب‏ ‏يطمئنون‏ ‏ويتبركون‏ ‏ويدعون‏ ‏بما‏ ‏تيسر‏، ‏وهو‏ – بتواضع سمعه وبصره معا-، ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يلاحق‏ ‏كل‏ ‏هذه الإحاطة العاطفية، ناهيك عن الرد على الأسئلة، أو الدخول فى أى حوار مهما قصُـر، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏هو‏ ‏بما‏ ‏يتمتع‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏أدب‏ ‏ورقة‏ ‏ومجاملة‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يحاول‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏أن‏ ‏يتابع‏ ‏ويستجيب‏ ‏فأنهك‏ ‏حتى‏ ‏العى‏، ‏ربما هذا هو ما دعى ‏ ‏المستشفى ‏إلى اتخاذ القرار المعتاد فى مثل هذه الظروف بمنع الزيارة ‏إلا‏ ‏على‏ ‏الأهل‏ ‏وبعض‏ ‏الأصدقاء‏ ‏الذين‏ ‏بالغوا‏ ‏هم‏ ‏بدورهم‏ ‏فى ‏عدم‏ ‏الزيارة‏ ‏حرصا‏ ‏على‏ ‏راحته‏، ‏ولكنى أدركت، ثم تاكدت، مدى افتقاره للناس، وأنه لا شفاء ولا تقدم‏ إلا بالناس، مع الناس: ‏فكيف‏ ‏السبيل‏؟ 

‏قلت‏ ‏للدكتور‏ ‏الحسيني‏، ‏نضبط‏ ‏جرعة‏ ‏تعاطى ‏الناس‏ ‏الطيبين‏، الذين يدركون من هو، وكيف، ونبدأ بالأحوج إليهم فالأحوج، نضبط ذلك بجدول: ‏بالاسم‏ ‏والساعة‏ ‏يوميا‏،

‏وقد‏ ‏كان،

عملنا‏ ‏جدولا‏ ‏بأسماء‏ ‏الأصدقاء‏ ‏ومواعيد‏ ‏الزيارة ومدتها‏ وذلك بعد أن اتصلت بمن يعرف التفاصيل اكثر، اتصلت‏ ‏بالأستاذ‏ ‏جمال‏ ‏الغيطانى – ‏معرفة‏ ‏قديمة‏ ‏حذرة‏ ‏من‏ ‏جانبى- ‏نال‏ ‏معى ‏فى ‏نفس‏ ‏السنة‏ ‏الجائزة‏ ‏التشجيعية‏ ‏عن‏ ‏روايته‏ ‏الرفاعى‏، ‏وأنا‏ ‏عن‏ ‏روايتى ‏المشى ‏على ‏الصراط‏ ‏وأصابنى ‏ما‏ ‏أصابنى ‏من‏ ‏النقاد‏ ‏والمقارنة‏، ‏وانطلق‏ ‏هو‏ ‏إلى ‏آفاق‏ ‏الإبداع‏ ‏والتراث‏ ‏والتجليات‏ ‏حتى‏ ‏أضاف‏ ‏هذه‏ ‏الأسبوعية‏ ‏المتميزة‏ “أخبار‏ ‏الأدب‏” ‏وأخيرا‏ ‏مغمار‏ “متون‏ ‏الأهرام‏” (حتى ذلك الحين)، ‏وانزويت‏ ‏أنا‏ ‏بعد الجائزة خجلا‏ ‏أن‏ ‏أكون‏ ‏أخذت‏ ‏غير‏ ‏حقى‏، ‏لأن‏ أغلب ما وصلنى من الأدباء وأهل الرأى أننى لست إلا متطفلا ‏‏على‏ ‏موائدهم‏، ‏أو‏ ‏هكذا‏ ‏تصورت ‏مما وصلنى من ‏بعض‏ ‏مناقشات‏ ‏المقاهى ‏الثقافية‏، ‏اتصلت‏ ‏بجمال‏ ‏الغيطانى (‏وليس‏ ‏له‏ ‏ذنب‏ ‏فى ‏كل‏ ‏ما ذكرتُ ، ‏لكننى ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏أحسست‏ ‏بشيء‏ ‏ما‏ ‏منه‏ ‏لم‏ ‏أتبينه‏، ‏ولم‏ ‏أختبره‏) ‏ ‏اتصلت‏ ‏به ‏وأخبرته‏ ‏بالوصفة‏ ‏التى ‏وصفتها‏ ‏للاستاذ‏، ‏وهى ‏جرعة‏ ‏كافيه‏ ‏من‏ ‏البشر‏” ‏الطيبين‏ ‏الملتزمين‏، ‏واتفقنا‏ ‏على ‏جدول‏ ‏بسيط‏ ‏محكم‏، بالاسم واليوم والساعة والمدة، فلان يوم كذا الساعة كذا لمدة كذا، وهكذا، وانتقينا الأقرب فالأقرب من الذين حفظوا الأستاذ صامتا ومتكلما، منصتا ومفكرا، منحنيا ومعتدلا، إن من يعاشر الأستاذ ينطبع ويتكيّف ويتكامل حتى مع وضع جلسته، وزاوية ميل جسمه،

اتصلوا بى، وأبلغونى أنه‏ ‏قد تم‏ ‏تنفيذ‏ ‏تعاطى جرعة‏ ‏الناس‏ كما أشرت (‏تقريبا‏). ذهبت واطمأننت من حيث المبدأ، و‏حمدت‏ ‏الله‏، ‏وقدرت‏ ‏أن‏ ‏الحالة‏ ‏إما‏ ‏ثابتة‏ ‏أو‏ ‏تتحسن‏، لكننى لم أطمئن تماما كعادتى، ورحت أراجع احتياجاته الطبية فيزيقيا، وتمريضيا، ومتابعة، فلم أجد أن هناك من التهديدات، أو احتمالات الطوارئ ما يمنعنى أن أتساءل: إلى متى؟. برغم أننى شعرت أننا نسير فى الاتجاه الصحيح، إلا أن الإجابة عن تساؤل “إلى متى”، وضعنى أمام حتم ‏‏‏ ‏المواجهة‏.

شعرت أن ‏بقاء ‏أستاذنا‏ ‏فى المستشفى أكثر يحتاج إلى حسابات موضوعية أعمق وأدق، خاصة و‏أننى استشعرت‏ ‏أن‏ ‏الزوجة الكريمة‏ ‏الفاضلة‏ ‏تخشى ‏ما‏ ‏ينتظرها‏ ‏بالمنزل‏، ‏الخبرة‏ ‏مؤلمة‏، ‏والله‏ ‏معها‏، والمسألة ليست تمريضا فحسب، بل أمن وأمان أيضا!! ‏لكن‏ ‏لابد‏ ‏مما‏ ‏ليس‏ ‏منه‏ ‏بد‏، ‏لابد من ضبط توقيت العودة إلى منزله الطيب ليعاود تدريجيا حياته كما اعتادها، وبأسرع ما يمكن، برغم كل الظروف.. أعلنت عن رأيى هذا لبعض محبيه، فوجدت مثل ما عندى فى رأى ‏الصديق‏ ‏جمال‏ ‏الغيطانى (‏أصبح‏ ‏صديقا‏، ‏أو‏ ‏كان‏ ‏صديقا‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏وأنا‏ ‏لا‏ ‏أدرى‏، ‏ما‏ ‏أسخف‏ ‏سوء‏ ‏الظن‏!!) ‏حدثنى ‏بمثل‏ ‏أفكارى ‏هذه‏، ‏وكأنه‏ ‏طبيب‏ ‏زميل‏ ‏حاذق‏ ‏يشير‏ ‏بما‏ ‏ينبغى ‏ويحسن‏ ‏التوقيت‏، ‏فحمدت‏ ‏الله‏ ‏على ما أكد لى أن  ‏المنطق‏ ‏السليم‏ هو ‏أساس‏ ‏كل‏ ‏فعل‏ ‏سليم‏، ‏وعلم‏ ‏سليم‏، وطب سليم.‏

رحت‏ ‏أمهد‏ ‏للقرار‏ ‏بزيارات‏ ‏متلاحقة‏ على غير ما كنت قررت.

 حدثُ عارض ولكن …

لم أجد فى ناس مستشفى الشرطة إلا أقصى درجات الاحترام، والعلم، والتمريض، والإمكانات، والرقة، لدرجة أننى عجزت عن شكرهم، فلم يكونوا يحتاجون شكرا، وقد خيل  لى أنه هم كذلك لأنهم كذلك، وليس فقط لأنه الأستاذ، ففرحت بهم أكثر.

على النقيض من ذلك، وبمحض الصدفة حدث ما يلى:

كنت جالسا ‏‏فى ‏مكان‏ ‏إدارى أنتظر خروج الأستاذ من فحص روتينى ما‏.  ‏كان‏ ‏يزور‏ ‏الإدارة‏ ‏فى نفس المكان شخصية‏ بوليسية كبيرة جدا جدا، ‏كانت‏ تشغل منصبا عاليا (من المعالى) مهمّا جدا، فى فترة صعبة جدا، تعرفت هذه الشخصية علىّ، فتعجبت، ولم أرحب بأكثر من التحية، فهو ليس هو الذى ..،  صدق حدسى حين سألنى عن سبب تواجدى فى المستشفى، وأى خدمة، فقلت له السبب، راح يكمل حديثه مع آخرين، فانصرفت إلى شأنى،  لكن بعد لحظات انتبهت إلى صوته الجهورى وهو ينطلق بكلام جارح ‏‏يصف‏ ‏به‏ ‏شخصا‏ ‏ما، وكأنى سمعت اسم الأستاذ‏، ‏فاستفسرت‏ ‏غير‏ ‏مصدق‏،‏ ‏فقال‏ ‏إنه‏ ‏يقصد‏ “‏نجيب‏ ‏محفوظ‏” ‏الكذا‏ ‏والكذا‏، ‏يا‏ ‏ساتر‏!! لماذا؟ ‏من هذا؟ أين نحن؟ هل يعرفه؟ ما هذا الذى يجرى علانية هكذا؟  بكل بساطة، بكل تلك الوقاحة؟ بأى حق؟  هذا‏ ‏الحكومى ‏السابق‏، ‏يلعن‏ ‏شيخى ويسبه دون أى سبب، لم يسأله أحد رأيه أصلا. هل مجرد أننى ذكرت له سبب وجودى جعله ينطلق بكل هذه القذائف!!! لم يرع حتى ظروف مرضه، أو الحادث، لم يرع حتى أصحاب الفصل هؤلاء من أطباء المستشفى وممرضيه، لم يراع عامة الحضور، ولا المكان الإدارى الرسمى الذى نحن فيه، أهكذا؟ أهكذا؟  

برغم مهنتى وطول خبرتى مع الوجه الآخر للناس، لم أكن أعرف أن الناس – أى ناس – يمكن أن يصلوا إلى مثل هذا ؟ لم أتصور أنه حتى ذلك الذى أفتى بكفر أستاذنا، يمكن أن يحمل هذا القدر مما لا أستطيع وصفه أكثر، ‏ياعمنا‏ ‏نجيب‏، ستلقاها من أين أو من أين ؟ صحيح أن هذا الحكومى جدا (السابق والحمد لله)، لا يمثل الحكومة (أو لم يعد يمثل الحكومة رسميا)، ولكنه – فى هذه اللحظة – كان يمثل لى أبشع ما يمكن أن تمثله سلطة تلقى حممها على من حولها بدون مبرر أصلا، لم أعرف لم امتدت يدى ساعتها إلى الجانب الأيمن من رقبتى، مكان طعنة الأستاذ، ربما – من فرط أننى لا أصدق – ربما كنت أريد أن أذكّـر هذا الصاروخ الملتهب أن الرجل الذى يسبه، هو مطعون فى رقبته، ومازال  راقدا فى المستشفى، لكن ما هذا الوخز فى رقبتى أنا؟  شعرت أن طعنة الشاب الغبى الذى دعى له أستاذنا بالرحمة والهداية، شعرت أن طعنته أخف من صواريخ هذا البولدوزر القبيح ذى الرائحة الكريهة  الخانقة السامة معا.

أخذت أذكر نفسى مرة أخرى بأنى طبيب نفسى – المفروض– وأننى شاهدت ما شاهدت من فقدان المشاعر، والتبلد، وانحراف الأخلاق، والقسوة حتى القتل، لكن الشعور الذى انتابنى ساعتها كان فظيعا  حتى استبعد أن يكون هناك  إنسان من نفس نوعنا بهذه البشاعة.

رأيت الاستياء مما كان على كل الوجوه التى لم يكن مسموحا لها– بطبيعة الحال وتسلسل الرتب-  إلا بالاستياء الخافت الصامت، ازداد عزمى أن أسرع بالأستاذ إلى بيته وكأننى أهرب به بعيدا عن مرمى هذه القذائف، مع أنه كان حادثا عابرا، ما أغبانى، ما هذا البولدوزر إلا زائر عابر، صحيح أنه مهم جدا، أو كان مهما جدا، ولكن لا يوجد أى داع لأن أربط بين قذائفه وبين قرار الإسراع بمغادرة المستشفى، كثيرا ما يأتينى مثل هذا الربط العشوائى دون مبرر، بل إنى شعرت  أن الأستاذ يعرف كل ما جرى دون أ ن يخبره به أحد، هو لا يعرفه إزاء شخص بذاته، أو إزاء سلطة ما، لكنه يعرف ناسه بكل ما هم، حتى لو كان منهم مثل هذا  “الشىء”، وأنه (الأستاذ) بوعى خاص، استطاع أن يحتمى بإبداعه وطيبته وبيته من شرورهم دون أن يكرههم كل هذه الكراهية التى اعترتنى، وأنه لو سمعه، فسوف يسامحه ويدعو له كما فعل مع  الشاب القاتل، وبرغم كل ذلك تأكد لى أن الإسراع بشيخنا  إلى عالمه الخاص جدا، هو القرار المناسب، الآن، وليس بعد

اشتد‏ ‏عزمى، وتأكدت أنها مجرد مصادفة لا معنى لها، إلا أن  ‏الأوان‏ كان ‏قد‏ ‏آن‏.‏

يوم الجمعة بعد الصلاة

‏أخطرت المستشف ‏بما‏ ‏نويت‏، وشرحت مبرراتى، ولم يكن لديهم اعتراض، ‏وطلبوا‏ ‏منى ‏أن‏ ‏يظل‏ ‏الموعد‏ ‏سرا‏ ‏لأسباب‏ ‏أمنية‏، ‏وفرحت‏ ‏لأننى ‏انتويت‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏مفاجأة‏، ‏أتحمل‏ ‏كل‏ ‏تبعاتها‏، ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏أشغل‏ ‏الاستاذ‏ ‏وآله ‏ ‏بحسابات قدلا يدركون تفاصيل أبعادها أو مبرراتها.

يوم‏ ‏الجمعة‏، ‏بعد‏ ‏الصلاة‏، ‏ذهبت‏ ‏كما‏ ‏اتفقت مع الإدارة، ‏صعدت إلى جناحه‏، ‏وكأن‏ ‏قلبه‏ ‏كان‏ ‏شاعرا‏، ‏فوجدته‏ ‏ممدا‏ ‏على‏ ‏السرير‏ ‏رغم‏ ‏أن‏ ‏قيلولته‏ ‏لم‏ ‏تحن‏ ‏بعد‏، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏بهدوء‏ ‏حازم‏: ‏إن‏ ‏الأمور‏ ‏قد‏ ‏استقرت‏ ‏وسنخرج‏ ‏الآن‏، ‏فزع‏ ‏كما‏ ‏توقعت‏، ‏وقال‏ “‏لا‏ .. ‏إنهم‏ ‏أخبرونى ‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏ما‏ ‏زال‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏نقاش‏”، ‏فأجبته‏ ‏أننى ‏‏كنت‏ ‏أحد‏ ‏أطراف هذا النقاش‏، ‏وأننا‏ ‏أنهيناه‏ ‏بقرار‏ ‏الخروج‏ ‏الآن‏، ‏فقال‏ لى مقاوما: ‏ولكن‏ ‏الدكتور‏ ‏المدير‏ ‏كان‏ ‏عنده‏ ‏منذ‏ ‏قليل‏‏، وأخبره‏ ‏أنهم‏ ‏لم‏  ‏يستقروا‏ ‏بعد‏، ‏فاستأذنته‏ ‏لأعود للمدير حتى أطمئن إلى انه قد بلغه ما استقر عليه المعالجون، وأحصل على موافقته النهائية (وكنت قد حصلت عليها)، ونزلت وأنا ‏أعرف‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏منتهية‏، ‏وحين‏ ‏عدت‏ ‏وجدت الأستاذ ‏ ‏ما‏ ‏زال‏ ‏على ‏السرير‏ ‏وقد‏ ‏غطى ‏وجهه‏ ‏بالملاءة تماما كأنه يستجلب‏ ‏النوم‏. كنت قد اصطحبت زوجتى معى – وهى لم تره من قبل – لكننى رجحت أن اصطحابها معى قد يضيف إلى الموقف لمسة من حميمية مصرية بسيطة تسهل لنا الأمر بشكل أو بآخر، راحت ‏زوجتى ‏تبادل‏ ‏زوجته‏ ‏الحديث‏ ‏وتطمئنها‏، وتقدمت أنا أقترب منه وجلا وأنا أكشف  الملاءة، ولم يكن نائما طبعا، كان يبدو كما لو كان مختبئا من مواجهة العالم الخارجى، أو راغبا فى تأجيل القرار، هكذا تصورت، أبلغته أننى أعدت التأكد من المدير وأنه موافق مائة فى المائة على القرار، وأنه مقتنع أن القرار علمىّ وعلاجىّ ونهائىّ، فجأة، – أى والله – انقلب الخوف والتوجس إلى انفراجة بسمة هادئة، وإن كانت بعيدة، راحت تتقدم حثيثا حتى ملأت وجهه، يصاحبها استسلام طيب، وكأنه هو الذى اتخذ القرار قبلنا،  ولمحت المقاومة تتراجع، وكأنها تستأذن لا تنزاح.

البيت البيت

‏‏البيت‏، ‏(الذى هو يختلف لو سميته المنزل، هكذا خيل إلى وأنا أكتب الآن) يقع على‏ ‏الناصية‏ ‏المقابلة فى ‏الدور‏ ‏الأول‏، ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏الأمر‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى‏ كل تلك الموتوسيكلات، أو إلى تلك العربة الرسمية التى تتقدمنا، نجيب محفوظ رجل بيتى، البيت هو قلعته، وأمانه، وبرجه، ومهبط وحيه، لكن الشارع والناس هم كل شىء فى حياته، معادلة تبدو صعبة، لكنها الحقيقة،

بمجرد‏ ‏أن‏ ‏وصلنا‏ البيت حتى تقدمت انفراجة البسمة التى كانت متررددة فملأت صفحة وجهه، ‏وارتاحت‏ كل ‏الأسارير‏، حتى ملأت أرجاء البيت كله، ما ظهر، وما خفى من زواياه وأركانه،

. . . . .

شيخى عاد إلى قلعته ‏وكأنه‏ ‏لم‏ ‏يفارقها‏ ‏ ‏

أبدا‏، ‏أخذت‏ ‏أداعبه‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏ ‏منذ‏ ‏زرته‏، ‏ورددت‏ ‏عليه‏ ‏قول‏ المرحومة خالتى أنه “‏يا‏ ‏دارى‏، ‏يا‏ ‏ستر‏ ‏عارى‏، ‏يا‏ ‏منيمانى ‏للضحى ‏العالى”.

‏ مال‏ ‏إلى ‏الخلف‏ ‏وجلجلت ضحكته التى سمعت عنها وعشتها بحجمها ‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏.

‏ ‏شيخنا‏ ‏يعود‏ ‏إلى ‏بيته

وتعود‏ ‏إليه‏ ‏-إلينا- ضحكته

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *