- الأهـداء والمقدمة
- الفصل الأول
حيرة بين
الصحة والمرض
- الفصل الثانى
الوشم بالتشخيص
- الفصل الثالث
البحث العلمى
- الفصل الرابع
فى التعليم الطبى
- الفصل الخامس
العلاج أولا
والعلاج أخيرا
- الفصل السادس
ولادة فكرة
- ملحق الكتاب
مستويات
الصحة النفسية
- مراجع الملحق
حيرة طبيب نفسى
نهاية وبداية
أ.د يحيى الرخاوى
1972
الاهـــداء
“إلى زوجتى.. رفيقة الطريق
وأولادى..
على الطريق”
يحيى الرخاوى
“كل مذهبين مختلفين إما أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا، وإما أن يكونا جميعا كاذبين، وإما أن يكونا جميعا يؤديان إلى معنى واحد هو الحقيقة، فإدا تحقق فى البحث وأنعم النظر، ظهر الاتفاق وانتهى الخلاف”
ابن الهيثم
مقدمة:
أنا أعيش فى حيرة منذ زمن طويل، شأن أى إنسان يسمح لعقله بالعمل دون خوف، إذ لم تنجح كل القيم الموروثة، والعلم المطبوع، والاجماع أحيانا، أن يحولوا دون أن يظل التساؤل يلح على، فأقبل الشئ وضده فترة من الزمان، وبعد ذلك إما أن أرفضهما معا، أو أن يتفقا فى كل جديد مثلما حدث.
وأنا كطبيب – وطبيب نفسى – أعرض حيرتى بأمانة وحذر مدركا صعوبة الطريق: بأمانة لأن غير ذلك مستحيل، وحذر حتى لا أفتح الباب أمام تقويض ماهو قائم قبل أن أقدم البديل، والبديل هو “الثورة’ بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، فبالرغم من أن لها سمعة طيبة إلا أن لها كذلك وقعا خاصا.
وأول سؤال يتبادر إلى الذهن فى هذا السبيل هو:
لماذا أطرح قضية خاصة بالطب النفسى على القارئ غير المتخصص، فى حين أن القضية تبدو شديدة التخصص، كما أنى لابد سأتعرض لمناقشة مفاهيم ومصطلحات قد تحوى تفاصيل كثيرة ومحيرة؟
والإجابة صعبة تماما… وربما هى شخصية نوعا ما.. وقد طرحت مثل هذا السؤال وناقشته فى مقدمة كتابى الأول عن “حياتنا والطب النفسي’ ، حيث حاولت أن أعقد صداقة بينى وبين القارئ، وحين زادت حيرتى أخيرا، وجدت أن خير من يسمع لى ويشاركنى هو القارئ الذى سعيت إلى صداقته منذ البداية، ولقد وجدت أنى بذلك أحاول أن أكسر الحاجز الذى يحيط بالطبيب عامة وبالطبيب النفسى على وجه الخصوص.. ووجدتنى أقتطع جزءا من نفسى لأعرضه على القارئ بأمانة، وأحمل كلماتى ما تستطيع أن تحمل من حب وصدق وأمل، راجيا أن يصل بعض ذلك إلى عقل القارئ ووجدانه، فيصاحبنى على الطريق أو يسمح لى بمصاحبته، ووجدتنى قد عقدت صداقة مع القارئ يحق لى من خلالها أن أعرض عليه ما يعتمل بداخلى هذه الأيام، وقبل هذه الأيام، حتى ولو كانت هناك تفاصيل تبدو لأول وهلة… إلا أنى أراها أقرب إليه مما يتصور المختصون.
وفى تصورى أن القارئ غير المتخصص قد يقبل “ثورة’ فى الطب النفسى لحاجته إليها، فهو صاحب المصلحة الأول، والأمر يهمه قبل أن يهم المختصين، فإن المقاومة العنيفة التى تلقاها أية دعوة جديدة تأتى بادئ ذى بدء من أقرب الناس إليها، لأنهم ارتبطوا بمفاهيم ثابتة نظمت طريقة تفكيرهم، ووضعت أجوبة لتساؤلاتهم.. ارتضوها على ما بها من نقص، واحتموا وراءها من مسئولية التفكير والمراجعة.. وربما لهم حق- أو لهم العذر- فما أضنى التفكير الحر والمراجعة، وماأسهل التطبيق والمتابعة.
فإذا نجحت – بعرضى هذا الجزء من نفسي- أن أوكد أواصر الصداقة التى سعيت إليها جاهدا من أول كتاب ظهر لي.. فقد قاربت هدفى، وإذا لم أوفق فقد عرضت مشكلة أحياها منذ زمن طويل.. بكل عنفها وقسوتها.. ثم إذا بى – فجأة هذه الأيام – أرى حلها أقرب مما تصورت.. مما قد يفتح آفاقا جديدة فى التفكير والبحث، على أنى أعترف أنه بالرغم من شعورى بهذا الجديد واختلافه عما قبله، ورغم إحساسى ببعض التناقض مع ما كتبت قبلها إلا أنى كلما راجعت ما كتبت خلال سنوات وجدت فيه شيئا مثل هذا الجديد الذى أعيشه الآن، وعموما لم يخل مقال لى من بعض ملامحه، وأتعجب، وكأن قلمى يرصد إرهاصات فكرى قبل ولادتها وقبل أن أدرى بها وأعايشها بهذا الوضوح.
والسؤال التالى مباشرة هو:
هل سأعلن قيام الثورة وخطتها مرة واحدة.. فى هذا المقام.. وداخل هذا الحيز؟
والإجابة بالنفى طبعا، فهذا مستحيل لأكثر من سبب، فالأمر يحتاج إلى تقييم شامل للقديم ومقارنات ومعارضات وعرض حالات وتتبعها إلى آخر هذه القصة المطولة التى تستغرق عمرا بأكمله، ولكنى هنا أحاول- بصراحة- أن استغل حسن نية القارئ وثقته لأعرض تسلسل أفكارى التى اكتملت منذ وقت قصير، والتى حسبت حينذاك أنها ينبغى أنتقال الآن ولو بفجاجتها غير المنقحة، لذلك فإنى سأكتفى بعرض المشاكل العظيمة التى نعيشها نحن الأطباء النفسيين ونعانى منها الأمرين، واعتذر لصيغة الجمع، ولكنى أؤكد ابتداء أن كل جهل أو قصور أو حيرة هى صفاتى الشخصية التى أدركها تمام الإدراك، والتى لا أشرك فيها أحدا سواى من زملاء المهنة، فليتفق معى منهم من يشاء فيما يحس بصادق شعوره.. أو ليتركوا لى النقص وحدى، وأغلب الناس تحسب أن الأطباء النفسيين قد وجدوا لكل حلا جاهزا مغلفا بورق لامع يضئ الطريق ولايخطئ، فى حين أنهم يحتارون فى معظم الأمور حيرة صادقة وعميقة، ورغم ذلك فهم يحاولون فى كل لحظة..رغم أنهم لاينجحون فى كل مرة، وقد كنت مع استاذى الدكتور عبد العزيز عسكر منذ بضعة أشهر أساهم فى استشارة بشأن شاب من هذه المجموعة التى سأشير إليها مرارا فى الصفحات المقبلة، وهى فئة الشباب المتفوق أشد التفوق، المهذب أعظم الأدب، المثالى الهادئ المطيع، الذى يصل إلى سنة معينة من مراحل دراسته، وبدون أى سبب ظاهر يبدأ فى التعثر فالتدهور، وقال أستاذى ونحن ننزل الدرج من عند زميلنا الداعى إلى الاستشارة ‘… ماأسخف كل هذا… ولد ممتاز بهذا المستوى.. ينهار أمامنا هكذا.. ونحن نجتمع وننفض.. لانستطيع أن نساعده كما ينبغي.. إنه لعار على فرعنا أن يقف مكتوف اليدين أمام هذه المشكلة’- واحترمت هذه البذور الثورية التى مازال استاذى ينثرها فى شباب على الأجيال التالية، يثيرهم حتى يرعوها لعلها تنبت الحل، وكان هو أول من علمنى الثورة، أو قل كان أول من حافظ على الثورة فى لأنه لم يحاول قمعها، وقلت له “للأسف نعم… فإنى أكاد أقارن بين هذه الحالة بعينها.. وأول حالة وصف فيها مرض الفصام سنة 1860 حيث وصفه الطبيب النفسى البلجيكى موريل Morel فى طالب يبلغ من العمر أربعة عشر عاما- كان الأول فى امتحاناته دون بذل مجهود كاف.. أو بدقة أكثر دون استذكار.. وبدون أن يشعر بدأ يفقد بهجته وأصبح حالما ساهما.. يميل إلى الانطواء، وقد أظهر هذا الشاب حالة من الاكتئاب والكراهية نحو والده.. وصلت إلى درجة التفكير فى قتله، وابتدأ الصغير يفقد كل ما تعلم بالتدريج، وبدت على قدراته العقلية حالة توقف مزعج فبدا كسولا يعلوه الغباء- بديلا عن التوقد الذكى الحاد والنشاط السابقين، وحين قمت بفحصه خيل إلى أنه فى طريقه إلى حالة من التدهور العقلى لارجعة فيها’.
ما أشبه الليلة بالبارحة كما يقولون.. منذ أكثر من مائة سنة وعشر يصف موريل هذه الحالة بهذه الدقة، ومازلنا نراها هى هى، ونجتمع فى “كونسلتو’ لصعوبتها، ونتبادل الآراء، ونكتب دواء يفيد أحيانا فى أول المرض.. ولايفيد كثيرا إذا تأخرت الحالة.. وهى عادة ما تصل متأخرة لبدايتها التدريجية الخفية، ثم ننصرف غير آملين، ويلقى أستاذى بعد خبرة تقارب الأربعين عاما فى مجال الطب النفسى هذا التساؤل الثورى، ويعلق بأنه “عار علينا كل ذلك..’ نعم.. إنه لكذلك.
أى حيرة نعيشها جميعا:
وبرغم تقدم الطب الدوائى والعلاج النفسى وغيرهما، فمازلنا نقف أمام علامات استفهام تجعلنا نتألم ربما أكثر من المريض وأهله.. وقد سمعت زملاء صغارا لم يسيروا شوطا طويلا فى هذا الطريق بعد، يثورون قائلين “إنه لا يمكن أن تستمر الحال هكذا، لابد من حل…. وإلا..’، وكنت أفهم أنهم يشيرون إلى التحول عن هذا الفرع من الطب إلى فرع أكثر تحديدا وأقل ألغازا.
ولكن..
إذا عرض الأمر هكذا على القارئ العادى، ألا يهز ذلك معتقداته فى الطب النفسى والعلوم النفسية التى نالت من الدعاية والترويج أكبر كثيرا من درجة نضجها؟ ألا يعرى ذلك الأطباء النفسيين أمام المرضى والناس بصفة عامة، وهم فى أشد الحاجة إليهم رغم كل شئ ؟ ألا يضعف ذلك من الثقة بهم وبما يلقونه من تعليمات أو عقاقير أو نصائح ؟ أليس فى ذلك من الضرر أكثر مما فيه من النفع؟
ولكن لا…
الأمانة والصدق- مع الناس عامة ومع الأصدقاء- المرضى وغير المرضي- خاصة، هى أقرب الطرق للوصول إلى الحقيقة، رغم ما يصاحبها من مرارة وألم.
على أنه ينبغى أن يؤخذ الأمر بحذر كما فهمت منذ البداية، فإذا أنا قلت أن تشخيص الأمراض النفسية ليس حاسما، فهذا لايعنى أنه هناك تشخيص أو بديل عن التشخيص، وإنما يعنى أننا نسعى إلى وضع أفضل نستطيع فيه أن نسمى الأشياء بأسماء أفضل وأدق.
وإذا أنا قلت أن علاج الأمراض النفسية ليس نوعيا فى أغلب الأحوال، وأن معظم الأطباء النفسين وغير النفسيين يعطون الدواء دون معرفة مكان وطريقة عمله بالتفصيل، فإن ذلك لايعنى أنه لاداعى لتعاطى هذه الأدوية حتى نعرف طبيعة عملها، إذ يكفى أن نعرف تأثيرها وفاعليتها، الأمر الذى يتيح الفرصة لما لا يقل عن سبعين أو ثمانين فى المائة من المرضى النفسيين لدرجة من التحسن تخفى أعراضهم وتعيدهم للحياة يكملون الطريق، أما تفسير لماذا تحسنوا فليأت وقتما يأتى، فهذا هو الطب منذ مبدأ التاريخ، ولايمكن أن نسمح لأنفسنا أن نترك المريض يعانى لمجرد جهلنا بالتفاصيل، ولا يمكن أن نشجع المريض على أن يقاوم العلاج لأن العلم قاصر، فإن إمكانيات اليوم أفضل ألف مرة من إمكانيات الأمس، وسوف يتقدم العلم باستمرار، وسوف يظل قاصرا باستمرار، هذه هى طبيعة الأشياء.
ولكن عرض موقف الطب النفسى والصعوبات التى يعيشها فى هذا العصر إنما يجعلنا أكثر صدقا مع أنفسنا، ويحول بيننا وبين التراخى أمام المشكلات الحادة المتراكمة ويبرر الحاجة إلى ثورة شاملة نحو علم أكثر تناسقا وثباتا، وهو فى نفس الوقت يخفف- مرحليا- من غلواء الناس فى التعلق بألفاظ شائعة، ولافتات ثابتة، ويهربون تحتها إلى دعة المرض، وينتظرون الطب الحديث وكأنه السحر العلمى الذى يخفف الآلآم ويحل الصراع بملعقة قبل الأكل أو قرص قبل النوم، وهو أخيرا يحمس فريقا من الأطباء النفسيين ألا يحتموا وراء ماهو قائم من تقاسيم ومفاهيم، ظانين أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان وأن كل ماعليهم أن يتبعوا الصف فى نظام، بل عليهم أن يحاولوا أن يذيبوا الجليد ويحطموا الأصنام ليصلوا إلى الحقيقة.
* * *
وقد لا يهم القارئ كيف بدأ الموضوع وكيف تطور، ولكن ألا يمكن أن يكون فى هذا العرض التاريخى جانب آخر ؟ كأن يرى مثلا معاناة طبيب نفسى فى ممارسته لمهنته، وفى تطور فكره، فى حين أنه يحسب الطبيب النفسى خالى البال بالغ الاستقرار والهدوء، ألا يمكن أن يرى من خلال ذلك كله الطبيب النفسى وهو يمارس إنسانيته فى حيرة إنسان العصر الحاضر، وهو يريد أن يكون الغد أحسن، والعلم أنفع، والخداع أقل ؟
الفصل الأول
حيرة بين الصحة والمرض
ماهى الصحة النفسية
“إن الشخص السوى الكامل لم يخلق بعد… ولكن يقاس الرجل العاقل بالقدر الأكثر والقدر الأقل، فإذا كان القدر الأكثر فيه هو قدر العقل وقدر الجنون هو الأقل فيعتبر هذا الرجل عاقلا والعكس صحيح”
أبو الحيان البصرى
(من رواية.. عن “نزيل” بمستشفى عقلى)
من هو السليم ومن هو المريض نفسيا؟
كانت هذه أول مشكلة تواجهنى فى ممارستى للطب النفسى، وقد حسبت أول الأمر أنها مشكلة خاصة، لأنى لم أقتنع بكل ما قيل من مقاييس، وظلت هذه المشكلة تؤرقنى طوال هذه السنين حتى اهتديت إلى حلها بتنويع الصحة وتصنيفها وعدم قبول مستوى واحد أو مفهوم واحد لها، وقد مرت على قبل ظهور هذه الفكرة مراحل متعددة سوف أذكر بعضها موجزا فى عرض حيرتى، وقد كانت آخر هذه المراحل أنى ألحقت بحثى عن الصحة النفسية بآخر هذا الكتاب، فليقرأه من شاء، وليكتف برؤية حيرتي- هنا- إزاء هذه المشكلة من يريد، فقد وعدت أن يكون هذا الكتاب لغير المتخصص، ولكنى أيقنت بعد قراءة البحث كاملا أنه قد يفيد قارئ هذا الكتاب فعلا.. لذلك فإنى أعتذر ابتداء إن بدا الملحق منهجيا أو معقدا…
- إن حيرتى إزاء هذا السؤال عن الفرق بين الصحة والمرض قديمة جدا بدأت معى منذ بدء اشتغالى بهذا الفرع، ولكنى كنت من قبل أن أصبح طبيبا – اعتبرت الحرب جنونا صريحا، فى حين أصاحب بعض الذين يقولون عنهم “مجانين” وأفهمهم وأحترمهم أكثر من العقلاء “المرسومين” على مكاتبهم أو وراء نياشينهم. وكان انتقال رؤيتى بين هؤلاء، وأولئك يزعجنى جدا، فأكاد أقلب الوضع وأسمى العاقل مجنونا والمجنون عاقلا، غير أن عقلى الطبى المحترم أخذ يحاول أن يهدينى ويثبت قدمى، لأعود إلى المقاييس التى لم تقنعنى أبدا.
المرض السرى المشروع:
وفى حماس الشباب تلفت حولى لأرى البنات اللاتى يغمى عليهن فى كل البيوت وكل الأفلام، يمارسون هستريا “مشروعة”، ورأيت كأن أشد الأمراض، وهو الفصام، منتشرا فىالحياة العامة انتشارا مذهلا حتى أنى كتبت أول مقال ظهر لى سنة 1964 عن هذا الموضوع فى عددين متتالين من مجلة الصحة النفسية تحت عنوان “الفصام فى الحياة العامة”، وكنت أنوى أن استمر فى هذه السلسلة أكشف اللثام عن سائر الأمراض النفسية المنتشرة بيننا “فى السر”، فأكتب عن “الهستريا فى الحياة العامة”، و “الاكتئاب فى الحياة العامة”إلى آخر تصانيف الأمراض، ولكنى لم أتماد فى ذلك حيث أدركت أنى وقعت فى المحظور الذى يقع فيه كثير من الأطباء النفسيين بالرغم منهم حين يرون الأمراض النفسية منتشرة انتشارا هائلا بين الناس، ولكنها تأخذ مشروعية غريبة لمجرد تماسك صاحبها و “تكيفه”، ورفضت أن نطلق الأسماء على المرضى دون هؤلاء الأشد خطرا الذين يمارسون مرضهم خارج الأسوار بصورة سرية ومشروعة فى ذات الوقت، إلا أنى انتبهت مبكرا إلى ما انزلقت إليه، وتوقفت، وعدلت عن هذه الفكرة تماما حين وجدت أننى قد أهز كثيرا من القيم السائدة والتصرفات المألوفة دون بديل، وحين تطور فكرى أصبحت أرفض تسمية الصديق المريض اسما تشخيصيا معينا، فما بالك بالناس فى بيوتهم، وهكذا حققت العدل مع نفسى ومع أصدقائى المرضى، فإما أن نسمى كل الناس هذه الأسماء بما فيهم المرضى، وإما أن نكف عن استعمال هذه الأختام على كل الناس بما فيهم المرضى (وكل ذلك سيأتى تفصيلا عند حديثى عن مشكلة التشخيص).
ولكنى أجد نفسى أقدم بعض مقتطفات من هذين المقالين حتى يعرف القارئ أننا إذا سمحنا لأنفسنا باستعمال مقاييس الأعراض فحسب بعدل ومساواة، فإنه يمكن أن نجد فى الحياة العامة ما نجده بين المرضى…. وزيادة ، وكان هذا مما حيرنى دائما.
قلت فى هذين المقالين:
”… إذاً فإننا نحاول أن نقول أن مرض الفصام – المرض النفسى الخطير أو العقلى الشديد – يوجد فى الحياة العامة كما يوجد فى مستشفيات الأمراض العقلية والعيادات النفسية سواء بسواء، إن لم يزد عددا ويشتد خطرا، وذلك لأن وجوده فى الحياة العامة فى تلك الصورة الملتوية، لهو أشد وأخطر على المجتمع وذلك لعدم اعتبار هذه أمراضا تستأهل الوقوف عندها والتأمل فيها وإدراك ماهيتها وسبر غورها، ومن ثم علاجها ووقاية حامليها ومعاشريهم من خطرها.
ثم قلت:
”… وهناك عرض عام يشمل كل نواحى الشخصية عند المريض الفصامى، ذلك العرض الذى يمكن ان نطلق عليه اسم “الذاتية المطلقة” (أو إذا شئنا الترجمة الحرفية “التشخصن” Personalization) حيث لا يعنى المريض بحال من الأحوال إلا بما يهم ذاته بل وإنه ليصبغ كل ما حوله بهذه (الصفة) الشخصية حتى لا يصبح للأشياء.. والناس.. قيم موضوعية أصلا، وإنما تصبح المعانى والقيم هى مدى علاقتها بالمريض نفعا أو ضرا أو أهمالا، ومن هنا يمكن تفسير الانطواء وأحلام اليقظة وتبلد الشعور: فالانطواء عجز عن التكيف الموضوعى، وتبلد الشعور هو عدم القدرة على منح عواطفه لأى أحد سوى نفسه، وأحلام اليقظة هى تفكير يحقق للذات رغبة شخصية بأيسر السبل دون أدنى عناء، بل إن الظاهرة التى سميت “فقدان النفس” والتى تعنى أن المريض لا يدرك الحد الفاصل بين شخصه وبين ما حوله، فلا يتعرف على نفسه ككيان قائم بذاته وسط عالم من الناس والأشياء – هذه الظاهرة التى حاولوا تفسيرها بفقد الإرادة والقدرة على التحديد، أعتقد أنها تعنى احتواء العالم وليس فقدان الذات، بمعنى أن العالم أصبح جزءا من نفسه فلا حدود بينهما، وليس أن نفسه أصبحت جزءا من العالم فانعدمت الفواصل”.
ثم أوردت بعض الأمثلة التطبيقية فى المجالات المختلفة.
أولا: فى مجال الأسرة
1- الأب القاسى… الذى تتمثل ذاتيته وتبلد شعوره فى قسوته التى تبلغ حدا مفزعا… وقد تصل هذه الذاتية بهؤلاء الآباء درجة تسمح لهم بأن يمنوا على بنيهم كل ما يمنحونهم – أو ما منحوهم – حتى المأكل والمشرب والمأوي… وعادة ما يصور ذلك الأب نفسه بصورة البطل المضحى المتفانى الذى لا يهدف إلا إلى تقويم الفاسد والذود عن الأخلاق.
وهو يتمنى لأولاده الخير ما داموا جزءا من ذاته، فاذا ما انفصلوا عنه لم يعد يتمنى لهم ذلك، بل ربما تمنى لهم الشر… فإذا استقل أحدهم عنه وأصاب نجاحا ما، عيره بأن نجاحه هذا (أيضا) فضل منه (رغم اختلافهما) ذلك لأنه حمله صغيات (كروموزومات) النجاح (بالوراثة).
2-الأم أو الزوجة السلبية: التى تتصف بالطاعة العمياء فلا تعصى لزوجها أو حتى بنيها أمرا، وقد كانت هذه الصفة القديمة من الصفات الحميدة، ولكنها قد تصل إلى إلغاء كيان الزوجة أصلا فتفقد معالم نفسها ويشل تفكيرها، بل وقد تتصف أفعالها بالأسلوبية (الآلية الحركية) حيث تقوم بدورها فى المنزل بطريقة آلية رتيبة قد لا تتغير على مر السنين، وتكون علاقتها بأبنائها مثل علاقتها برجلها (سلبية تماما) أو هى تحتويهم فيكون تعلقها بهم مرضيا، وعادة لا يكون لها أى اتصال بالمجتمع فهى بذلك تتصف بالانزواء، فالأعراض شبه الفصامية هنا هى: السلبية والطاعة الآلية وفقر التفكير وفقدان الذات والأسلوبية.
ولعل هذا الحديث يدفعنا إلى تفسير ما ذهب اليه البعض من غلبة حدوث الفصام بين الرجال عنه بين النساء، وفى الحقيقة أن الأمر قد يكون غير ذلك، إذ أن النسبة التى يتحدث عنها هؤلاء هى نسبة المرضى الذين يرونهم، وليست نسبة المرضى فى المجتمع الأوسع، إذ أن السيدة التى تعيش فى كنف زوجها سلبية طيعة عمياء لا إرادة لها ولا حول ولا قوة، لا تتعرض عادة إلى ضغوط المجتمع الخارجية، وبالتالى لن تضطر أن تنهار حادا معلنا يستتبع عرضها على الاخصائى (ومن ثم الإحصائى).
3- الطفل أو (الشاب) المثالى: .. الهادئ الخجول الذى ليس له من شقاوة الأطفال نصيب، والذى نسمع تعليقات زائرات أمه عنه أنه: “اسم الله عليه وعلى حواليه، قاعد بيننا زى واحد كبير، يارب عيالنا يبقوا فى هداوته…” هذا الطفل (أو الشاب) إذا تطورت حالته فزاد انطواء، وإذا تجسمت طاعته فأصبحت آلية عمياء، وإذا عنفت مثاليته فوسعت الشقة بينه وبين الواقع، لن يعدو أن يصبح ذا شخصية شبه فصامية أو أن يكون صورة محورة من الفصام ذاته …، ويتصف هذا الطفل أو الشاب – رغم مثاليته – بالذاتية المطلقة حتى أن هذا العالم لا يعنى عنده إلا ما يتعلق بشخصه، وقد حكى لى أحدهم أنه بينما كان فى رحلة مع زملاء له، إذا بأحدهم يقع من شاهق فيندفع الجميع إلى رؤيته، وكان قد لفظ أنفاسه أو كاد، وإذا بهم يستعيرون “منديله” – منديل محدثى – ليضغطوا به موضع النزيف، وإذا به فجأة يضبط نفسه وسط هذه المأساة لا يفكر إلا فى مدى ما سوف يصيب منديله من قذارة، وعما إذا كان من السهل إزالة الدم منه أم لا؟ فهو لم يأخذ من كل هذا الموقف – رغم خطورته – إلا ما يتعلق بشخصه – رغم تفاهته – وهو منديله، وكانت هذه الحادثة وحدها هى السبب الذى دفعه إلى عرض نفسه على أخصائى.
4- الزوج الغيور: ذلك الزوج الذى يقتله الشعور بالنقص، ويتبع ذلك الشكوك المضنية التى ليس لها ما يبررها، والتى قد تكون ضلالات تشككية لا يمكن تصحيحها – هذا الزوج قد يبلغ من تبلد شعوره وقسوته أن يحجر على كل تصرفات زوجته، وأن يشك فى كل أفعالها وأن يحبسها داخل سجن رهيب متصورا بذلك أنه يدافع عن العفة ويحميها من شيطانها… وأحيانا يصل به الحال أن تمتد شكوكه إلى أبنائه، وقد يتصور أنهم على علاقة بأمهم أو بعضهم ببعض، وقد يشك حتى فى أمه وفى صحة نسبه، وقد يخفى هذه الشكوك – بذكائه – فلا يصرح بها إلا حيث يعلم أنه سيفرضها فرضها وأنه لا مجال لمناقشته فيها، ورغم خطورة هذه الأعراض فإن هذا الزوج عادة ما يوجد فى الحياة العامة دون العيادات النفسية أو مستشفى الأمراض العقلية وذلك لأنه لا يعتبر نفسه مريضا ولأن من حوله لا يجرءون لا على إقناعه بذلك ولا على إرغامة على الذهاب للطبيب.
ثانيا: فى مجال العمل
… وهذا يخلق بنا أن نتساءل : هل الفصامى هو الذى يفقد الإرادة ويفقد القدرة على الإنتاج، وتبعد الشقة بين أحلامه وآلامه… وبين إنتاجه الفعلى؟ أم أن الفصامى هو الذى يتحوصل على نفسه ويحتوى العمل كجزء من كيانه يحقق به ذاته فيستغرق فيه بلا هوادة، وقد يصل فيه إلى مكاسب حقيقية لا سيما إذا صاحب ذلك “مثابرة الهروب..” أى أنه يهرب من المجتمع وضغوطه بالمثابرة على عمله والانهماك فيه، هل الفصامى هو هذا أم ذاك؟ أم أنهما وجهان لصورة واحدة ؟ الحقيقة أنهما وجهان لصورة واحدة. والدليل على ذلك أننا كثيرا ما نرى الفصام فى صورته الأولى (عدم القدرة على الإنتاج والانزواء والاستغراق فى أحلام اليقظة) يحدث عادة فيمن كانوا أوائل فى دراستهم أو مبرزين فى عملهم بل ربما نوابغ عصرهم، أى أن العملية مجرد انتقال من صورة إلى صورة، وهذا يفسر فى كثير من الأحيان الوهم الشائع بين العامة أن كثرة العمل تؤدى إلى الانهيار، وحقيقة الأمر أن كثرة العمل تكون صورة هروبية وتعويضية للمرض الخفى، الذى متى نجح فى الظهور مؤخرا، جاء بعد فترة من الإرهاق، والاستغراق فى العمل، وكأنه نتيجة له، ولكنه فى الحقيقة سبب هذا الاستغراق.
… وهنا يثار سؤال جديد:
أليس لاضطراب التفكير الفصامى دور هدام على التفكير المنتج؟ ألا يكون حائلا دون العمل والإنتاج؟ والإجابة على ذلك أن الذى يستطيع احتواء عمله أو “دراسته” داخل ذاته، فإنه يتقوقع فى حوصلته، ويصبح العمل جزءا من نفسه وليس تابعا لغيره، فينتج بغير حساب، وكأنه ينمى جزءا صحيحا من تفكيره على حساب جزء مريض والاثنان يخدمان ذاته، وذاته فقط، وهذا يفسر كثيرا من دارج القول “اللى يشوفه فى شغله .. ما يشوفهش فى بيته”.. وذلك لأنه احتوى العمل فأصبح جزءا من نفسه، أما ذووه فقد أصبحوا يمثلون المجتمع الذى عجز عن أن يتكيف معه، لأنه عجز عن أن يحتويه.
…. والفصام فى صورته المحورة – بصفة عامة – يدفع بصاحبه إلى امتهان مهنة خاصة بعيدا عن المجتمع، لا يضطر فيها إلى الاعتماد على غيره أو الاحتكاك به، فنجده بين أكداس الكتب أمينا لمكتبة، أو بين قوارير صامتة عالما فى معمل خاص، أو بين موسوعات المراجع محققا للتاريخ.. أو غير ذلك من الصور، وفى مجال الطب مثلا نجده بين أطباء المعامل، وأحيانا بين الجراحين الذين قد يتصفون بالقسوة البالغة حتى يرضوا نزعاتهم العدوانية وسيطرتهم على الطبيعة ومن ثم على مرضهم، وأحيانا بين اطباء الأمراض النفسية – الأمر الذى ينبغى الانتباه إليه فى انتقاء المشتغلين بالفروع المختلفة، ففى الجراحة يجب أن يخشى من مثل هذا الطبيب الذى قد لا تتوقف ميوله العدوانية عند حد استعمال المشرط لما هو مهيأ له، بل قد تتعداها إلى التجارب غير الإنسانية فى أجساد البشر المخدرين، وفى الأمراض النفسية ينبغى أن تبعد الحالات الشديدة، التى لا يرجى لها برء تام، عن هذا المجال، حتى لا يسقط الطبيب ما بنفسه على مرضاه، وحتى لا يتهمهم بفقدان المشاركة الوجدانية فى حين أن العجز قد يكون فى تبلد شعوره هو.
ثالثا: فى مجال الأدب والفن:
(وكنت أتصور أن تقييم مظاهر الأشياء وصفيا يسمح لى بأن أسمى مظاهر الخلق بأسماء الأعراض، ويجد القارئ بعض ذلك فى الفصل الأول فى نظراتى فى الأدب فى كتابى “حياتنا والطب النفسي” رغم أنى حاولت أن أخفف من غلوائى فى التسميات التشخيصية، ولكنى تركت أغلبه كما هو، تسجيلا لمرحلة تفكيرى هذه التى جعلتنى أقول):
لعل مظاهر الفصام فى الفن تعتبر من أظهر صوره… – هذه الصورة الواضحة هى التى أطلقوا عليها فن اللامعقول – أو أدب اللامعقول – فيها كل أعراض الفصام من فقد الترابط وانطلاق اللاوعى بلا تحويرا ولا تطوير، ليعبر عن نفسه كما هو : فجا بكرا غير منظم ولا متناسق ولا محدد المعالم، تختلط فيه الأمور والأشكال والتعبيرات – صورا أو ألفاظا – .. وذلك الفن الذى لا يتقيد بالواقع وحدوده، ولا يمكن الاتفاق على معنى معين له، بل كثيرا ما يمثل مادة خاما يسقط عليها كل مشاهد ومستمتع ما يراه هو مما يحمله داخل نفسه..!
رابعا: فى مجال السياسة
وتتمثل مظاهر الفصام فى مجال السياسة فى شواذ السياسيين وتجار الحروب وقطعان الشباب الفاشي.
(وقد تحدثت فى المقال عن هتلر، ولكنى أكتفى باقتطاف حالة من الشرق لأن الحديث عن هتلر يحتاج فى نظرى الآن إلى تفصيل أكبر، قلت:)
” والمثال الحديث فى شرقنا القريب… هو حالة “عبد الكريم قاسم” الذى كان يتصف بالفردية والطغيان كما كان يشكو صراحة من الأرق المزمن ويدعى أن ذلك سهر على مصالح الشعب، وقد تذبذبت تصرفاته دائما بين النقيض والنقيض وانطلق خياله فى مجالات أحلام اليقظة دون أن يصحب ذلك أى عمل جدى لتحقيق هذه الأحلام، ومثال ذلك حديثه عن الاستيلاء على فلسطين المحتلة (!) فى أيام قليلة، وكان مظهر فقدان الشعور لديه تلك القسوة المجنونة التى استخدمها فى التشكيل بأعدائه وأصدقائه على السواء إلى حد القتل والسحل، ثم ميوله التوسعية الوهمية التى لا تتفق مع روح العصر وطبيعة الأشياء، وذلك فى إعلانه غزو دولة الكويت، ولعل فرديته وانطواءه هما اللذان حالا بينه وبين الزواج، شأنه فى ذلك شأن كثير من الفصاميين الذين يحجمون عن الزواج لعدم قدرتهم على منح حبهم لأحد سوى ذواتهم”.
وختمت المقال قائلا:
”وما قصدت أن أوضحه هو أنه ليس كل الأمراض النفسية والعقلية هى التى تقابلها فى المجتمع الصغيرة: العيادة النفسية والمستشفى العقلى فقط، بل إن كثيرا منها يعيش فى المجتمع الأوسع، وما دامت هذه الأكثرية تعيش فى حالة تعويض كامل وتحقق لنفسها ولمن حولها نجاحا وانتاجا (مهما كانت نوعيته) فإن البحث فيها وتقليب أعراضها المرضية يصبح عبثا لا يأتيه إلا سفيه أو جاهل، أما إذا أضر الفصامى من حوله، وجعل التبرير ديدنه، وتسلطت ذاتيته على المجتمع دون أن يلجأ إلى استشارة طبيب، فإن تبصرة الناس بطبيعة هذا الشذوذ تجعلهم يعملون على اتقائه، وذلك باستشارة طبيب وتهيئة الظروف للعلاج. وبهذا تزداد فرصته فى الشفاء نظرا للتبكير فى التشخيص والعلاج”.
* * *
بين ثورة الشباب.. وتعقل الأطباء:
هكذا كتبت فى حماس الشباب، ثم هدأت فى تعقل الأطباء، ثم ثرت مرة أخرى لأحطم صنم التشخيصات جميعا سواء فى العيادة النفسية والمستشفى أو فى الحياة العامة، فلم أكن أقبل فى أول حياتى المهنية أن اسمى الذين يحضرون للعلاج مرضى فصاميين – مثلا – فى حين نترك الآخرين فى الحياة العامة، وربما هم أشد خطرا – دون تسمية، فإما أن نسميهم جميعا، أو نطلق سراحهم جميعا.. مهما يحدث؟ وهذا ما سأتحدث عنه بعد ذلك بالتفصيل، أما ما يعنينى هنا فهو أن التفرقة بين الصحة والمرض كانت صعبة على تماما منذ البداية.
* * *
حين تصبح الاهتزازة نبضة:
كانت التفرقة صعبة، وكانت أصعب ما تكون حين أقابل فنانا خالقا فى أزمة مع نفسه، وأبحث عن الحد الفاصل فلا أجده، وكان فضل الفنان المرحوم كمال خليفة على فضلا ما زال يهزنى من الأعماق، فقد صاحبته فى أزمته عدة سنوات وتعلمت منه ما لم أتعلمه فى كتاب أو من استاذ، وتساءلت بعد أن شفى – وقبل أن يشفى – أين أضعه بين السواء والمرض، ولكنه هدانى أثناء بعض مناقشاتنا معبرا عن الشفاء إلى أنه “قد أصبحت الاهتزازة نبضة” وعرفت أن الفرق بين السواء والمرض ليس فرق درجة أو تماثل مع الآخرين، وإنما هو فرق فاعلية وقوة حياة، فالنبضة مثل ضربة القلب تدفع الدم إلى الشرايين وتحافظ على الحياة، والاهتزازة أو الرعشة مثل تذبذب شعيرات عضلات القلبFibrillation فلا انقباض ولا حياة.. إلا أن ألفاظا مثل “الحياة، والانقباض، والعمل، والسعادة، والرضا” تحتاج إلى توضيح وتحديد حتى نستطيع فهم هذه المشكلة، فإذا قلنا أن العمل للحياة والصحة فإن الناس تفترق كأفراد وكجماعات على معنى الحياة، وإذا قلنا أن العمل وحده لا يكفى وإنما لابد من وجود الرضا والتكيف معه (راجع الملحق إذا شئت) فان مجرما مثل الخط “يرحمه الله” يتكيف مع حوله من أتباع ومجرمين وحتى مواطنين يدفعون الإتاوة، وبذلك لا يوجد خلل فى علاقته مع بيئته المباشرة، وهو منتج فى عمله يجنى المال ويقتل الناس بفاعلية عظيمة، ثم هو راض عن نفسه فخور بها، فهل هذه هى الصحة النفسية بالمقاييس السالفة الذكر؟ أو هل الأمثلة التى أوردتها عن “الفصام فى الحياة العامة” هى من الصحة النفسية؟
إذن فالأمر كله يحتاج إلى تحديد أكثر:
وتزيد حيرتى وتلاحقنى، فمن المسرحيات القليلة التى شاهدتها فى باريس (وهى عدد قليل لصعوبة اللغة أولا ثم لضيق ذات اليد أخيرا) كانت مسرحية “لكل حقيقته” Chacum SaVerite ، وهى مسرحية فكاهية تأليف لويجى بيراندللو Luigi Pirandello يختلط فيها الأمر على المشاهد حين يتهم أكثر من شخص فى المسرحية الآخر بالجنون، فيخرج الزوج مثلا فى تمام الصحة يتكلم عن حماته وعما تفعله من تصرفات شاذة حتى نقتنع بجنونها المطبق، ثم يخرج لتدخل الحماة فى كامل عقلها تتكلم عنه بدورها مشفقة المشاهدين أنها لابد أن تسايرة اعتقاده فى أنها هى المجنونة، وهكذا تتبدل الأحداث ونحن نحتار ولا نصل فى النهاية إلى الحقيقة، أو يصل كل منا إلى حقيقته، لأن الحقيقة ليست مطلقة وحكم الناس ليس إلا وجهة نظر.
* * *
وأجد فى ممارستى الخاصة أن الدافع للحضور إلى استشارتى – كطبيب نفسى – ليس درجة المرض أو شدته وإنما عوامل أخرى لا ترتبط ارتباطا مباشرا بدرجة المرض أو نوعه، وكثيرا ما جاءتنى إحدى المريضات من بقايا “الذوات” تريد أن تتكلم بعض الوقت مثل صديقتها “فلانة” التى أعالجها، أو طالبة تكف عن الاستذكار ليحضرها أهلها مثل بنت خالتها، وبذلك تتفرج على الطبيب الذى يعالج قريبتها، وهكذا، وكنت أتساءل: هل أعتبر هؤلاء مرضى فى حين أم مستر نيكسون – بسلامته – سلييم معافى؟
* * *
المريض مقياس نفسه: ولكن:
ومنذ تعلمت فحص المريض، كان القياس الأساسى هو المريض نفسه، بمعنى أن تجرى دراسة مفصلة عن حالة المريض قبل المرض وعن شخصيته ونوازعه وسماته ثم تجرى دراسة مقابلة عن حالته بعد المرض (الآن) وبالمقارنة تتبين الصحة من المرض.
ولكن دراسة حالة المريض السابقة قد تثبت أنه ” لم يكن يشكو…” ليس إلا، إذ قد يكون مريضا حينذاك دون شكوى، وكل ماجد عليه أنه أصبح أكثر إدراكا لواقعه المرضى، ولذلك فقد جاء للاستشارة.
كما أن هذا المفهوم يشير ضمنا إلى ان واجب الطبيب الأول – أو ربما الأسهل – ان يعيد المريض إلى ما كان عليه قبل المرض، وكنت أتساءل: هل يعنى ذلك أن نقلل من إدراكه لحالته؟ وهل هذا ممكن؟ ألا يشير ذلك ضمنا إلى أننا نعوق تطوره؟
القضية:
وفى مجال الطب النفسى الشرعى كانت مشكلة السواء والمرض أخطر وأصعب، لأنه بعد تحديد السواد والمرض نحدد المسئولية من عدمها… وخبرتى فى هذا المجال قليلة، إلا أنه فى آخر قضيتين استدعيت للاستشارة فيهما كانت المشكلة حادة وخطيرة، أما القضية الأولى فهى قضية قتل فيها شاب زوج عشيقته بلا أدنى مبرر حيث كان الزوج عالما بالصلات مستفيدا منها، وكان الشاب القاتل هادئا مصمما على الاعتراف بجرعته تصميما أثار الشك، وبعد كتابة التقرير المطول مع الزملاء المستشارين فى الطب النفسى، انتهينا إلى أن المريض مريض رغم فقر أعراضه وتضاربها، وكنت أتساءل أليس كل مجرم مريضا، ألا يكفى دمغ إنسان بفقدان الشعور حين تسمح له عواطفه بإزهاق روح برئية مقابل قروش أو شهوة، وعلى النقيض من ذلك أليس كل مريض مسئولا، ليس عن جريمته فحسب بل عن مرضه ولو بصفة جزئية، أليس هذا هو الاتجاه الحديث فى الطب النفسى أن نفقد المريض أى فائدة ثانوية يحصل عليها من مرضه مهما كان نوعه حتى يفشل الحل المرضى فيرجع إلى الصحة بآلامها.. وتمنيت أن نكتب فى التقرير أن المريض ولكن علاجه مع العقاقير هو أن يتحمل مسئولية عمله رغم مرضه – فى السجن – وعرضت هذا الرأى خلسة على أحد الزملاء، ولكن الزميل اعترض أولا لأن مهمتنا تقتصر على التشخيص وليس على التوصية بالعلاج، وثانيا لأنها ستصبح سابقة خطيرة قد يساء استعمالها فى هذه الفترة من تطورنا العلمى والإنسانى، وثالثا لأنه لا يوجد مرجع يؤيد هذا الرأى.
وسكت على مضض.
لست من العلماء:
أما القضية الثانية فكانت المواجهة فيها حادة وصريحة، وبرز السؤال عن الصحة والمرض وكيفية التمييز بينهما خطيرا وملحا أمامى وأمام زملائى فى لجنة فحص المريض، فقد كان الرجل فى كامل قواه العقلية – لحظة الفحص على الأقل- وكتبنا التقرير مجتمعين بأنه “ليس مصابا فى الوقت الحالى بأى مرض عقلى” وإن كنت آمنت شخصيا أنه لم يكن مصابا فى أى وقت من الأوقات بمرض عقلى، ولكن من أين لى أن أجزم؟ لقد رأيته ثائرا عنيدا ليس إلا، أراد أن يعبر عن رأيه فى حق وظيفى سلبوه إياه، فاضطر من باب لتف الانظار، أن يرسل برقية يقذف فيها فى حق الحكام، وفعلا تنبه الحكام لحقه المسلوب وساعدوه على استرداده وفى المرة التالية بعد ذلك بسنوات – عادوا وطردوه، فكرر المحاولة بقذف الحكام ظانا منه – نتيجة الخبرة السابقة- أن هذا هو الطريق – وقد اعتبرت أن هذا سلوك طبيعى رغم غرابته – ولكن هذه المرة لم تسلم الجرة – كما يقولون – فقد حولوه للطب النفسى، ربما رأفة به… واعتبروه مريضا، وربما كان.
إلى هنا وكل هذه الاجراءات يبدو فيها معنى ما، ولكن الوقت يمر، وتطول إقامته إلى أكثر من سنوات أربع فى حين أنه لو كان حوكم وأدين لأفرج عنه منذ مدة طويلة.
ويصل الأمر إلى المحكمة، وتعين المحكمة لجنة طبية – كنت أحد أفرادها – وتقرر اللحنة بالاجماع – ساعة الفحص – أنه سليم معافى آخذةه فى الاعتبار كل الإمكانيات من أقوال الأهل والممرضين، وتأخذ المحكمة برأى اللجنة وتحكم بالافراج عنه، ولكن.
يظل المريض (أو السليم) فى المستشفى حتى كتابة هذه السطور.
والقانون – بشكل ما – يسمح.
والطب – بشكل ما- قد يسمح.
وأشياء كثيرة أخرى، أيضا، تسمح.
لأنه يوجد فى الطب … والقانون.. والأشياء.. “ربما”.
وأحاول أن أنام دون أن افكر فى هذا الرجل فلا أستطيع بسهولة، وأقول: ربما كانت الملاحظة المستمرة التى قاموا بها أفضل من الملاحظة العابرة التى قمنا بها…
ربما أخفى الرجل عنا أعراضه…
ربما ظهرت عليه أعراض جديدة…
ربما .. ربما … ربما.
ولا تنتهى الـ “ربما”.. ولا تبعد صورة الرجل عن فكرى أبدا.
وأتذكر نص أقواله التى سردها بالتفصيل ذاكرا الأحداث باليوم والساعة حين سألناه:
- إنت ازاى بتحفظ التواريخ كده؟
قال فى أدب وسخرية معا:
- انا عادتى كده، متأسف… لأنه إذا حفظنا التواريخ… تكتبوا فى التقرير “يحفظ تواريخ لا لزوم لها”.. وإذا ما عرفناش التواريخ يبقى التقرير ” لا يعرف الزمان… والمكان”
وقلت فى نفسى : “صدقت”
ثم أتذكر سؤالا آخر (بنص ما كتبناه فى التقرير)
- إيه رأيك فى نفسك؟
فيردد فى ثفة وعلم:
- انا قريت للفليسوف ابو الحيان البصرى فى باب “علم النفس” إن الشخص السوى الكامل لم يخلق بعد، ولكن يقاس الرجل العاقل بالقدر الأكثر والقدر الأقل، فإذا كان القدر الأكثر فيه هو قدر العقل وقدر الجنون هو الأقل فيعتبر هذا الرجل عاقلا والعكس صحيح… نفس النظرية هنا، يعنى: فيه مريض يعرفه العامه ويعرفه العلماء وفيه مريض لا يعرفه إلا العلماء”.
انتهى كلامه بالنص.
ولكن:
مازال هذا الانسان بالمستشفى حتى تاريخه.
ويتردد فى عقلى قوله بأنه يوجد مريض لا يعرفه إلا العلماء.. وأحس بأمانة أنه لابد أنى لست من العلماء…
وأقول.. “ربما”… وتتردد كل الـ “ربمات” السابقة.
وتلح على الحيرة بصورة لم تحدث من قبل واتساءل:
-أين الصحة.. وما هى الصحة؟
وما وه المرض؟
وما هو الحق؟ وما هو الخير؟ وما هو الانسان؟ ومتى يأتى الغد؟
وتزيد حيرتى .. وأتهم نفسى بالقصور.
……
توارد الخواطر:
وحين ذهبت إلى باريس فى مهمتى العلمية كان الوقت أرحب، والمكتبة أكرم، وكنت مهتما بموضوع “التصوف” وأصوله النفسية، فقرأت عنه كل ما وصل إلى يدى، وأثناء ذلك كان ينبغى على أن أحدد الحد الفاصل بين الخبرة الصوفية وخبرة الخلق والإبداع وخبرة الجنون، والخبرات الثلاث فى كثير من الأقوال نوع من النكوص، والشبه بينهما شديدووجدتنى أرجع ثانية إلى هذا السؤال نفسه “من هو الصحيح، ومن هو المريض نفسيا؟”.
وأثناء قراءاتى عثرت على مقال عظيم لأحد الإيرانيين اسمه Arasteh نشره سنة 1966 فى مجلة Confina Psychiatrics – وهى لا تصل إلى مصر – وقسم فيها الصحة النفسية إلى مستويات، وقد كان هذا حلا عظيما جعل أقدامى تقف على الأرض فى حين ينطلق فكرى إلى السماء، فقد قابلت أثناء قراءاتى عن الصحة النفسية ما جعلنى أتصور أحيانا أنه لا يمكن أن يوجد إنسان صحيح نفسيا لأنهم كانوا أحيانا يستعملون لوصف الصحة النفسية إلفاظا ضخمة فخمة مثل “قمة السعادة” “الإيجابية” “الكمال” “التلقائية” “الفاعلية الكاملة” “تمام النضج”، وعلى النقيض من ذلك فقد كنت أجد تعريفات أخرى تنزل بالانسان إلى مستوى الحيوان حين تصر على اقتران الصحة النفسية بالتشكل مع المجتمع القريب، فليس المهم هو أن يكون الفرد قاتلا أو قاسيا بقدر ما هو مهم أن يجعل شذوذه مشروعا حتى لو أضر بكل الناس، لذلك فإن وضع الصحة فى مستويات يجعلنا نتصور أنه لا يوجد نوع واحد من الصحة النفسية، وإنما توجد عدة درجات تختلف من فرد لفرد ومن مجتمع لمجتمع.
ويبدو أن المسألة كانت تلاحقنى فعلا، فقد اشتغلت – بمحض الصدفة – أثناء مهمتى العلمية مع صديق عالم هو بيير برينتى Pierre Brunetti وكان رئيسا لوحدة الطب النفسى الاجتماعى فى جامعة باريس ورغم أنه كان يكبرنى بأكثر من عشر سنوات إلا أنه شابا ثائرا متحمسا، وفى ثانى مقابلة لى معه عرض على مترددا فى تواضع وأدب العلماء أفكاره عن مستويات الصحة النفسية، وقال هل يهمك الحديث فى هذا الأمر؟ وكأنه وضع مرهما باردا على جرح مؤلم، ولم أقل “طبعا” فقد كان هذا بديهيا، ولكنا انطلقنا نتحدث ونتناقش فى حماس بالغ وأرانى مقالا له فى ذلك الموضوع “تحت النشر” ولما قلت له أن أراسته (من إيران) نشر ما يقابل هذه المستويات سنة 1966 لم يثبط هذا من عزمه بل اطمأن إن فكره يسير فى الاتجاه السائد فى الشرق، وكأن دائم الحنين إلى الشرق ويؤكد أن نصفه (الأموى) الفرنسى من الميدى Midi وأن العرب قد وصلوا هناك ولابد أن دم أجداده قد اختلط بهم (وكان نصفه الأبوى إيطاليا)، ولم يثنه أن تنشر مثل افكاره قبلا فهناك دائما إضافة ولو بسيطة فى الأفكار، والعلم يشرق فى عقل الإنسان فى أكثر من مكان فى العالم فى نفس الوقت، لأن الذى يأتى بالأفكار الأصيلة ليس مجرد الجهد والايحاء، بل درجة تطور الانسان، وما دام الإنسان يحتاج إلى فكرة تهديه فى مرحلة ما من تطوره فسوف تظهر هنا أو هناك، صحيح أنها ستحل على عقل من يعطى أكثر، ويصبر أكثر ولكنها قد تظهر فى أكثر من مكان فى نفس الوقت، وأظن أن ظهور نظرية التطور عند داروين وولاس معا أشهر الأمثلة لمثل هذا التوافق فى ظهور الأفكار الأصيلة، وقد ظهرت مقالة برينيتى بعد ذلك سنة 1969 وكانت الفكرة متشابهة ولكن التفاصيل مختلفة.
مستويات الصحة:
قسم “أراسته” الصحة النفسية إلى المستوى الطبيعى Natural level حيث يعيش الإنسان ككائن حى طبيعى يهتم أساسا ونهائيا بحفظ ذاته وحفظ نوعه، والمستوى البيئى Cultural level حيث يهتم الفرد بعلاقته المباشرة مع البيئة القريبة من حوله، ثم المستوى البعد – بيئى Transcultural level حيث تتعدى اهتمامات الفرد ببيئته القريبة إلى ما بعد بيئته من مستويات الجنس البشرى عامة، أما برينيتى فتحدث عن صحة الجسم أو الصحة البيولوجية La Sent Biologique وهى تتوقف على مدى تلاؤم أعضاء الجسم بالبيئة العضوية الداخلية، وصحة النفس La Sent psychique التى ترتبط بمدى تكيف الفرد مع مجتمعه المباشر وصحة الروح La Sant de L”espri وهى تشير إلى التكيف والتلاؤم مع عالم الإنسان وما بعد الإنسان مكانيا وزمانيا، وقد أعجبت بكل هذه الأفكار وعايشتها وسعدت بها لأنها تربط الصحة بالإنسان وارتقائه وليس فقط بالأعراض والمظاهر وكنت أحس أنى أعرفها من قبل، وقد ظهرت بعض علاماتها فى كتاباتى المنشورة قبل هذا، ولكن حيرتى لم تقل أبدا، لأن هذه الحلول وهذه الفروض، وإن أوضحت الرؤية، إلا أنها تتركنا فى متاهة نظرية لا نحسد عليها ما لم تتطور إلى تطبيقات عملية لتكسبنا أرضا جديدة يتقدم عليها الإنسان، وهذه الأرض العملية تأتى من نظرة جديدة للمرض والعلاج، ثم تخطيط شامل لصحة البشرية ومستقبلها..
فالأفكار موجوده وقديمة قدم الإنسان، ومن أجمل تعريفات الصحة ما صدر عن “هيبوقراط” أبو الأطباء من أن الصحة “حالة من التناسق الشامل العام”وأن دور الطبيب هو إعادة التوازن بين مختلف مكونات الإنسان من ناحية، وبين الإنسان والطبيعة بكل ما تشمله من ناحية اخرى.
ولكى يعيد الطبيب التوازن لابد أن يعرف ما هو التوازن.
وتزداد الحيرة.
وفى حيرتى كنت أتأمل زملائى وأحسدهم على الحلول التى وصلو إليها ليردوا بها على الأسئلة، وأهم هذه الحلول هو عدم طرح هذه الأسئلة أصلا، أو ما يسمونه عدم التفلسف، ولكن قلقى ورفضى كانا دائما معى، فأنا أقبل القليل الذى أتمثله فى خلاياى وأسير محملا بعد ذلك بكل ما لا أجد له حلا نهائيا، أنام به وأصحوا به أياما وشهورا وسنين، ولم أنجح مرة واحدة فى أن أفرض على عقلى شيئا لا يدخل إلى وجدانى وكيانى فى دعة وثقة، ربما أقبله وأستعمله فترة من الزمان لعدم وجود البديل، ولكن عقلى سرعان ما يلفظة فورا بمجرد أن يجد ما هو أحسن منه، أو هو يعدله تعديلا جوهريا يسمح له بالاندماج مع كياني.
* * *
حقائق اساسية:
وقد خرجت من كل هذه الحيرة بحقائق اعتبرتها أساسية فى تطوير مفهومى الصحة والمرض معا، وظللت أتساءل: ما دام الإنسان فى حالة تطور دائم كفرد، وما دام للصحة مراحل ومستويات، فهل يمكن أن ترتب الأمراض النفسية فى مستويات مقابلة؟ وكيف يمكن ربط أسباب الأمراض النفسية والبيئية والوراثية بهذه الحركة التطورية سواء للوصول إلى مستوى أرقى من الصحة النفسية أو مستوى أخطر من المرض؟ وكيف تجد العلاجات كلها: كيميائية أو نفسية أو كهربية مكانها على سلم التطور؟ وفى محاولة للإجابة على هذه الأسئلة كتبت مقالا عن “نحو مفهوم تطورى للصحة النفسية” وكيف حينذاك مازلت فى باريس وكان المقال الأصلى باللغة الإنجليزية، وحين قرأه صديقى بيير قال لى “ماذا تريد أن تقول؟ “قلت “ما قرأت” قال “لا… يخيل إلى أنك تريد أن تقول شيئا أكبر.. وعليك أن تهب حياتك لهذا الشئ حتى تقوله كاملا” وحين قلت له “ماذا تظن هذا الشيء؟” قال “ستعرفة يوما” – ولم أنشر هذا المقال الأصلى لأن الأفكار تلاحقت بعد ذلك وأنا أحاول تطبيق الفرض الذى احتواه المقال حتى كدت أحس أنه أصبح قديما ناقصا قبل أن ينشر، وخاصة فيما يتعلق بتقسيم الأمراض، ولكن صديقى الزستاذ الدكتور عمر شاهين الذى قرأ المقال عقب عودتى من فرنسا واعتبره نظرة فلسفية، عاد فطلبه منى هذه الأيام لينشره فى العدد العلمى لمجلة الصحة النفسية سنة 1972، مما جعلنى أعيد كتابته بالعربية، ثم أقرر فى آخر لحظة أن أضمنه هذا الكتاب “ملحقا” به لمن يريد ان يقرأ تفاصيل الموضوع.
أما مجمل فحواه فهو أنى أيقنت أن المرض النفسى (الوظيفى) يتعلق تعلقا مباشرا بالرؤية والإدراك، ورؤية الانسان نفسه، وإدراكه واقعه ومجتمعه، ووجدت أن فقد التوازن – أو التوازن الخاطئ – الذى هو المرض النفسى إنما يحدث نتيجة لمزيد من العمى أو مزيد من الإبصار، وحتى المزيد من العمى هو دفاع ضد الإبصار، لأنه خوف من الرؤية الزرقاء المهددة فأثناء الغارات يمكن أن تخفى الاضاءة اما بالإطفاء أو بلصق الأوراق الزرقاء على المنافذ كذلك إذا هددت الانسان رؤية مزعجة فإنه قد يزيد من حيله الدفاعية التى يزيد بها عمى يصل أحيانا لدرجة المرض.
إذا فالصحة النفسية هى تناسب درجة الرؤية مع تحقيق مطلبها
فما هى المستويات المتتالية حسب مراتب الصحة ومراتب المرض؟
إن هذه المستويات ينبغى أن تقوم أساسا على حقيقة أن الإنسان كائن متطور، ليس فى نوعه فحسب ولكن فى حياته كفرد أيضا، وهذه حقيقة قديمة موجودة فى كل حياة وأعمال رواد الفكر والمبدعين، وتطور الانسان متعلق بنوع فى حياته، وقد وجدت – مثل غيرى – أن للرؤية درجات، وللصحة مستويات ولكنى فضلت النظر من زاوية متصلة اتصالا مباشرا بالطب النفسى، فرأيت الرؤية على ثلاث مراحل.
الرؤية ومداها:
أولا: أن نرى مظهر حياتنا ونغمض الأعين عما بالداخل، ونستمر ندافع عن أنفسنا وقيمنا الاجتماعية أكثر مما نسعى إلى معرفة داخلنا أو إطلاق طاقاتنا، وقد وجدت أن هذا المستوى من الرؤية هو ما يتصف به – للأسف – أغلب الناس وخاصة فى المجتمعات البدائية والتقليدية والمتخلفة، وسميت ذلك تطوريا “المستوى الدفاعي” للصحة، حيث تقاس الصحة بمدى العمى النفسى الذى يتمتع به الفرد، ويكون الانسان على ذلك صحيحا “إذا كان مثله مثل الجميع، يكسب لقمة العيش ويقتنى من الأشياء أكثر ما يستطيع، بملأ بطنه وتتلذذ حواسه وينام، وتنتهى آماله فى الأغلب عند الستر والتباهى بما يملك” وهذا ما يمارسة الغالبية العظمى من الناس.
ثانيا: ان نرى حياتنا من الداخل والخارج، ونفهم أكثر، ونعرف بعض تغيرات تصرفاتنا، ثم نرضى بذلك كله ويهدأ بالنا لأننا نعرف أكثر، وقد سميت هذه المرحلة “المستوى المعرفي” أو العقلى نسبة إلى أن الرؤية فيه هى رؤية عقلية وليست بصيرة صوفية، ولا ينقل المعرفة إلى مستويات البصيرة اتساع دائرة المعلومات أو مزيد من الشهادات والدراسات، وإنما العمق الانسانى والعاطفى هو المميز الأول للمرحلة التالية، وربما يتوقف عند هذا المستوى كثير من المثقفين، وآسف أن أقول وكثير من العلماء والمفكرين والفلاسفة، فقد نما عندهم العقل حتى استولى على كيانهم كله، وربما كان التوقف عند هذه المرحلة هو سر ما يسمى “بأزمة المثقفين” حيث تحل الثقافة محل الحياة وتحل المعرفة محل البصيرة، ونستطيع أن نقول عن الإنسان فى هذا المستوى أنه صحيح إذا كان “يتمتع بالراحة ويعرف كيف يرضى نفسه ويساير من حوله، يقبل الموجود ويتمتع بالممكن، يذهب إلى عمله ويمارس هواياته وقد يسخط أو يقرأ أو يحاضر، وهو يزهو بعلمه ومعرفته… ويرضي” وهذا المستوى يمارسه عدد أقل من الناس وهو أفضل تطوريا من سابقة.
ثالثا: أن نرى أنفسنا من الداخل إلى أبعد مدى، حتى نرى الانسان بكل تاريخه ومسئولياته وتطوره، فنحن فى هذا الموقف نرى الماضى والمستقبل معا، ولا نكتفى بالراحة والرضا عند مستوى المعرفة، بل إن هذه الرؤية قد لا ترعبنا أصلا بقدر ما تقلق بالنا وتثير كافة إمكانيات الثورة والتغيير فينا، ويصبح هدف حياتنا أن نطور أنفسنا ونطور الحياة من حولنا فى كل مكان وليس مجرد الحصول على المتعة أو التوازن أو اللذة أو الفهم، وقد سميت هذا المستوى “المستوى الانساني” أو “الخالقى” إشارة إلى أن الانسان يمارس فيه إنسانيته بكل أبعادها، ويكون هدفه الأول أن يخلق الجديد سواء فى نفسه أو فى غيره أو فى الفن والفكر الأصيل، وقد رأيت أن هذا المستوى هو غاية تطور الانسان كنوع والانسان كفرد، ويكون الانسان صحيحا فى هذا المستوى “إذا أصبح فعالا للتغيير، وامتد معنى التكيف عنده إلى الاهتمام بوجوده زمانيا كمرحلة من النوع البشرى تصل الماضى بالمستقبل، ومكانيا كفرد من البشر فى كل مكان، وأصبحت راحته لا تتحقق إلا بأن يساهم طوليا فى التطور وعرضيا فى مشاركة الناس آلامهم ومحاولة حلها بالتغيير والعمل الخلاق، ولم يخل كل ذلك بحياته اليومية، ولم ينتقص من قدرته على كسب عيشه مثلا أو تكوين أسرة ورعايتها” وهذا ما يمارسه – للأسف – ندرة من الناس.
* * *
كلهم أصحاء:
وقد رأيت أن هذه الدرجات المتتالية كلها تمثل الصحة النفسية بشكل أو بآخر، ولم أعد أسمح لنفسى أن اتهم من يتمتع بأى مستوى منها بالمرض، فكلهم أصحاء رغم اختلافهم الشاسع، وبديهى أن الصحة تقاس فى كل مستوى بمدى تحقيق الأهداف التى أتاحتها درجة الرؤية، وبديهى كذلك أن هذه المستويات ليست محدودة وليست منفصلة عن بعضها البعض تماما، وإنما يمكن اعتبارها المحطات الرئيسية التى يحقق فيها الانسان الفرد أثناء تطوره درجة كبيرة من التوازن، أو أنها الصورة الكاملة – نظريا – لكل مرحلة، أما فى الواقع فإننا نجد درجات متنوعه من الخلط بين المستويات الثلاث (والتفاصيل فى الملحق).
معانى الألفاظ:
إلا أنى أحب أن أشير هنا إلى أن مقاييس الصحة النفسية فى كل مستوى هى التكيف والعمل والرضا، إلا أن معانيها تختلف، وترتيبها كذلك، مما يعنى أن لكل مستوى مقياسا أساسيا لابد من أن يتحقق أولا، وأن سائر المقاييس تتبعه وتنسب إليه وترتبط به، وهذه المعانى المختلفة للفظ الواحد تختلف بدورها عن المعنى الشائع، وهذا تجاوز لغوى اعترف به، ولكن ما دام اللفظ أصبح متعدد المعنى فلابد أن نحدد استعمال المعانى حتى تخترع ألفاظا جديدة توفى بالغرض تفصيلا، ولأضرب لذلك مثلا توضيحيا عن معنى لفظ واحد من الثلاث، ويكون القياس بعد ذلك سهلا، ولأختار لفظ “العمل” وهو أكثر الألفاظ الثلاثة شيوعا: فالمعنى العادى للفظ العمل : هو ما يتعلق بالوظيفة الأساسية أو الإنتاج الغالب، وهذا هو المعنى هو المستعمل فى المستوى الدفاعى – وهو أدنى المستويات – إلا أنى زدت عليه معنى آخر لنفس المستوى وهو اقتناء ممتلكات رمزية والتباهى بها، بكل ما يسبق ذلك من خطوات ويلحقها ففى حالة “الذوات” وأولادهم – وهم ما زالوا فى مجتمعنا تحت اسم مختلف، وفى طبقة الزوجات العاطلات، جعلت هذا الاقتناء عملا أساسيا، فالزوجة العاطل لابد أن تعمل شيئا ما بعيدا عن ساعات السرير، فهى تقتنى الرمزيات وتنشغل وتتكاثر بها، وتغار من مثيلاتها عند الصديقات، وهكذا تبرر حياتها، لهذا يمتد معنى العمل فى هذا المستوى إلى هذا النوع من النشاط. أما فى المستوى المعرفى فقد أضفت إلى هذين المعنيين ممارسة هواية أو رياضة (فى حين أن التعريف التقليدى لهذا النشاط يضعه ضمن اللعب)، أما المستوى الخالقى فإن العمل فيه لابد أن يكون عملا مغيرا، وهو يعني أن الإنسان يخلق ذاته باستمرار ويساعد فى خلق أطفاله أحرار، ولا يقتصر على الإبداع الفنى مثلا، بل إن هذا الأخير ليس بالضرورة مرادفا لهذا المستوى من الصحة إلا لحظة الإبداع، أى أن الحياة فى هذا المستوى هى الإبداع ذاته حيث تكون الحياة فنا ولا يكون بديلا عن الحياة.
وقد أطلت فى عرض تفسير معنى الكلمة توضيحا للصعوبة التى تواجهنا ونحن نستعمل الألفاظ ونستعمل الألفاظ ونتصور أننا أعفينا أنفسنا من التفكير فى معانيها، مما يترتب عليه هذا الخلط والارتباك مثل ما نحن فيه تجاه الصحة والمرض…
وأريد أخيرا فى هذا المختصر أن أوضح أساس الفرض الذى وضعته وهو أن الإنسان يولد وعنده وسائل وإمكانيات للحصول على الصحة النفسية على أى مستوى من المستويات الثلاثة، وأنه تبعا لقهر المجتمع من ناحية، وقوة الطاقة التطورية الموجودة فى خلايا كل فرد من ناحية أخرى يتحدد المستوى الذى يصل إليه خلال حياته للحصول على التوازن، أى على الصحة النفسية، ولكن الفرد الذى يحقق توازنه بالمستوى الأدنى قد يكون عرضة فى أى وقت من الأوقات لرؤية جديدة أو إثارة حادة تخل توازنه، فيحاول الانتقال إلى مرحلة أرقى بما يصاحب ذلك من أعراض ومخاطر، وبما أنى هنا أكتفى بعرض حيرتى دون تفاصيل هذا المفهوم فإنى أكتفى بهذا السريع معتذرا عن التفاصيل، ثم أستطرد فى التفكير المسموع لأبسط للقارئ هذه المفاهيم الواردة فى هذا الغرض حتى لا تضلله الألفاظ والمصطلحات فأقول : إنه رغم اعتقادى بأن جميع المستويات تمثل الصحة “إن ذلك لم يمنع جزءا من عقلى أن يسمى هذه المستويات المتتالية أسماء ساخرة قارصة، فقد خطر على بالى أن أسميها كالتالى :
المستوى الأول: الصحة بالعمى “الحيسى”.
المستوى الثانى: الصحة بالاستمناء العقلى.
المستوى الثالث: الصحة بالتطور الإنسانى.
ثم ألجمت زمام عقلى حتى لا أرجع فى كلامى وحتى أحترم كل المستويات فلم يهدأ، وعرض على أسماء أخف وإن كانت ساخرة أيضا فسماها:
المستوى الأول: “أنا لا أرى لا أسمع لا أتكلم”.
المستوى الثانى: “أنا عارف .. لكن .. أنا مبسوط كده أنا مرتاح كده”
المستوى الثالث: “أنا موجود.. أنا متغير .. أنا أغير”.
وقلت ثانية اللهم أخزك يا عقلى:
وكتبت المقال العلمى المنظم المؤيد بالتاريخ والأسماء والأسانيد (الملحق).
وهدأت حيرتى بالنسبة لهذا التساؤل عن الصحة والمرض، وبذلك اتضحت رؤيتى لا للصحة والمرض فحسب، بلى لعديد من المشاكل أجدنى مضطرا لذكر بعضها فى هذا الموجز على الوجه التالي:
1- رأيت أولا أن الناس يتمتعون بدرجات مختلفة من الصحة النفسية، ولا أستطيع القول أن هذا أفضل من ذاك، كطبيب، لأنى مسئول عن المحافظة على الصحة أساسا فى كلمستوياتها، وإن كنت كإنسان أهداف إلى تنمية المستوى الخالقى وإلى المحافظة عليه، وكان التعارض بين صفتى كطبيب وصفتى كإنسان هو من أهم معالم حيرتى وخاصة فى مواقف العلاج، وكان على الطبيب أن يتساءل بادئ ذى بدء فى أى مستوى من الصحة كان المريض وإلى أى مستوى هو ذاهب، وأى طاقة يحمل وأى إمكانيات متاحة ؟ وهل يقدر ؟ ثم يرسم خطة العلاج…
وكان على الانسان – فى داخلى – أن يتمنى للطبيب والمريض التوفيق على كل حال.
2- رأيت الإنسان حين تزداد رؤيته بالصدفة أو بالإثارة من الخارج أو باندفاع قوة تطوره أثناء التغيرات البيولوجية (فى المراهقة مثلا) أو حين يفشل المستوى الذى يعيش فيه عن تحقيق أغراضه، رأيته نتيجة لأى سبب من هذه الأسباب فى أزمة حقيقية، وأحسست أننا نظلمه إذا سميناها مرضا، فإنما هى “أزمة تطور” وما هو إلا ثائر على الطريق.. إلا أن يفشل أو يرتد.. فنسميه حينذاك مريضا.
وحين قال نجيب محفوظ فى قصته “الشحاذ” التى قمت بتحليلها تحليلا سطحيا حين كان فكرى سطحيا، فى كتابى “حياتنا والطب النفسي”، حين قال على لسان “عمر” فى أزمة تطوره “لابد من شئ.. الشئ أو الموت أو الجنون” إنما كان يعنى بذلك الشئ – من خلال رؤيتى الآن – التطور.. إذ لابد من التطور أو الموت أو الجنون، ذلك التطور الذى رآه فى تجربته الصوفية فى الصحراء.. رأى عينة منه ثم لم يحظ بعد ذلك به أبدا (راجع “الشحاذ” أو نقده فى كتابى “حياتنا.. والطب النفسي” إذا شئت).
3- بذلك رفضت أن أساوى بين من يرفض ليرتقى ويكنمل تطوره، وبين من يهزم على الطريق ويتحطم أو ينتكس إلى مستوى أدنى، وبذلك يصبح من يأتى للاستشارة واحدا يعانى “أزمة تطور” وآخر “مريض”، وفى الفصل الخاص بالعلاج سوف أرجع لبعض هذا الحديث.
4- رأيت لماذا يتميز الطفل بالقدرة على الخلق أكثر من غالبية الناضجين، ذلك لأن الناضج – فى الغالبية العظمى – يلجأ تحت تأثير المجتمع إلى تنمية المستوى الدفاعى أو المعرفى على حساب المستوى الخالقى، فيقضى بذلك على الإمكانيات الفطرية الخالقة طلبا للسلامة، واحترمت اتجاهات تنمية الفكر الخلاق عند الأطفال بكل الوسائل ولو على حساب التكيف والتشكل.
5- عرفت الفرق بين الفن كبديل عن الحياة، وبين الحياة كفن، صلبها ونتاجها العمل المغير… الذى بعض صورة الإبداع الفنى المعروف.
6- رأيت سخف اهتمام التحليليين التقليديين بالمستوى المعرفى على حساب ما بعد ذلك – وإن ادعوا غير ذلك، وإن انطلق المحدثون منهم إلى آفاق إنسانية أبعد وأرقى – إلا أنهم مازالوا يهتمون بـ “لماذا”” أكثر من “إلى أين” والـ “أين” ليس هو التعويض الذى تحدث عنه “أدلر”، وإنما هو التطور الإنسانى الخالق.
* * *
كانت هذه حيرتى أمام هذا السؤال القديم “من هو الصحيح نفسيا ومن هو المريض”، وكانت هذه محاولاتى للاجابة عنه، تلك المحاولات التى أصبحت بعد ذلك جزءا من كل متكامل… هو ما أمهد له فى هذا الحديث.
وأخيرا، فإنى أكرر عما ورد فى هذا الجزء من إجمال (لمن لن يقرأ الملحق) وعما ورد فيه من تكرار (لمن سيقرأ الملحق) وقد شرحت وجهة نظرى على كل حال… فليقبل القارئ عذرى، أو ليلعن سخفى إن شاء.
* * *
الفصل الثانى
الوشم بالتشخيص
“الحياة قصيرة……
والطريق طويل….
والفرصة لا تنتظر ….
والخبرة تحتمل الصواب والخطأ ..
والحكم على الأمور صعب ..
”أبو قراط”.
منذ بدأ اشتغالى لهذا الفرع من الطب، وأنا أجدنى أتعلق بالإنسان المريض دون الغوص فى أعراضه، أفهمه وأساعده وأحبه دون أن ألزم نفسى بتسمية ما يعانى أسماء خاصة، ولكنى فى كل حال كنت أضطر إلى ذلك من باب الروتين مرة، ومن باب الخوف من الرؤساء مرة، ومن أجل ملء الخانات لتغذية الوحش الإحصائى مرة ثالثة، وكان ذلك يحدد الأمور بشكل ما..
وتصير لغة ..
ولكن – للأمانة – أقر وأعترف كنت ضعيفا فى هذا المجال جدا، وحتى الآن، كنت لا أستطيع فى معظم الأحيان أن أترجم أقوال المريض ومشاعره الى أعراض، ولعلمى بنقطة الضعف تلك حاولت، فى عملى الخاص فيما بعد، أن أضع فى ورقة المشاهدة الخاصة بالمرضى هامشا طوليا بجوار الكلام الذى أكتبه من المريض مسترسلا، حتى أعود فأترجم فى الهامش كلامه عرضا بعرض وألزم نفسى بذلك، وأكتشف بعد سنوات أن هذا الهامش ظل أبيض من غير سوء فى غالية أوراقى، وقد حسبت أن ذلك جميعه نقص فى مرانى أو خبرتى وقد كانت ناقصه فعلا .. وما زالت ولكنى استمررت فى ممارسة المهنة بنجاح نسبى – حتى تاريخه على الأقل – وكانت مشكلة تحديد الأعراض تزداد معى لا تنقص.
وصاحبت مشكلة تحديد الأعراض مشكلة ألعن هى تصنيف الأعراض إلى “أمراض”.
وكان أستاذى الدكتور عبد العزيز عسكر يعلمنا صغارا أننا لا نشخص المريض عند الدخول الى المستشفى وإنما عند الخروج أو حتى بعد الخروج أو حتى .. أبدا، وأن تغيير التشخيص ليس عيبا لفرعنا، بل ربما هو ميزة إذ أنه يعنى أن الانسان – سليما كان أم مريضا – كيان متغير باستمرار، وقد كنت أشك فى ذلك الوقت أن أستاذى يطيب خاطرى ويهون على حتى لا يفجعنى فى تشخيص خاطئ … ولكنى بعد أن واصلت السعى قرابة عشرة سنة وجدتها هى هى مشكلة المشاكل “التشخيص”.
الحالات البين بين:
ويكفى فى هذا المجال أن نعلم أن الحالات الـ “بين بين” Border-Line cases تمثل فى كثير من العيادات – وخاصة عيادات المراهقين – أربعين إلى ستين فى المائة من الحالات، وكلمة “بين بين” تعنى الحالات التى تقع بين العصاب والذهان (والعصاب هو ما يطلق عليه الناس الأمراض النفسية، والذهان هو ما يطلقون عليه الأراض العقلية، وهذه تفرقة لها شأن آخر سوف يقضى عليها حتما ليحل محلها ما هو أبقى وأكثر نفعا…).
ويكفى أن نعلم أيضا أنه ثبت أن حوالى 1/4 الحالات التى تتردد على العيادة النفسية فى أكثر من مراكز العالم تحمل تشخيص “ماليس كذلك” يعنى “مرض نفسى آخر غير مشخص”، ونحن لا نستعمل هنا هذا التصنيف بنفس الشجاعة ونفس النسبة، ربما لأننا أكثر علما وأكثر دقة (!!) .
أنا عندى “ايه” يا دكتور؟:
وكانت مشكلة التشخيص تلح على بحدة أكثر من المحاورة مع الأصدقاء المرضى حين يسألنى أحدهم “أنا عندى إيه يا دكتور؟” وأحتار فى الرد، ويظن أنى أخفى الاسم لأن ما عنده مرض خطير ليس كمثله شئ، وأجدنى أقول “أنت انسان تعانى … أما الاسماء فلن تقدم ولن تؤخر”.
وفى مرة جاءنى صديق صاحبته على الطريق سنوات، ثم حدثت بيننا فرقة مؤقتة فى المكان والعلاقة، وبدأ يرعاه زميل آخر فى مكان بعيد عنى، جاءنى هذا الصديق المريض فى يوم ما يطلب تقريرا عن حالته; وسألته: ماذا أكتب لك، وماذا سيفهم زميلنا من رحلتنا معا طوال سنوات من خلال سطور أو ألفاظ معدودة؟ هل أكتب له تشخيصا يرجع اليه فى كتبه ليعرفك أكثر أم يجهلك أكثر؟ هأنتذا أمامه، أنا لا أعرف بالنسبة لك لا تشخيصا ولا إسما غير إسمك، بل حتى إسمك قد لا يعنى جوهرك، فلنحدد الهدف من التقرير ثم نتفاهم; ومع ذلك، ولظروف مهنية وأبية وجدتنى ملزما بأن أكتب تقريرا كان هذا نصه “فلان إنسان يعانى …. وهو يقاوم الموت والضياع بكل ما أوتى الانسان من خير وشر” واعتبرت ذلك تشخيصه فعلا..، وأخذت أتساءل ماذا تنفع التشخيصات إذا وصلت العلاقة بين المريض والطبيب هذه الدرجة من الفهم؟.
وهذا السؤال “أنا عندى إيه يا دكتور؟” سؤال له مببراته فى المعاملات الرسمية والتقارير، ولكنه كثيرا ما تكون له خطورته فى غير ذلك، لأن عديدا من المرضى يتخذونه وسيلة للهرب، يعلقون اللافتة فيستشرى المريض، لأن المريض يستعيض عن ذاته بهذا التشخيص أو ذاك، وكأنه وضع الحاجز بينه وبين الطبيب يحتمى وراءه من الشفاء، بل كأنه خلع عن نفسه مسئولية الحياة السليمة، وهى مسئولية عظيمة لكنها – لأمر ما – صعبة.
* * *
وقد صاحبتنى هذه المشكلة – مشكلة التشخيص – منذ أول ممارستى لهذه المهنة، وربما كان الذى غذاها منذ البداية هو صدق أستاذى الدكتور عبد العزيز عسكر وعلمه، فكم من مناسبة يقف فيها محتار أمام المريض ما، يقول ربما، كان هذا القلق ليس مجرد “قلق” أو ربما أخفى “الاكتئاب” وراءه فصاما، وكانت “ربما” هذه تؤمننى إلى درجة الصدق الذى أسمع، وتؤرقنى مع مزيد من التساؤلات التى تدور فى عقلى.
المحاكمة:
وكنت بعد ذلك فى الاجتماعات العلمية بقسم الأمراض النفسية بكلية الطب قصر العيني; من أنصار تشخيص يبدو غريبا نوعا ما هو الذهان الكامن Latent Psychosis أو “الفصام الكامن” Latent Schizophrenia وكان أغلب زملائى يهاجموننى لذلك أشد الهجوم … لأن الشئ الكامن ليس ظاهرا، فكيف يصبح تشخيصا .. فما علينا إلا أن ننتظر حتى يظهر، وكنت أجيب وأتساءل فى نفس الوقت “وإلى أن يظهر … هل نعالجه على أنه حالة قلق عادية مثلا لمجرد أن ظاهرها هو القلق؟” ويقول بعضهم “نعم .. حتى يثبت بالدليل القاطع والبرهان الساطع وكأننا فى محكمة، وكنت أرفض أن ننتظر الدليل القاطع والبرهان الساطع وكأننا فى المحكمة، وكنت فى نفس الوقت التمس العذر لزملائى الذين تعودوا على التحديد من دراستهم الطبية دون تنمية القدرات الحدسية لفهم الإنسان كإنسان له أبعاده العميقة (ولا أعنى بأبعادة العميقة مجرد اللاشعور الفرويدى بل تمتد الأعماق الى أجدادنا بين الطحالب مثل فكر يونج – مع التحفظ -).
لم أكن أستطع أن أتصور أبدا أنه يمكن تجزئة الانسان إلى قطع فاسدة وأخرى سليمة، ثم نجمع القطع الفاسدة بجوار بعضها البعض والقطع السليمة بجوار بعضها البعض، ثم نرى القطع الفاسدة أقرب ما تكون إلى الأشكال التى اعتدنا رؤيتها، ثم نطلق عليها اسم “كذا” ويهدأ توترنا بعد أن نصل إلى غاية المراد من رب العباد … هذا مستحيل، وهذه الطريقة التى رفضتها منذ البداية هى نفس الاعتراضات التى أثارتها مدارس الفلسفة الظواهرية Phenomenological والوجودية Existential فى وجه الطب النفسى التقليدى، ولكنى عشت التجربة قبل أن أعرف كل ذلك.
كان منظرنا ونحن نعقد الاجتماعات العلمية لفحص حالة ومناقشة الصعوبات التى تقابلنا ومحاولة الاتفاق على تشخيص، ثم علاج، يشعرنى أحيانا أننا فى ساحة محكمة، وأن وكيل النيابة “الزميل الذى يقدم الحالة” يقرأ اعترافات المتهم “المريض”، وتتضخم الصورة فى خيالى، فأزيد عليها من الرتوش ما يجسمها مسرحية قضائية، نسأل الزميل (وكيل النيابة)؟
- هل قال المريض (المتهم) كذا؟
فيقول:
- نعم قال.
فنسأله
- هل سمعته أنت شخصيا بأذنك يقول هذا “بعظمة” لسانه؟
فيقول:
- أى والله أنا أقول الحق ولا شئ غيره.
ثم تأتى بعد ذلك أقوال الشهود لتؤيد أو لتنفى كلامه (ونسميهم فى الطب النفسى “المرافق” وأحيانا “المبلغ” !!)
وينصب اهتمامنا جميعا على ترجمة الأقوال إلى أعراض، والأعراض الى أمراض ثم يخرج المتهم، وترفع الجلسة للمداولة، وتحمى المناقشة، وأحيانا يؤخذ رأى المحلفين (طلبة الدراسات العليا والزملاء الأصغر) ويصدر الحكم بتعليق لافتة “كذا” على قفا المريض أو على وجهه.
ثم أفيق من خيالى قليلا ونحن نكتب التشخيص على أوراقه، وقد يصدر الحكم مع النفاذ … فيبدأ المريض فى العلاج تبعا لما هو مكتوب على قفاه – أعنى فى أوراقه – وقد يؤخذ بالرأفة فتؤخذ أعراضه فى الاعتبار – وقد يصدر الحكم مع وقف التنفيذ حيث يكون التشخيص غير نهائى … وليس علينا إلا أن ننتظر.
وأفيق من خيالى لأن ما يحدث فى العلاج كان يسير فى اتجاه طيب بالرغم من التشخيص، إذا لماذا التشخيص؟ بل لقد بلغ الأمر بزميل عالم أنه كان يشخص الحالة بعلاجها، يعنى يقول هذه “هستيريا عادية” وتلك “هستيريا ستيلازينية” أى التى تعالج بعقار اسمه ستيلازين مثلا، وكان يقولها من باب الفكاهة، ولكن المعنى وراءها ليس فكاهيا بحال، لأن العقار الأخير يعالج الذهان، وكأن هذا النوع أقرب الى الذهان، وكأن مجرد التشخيص قاصر عن توجيه العلاج، وعموما وللاطمئنان فإن العلاج عادة يسير حسب “حيثيات الحكم” وليس حسب منطوقه، إذاً .. ما جدوى التشخيص؟ ربما لخلق لغة مشتركة، ورغم أن الرد يبدو بريئا إلا أننا فى الواقع العملى نجد أن طريقة الدراسة وطريقة التفكير وطريقة المناقشة تركز تماما – رضينا أم لم نرض- على التشخيص حتى يصبح فى النهاية هو مركز الاهتمام ويحل محل كل عمق آخر، هذه حقيقة ظلمتنا بها طريقة تربيتنا وتركيب تفكيرنا، والتشخيص يؤثر لا محالة فى الصورة التى تنطبع فى الأذهان، وفى توقع شفاء المريض، وفى سير العلاج وخصوصا فى الحالات الكامنة.
والشهادة لله أنى كنت أخسر المعارك الكلامية فى تشخيص ما هو “كامن” لأنه “كامن” ولأننا ليس عندنا القدرة على رؤية هذا الكامن، ولكن خسارتى للمعارك الكلامية لم تغير نظرتى أبدا لهذا الإنسان الـ “بين بين”، ولا هزت إحساسى بنوع معاناته وعمق مشكلته .. كنت أحس بها أعمق من مجرد القلق الصراعى، ومحاولة التغلب عليه، كنت أحس أن هذا الاضطراب الكامن يتعلق بمشكلة وجود المريض ذاته وليس بطريقة تكيفه، وكان كل الزملاء يتحدثون عن هذا الشعور الحائر بصورة أو بأخرى:
”هذه حالة قلق .. ولكن !!..”
”لابد من القول بأن هناك شيئا ما … أخطر”
”ما علينا إلا أن ننتظر … ربما يتبين الأمر فيما بعد” إلى آخر هذه التعليقات الصادقة.
ضد الطب النفسى:
وقد كانت هذه المشكلة التى مثلت لى حيرة شخصية هى مشكلة المشاكل فى الطب النفسى على كل المستويات، ولعل أول من أشار إلى عدم أهمية التشخيص هو هنريك نيومان Heinrich Neumann سنة 1860 الذى أعلن أن الطب النفسى لن يتقدم إلا بإلقاء كل التشخيصات جانبا، ثم ألمح إلى ذلك كارل ياسبرزKarl Jaspers، ثم تمثلت هذه الفكرة فى كثير من الأفكار الحديثة وخاصة من مدارس الظواهريين والوجوديين، مثل كتابات لانج Laing وكوبر Cooper القاسية الصريحة، وكل الكتابات التى تنشر فى أمانة وثورة تحت عنوان “ضد الطب النفسي” Ant psychiatry تتجه الى تحطيم هذا الصنم، وكل من مارس الطب النفسى بأمانة اجتاحته رغبة فى يوم ما أن يحطم هذا الصنم، ولكن التحطيم وحده لا يغنى شيئا بل قد يزيد الأمر تعقيدا.
وأنا لا أتناول هذا الموضوع بأسلوب البحث العلمى وإنما بتاريخ تطور فكرى، وإن كانت هذه المشكلة قد مثلت شغلى الشاغل من أول ما بدأت التفكير فى شئ اسمه البحث العلمى، فقد كانت بعض موضوع رسالتى للحصول على درجة الدكتوراه فى الطب الباطنى فرع الأمراض النفسية، إذ كان الدافع الأساسى لاختيار موضوع البحث هو إزاحة الستار عن هذه الحالات الكامنة.
الطرق المساعدة والبديلة:
وكانت هناك طرق تساعد على التشخيص منها “التشخيص بالاثارة” أى أننا نثير الأعراض الكامنة ببعض العقاقير حتى تكتمل الرؤية، ومنها التشخيص بمساعدة “الأقيسة النفسية للشخصية”، وقد كان بحثى عبارة عن تزاوج بين هاتين الطريقتين للوصول الى حل..
ولم أصل الى حل .. بل زاد شكى وقلقى، فالاختبار الذى استعملته وهو اختبار الشخصية المتعدد الأوجه فشل أن يصبح مساعد على التشخيص بل إن فشله قد ألجأ بعض المشتغلين به أن يرمزوا برموزه بديلا عن التشخيص، فبدل أن يقال فلان عنده فصام مثلا يقال فلان رمزه 29,7… الخ، وهذه عينة تدل على الحيرة البالغة تجاه هذا الأمر الذى يحسبه الناس من البدهيات.
وخرجت من البحث بعديد من علامات الاستفهام، وعندنا فى الطب وأثناء التحضير لهذه الشهادة تكون قيمة البحث فى مجرد السماح بالدخول لامتحان الشهادة، وهو امتحان عجيب رهيب والعياذ بالله، ولكن البحث فى حد ذاته – بالمقارنة بالكليات والأقسام النظرية – ليس كافيا للحصول علي الدكتوراه، وخرج البحث بالجداول والأرقام ودخلت الامتحان وحصلت على شهادة مزركشة (كما يقولون فأنا لم أستلمها حتى الآن ولن أفعل) وكل ما استفدته من هذه الخبرة هو أن المريض حين يتعرى بالعقار الذى كنت أستعمله للاثارة يصبح أقرب إلى … وبالتالى تتمرن حواسى على افهم أكثر، كان هذا كل ما فى الأمر، أما نتائج هذا البحث فلم تقدم ولم تؤخر فى علمى شيئا (كما سيرد ذكره)
إلا أنى إزددت علما .. بجهلى ..
وحين بدأت الممارسة على نطاق أوسع لعدة سنوات فى عملى الخاص، وكنت أقابل شخصا مميزا أو فنانا كنت أخجل وأتردد فى أن أضع له تشخيصا وأحس أن هذا “وشم” سخيف لا معنى له.
ورغم هذا كله فقد كنت أفترض أنما النقص فى قدراتى أنا شخصيا لسبب أو لآخر.
* * *
فى الخارج:
ولكن مرت الأيام وقرأت ومارست وبحثت، ولم يشف غليلى شئ، وقلت لابد أن هذا النقص لأنى لم أسافر بلاد بره، ولكن ها هو ذا أستاذى الأمين الذى سافر وصبر وصابر ما زال يمارس مثل حيرتى، ولكن .. ربما كان الحل ما زال فى بلاد بره ..، وخاصة أن بعض زملائى الذين عادوا من بلاد الانجليز كانوا أكثر تحديدا – وإن كانوا أقل تجديدا – وبالتالى أكثر علما، وأقل حيرة.
ثم سافرت فى مهمتى العلمية إلى فرنسا، وكان برنامجى لحسن الحظ برنامجا حرا فى بلد حر، وفى باريس فى مستشفى سانت آن (أكبر المستشفيات النفسية وسط باريس) أمضيت أغلب مهمتى، وكان أعظم ما فى هذه البلاد هو الحرية، ليس فى مظاهر الحياة فحسب، ولكن فى طريقة التفكير وأصالته، وكان هذا المستشفى بوضعه الجغرافى والتاريخى ملتقى المدارس المختلفة للطب النفسى، وكنت أحس أنى فى سوق عكاظ، يأتى كل صاحب مدرسة فى يوم محدد فى نفس القاعة أو ما يجاورها، ويأتى اليه مريدوه تطوعا، ويلقى وجهة نظره بحماس أو بتحيز أو بهجوم مضاد ,، “هو حر”، ثم فى اليوم التالى يأتى فى نفس المكان صاحب مدرسة أخرى بمريديه أيضا … وتتكرر القصة، وأهم ما فى الأمر أن هذه الحرية العلمية والحلقات الدراسية لم يكن لها ارتباط ببرنامج دراسى معين أو بامتحان يهدد أو بشهادة تعطى أو تؤخذ أو حتى بالجامعة، فرغم وجود القسم الجامعى فى نفس هذا المستشفى العام إلا أن النشاط العلمى الحر كان أكثر غنى وأرحب ساحة من الاقتصار على الجامعة ونشاطها المحدود.
وكأن مشكلة التشخيص كانت تنتظرنى، فقذ نظم لنا الأستاذ الدكتور ب بيشو P.Pichot أستاذ كرسى علم النفس الاكلينيكى بكلية الطب جامعة باريس (وهو طبيب يمارس أساسا الطب النفسى من على كرسى علم النفس، لعدم وجود كراسى “كفاية” ..، نفس القصة (!). ولكنه كان مهتما اهتماما خاصا بالأقيسة النفسية) .. أقول نظم لنا – نحن الأجانب من العالم الثالث أساسا (واليابان يضعونها فى العالم الثالث !) محاضرات عن وجهة النظر الفرنسية فى تشخيص وتقسيم الأمراض النفسية، وكانت وجهة نظر حرة فعلا، اقتنعت بكثير منها، ورفضت أكثر، وكنت حين أناقش الأستاذ بيشوا فى بعض التشخيصات التى لا يمكن الجزم بها إلا بعد شفاء المريض، وكأننا نعلن “تشخيص المريض بأثر رجعى” كان يخرج الهواء من بين شفتيه على طريقة الفرنسيين ويرفع حاجبيه … و …فقط.
وكان أعجب ما فى هذه الحرية وأجمل ما فى هذا العلم هو الاعتراف بالقصور، وبدأت أطمئن على أن قصورى ليس قصورا وجهلا شخصيا بحتا. – وكان هناك من الاختلافات بين المدرسة الفرنسية والمدرسة الأنجلوسكسونية (الانجليز والأمريكان) دون شاسع فى بعض النواحى، ولما كان تعليمى على الطريقة الانجليزية وطبعى أميل إلى طباع الشرق الأبيض المتوسط فقد وجدت عند الفرنسيين شيئا يخرجنى من قيود التشخيص المتحجر.
الأسلوبية فى التشخيص:
وقد حاول الأستاذ بيشو ذو الاهتمامات الاحصائية والعقل المنظم بالحساب، أن يستخدم عقله الالكترونى ويتعمق فى مشكله التشخيص، فيرسل مجموعة من الأعراض إلى بضعة مئات من أطباء النفس فى أمريكا وفرنسا وألمانيا وغيرها، ويسألهم أسئلة محددة عن أى من هذه الأعراض تصف التشخيص الفلانى عندهم، ثم يحاول أن يربط بين استجاباتهم وسمى ذلك “الأسلوبية فى التشخيص” Stereotypy in Diagnosis فى مختلف البلاد نسبة إلى أن التشخيصات ترجع الى أسلوب آلى محدد يحكمه تنظيم معين فى العقل، وقد خرج بنتائج عامة تشير الى أن الأطباء فى كل بلد يكادون يتفقون فى تجميع الأعراض فى مجموعات، ولكن اختلافهم هو فى الأسماء التى يطلقونها على كل مجموعة، وقد أفاد ذلك فى إمكان المقارنة بين مجموعات الأطباء فى البلاد المختلفة، فإذا قال طبيب أمريكى على مريض أن عنده “فصام ضلالى “Paranoid Schizophrenia فإن ذلك يعنى عند الفرنسى “مرض الضلال المزمن “Delire chronique وعند الألمانى “كذا” … وهكذا، وكأنه ينبغى أن توجد شفرة للترجمة من مجموعة لأخرى ومن بلد لآخر . ولم أكف عن التساؤلات، لأنه إذا كان ذلك كذلك.. فلماذا لا يتفقون؟ وهل يمثل هؤلاء الأطباء الذين أجرى عليهم البحث بالمراسلة مفاهيم الطب النفسى الحديث؟ وحتى لو كان تمثيلا للأغلبية .. فهل الأغلبية على صواب؟؟ وما شأن رأى الأقلية؟
وحاولت أن أحضر المدارس الأخرى التحليلية لأهتدى فحضرت للأستاذ الدكتور “لاكان” الذى كان يحضر مع مريديه الى سوق عكاظ (نفس المستشفى: سانت آن) بنفس الطريقة التى أشرت إليها، ثم انتظمت فى مشاهدات تليفزيونية فى عيادة تحليلية للأطفال والمراهقين مع الأستاذين الدكتورين دياتكين، وليبوفيسى (وعلى فكرة، نشاطهم تابع لوزارة الشئون الاجتماعية وليس الصحة، والحضور ليس قاصرا على الأطباء، ولكنه للأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين والمدرسين والمهتمين بالتربية وغيرهم) وكنت مع هؤلاء وأولئك التحليليين أعجب أشد العجب من العمق الذى يصلون إليه من فهم النفس، ووضعهم التشخيص جانبا، ولكنى اغتاظ أشد الغيظ من الحظر الكيميائى على العلاج، وكأننا فعلا فى مسلسلة تليفزيونية، وليس أمام انسان من لحم ودم وكيمياء ونفس ومشاعر.
المهم، رحمتنى رحلتى إلى فرنسا من الشعور بالنقص واتهام عقلى بالقصور، وأحسست فى رحاب الحرية الفرنسية أنى أستطيع أن أرفض وأن أحتج وأن أفكر، وتيقنت من أن الفرنسيين والألمان كانوا دائما أصحاب أغلب الأفكار الأصيلة، وأن الانجليز، وحتى بعض الأمريكان الذين أخرجوا شيئا جديدا كانوا من أصل ألمانى .. وشعرت بالسجن الذى نسجن أنفسنا خلفه ونحن نحبس فكرنا وراء أسوار المدرسة الانجليزية تعليما ومتابعة للبحث العلمى …
الفهم العضوى:
وكان أكبر من أثر فىّ هو من اعتبرته أعظم الأطباء النفسيين المعاصرين فى فرنسا – وكثيرون يعتبرونه كذلك – وهو هنرى إى Henry Ey الذى حاول أولا مع أستاذه الدكتور هنرى كلود أن يزاوج بين ترتيب الأمراض النفسية والجهاز العصبى تزاوجا ديناميكيا، مهاجما بذلك المفهوم الميكانيكى الذى يتصوره أطباء الأعصاب، ذلك المفهوم الذى حل بين هذا التزاوج ردحا من الزمن، وكانت مدرسته تقول أن الجهاز العصبى عدة مستويات بعضها فوق بعض تطوريا، فإذا فشل المستوى الأعلى (الذى يعتبر كالمايسترو فى الأحوال العادية) أثير المستوى الذى يليه والأقل تطورا .. وهكذا.
وكانت شخصية الدكتور “إى” وقوته العلمية وعمقه الفلسفى أبلغ ما أثر فى نفسى رغم أنى كنت أساسا ملحقا بخدمة الأستاذ الدكتور “جان ديليه” الذى قام بالانقلاب السيكوفارماكولوجى الرهيب فى علاج الأمراض النفسية باكتشافه عقار اللارجاكتيل الذى لا يقل أهمية عن اكتشاف البنسلين أو الكورتيزون فى الطب الجسمى، إلا أنى اهتززت اهتززت أمام أبعاد “إي” الانسانية أكثر وخاصة بالنسبة للفهم التطورى للجهاز العصبى، وهذا الفهم هو الذى ساعدنى بعد ذلك على حل هذه المشكلة التشخيصية.
وقد كان التزاوج بين هنرى إى وجان ديليه هو الذى أوحى لى بعد ذلك بالفهم الديناميكى الأنثربولوجى العصبى للأمراض النفسية.
محاولة محلية:
وفى الشهور الأخيرة كلفت مع بعض الزملاء من قبل الجمعية المصرية للطب النفسى باعداد مشروع مبدئ للأمراض النفسية حتى يتكلم المشتغلون بهذا الفرع من الأطباء النفسيين بمصر لغة واحدة، وكأن المشكلة كانت تنتظرنى وبعد شهور طويلة من مراجعة التقسيم الأول للأمراض وسائر التقسيمات الأخرى فى فرنسا وأمريكا وانجلترا وغيرها، وبعد وضع المشروع ومناقشته فى اللجنة العلمية للجمعية مناقشات فيها من الثورة والتجديد ما طمأننى إلى صحة اعتقادى بالحاجة الى الثورة الكاملة، وبعد محاولتنا تطوير التقسيم العالمى للأمراض النفسية بما فيها من نقط ضعف جاءت نتيجة اجتماع مجاميع عالمية غير متجانسة، بعد كل هذا وضعنا مشروع التقسيم الذى قبل بصفة مبدئية وحاولنا فيه أن نلقى الضوء على معظم مناطق الظلال، ولا أنك أنى تخابثت فى حدود ما تسمح به الأمانة العلمية وعلى قدر ما سمح لى به أصلى الفلاحى أن أتخابث، حتى أذيب بعض الثلوج، الانجلوسكسونية التى تحيط بفكرنا، ولكن الحاجة الملحة للتجديد والتحديد، ومما تصورت ظهرت فى المناقشة التى تمت حول هذا المشروع.
إذا فالموضوع ليس مشكلة خاصة بى وإنما و فعلا مشكلة الطب النفسى.
ومع كل ذلك .. فلم ينه هذا التقسيم المصرى حيرتى، فما زلنا فيه ملتزمين بشئ اسمه العصاب وآخر اسمه الذهان، وتقسيم وصفى للأمراض مما لابد أن ينتهى بالثورة القادمة .. ولكنى أعتبره خطوة هائلة على الطريق.
مشاكل علمية:
على أن القارئ غير المتخصص ربما لا يهتم بكل هذه المشاكل العلمية البحتة وتطور حيرتى إزاءها بقدر ما يتساءل: بماذا سيضار هو من هذه الاختلافات الجوهرية حول أبسط الأمور وهى “اسم المرض وطبيعته”؟ والحقيقة أن الذى دعانى أن أكتب كل هذه التفاصيل والقصص تسلسليا هو أن المشاكل التطبيقية التى تهم كل مريض وكلإنسان يتصادف أن يحتاج لخدمة الطب النفسى حادة وملحة وخطيرة فى نفس الوقت، فن عدم الاتفاق على تشخيص من ناحية، والاهتمام الزائد بقيمة التشخيص من ناحية أخرى كانا يمثلان لى صعوات لم أستطع أن أتغلب عليهما حتى الآن، وليشاركنا الناس فيها حتى نحلها، فهم كما قلت من الأول: أصحاب المصلحة، كما ن مضاعفات هذه المشكلة تظهر بشكل قاس ومرير فى كل المجالات ومثال ذلك مجال الخدمة العسكرية، ولأن التشخيص ليس له مقاسات بالقلم والمسطرة فكل شئ جائز، ويبدو أن النظم والقوانين كانت تحد من حركة زملائنا بالقوات المسحلة مما يزيد شكهم وحرصهم ويجعلهم يفضلون مبدأ “السلامة أولا” وأعنى بذلك سلامة الاجراءات وليس سلامة المريض ولا سلامة الجيش، وأحسب أحيانا – فى ظل اللوائح – أن عندهم عذرهم، والذى يده فى النار غير الذى يده فى الماء كما يقولون، وكانت المشكلة تصل عندى إلى درجة فظيعة من الاحتجاج تجعلنى أثور على نفسى وعلى زملائى وعلى فرعى ونحن نقف مكتوفى الأيدى والعقل بين المتصنعين والمتصعدين من المرضى والأسوياء..، ووصل الحال مرة أن مريضا فصاميا يعالج عندى منذ أربع سنين، وحالته تصرخ وتقول “أنا هو الجنون بعسنه” قبل فى الجيش على أنه لائق، وأكتب التقرير تلو التقرير وأصف الأعراض بالتفصيل متجنبا التشخيص وأقول “أنه يكلم العصافير فى أوركاها” ولكنه كان لائقا سليما معافى لقصور اللوائح على زحسن الفروض، وبعد عدة شهور حين ثبت – ربما بشهادة الطير – أنه يعرف الطير فى أوكارها، بدأت إجراءات الفصل التى استغرقت تسعة أشهر بالتمام خرج بعدها صديقى المريض وقد تمزق تماما .. لا أمل فى أن أجمع أشلاءه بعد ما كان، وحين كنت أقابل زملائى بالقوات المسلحة وأصيح فيهم وفى نفسى “ماذا تفعلون – ونفعل – بالناس..؟” يقولون فى ألم ليس أقل مما أشعر به “ماذا يفعل القانون بنا .. وبالناس؟” وأحول غيظى إلى قصور فرع الطب النفسى لاذى يقف عاجزا أمام الضبط والربط.. لأن التشخيص صعب، أو مستحيل إلا بعد شهور وشهور ..، وليكلم المرضى الطير أو يصادقوا الحيات … فهذا شئ آخر، والمهم هو الوصول للتشخيص، وأن يكون محددا بالكلمات وأن تكون ذات الكلمات موجودة فى اللوائح (وليست كلمات مشابهة)..، وحين قلتفى أول حديثى عن مشكلة التشخيص أنه فى كثير من الأحيان يكون الهدف الأول والأخير من الفحص، كنت أعنى مثل هذه الحالات، وحتى تصير اللياقة فى الجيش من عدمها مرتبطة بأسئلة أخرى بعيدة عن التشخيص فسوف أظل قلقا محتارا بالنسبة لهذا الموقف وأمثاله، فخليق بنا أن نسأل أسئلة أخرى بعيدة عن التشخيص مثل “ماذا يفيد هذا الشخص القوات المسلحة” ، “وماذا تفيد القوات المسلحة هذا الشخص؟” “ماذا يضر وجود هذا الشخص وجوده بها؟” إلى آخر هذه الأسئلة المنطقية، والتى لابد لنسألها أن نتحرر من سجن الأكشيهات أولا.
هذا مثل واحد يشير الى كيف يمكن أن تكون سجن التشخيص خطرا على الناس وحيلتهم، وعلى صحة المؤسسات الحربية والانتاجية، وليس فقط مسألة علمية “فيها نظر”.
والأمثل غير ذلك صارخة فى مجال الشهادات المرضية، ومجال الخدمة الطبيعة للعمال ومجال القضاء، ومجال حجزالمصابين بالأمراض العقلية بحكم القانون وأغلب المجالات التطبيقية والإدارية والشرعية التى تتصل بممارسة الطب النفسى.
* * *
إذاً فحيرتى إزاء مشكلة التشخيص كانت وما زالت حيرة علمية وتطبيقية فى نفس الوقت فالألفاظ لا تعدو أن تكون وشما للناس بالرموز، والعلم لا يحدد لى معانى الكلمات بالتفصيل، وحتى إذا حددها فإنها تصبح بالتقادم صنما .. إلها يعبد، وليس إلها يعفو ويرحم، وننسى دائما أننا نحن الذين صنعناه.
وأقول أن هذه هى الطبيعة العلم بصفة عامة وأن هذه هى مرحلة تطوره، وعلمنا بصفة خاصة ما زال يحبو، فلأرض بما هو قائم وأمرى الى الله.
ولكن المشكلة عندى ليست فى الرضى والتسليم بمرحلة التطور العلمى الذى يعيشه فرع اختصاصى، بل هى أصعب من ذلك، فن عملية التشخيص بالصورة القائمة تباعد بينى وبين الأصدقاء المرضى، إنها عملية تشوه إنسانية الإنسان وتقلبه من “مجموعة مشاعر ذات كيان” إلى “مجموعة عراض ذات اسم” ومهما قلنا أنها غير ذات أمية إلا أن الطريقة ممارستنا الطب النفسى تعطيها الأهمية الأولى .. وأحيانا الأخيرة. إن الاهتمام الزائد بمنطوق كلمات المريض وأقواله وأقوال الشهود يجعلنا نقع فى نفس الخطأ الذى نعيبه على زملائنا الأدباء فى الفروع الأخرى حين نقول أنتم تهتمون بالأعضاء دون الإنسان، لأننا أيضا – بهذه الطريقة – نهتم بالكلمات دون الانسان … أو بمعنى آخر:
إننا نسجن المريض وراء ألفاظه.
إننا نبعده بما نطلقه عليه من “أكلشيهات”.
لكن حين حاولت أن أخرج من هذه الحيرة وجدتنى أقع فى نفس المحظور فأعيد تقسيم وتنظيم الأمراض باللفاظ جديدة، وأكاد أكون متأكدا من أن هذه الطريقة سوف يقع منها نفس الخطأ .. إلا أنها قد تعفينا مرحليا من ثقل ثمانين سنة كاملة – منذ كرمبيلن – نرزح فيها تح كاهل رموز معناها بالثورة الكيمايئية والتكنولوجية والنفسية الحديثة.
* * *
هذه بعض معالم الحيرة التى عشتها.
وهى هى بداية الثورة التى أعيشها.
وقد تحدثت عن محاولة حلها بالبحث العلمى التقليدى وعن فشل هذه المحاولة، ولكن للبحث العلمى قصة أكبر تحتاج الى تفصيل، ولكن – مرة ثانية – إنما بنيت طريقتنا فى البحث العلمى على طريقة تنظيم عقولنا بمناهج التعليم السارى، وتنظيم تفكيرنا بحسابات المكاسب الشخصية العاجلة.
* * *
الفصل الثالث
البحث العلمى
“ليس البحث العلمى تجارب تعمل أو نتائج تدون أو حقائق تثبت ولاهو قوانين تكتشف، وإن يكن ذلك كله من ضروريات وجوده…. ولكنه قبل كل شئ طريقة تفكير منظمة واقعية يتلو بعضها بعضا على نحو يتفق وحقائق الأشياء”
محمد كامل حسين
أكاد أقول أن هذه الفقرة التى أعرضها فى هذا الفصل هى أصعب الفقرات جميعا، وقد ترددت كثيرا- شأن الناضج لاشأن الثائر- فى أن أكتب عنها، حتى كدت أعدل تماما، وكانت مبرراتى جاهزة، فأنا أتحدث عن حيرتى الشخصية وكل ما أعريه من نفسى هو ملك خاص لى، من حقى أن أكتب عنه ما أشاء، فأصف فشلى أو قصورى، وأصف ترددى فى التشخيص والعلاج دون حرج، وأكدت منذ البداية أن هذا الحديث خاص يقع على وزره دون أى أحد آخر، ولكن المسألة تتغير حين أتحدث عن البحث العلمى وهو مشكلة عامة ومشتتة حيث يوجد فى الأمر “آخر’ وحيرتى هنا تتصل اتصالا مباشرا بأساتذة وزملاء أحترمهم وأقدر كل مابذلوه ويبذلوه فى مجال الطب النفسى، ليس من حقى أن أطلق لقلمى العنان فى شئ لايتعلق بى وحدى.
هذه واحدة..
أما الثانية، فلأننا بلد يجاهد بركب العلم أجد حديثى عن البحث العلمى له خطورته وخطره فى نفس الوقت، فلو أننى قلت كل مابنفسى مهما التزمت الحذر، فإن الأسلوب الحالى والمحلى للبحث العلمى قد يصيبه من التهوين مايوهم بأن البديل عنه هو الخرافة أو الغيبيات وأنها أبقى للتطور وأنفع من الأسلوب العلمى فى حين أنها جميعا ظلام دامس لاينطق فيه إلا الوطاويط والأشباح.
هذان المحظوران جعلانى أتردد وأفكر وأكاد أهرب.
ولكن:
لابد أن أحدد موقفى مما كان ويكون- ولو بالإيجاز والحذر اللازمين وأن أعترف بصوت عال: أنى غير مقتنع بكل هذه المظاهرات البحثية التى لاتتعدى مرتبة المشاهدات والتجارب والمقارنات والمقابلات، وهى أدنى مرتبات البحث كما أشار أستاذنا الدكتور محمد كامل حسين، وللأسف فإن لجان تقويم الأبحاث لدينا بصفة عامة- تؤكد على الجداول والمشاهدات والاحصاءات، ولاتلتفت إلى المرتبة الأعلى وهى مرتبة الفروض الخصبة التى تفتح آفاقا رحبة لمسيرة العلم، ولا أتحدث عن المرتبة القصوى للبحث وهى الوحى الصادق أو مرتبة الوصول على حد تعبير الصوفيين لأنها فوق التقويم وإن كنت لا أشك أن أول رافض لها هى لجان التقويم.
ولعل من أغرب القيم التى أرادوا لها أن تتثبت احتماء وراءها من الجديد، أو استسهالا لما هو دقيق خاضع للمراجعة والحساب هى أن أى بحث من المرتبة الدنيا يفضل عن مقال قد يحوى فرضا خصبا فى حين أن هذا الفرض قد يكون به من الملامح المشرقة مايعدل مسيرة العلم لعشرات السنين، وحين تقرأ تقارير اللجان العلمية تعجب من “الأكليشيهات’ المتداولة وتقرأ “هذا مقال’ ليس بحثا!’ إلى هنا والأمر واضح ومقبول، ولكنك تقرأ فى الجملة التالية أنه لا يقوم فى الجهد العلمى لصاحبه، أما أنه ليس بحثا فقد يعنى أنه ليس بحثا عمليا فيه تجربة ومشاهدة أما أنه لايقوم فهذه هى المشكلة!! لأنهم قد لايميزون بين المقال لاسترجاع وسرد معلومات سابقة، وبين الفرض الذى يعيد تنظيم الحقائق والمشاهدات لتصبح جديدا قابلا للاختيار والمناقشة، فإن الذى يحدد عملية البحث لديهم هو المعاملة الإحصائية وعدد الجداول والرسوم البيانية فى أغلب الأحوال، وهذا معوق رهيب للتقدم العلمى فى بلدنا خاصة لأنه يضر أكثر مايضر بشباب الباحثين المحتاج للترقى، وعلى ذلك هو يحدث ارتباطا شرطيا بين الترقى وبين هذا النوع من الأبحاث فيوقف تطورهم الفكرى، حتى إذا جاء وقت النضج العلمى والإنشاء… لم يبق فى عقولهم إلا عقم الأرقام، وبذلك فالباحثون يستغرقون فى هذه المرحلة طوال حياتهم فتنتهى تلقائيتهم ولكنهم مستمرون فى سلم الترقى بالنجاح فى المنافسات العلمية، ثم بالأقدمية يتولون مراكز تقويم فيعوقون بدورهم التطور، وهم فى ذلك مرغمين على التدهور وهم فى الحقيقة ضحايا أكثر منهم جناة.
الأمانة:
بل إن هناك خطرا أكبر من كل خطر يدخل ضمن هذا النظام هو أن يتعلم البحاث فى أول خطوات حياتهم العلمية البحثية “عدم الأمانة’، إذ أنه فى إطار التنافس على القشور يمكن أن يحدث أى شئ، ولا أقول لأنه لايمكن إثباته، وقد يرد أحدهم أن “الأمانة العلمية هى شرط أساسى ومبدئى لدخول مجال البحث العلمى ابتداء’ إلا أنه ليس من كل المسلمات أو البديهيات حقائق كل يوم، فلا يكفى … وخاصة فى بلد نام ذى إمكانيات محدودة.. أن تقول إنه يجب أن يكون الباحث أمينا، ليكون أمينا وليس من المعقول أن نضع الانتاج العلمى فى كفة ونقول إن الأمانة هى الأصل وهى واجب الأساتذة والمشرفين لأن الأمانة خلق وعادة قبل أن تكون واجبا أو درسا، على أن الصراع الذى يترتب على ربط الترقى بالبحث العلمى لايضع أمامه العلاوة المادية حسب، بل هو يرتبط ارتباطا جوهريا بالصراع على المركز والاسم والسلطة، أى كل ما يتعلق بحياة الباحث الوظيفية التى قد تكون هى كل حياته.
وأبسط طرق عدم الأمانة هى تلفيق وتزييف النتائج لتساير الاتجاه المتوقع، وهذا النوع بسيط لأنه يمكن ضبطه من خلال الإشراف والمراجعة لبحاث الناشئين، ولكن الإشراف أمر ليس ممكنا بصورة عملية دقيقة باستمرار، وتكفى نظرة واحدة إلى عدد الرسائل التى يشرف عليها أحد الأساتذة وذوى الانشغالات الأخرى المتعددة حتى ندرك مدى سطحية الاشراف.
وعدم الأمانة الصريح رغم قبحه وخطورته أهون من النوع الخفى لأن صاحبه يعرف ماذا يفعل، وربما استيقظ ضميره فيما بعد وعرف أن هذه مرحلة لغرض ما، وربما عدل عن ذلك، وربما جعل التزييف فى اتجاه لايغير النتائج وإنما يجسمها ويظهرها فقط، إلى آخر هذه الافتراضات المخففه.
أما النوع الآخر فهو أخفى وأخطر، وهو الذى يحدث بطريقة غير مباشرة من خلف الشعور نتيجة للحرص الشديد على عمل البحث من ناحية، والكبت الشديد من ناحية أخرى ضد أى انحراف عن الصواب، فلا يكون هناك طريق سوى التزييف اللاشعورى- إذا صح التعبير- الذى يتخذ صورا خفية يمكن أن يدافع عنها صاحبها دهورا، وليس هذا مجال تحديد هذه الصور ولكنى أحذر منها الشبان حتى يدركوا مداخل النفس قبل أن تتشوه الشخصية.
وهناك طرق متنوعة لضبط الباحث الشخصى نحو هذه الناحية دون الأخرى، ولكن التحايل اللاشعورى على هذه الطرق يخفى على الباحث نفسه انحرافه، وهذه الأساليب تظهر أكثر ماتكون فى البحوث النفسية الإكلينيكية حيث يكون مجرد التجاوز فى التشخيص (وهو بحر ليس له قرار كما سبق أن أشرنا) هو مجرد نوع من عدم الأمانة.
وعموما فإن عدم الأمانة فى نظرى هو “أن أفعل مالا أقتنع به’ مهما كان سبب عدم اقتناعى، إذ ينبغى أن أفهم حتى أقتنع، أو أن أمارس حتى أقتنع، وإلا فلأتوقف وأراجع نفسى، فكم من الأبحاث تمنيت قرب انتهائها أن أمزقها ولا أخرج بنتائجها أبدا، وكم عندى من الأوراق المتراكمة مالا أرجع إليه إلا وقت الحاجة، وبغير حاجة فسيظل مركونا بلا قيمة إلى الأبد لأنى أعتقد أنه بلا قيمة سواء نشر أم لم ينشر، وإنما هو ينشر لغرض آخر غير النشر. .
وقد اضطر الباحثون إزاء قواعد اللجان السالفة الذكر إلى محاولة للتغلب على هذا النظام العقيم للبحث والترقى بمحاولات عديدة لا أبرئ نفسى من اللجوء اليها.
فهناك صورة المجاملة فى الأبحاث- وهى تتمثل فى أن تضع اسمى على بحثك وأضع إسمك على بحثى للتغلب على مشكلة الكم والكيف أمام اللجان إياها، وهذه صورة محورة لعدم الأمانة ولكنها تتناسب مع موقف اللجان التى تهتم بالعدد قبل أى شئ آخر، إذ لابد أن تكون معاملتنا للجان بالمثل.
وهناك صورة ضيف الشرف حيث توضع بعض الأسماء الكبيرة على أبحاث لم يقوموا بها كنوع من التكريم، إلا أن الفائدة متبادلة إذ أن الأسم الكبير يعطى للبحث قيمة خاصة.
وهناك صورة ثالثة حين يحابى أحد الأساتذة أحد الناشئين فيلحق اسمه بكل الأبحاث التى تجرى سواء شارك فيها أم لا.
كل هذه صور تحدث كل يوم تحت سمع وبصر اللجان- فما أعضاؤها إلا بحاث وأساتذة يعرفون مايجرى ومع ذلك لايملكون إلا تنمية كل هذه الأساليب بتقويم الكم دون الكيف، وباتباع مبدأ السهولة أولا.
هذه بعض الأمثلة… والأمثلة غيرها كثيرة والردود عليها أكثر، ولا أستطرد فإنما أعرض هنا نقطة واحدة وهى كيف أن البحث العلمى الذى خيل إلى فى وقت ما أنه سينهى حيرتى قد زادنى حيرة، وكيف أنى إنتبهت وأنا فى وسط معمعته إلى الظلام المحيط وإلى مزالق الخطر الخفية التى تجعله سلاحا علينا لا لنا فى فترة تطورنا الحالية.
وبصفة عامة أكاد أقول “أنى لست فخورا بأى بحث قمت به ونشرته حتى الآن، بل إنى كثيرا ماخجلت من أبحاث مانالت من تقدير لم يعن عندى شيئا أبدا، كما أنى لست مقتنعا بسياسة البحث العلمى التى تربطه بالكم دون الكيف أو بالنتائج دون الغرض، أو بالأسلوب العلمى دون التفكير العلمى، أو بالأعداد والجداول دون الأصالة والابتكار’.
وإن كنت لاأنكر فى نفس الوقت أن كل الأبحاث التى اشتركت فيها والتى شاهدتها وعاشرتها، سواء بمصر أو فى مهمتى بالخارج قد أفادتنى فائدة عظمى كان لايمكن أن أحصل عليها دون أن أمارسها من الألف إلى الياء، فالمشاهدات عموما تجلى الذهن وتوسع مجال الرؤية، وكلما اتسعت دائرتها واهتمت بالتفاصيل كلما زادت قيمتها فى إثراء الفكر، إذ أن المشاهدات هى المادة الخام التى يتخلق منها الجديد، أو هى اللبنات التى ستبنى منها المنزل، ولكن رغم ذلك فإن المشاهدات فى حد ذاتها وللأغراض الجدولية والبحثية الوظيفية، كانت تشوه فى آخر لحظة لتساير لغة لجان التقويم السائدة.
ولعل أكبر فائدة حلت عليها من سلوك هذا الطريق- كله أو معظمه- هو أنه يحق لى أن أمارس حرية الرفض، فليس لإنسان أن يعترض دون محاولة جادة ومتصلة لدراسة المجال الذى يعترض عليه، وليس لمبتديء أن يقول “لا’ قبل أن يمارس الاتقان بالألم والصبر حتى فى مجال تحصيل الحاصل.. ولكن الخوف كله من أن تنقلب هذه المحاولة المبدئية إلى مصير، وأن يصبج هذا الطريق السهل المجدول ذو النتائج السريعة هو الوسيلة والغاية معا، لقد أيقنت تماما أن هذا الطريق- بوضعه الحالى وفى مجال اختصاصى- لايوصل.. أو على الأقل لن يوصلنى أنا، بل إنه خطر لى أن الباحث الناشيء متى ماحفظ الطريقة استسهل تكرارها، فيحبس بذلك عقله داخل أساليب مكررة ويكتفى بظهور اسمه مطبوعا وياحبذا لو كان ذلك فى مجلة من المجلات “الأجنبية’ فيهدأ، وتتلاشى قدرته على الرفض أمام المكاسب المظهرية، وتصدأ قدرته على الخلق والابتكار، ثم هو لامحالة بعد أن يصعد قليلا على السلم الوظيفى المرتبط عادة بالمكانة العلمية- سوف يقوم بالهجوم على الخلق والابتكار بدوره.
صعوبات خاصة بالطب النفسى:
وإذا كانت هذه الصعوبات عامة فإن البحث فى مجال الطب النفسى له صعوباته الخاصة، فالعلوم النفسية من أرقى العلوم وأضعفها كذلك، أرقاها تطوريا وأضعفها منهجيا، وقد حاولت وتحاول جادة مستمرة أن تدخل المعمل، وكنت من أشد المتحمسين لهذه الفكرة وأنا أكتب كتابا مشتركا عن “علم النفس تحت المجهر’ ومازلت أرى ذلك الرأى ولكن بتحوير جوهرى يجعله خطوة واحدة على الطريق، ذلك أن دخول علم النفس إلى المعمل الاكلينيكى يضيف حقائق تفصيلية هامة وخطيرة ستسمح للفكر الخلاق أن يخطو خطوة جديدة على طريق فهم الانسان، ولكن النتائج المعملية ينبغى ألا تكون بديلا عن الفكر الجديد.. والفرض الخصب.
هذه مسلمة أخرى من المسلمات البديهية التى أشك فى مدى إدراكنا لأهميتها ولعل أعظم ماأخصب فكرى فى فهم الأمراض النفسية هى الابحاث المتعلقة بالعقاقير وآثارها، وكذلك الملاحظات المأخوذة (دون حاجة إلى عينة ضابطة!! ) من البحث التحليلى الإكلينيكى للمرضى أثناء العلاج النفسى أو للأطفال أثناء النمو، والاثنان على طرفى نقيض فكرة وأسلوبا، ولكن الحل الذى اهتديت إليه كان بفضل هذه الملاحظات المقننة من ناحية، والأمينة من ناحية أخرى…
إذا فالمعمل وهو مجال البحث الأول هو أيضا المكان الذى يمكن أن يتكرر فيه الجمود وتتسرب منه الأمانة، ولايعنى الهجوم على أسلوب معين فى بلد نام أن أحطم أساسيات البحث جميعا، لأن المشاهدات الجزئية- على شرط أن تكون أمينة أمانة مطلقة هى الغذاء الاساسى لولادة الفكرة الخلاقة، ولكنى شخصيا لم أنجح فى اتباع أسلوب المشاهدة العمياء المقننة، بل إن مشاهدات غيرى التى أقرؤها فى الأبحاث المضبوطة، تدخل عقلى بطريقة أخرى غير ماقصد كاتبها.
ولأضرب مثلا بسيطا لذلك، فإن الاكتئاب الذى ينشأ من استعمال المهدئات العظيمة من فصيلة الفينوثيازين وصف فى مئات الابحاث على أنه من مضاعفات هذه العقاقير، وتتمادى هذه الأبحاث فى القول أنه إذا ظهر هذا الاكتئاب فإنه ينصح بوقف العقار، حتى فى حالات الفصام التى يعطى فيها هذا العقار أساسا.
هذه ملاحظة أمينة تقول ‘ إن استعمال عقار الفينوثيازين فى الفصام يظهر اكتئابا فى بعض الاحيان، وإثبات هذه الملاحظة بهذا الوضوح والتحديد يتحفنا بحقيقة علمية هادية، إذ أنى حين تنبهت لهذه الملاحظة وتابعتها بدقة أكثر ثبت لى أن الاكتئاب هو خطوة تحسن وليست مضاعفة لعقار، لأن تفسيرى له اختلف تماما.. لقد أصبحت أعتبر ظهور الاكتئاب من علامات التحسن على طريق الشفاء، وقد رأيت أن التفسيرات الكيميائية التى وضعت لتفسير هذا الاكتئاب قاصرة كذلك، لأن فهم الظاهرة ينبغى أن يتم فى إطار التوحد بين الكيمياء والطبيعة والعلاقة الدينامية بين مختلف المستويات على سلم التطور الانسانى..
وأمنع نفسى عن المضى فى التفاصيل لأقول:
إن رفضى لهذه الابحاث والمشاهدات لايعنى إمكان الاستغناء عنها، وإنما يعنى قصورى شخصيا عن القيام بها بالطريقة المحلية المتعجلة، بل إن ظروف إجرائها هنا لمجرد إقناع لجان البحث أو قبولها للنشر يضعف من قيمتها أكثر، وإنما كل مايعنينى فى هذا المجال أن تسجل المشاهدات تفصيلا فى جو من الأمانة ليس فيه شبهة.
فإذا اطمأن مفكر إلى هذه الحقائق المسجلة من كل مصدر فإنه يستطيع أن يأخذ نفس النتائج فربما وجد لها تفسيرا وتحقيقا لغرض آخر يحل مشكلة عامة، وليس ضروريا عليه أن يعيد إجراءها بل هو ينطلق منها بتفسير جديد نحو تحقيق جديد، يقوم به هو أو غيره.. وهكذا يسير البحث ويتقدم العلم، ولايقل دور المفكر صاحب الفرض عن المشاهد القائم بالتشغيل بل إنه يفوقه بمراحل، ولكن طريقة التقييم عندنا تقلب هذه الأوضاع رأسا على عقب.
الصدفة والإثبات:
لابد لكى تذكر ملاحظة علمية وتستنتج ارتباطها بمسبب بذاته أن تثبت أن هذه الملاحظة لم تحدث بمحض الصدفة، ولكن أصعب الامور فى الطب النفسى والممارسة الاكلينيكية هى هذا الاثبات، وقد حاولت أن أثبت ذلك بشتى الطرق المعروفة وفشلت فى كل مرة تقريبا.
حاولت أن أقنع نفسى بجدوى عمل عينة ضابطة ووجدت أنه يستحيل على أن أجد شخصين متماثلين لأقارن بينهما مقارنة مضبوطة.
وحاولت أن أقارن المريض بنفسه وكانت الأمور دائمة التعقيد لأن المريض يتغير فى كل لحظة ومقارنته بنفسه على مدى الزمن يهمل- بدرج ما- العوامل التى تطرأ عليه أثناء مرور الزمن.
وحاولت أن أعطى أقراصا ليست ذات مفعول بدل الأقراص الفعالة، وكنت أشاهد فشل التجربة بعد أيام حين ينتبه المرضى والممرضين والأطباء إلى أن المريض لايأخذ علاجا وتصير نكته حين أتمادى فى إخفاء اسم العقار ونوعه.
كل ذلك الفشل جعلنى غير مقتنع بأى بحث من هذه البحوث وأى طريقة من هذه الطرق، ورغم ذلك فقد كنت أصر على تسجيل الملاحظات جميعا ولكن السؤال يستمر بلا جواب “كيف تثبت أنه ليست المصادفة؟’ وأكاد أقسم على أن ذلك غير ممكن، ولكن لافائدة..
وكنت أشعر أن حرية الفكر والصدق الشخصى هما البرهان الوحيد الذى يمكن أن أقدمه..
إلا أن حرية الفكر والصدق الشخصى يتصورهما كل مخلوق سواء فى البحث العلمى أو فى العلاقات الزوجية أو فى السياسة، وما أبعد ذلك فى معظم الأحيان عن الحرية والصدق!!
وتزداد حيرتى .. كالعادة…
البحث العلمى فى الممارسة الاكلينيكية:
من حيث لاأدرى كنت أقوم فى ممارستى الاكلينيكية بنوع من البحث العلمى غير المقنن… حيث يعتبر كل مريض مشكلة قائمة بذاتها، يوضع لها الفرض العلاجى القابل للتصديق، ثم يعطى العلاج- بغض النظر عن نوعه- وتنبع النتائج التى ماهى إلا تقييم مااتخذ من إجراءات علاجية وهكذا، وبذلك اجرى بالرغم منى كل يوم عشرات الأبحاث التى تتضمن- المشكلة الفرض- المتغيرات- المشاهدة- الاستنتاج، وتدخل هذه الخبرة إلى خلاياى دون أن أدرى لتنمى عندى الحدس الذى يسمى “الشعور الاكلينيكي’ Clinical Sense، وحين كنت أحاول أن أقلب هذه الملاحظات الإكلينيكية إلى تجارب مقننة كنت أحس أنى أقوم بتشويه خبرة فنية بأساليب لاتمت لها بصلة… ومع ذلك كانت تستمر التجارب وتخرج النتائج… ومهما كانت النتائج مقنعة إلا أنها دائما أقل من إحساسى بواقع التجربة..
وكنت دائما أقر وأعترف أنه ليس فى الإمكان لغة أخرى للتفاهم مع الآخرين.. فما أحس به وأتحمس له أنا.. قد لايعنى شيئا عند آخر، وهذا تصور لا أعرف له حلا، ولا أخال أن أى إنسان حر صادق يعرف له حلا إلا أن يسلك مسلك المتصوفة ليتحدث لغة خاصة مع من يفهمه فحسب، وأنا لا أهاجم هذا الطريق بل إن كل ماآخذه عليه هو أنه لغة القلة.. أو الندرة..
وأهم ماصحح فهمى واستنتاجى هو فشلى، وقد أيقنت أنه فى كل مجال بما فى ذلك بحوث تقويم العقاقير لاتهم العينة الضابطة والمعاملات الاحصائية بقدر مايهم تسجيل الملاحظات بالنسبة لكل حال، وطرح التساؤلات بالنسبة لكل فشل، إن مجرد هذا التسجيل يتيح للممارس ثراء علميا ضخما وفرصة للمراجعة، كما يتيح للآخرين ممن تتاح لهم الفرصة للاطلاع على هذا التسجيل الأمين أن يعيدوا النظر وبالتالى يراجعوا تسجيلاتهم ويقارنوها ببعضها البعض ومن أهم الملاحظات التى أفادتنى أكثر من أى بحث مقنن هو ماسجله المرضى أنفسهم عن تطورات حالتهم بالعلاج أو بدونه، وقد كانت هذه المذكرات الخاصة مصدرا هائلا للعلم فى مجال الطب النفسى طول تاريخه، فالجميع يعرف حالة “دكتور شريبر’ التى تعلم منها فرويد الفصام والضلال، كما أن كتابا بأكمله مازال مرجعا أساسيا فى علم السيكوباثولوجيا منذ سنة 1923 حتى الآن وهو كتاب “ياسبرز’ قد بنى جزء كبير منه على ملاحظات المرضى عن أنفسهم.
ولكن هذه التسجيلات جميعا بلغة البحث العلمى فى مجالى ومايمارس منه لغرض الترقى ليس لها قيمة، أو على الأكثر، فإن قيمتها يسمونها “وصف حالة’ بالرغم من أن هذه الحالة قد تكون فاصلة فى إيضاح فكرة واحدة قد تنطبق على نوع كامل من الأمراض، ومازلت أذكر ماكتبه المرحوم الفنان كمال خليفة عن حالته- وقد صاحبته فى أزمته سنوات- فيما يقع فى أكثر من ستة عشر ألف صفحة آمل أن أتفرغ يوما، وقد تصورت أنى لو عكفت على دراستها خمس سنوات مثلا فإنها- بعون الله- لن تعتبر بحثا، فى حين أن قياس الضغط والنبض يوميا تحت تأثير حقنة ما لمدة أسبوع سيعطى جداول ونتائج اللجان وترضيهم!!!
المعمل الشرطى:
وحين كنت فى مهمتى العلمية فى فرنسا حاولت أن أشاهد وأشاهد أكثر مما أعمل وأمارس وكانت فرصتى ضخمة حيث التحقت بخدمة مكتشف عقار اللارجاكتيل الأستاذ د. “ديليه’ وأتيحت لى الفرصة لمشاهدة معمل السيكوفارماكولوجى التابعة له وللأستاذ د. “دينيكر’ حيث أيقنت أن أى محاولة كيميائية نجريها فى بلدنا بالسحاحة والماصة !! فى مجال الطب النفسى هى مضيعة للوقت ليس إلا، وأننا ينبغى أن نعكف على متابعة مايجرى من أبحاث فى هذا المجال فى المعامل المهيئة لذلك، وأن نقصر جهدنا على التطبيق والتسجيل الأمين لنوع مرضانا وطريقة شكواهم ومختلف استجاباتهم.
وقد حاولت- هناك- أن أعرف كل نشاطات البحث المتاحة، وكان من أكبر المعامل التى جذبت انتباهى معملا لإجراء تجارب الارتباط الشرطى على الإنسان يتبع الأستاذ د. بيشو وتقوم على مسئوليته آنسة متقدمة فى العمر تتصف بالدقة والأمانة والحماس، كما تتصف بالجفاف العاطفى والتعصب العلمى كذلك، وذهبت إليها ورأيت العجب، فقد كان الجزاء الذى يعطى للانسان تحت التجربة على كل استجابة صحيحة هو “ملبسة’ تماما مثل القط أو القرد الذى يضغط على مؤشر فيحصل على كرة صغير يلعب بها أو قطعة من السمك أو حبات من الفول السودانى، وجزعت أن العلم وصل إلى هذه المرحلة، أهذا هو الانسان ؟
وقلت لها: وهل يدخل عامل الذكاء والتعاون فى الاعتبار، قالت ليس مباشرة، لأن كل إنسان يمكن أن يكون صالحا للتجربة، وقلت لها أنى أريد أن يجرى على الاختبار باعتبارى من العينة الضابطة، وبدأت التجربة على أنا شخصيا وطوال ساعات يرن الجرس، ويمر تيار الهواء البارد على عينى فأغمضها ثم يصدر أزيز رفيع إلى آخر ذلك من مؤثرات محسوبة، وأنا أفعل فى كل مرة مايحلو لى وذلك ماحذرتها منه من أول الأمر، وقد فشلت التجربة وقالت لى “أنت صعب’ وقلت لها أنى قصدت العناد… وأنها ينبغى أن تضع ذلك فى الاعتبار ووافقتنى بالأمانة العلمية اللازمة.
ولكنى طوال التجربة كنت أخجل من أن يجرنا انبهارنا بالعلوم الأدنى كالكيمياء والطبيعة، واحترامنا لنتائجها التى غيرت وتغير شكل حياتنا، إلى وضع الانسان فى قفص، يضغط فيه على مؤشر فتخرج “ملبسة’… لاأظن أن هذا هوالبحث العلمى الذى سيوصل…
وأنا لا أنقد هنا الارتباط الشرطى كعامل أساسى فى تكوين سلوك الانسان وفى تعلم اللغة وفى الصحة وفى المرض، ولكنى أعرض كيف يمكن أن يكون شكل البحث العلمى لظاهرة صحيحة متواضعا، وأكاد أقول وضيعا، فليس معنى أن يكون الارتباط الشرطى ظاهرة مشتركة بين الحيوان والانسان أن تصبح الطريقة فى الاثنين واحدة… إن الأساس واحد ولكن التطبيق مختلف نوعيا وجوهريا.
وقد حاولت باستمرار أن أحضر “اجتماع الباحثين’ كل يوم أربع مع الأستاذ الدكتور بيشو، وكان اجتماعا غنيا بكل أصناف البحوث من أول تحليل اللغة فى كلام المرضى تحليلا تفصيليا حتى الدراسة الاحصائية الحسابية للسلوك.
الحيوان والانسان:
وقد أيقنت تماما استحالة تطبيق التجارب المتشابهة على الحيوان مثل تطبيقها على الانسان، كما تأكدت أن أى تعميم يخرج من معمل أبحاث الحيوان للإنسان هو تعميم ينبغى أن يؤخذ بالحذر التام، فالانسان يمثل مرحلة من التطور لم يصل إليها الحيوان (وإن كان بدوره ربما يتطور فى طريق آخر)، وعندى أن الذهان الوظيفى هو مشكلة من المشاكل الخاصة بالتطور الإنسانى، وهذا هو اهتمامى الأول، وقد أورد “ياسبرز’ أنه لاجنون الهوس والاكتئاب ولاالفصام قد وصفا فى الحيوانات إطلاقا، فكيف بعد ذلك نعمم نتائج الحيوان على الإنسان..
بل إن تصورى لجنون الهوس والاكتئاب والفصام هو أنهما نتيجة للصراع بين الانسان والحيوان فى داخل الانسان، فهما من صور الفشل التطورى، فكيف أفهم هذا الصراع الذى هو أساسا بين إنسان وحيوان حيث لايوجد إنسان يتصارع فى معمل يجرى تجاربه على الحيوان فقط.
ونحن نفرح بالنتائج المعملية على الحيوان لأنها سهلة ومقننة ويمكن إعادتها والتحقق منها، وهى قد تهدينا إلى تفاعل كيميائى أو ظاهرة كهربية، ولكنها لايمكن أن تحل مشكلة فهم الإنسان وخاصة فى مجال الطب النفسى واضطراباته المتشابكة المعقدة..
كما أن النتائج الكيميائية على الخلايا، وعلى جدارها، وعلى الحاجز بين الدم والمخ، وعلى نفاذ مادة كيميائية دون الأخرى، كل هذه نتائج هادية تنير جزء من مائة من الحقيقة ولكنها ليست الحقيقة، وكثيرا ماسمعنا عن بحث علمى أثبت أن العقار كذا يعمل بالطريقة كذا، وبتفكيرنا البسيط نأخذ هذه الحقيقة ونعممها ونتصور أن حل مشكلة الإنسان سيأتى من دراسة الخلية وحدها، وكنت أرفض كل هذا المنطق مع إصرارى على تجميع الحقائق ووضع الفروض المتتالية دون الجزم بنتائج نهائية فى مراحل قصورنا العلمى الحالى، وهذا لايعنينا فى كثير أو قليل بل هو يهدينا إلى مواصلة التفكير والتدبر فيما نقرأ وفيما نفعل.
الألفاظ والشعر:
على أن ذلك كله لم يجعلنى أكفر بمبدأ البحث العلمى بل جعلنى أتمسك به أكثر، على شرط ألا يطغى الأدنى على الأعلى
ودعنا نقابل مراحل البحث بمراحل تطور اللغة مثلا:
فتعلم الحروف والأصوات تقابل جمع المشاهدات الأساسية التى تجمع فى حقول البحث العلمى.
والمرتبة التالية هى تعلم الكلمات ذات المعنى… وهى تقابل الاستنتاجات البسيطة من المشاهدات.
والمرتبة الأعلى هى صياغة هذه الكلمات فى كلام مفيد رصين أعلى درجاته الشعر، وهذا مايقابل مرتبة الفرض الخصب والإلهام العلمى.
وكل مرتبة أعلى ترتبط بالمرتبة الأدنى ولاتستغنى عنها، فلا يمكن أن يكون الكلام مفيدا دون ألفاظ ذات معنى، ولايمكن أن يقول الشاعر الشعر دون ثروة لغوية وقدرة طلاقية خاصة، كذلك الحال فى البحث العلمى لايمكن أن يهبط الوحى العلمى دون مشاهدات مقننة متنوعة وقدرة على استعمال هذه المشاهدات والتوفيق بينها فى كل جديد.
ولكن .. إذا طغت مرحلة تعلم الحروف والألفاظ على مايميلها، فإن الانسان لن يفيد إطلاقا من تعلمها مهما بلغ عددها، وهذا مايحدث عندنا للأسف وينميه ويؤكده طريقة تقويمنا للأبحاث، فإننا نكتفى بالحروف والأصوات عن الكلام المفيد فضلا عن الشعر، وذلك لأننا نقيم البحث العلمى بكمية الحروف التى أظهرها هذا البحث أو عدد الكلمات، ونهمل مقالا قد يحوى فرضا خصبا أو نظرية متكاملة.
وكأننا نفضل ألف كلمة مما نسميه عند المتدهورين من المرضى النفسيين “سلطة كلام’ على بيت شعر واحد.
إن الألفاظ لازمة لكتابة اللغة، وأرقى مراحل التعبير هو الشعر.
وكذلك المشاهدات لازمة للمعرفة العلمية، وأرقى مراحل البحث العلمى هو الوحى العلمى الجديد.
وكما أن التوقف عند مرحلة تعلم الألفاظ هو نوع من “سلطة الكلام’ غير الصالحة للتفاهم، كذلك التوقف عند الملاحظات والمشاهدات نوع من “سلطة المعلومات’.
وقد تصورت أن كل باحث عليه أن يعى تماما ماسبق من معلومات وأن يلم بما كان من أبحاث، وأن يحاول ما أمكن من محاولات، وأن يتقن كل الطرق السائدة الممكنة، ثم بعد ذلك يقف وقفة طويلة يناقش نفسه فى كل ما كان، ويحاول أن ينساه كله حتى يختلط بذاته.. ثم يقبل فى مرحلة جديدة كل الجدة إلى مجال البحث بصدق وأمانة، غير مرتبط بفكرة الترقى إلى درجة أعلى أو الترقى من منافس يحذق استعمال الألفاظ دون المعانى، وتذكرت فى مقابلتى التى اصطنعتا بين البحث العلمى وقرض الشعر أن هذا هو الأسلوب الذى كان يتبع للشعراء المبتدئين وأظن قصة أبى نواس الشهيرة هى أوضح مثال لذلك، حيث ذهب يتتلمذ على خان الأحمر وبعد أن لازمه حوالى العام، استأذنه فى نظم الشعر فقال له “لا آذن لك إلا أن تحفظ ألف مقطوع للعرب مابين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة، فغاب عنه فترة طويلة وجاءه لينشده ماحفظه فسأله: كم حفظت؟ فقال : ألف مقطوع فقال أنشدها، فأنشدها فى عدة أيام، وسأله أن يأذن له فى نظم الشعر فقال: لا آذن لك إلا أن تنسى الأشعار كلها، فقال له: هذا أمر يكاد يكون مستحيلا فقد أتقنت حفظها، فقال: لا آذن لك حتى تنساها، فذهب إلى بعض الأديرة وخلى لنفسه واستطرق حتى نسى الشكل والصورة واللفظ ولم يبق فى خاطره إلا الجوهر والمعنى، وجاء إلى خلف يقول له: لقد نسيتها حتى كأنى لم أحفظها، قال: الآن أنظم الشعر.
هذه القصة رغم مافيها من مبالغات تشير إلى ماأقصد إليه من أنه على الباحث أن يعرف ويحذق كل ماهو قائم، ثم ينسى كل ذلك ويعيد النظر فى نفسه بأمانة العلماء وتحت إشراف الأساتذة الثوار، ثم يعود إلى المعمل يستلهم الوحى… وإلا فالمسألة تكرار وجمود بلا طائل.
إذا فإن المعلومات والمشاهدات لازمة لزوم الثروة اللفظية والمعانى التى حفظها أبو نواس ولكن حتى نصنع شيئا من هذه المعلومات، يلزم أن نمر بفترة حضانة واحتواء، ثم فترة تقشف نفسى عنيف، وأن نتصف باستعداد ضخم، ومقدار هائل من القلق والرفض والحب، ونوعية متطورة التواجد الإنسانى، وفكر حى لايخاف وأن يتم كل هذا فى بيئة علمية متقدمة.
وليست هذه الصفات من الأشياء التى نقابلها كل يوم فى أى مكان، ولكن ينبغى أن تكون وظيفة معامل الأبحاث الأولى فى بلد مثل بلدنا هذا هى تفريخ هذه القدرات وتنميتها، لأنه إذا زاد عدد الذين يتمتعون بها، زاد احتمال الصحوة العلمية التطورية، وأصبح الأمل فى أن يفيد اللفظ معنى أملا قريبا، وبعد أن يصبح للفظ معنى يصبح قول الشعر محتملا، أى يصبح الوحى العلمى على الأبواب .
وعندنا فى الطب النفسى نتحدث عن أول أعراض التدهور العقلى وهى أن يفقد اللفظ معناه، وأظن أن هذا هو نفس الأمر فى التدهور الحضارى، لذلك فإنى أرى التوقف عند الأبحاث الجافة والمشاهدات العمياء مثل اللفظ الذى أفرغ من معناه وخاصة إذا اتجه التقويم إلى إهمال المعنى وانصرف إلى عد الحروف فى الألفاظ.
والخطر كله يكمن فى تشويه الجيل الجديد الذى يدخل المعمل لأول مرة، لأن النظام الحالى يجعله يظن أن مرحلة إتقان نطق الألفاظ بدون معنى هى بديل عن اللغة المتكاملة، بل هى أفضل من اللغة المتكاملة… وهذا نتيجة ربط الترقى بكمية الأبحاث.
والخطر الأكبر يأتى من تقدير البحث العلمى بقرار اللجان وليس بقيمته فى تطور الانسان.
والخطر الأخير يأتى من تصور الناس أن ماجرى من أبحاث لايأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
* * *
وفى البيئة العلمية المخلصة المتواضعة التى نشأت فيها، وفى الوقت القصير الذى مارست فيه البحث العلمى، وبين طغيان الألفاظ على المعانى ما كان يحق لى- ولايمكن أن- أثور.
ولكن الذى “ذاق’ يعرف أن هذا أمر لايرتبط بالحق ولا بالإمكان فهو غالبا ما يحدث بالرغم من الإنسان وليس نتيجة مباشرة لسعيه، وقد حدث..
وماعلى إلا أن أعترف به.
ولامانع أن أشك فيه.
ولكن هذا ماكان.
* * *
على أنى كنت أراجع نفسى دائما فأجد- كما ألمحت سابقا- أن جذور هذه الأخطاء المتراكمة ترجع إلى طريقتنا فى الحياة، وأسلوبنا فى التفكير الذى نمى وترعرع فى جو تعليمى عتيق، ربما كان مثاله الصارخ هو تعليم الطب.
الفصل الرابع
فى التعليم الطبى
“الرجل المتعلم، هو ذلك
الكسول الذى يقتل الوقت
بالدراسة، حذار من معلوماته
الزائفة لأنها أخطر من الجهل”
برنارد شو
قال لى ابنى الأكبر (عشر سنوات) وهو يحاورنى “لماذا يفعل الناس هكذا؟ “قلت له “هكذا…. ماذا؟” قال “يدخلون أولادهم المدارس دون أن يعرفوا لذلك هدفا محددا؟” قلت “كيف؟” قال “مصطفى (أخوه) مثلا حازم (ابن عمته) دخلا المدرسة هذا العام دون أدنى فكرة عند الأهل إذا كانا قد دخلا ليتعلما أو ليتثقفا أو ليتوظفا” قلت له “إذا لماذا أدخلاهما؟” “قال “يبدو لى أن الأولاد يدخلون المدارس لمجرد أن سنهم قد وصل إلى سن المدارس دون تفكير فى أى شئ آخر”
وقلت “صدقت”
* * *
وتعجبت منه ومنى، وأشفقت عليه إذ بدأ طريق “لماذا؟” فى هذه السن وتساءلت متى بدأت طريق الحيرة، وحاولت أن أتذكر فوجدتها طريقا بلا بداية، ووجدت أن حيرة ابنى مع التعليم وطريقة تفكير الوالدين هى نفس حيرتى مع التعليم الطبى وفكر المسئولين عنه، إذ لم أجد جوابا أبدا عن تساؤلاتى “لماذا يدرس الطلبة هذا العام دون ذاك، وبهذه الطريقة دون تلك؟” وكان الجواب دائما أن الطالب يدرس المقرر، والمفروض هو المقرر، وهو مفروض منذ مائة سنة أو تزيد لا يتغير تقريبا.
القصة من أولها:
منذ دخلت كلية الطب- وقد فعلت ذلك بحكم العادة- وأنا أتساءل “لماذا” فى نفس الوقت الذى أمارس فيه عملية الحشو العلمى التى يسمونها التعليم، أحشر فى مخى معلومات جافة، وأتقيايأها على ورق أبيض آخر العام، ثم أدخل امتحانات شفهية غير مقننة تتوقف على مزاج الممتحن الذى يتوقف بالتالى على قهوة الصباح ورضا السيدة حرمه ذلك اليوم- أكثر من توقفها على ما يحويه عقل الطالب وقد كانت دائما سمات شخصية الممتحن ودرجة يقظة ضميره أهم من حافظة الطالب ودرجة استيعابه فى تقويم الموقف وتحديد درجة الامتحان الشفهى، وقد اجتزت كل هذه الامتحانات بفضل الدم الفلاحى الذى يجرى فى عروقى أكثر من فضل المعلومات التى انحشرت داخل عقلى، ولم أفشل مرة واحدة طوال حياتى فى أن أحصل على شهادة ما” ومن أول مرة، رغم أنى لم أستلم شهادة مزركشة فى حياتى إلا شهادة دبلوم الأمراض الباطنية حيث اضطررت لحضور حفل تسليمها حينذاك، أما ماقبلها ومابعدها من شهادات مزركشة فلم ترها عينى أبدا، ومع هذا فقد كنت أحس دائما أن الشهادة ضرورة لازمة، إذ لابد من ورقة، ونجاح، ومركز، حتى أستطيع أن أكتب هذا الكلام الذى أكتبه الآن ليصل إلى الآذان والقلوب التى أريد لها أن تفيق من غفوتها، فلو أنى لم أحصل على هذه الدرجات والوظائف لقالوا طالب فاشل أو طبيب حاقد ينفس عن شعوره بالنقص، أما وقد أصبحت فقد صار من حقى بل من واجبى أن أقول “لا”.
لا… ليس هذا نظام لتعليم الطب ولا لتعليم أى شيء، فهذا تكرار لأسلوب أكاد أقول قد فشل فعلا إذ هو يهتم بكم المعلومات دون جدواها وفاعليتها وهو يهتم بما بين دفتى الكتاب أكثر مما يهتم بما بين جوانب المريض.
ونظام التعليم بصفة عامة لايتيح انتقال الخبرة من إنسان لإنسان، وإنما قد يتيح حفظ المعلومات بغض النظر عن أهميتها، وكأن المعلومات التى تدخل إنما يحتفظ بها فى خلايا مثلما نحتفظ بها على شريط تسجيل أو فى صفحات كتاب، وتستدعى حين الطلب ولكن شريط التسجيل وصفحات الكتاب أكثر أمانة ودقة فى هذا السبيل، إذا فإن عقل الانسان يستعمل لأغراض لا يصلح لها أو على الأقل لايقتصر عليها وحدها، ولذلك فهو سرعان مايلفظ هذه المعلومات أو تصدأ بمرورالزمن ولايتبقى لديه إلا المعلومات البسيطة المستعملة، وما أقلها بالمقارنة بما حشر فى رأسه من معلومات طوال سنين الدراسة.
وفى الطب خاصة تسقط هذه الوسيلة الحفظية سقوطا شنيعا، لأنه إذا كان الطب حرفة فلابد من وجود نظام “المعلم… والصبي”، وإذا كان الطب عقيدة أو إيمان فلابد من نظام “الشيخ… والمريد”، وإنما واقع دراسة الطب تقول أنه لايوجد صبيان ولامشايخ وإنما مكن وكتب، وحتى فى التعليم الأعلى والتخصص الدقيق حيث “النائب” صبى “الأستاذ” انقطعت العلاقة بينهما فى كثير من الأحوال، وأصبح انكباب “النائب” على الحصول على الدبلوم من ناحية، وانشغال الأستاذ بالاشراف على الأبحاث من ناحية أخرى هو شغل الاثنين الشاغل، أما أين العلاقة العاطفية، وأين “شغل المعلم لابنه” فقد توارى خلف الأرقام الاحصائية والعمل الروتينى بكل أسف.
ودراسة الطب تبدأ بسنة فى كلية العلوم تعيد فيها مادرسناه فى الثانوية العامة ناقصا فى بعض الأجزاء ومفصلا فى أجزاء أخرى وتسمى السنة الاعدادية، وطالما تساءلت أثناءها وبعدها لماذا أضاعوا هذه السنة من عمرى، فمنذ انتهيت منها لم يبق فى مخى شئ مما درسناه فيها، وإضاعتها تتم على حساب إطالة المدة الدراسية، وعلى حساب التدريب العملى والاكلينيكى فى المستشفى، ومهما قلت وكررت فى هذا الأمر فإنهم يتمسكون بأن العلوم الأساسية هى الأساس، وهذه حقيقة ولكن أساس ماذا؟ فلنحدد الهدف أولا ثم نرسم الأساس على قدر مانريد الوصول إليه، وتتكرر القصة بطريقة مخففة فى السنتين الأولى والثانية فالطالب يغرق فى بحر من التفاصيل ويعرف مسار أدق الشرايين وفروع الأعصاب وحتى طبقات “الشغت” أو “الفاشيا”، وكأنه يدرس التشريح للتشريح وليس التشريح للطب، وقد عانيت من ذلك كله ماعانيت، ولكن “فلحي” ونضجى (!) أّجل ثورتى حتى أكتسب مؤهلات الثورة، ولو رفض عقلى حينذاك هذا اللغو من البداية ماتوصلت لكتابة هذا الكتاب أو غيره أبدا، وقد كنت أتحمل على نفسى بشتى الطرق حتى لاترفضه ابتداءا فينهار كل شئ قبل الآوان، وألجا إلى التلخيص تارة وإلى التنكيت أخرى حتى أفسح مجالا بين مخى لاستقبال هذا الكم الهائل من الألفاظ الجوفاء، ولو بصفة مؤقتة حتى يمر الامتحان، وقد كانت هذه المعلومات بالإقامة المؤقتة داخل تجاعيد مخى ثم تلفظ فى أول فرصة بعد الامتحان، وأذكر ذات مرة وكنت فى السنة الثانية أن هاجمونا قرب آخر العام بكتابين فى فرعين من فروع مادة “الفسيولوجى” ولم يكن هناك وقت كاف لاستيعابهما وكان واحد منهم فى العضل والأعصاب والآخر فى الحواس الخاصة، وارتبكت، وعبثا حاولت أن ألصقهما بظاهر عقلى، وأخيرا اهتديت أن أتحايل على عقلى بأن أعمل موجزا على طريقة الكتب الصفراء مازلت محتفظا بهما حتى الآن أضحك كلما شاهدتهما وأنا أقلب مكتبتى واسمهما، عجيب فى الطب أورده هنا لأظهر مدى تحايلى على نفسى فقد سميت الأول “مفرح الأحباب… فى العضل والأعصاب” والثانى “آخر همسة… فى الحواس الخمسة” إشارة إلى الهجوم التدريسى فى آخر لحظة على عقولنا.
وكنت دائما أقول ما أسخف كل هذا.
ويستمر السخف فى السنين التالية، وفى السنة الرابعة والخامسة يعرف الطالب عن الجثث فى علم الطب الشرعى، أكثر مما يعرف عن العواطف الانسانية الرقيقة فى علم الطب النفسي- ولى عودة تفصيلية فى هذا الموضوع.
وقد خرجت بانطباع محدد من كل هذا الطريق وهو “إن تدريس الطب بهذه الصورة عملية منظمة لتحويل إنسانية الطالب إلى آلية جهاز الضغط والترمومتر، وكأنها طريقة لقتل كل المشاعر، والقضاء على الفكر الانشائى والاتجاهات الابداعية لدى الانسان”.
إن التركيز على تفاصيل عروق أصابع القدم دون مشاعر الانسان المريض هو تشويه للانسان وتعويق للتطور، وإذا استمر الحال على هذا المنوال فخليق بنا أن نخفف من غلوائنا فى الحديث والدفاع عن المهنة الانسانية الأولى، ونحن نسلبها كل مافيها من إنسانية بطريقة التعليم أولا، ثم بالمكاسب بعد ذلك.
الطب من الكتب:
وقد طغى فى الطب التعليم النظرى على التعليم العملى والاكلينيكى طغيانا مخلا، فمنذ حل الكتاب محل الاتصال الشخصى العاطفى بين المعلم والصبى، أو بين الشيخ والمريد، تدهور مستوى الطبيب تدهورا رهيبا.
والكتب بصفة عامة خطر على قارئها رغم أنها من أهم مصادر المعرفة فى عصرنا الحاضر، ولكنها ليست بديلة عن التعلم بالممارسة والنشاط، وكما يقول برناردشو “النشاط هو الوسيلة الأولى للتعلم”، وإن صدق هذا على أحد فإنه يصدق علينا تماما، لأن تقديسنا للكلمة المطبوعة ينسينا طريقة التعليم المثلى بالنشاط والممارسة، والانسان الحديث لايستطيع أن يلم بكل ما تخرجه المطابع التى تتحفنا كل يوم بأكثر من ألف كتاب، ولاسبيل أمامه إلا إن ينتقى ما يقرأ، وأن يوافق بين مايحتاج ومايستطيع، وأن يعمل مايعلم، ويعلم مايعمل، وبذلك يصبح وحدة فعالة متكاملة، أما أن نركز على تشويه طريقة التعليم وتقييم الانسان المتعلم بقدر مايحمل عقله من معلومات فهذا تأخر لايتناسب مع مرحلة تطورنا، بل إن طريقة الدراسة الحالية والمغالاة فى قيمة المكتوب يحمل خطر سجن عقولنا وراء المسلمات والحقائق القديمة، وهذا السبيل يجعل الكتب ضارة وليست بغير فائدة فحسب، وقديما قال رالف إمرسون “الكتب خير الأشياء إذا أحسن استعمالها، أما إذا أسئ فهى من شر الأمور، ماهو الاستعمال الصحيح؟ وماهو الغرض الوحيد الذى تهدف إليه كل الوسائل؟ ليس للكتب غرض سوى الالهام، وإنه لخير لى ألا أرى كتابا من أن تضللنى جاذبيته عن مجالى ضلالا مبينا، أو أن أصبح تابعا بدلا من أن أكون صاحب رأى”.
إذا.. فالكتب وسيلة لتوسيع المدارك ولنقل المعرفة ليست رباطا يلف حول التفكير المجدد، وهى تنير الفكر وتنير الطريق، ولكنها ينبغى أن تكون وسيلة تساعد وليس بديلا يعوق، وتركيبنا بالذات يجعلنا نعبد الكلمة المطبوعة وكأنها صنم إله، بل إننا نقرأها بلا تحفظ ونأخذ كل فرض على أنه حقيقة، وكل احتمال على أنه حتم، وكل وجهة نظر على أنها قانون، وننسى فى قراءتنا دائما العبارات السابقة واللاحقة للحقائق المحتملة التى تنزل بنا إلى أرض التواضع العلمى والحذر مثل عبارات “من المحتمل …”، “يبدو أن..”، “قد يكون…”، “ربما يشير هذا إلى …”، إلى آخر هذه العبارات التى تحدد قيمة المعلومات، ولكننا نأخذ مانقرأ بطريقة الجزم والحتم والمبالغة وكأننا نهرب من محاولة التفكير، إذ أنه لو كانت هذه “المعلومة” ربما، فما هو البديل، أليس فى ذلك دعوة للتفكير ونحن بطريقة حياتنا وطريقة تعليمنا نشعر أن أخطر الخطر يأتينا من التفكير الحر، لذلك نلجأ إلى تضخيم المشاهدات التفصيلية، لنحمى عقولنا من التعرض لخطر الانطلاق الحر فى متاهات الفكر الطليق.
إذا.. فالكتب بصفة عامة تحمل الفائدة وتحمل الخطر معا، ولابد أن نتعلم طريقة لقراءتها حتى نستفيد منها، وهى بالتالى، وخاصة فى الطب، لن تغنى عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، وينبغى أن نتعلم كيف نقيم الكلمات، وكيف نفهم، وكيف نستوحى مما نقرأ الإلهام، وكيف نثير قدرتنا على الرفض، وعلى الانتقاء، يقول إمرسون مرة ثانية “فلكى تحسن القراءة يجب أن تكون منشئا… فهناك إذن قراءة منشئة. كما أن هناك كتابة منشئة، وحينما يقوى العقل بالعمل والاختراع تصبح صفحة أى كتاب تقرأ مضيئة بالاشارات العديدة وتتضاعف دلائل العبارة الواحدة”.
وكنت أتساءل دائما، لماذا أحاول أن أعمل ملخصات حتى للكتب السهلة الموجزة الواضحة، بل إن الأمر كان قد يصل بى إلى أن يكون الملخص مطولا عن الأصل. المهم ألا يكون كتابا مطبوعا بل بخط يدى وأسلوبى، وبالتالى أتحرر من سجن اللفظ المفروض وأصاحب اللفظ الخاص بى، وكأنى بذلك كاتب الكتاب وصاحب المعلومات، فنتصالح بهذا أنا والكتاب وأسمح لمحتواه بأن يمكث فى ذهنى المدة المقررة، وحتى المحاضرات لم أكن أستطيع أن أتتبعها أبدا فضلا عن أن أكتبها حتى كففت عن حضورها تماما لدرجة أن زملائى كانوا يتندرون على قائلين أنى من “طلبة المنازل”، لأن المحاضرات – فى إجمالها- كانت تقال بنفس طريقة الكتب بل كانت تصل إلى درجة الإملاء، ومازلت حتى الآن وأنا أدرس لا أستطيع بأى صورة من الصور أن أملى محاضرة أو درسا، وأعتقد أن هذا إهانة للمحاضر والمتعلم معا..، ولكن الطلبة تصر على الإملاء وعلى التدوين الحرفى، وكأن الأستاذ قد أصبح من شعراء الجاهلية، وكأن الطلبة هم الرواة يحفظون عنه مايقول عن ظهر قلب، هو يقول وكأنه الدر الثمين والطالب يجمعه بلا روح ولانبض ولا هدف سوى الامتحان، ويروى الرواة الشعر فى الأسواق (الامتحانات) وتتكرر التمثيلية كل عام.
وحين ظهرت الكتب المحلية للأساتذة المحليين، حلت إشكالات ضخمة مثل إعفاء الأستاذ والطالب من عملية الإملاء، وكذا التخلص من النقل الحرفى عن الخبرة الأجنبية، ولكنها أنشأت إشكالا آخر وهو تعطيل ذهن الطالب عن التأليف بين المصادر والتوفيق والابتكار، وأصبح الكتاب المقرر هو المصدر الأوحد للمعرفة، وبذلك ضاعت على الطالب فرصة أن يجد ذاته الخاصة من وسط الكتب المتعددة.. وجعل الطالب يلتزم بالكتاب المقرر حرفيا، بل بالجزء المقرر من الكتاب المقرر، وإذا حدث أن قرأ – خطأ- جزءا غير مقرر، وعلم بعد ذلك أنه غير مقرر، فإنك تراه يشد شعره أسفا على ماكان، ليس لمجرد أنه كان يستطيع أن يملأ وقته بالأكثر فائدة، بل لأن شيئا غير مقرر دخل عقله خلسة، ويجاهد- لو استطاع- أن ينساه، وكأن الله خلق عقولنا لمعلومات بذاتها لايصح أن نزيد عنها خشية أن يمتلئ المخزن بما لا لزوم له ولايبقى مكان للأهم، وكأن العقل الانسانى انقلب مخزنا للمعلومات، وياليته مخزن محكم، إذ أن محتوياته تتسرب بفعل الزمن وعدم الاستعمال، وننسى بذلك أو نشل بذلك العمل الأساسى للعقل البشرى وهو الابتكار والتجديد وننسى أن الكتب هى مجرد معين للذاكرة كما قال أفلاطون على لسان سقراط فى فيدروس، وننسى فى تدريسنا أن للعقل وظيفة – غير كونه مخزنا- ينبغى أن تنمى على التفكير الانشائى، وعلى المنطق المرتب وعلى النظرة الكلية، ننسى ذلك لأننا نهمل ارتباط العلوم ببعضها بعضا، ونتناساه خوفا من التفكير الحر.
الطب والفلسفة:
ومنذ قديم وأنا أرفض الانزلاق وراء الجزئيات على حساب الكل وأشعر أن هذه مشكلة المشاكل، وقد انزلق الطب إلى التفاصيل على حساب المفهوم الكلى للعلم وللانسان، ومنذ انفصل الطب عن الفلسفة والناس تتصور أنه أصبح أكثر “علما” وأقل “لامنطقا”، والحقيقة أ ن هذا الانفصال لايعنى الاختلاف أو التخاصم وإن بدا كذلك لأول وهلة، فالعلاقة بين العلم والفلسفة علاقة قائمة ومستمرة، ولن أستطرد فى الدعاوى التى تفصل بينهما، أو الأسانيد التى توفق بينهما، وإنما لابد أن ندرك ونحن نراجع أنفسنا أن التفكير الفلسفي- بمعناه الحقيقى والحسابي- هو أصل العلوم، وعلينا أن نرفض أن يكون مفهومنا عن الفلسفة هو الحديث فيما لاطائل وراءه مما يترتب عليه ما نسمعه من البعض وهم يتهمون بعضهم البعض بالتفلسف، وقد اقترنت كلمة الفلسفة بالصعوبة أو السفسطة أو المباحثات النظرية التى لاجدوى منها، وكل ذلك خطأ شائع. فليس أقدر على التفكير الفلسفى من العقل الحسابى، وكثير من الفلاسفة قد اهتدوا إلى حقائق علمية تتعلق بالمحسوسات قبل اكتشافها بسنين لمجرد اعتمادهم على التفكير المرتب، والتقدير المضبوط والحساب الدقيق، وعما نويل كانت، فيلسوف العصور الحديثة- كما يسميه أستاذنا العقاد- ، قدر مكان السيارات الشمسية قبل تقدم التليسكوب لاكتشافها وثبتت صحة تقديراته تماما، فعلاقة العلم الرياضى بالفلسفة علاقة قديمة، وأفلاطون يذكر فى القوانين (818 ب) “أن جميع المواطنين يجب أن يتعلموا العلم الرياضى أى الحساب والهندسة والفلك” وهو الذى كتب على أكاديميته “من لم يكن مهندسا فلا يدخل علينا”.
إذا فالتفكير المنطقى والفلسفى والحسابى أساس لأى تفكير علمى وينبغى أن تكون تنميته أساسا لأى تعليم ومن ثم تقدم علمى، وينبغى ألا نخاف من صعوبته فنوجه اهتمامنا- هربا منه- إلى التفاصيل السهلة، لأن التغلب على صعوبته سيذلل بعد ذلك معرفة التفاصيل، وطالب الطب الذى هو أذكى من طالب الآداب- من واقع المجموع- لابد أنه أقدر على استيعاب أساسيات الفكر الفلسفى من طالب الآداب، ولابد أن يكون تدريس أصول التفكير جادا وأساسيا لأنها القاعدة التى سيترتب عليها كل شئ بعد ذلك، فلا تؤخذ على أنها علم ثانوى يصلح أو لايصلح، وإن كانت قلة مشاهدات العلوم فى قديم الزمان قد حالت دون التزاوج بين الطب والفلسفة، فإنه قد آن الأوان بعد أن عمت المشاهدات وتضاعفت حتى كادت تتآلف فى كل متسق، أن نعيد النظر فى ذلك الطلاق الذى تم فى ظروف استثنائية، فقد رأى ابن سينا أن الفارق بين الطب والفلسفة ضخم فعلا فى عهده، فنراه قد وضع للطبيب- فى كتاب القانون – حدودا يجب ألا يتعداها إلى ماهو عمل الفلاسفة، وقد كان منشأ ذلك قصور العلم وقلة المشاهدات كما ذكرنا ولكن التقدم جعل للعلم نظرة كلية يستطيع أن يدلل عليها ويؤلف من جزئياته المتزايدة كيلا متناسقا، وبذلك يعود التوفيق مرة ثانية بين الطب والفلسفة.
وبما أن كليات الطب تعد الطبيب ليتعامل مع الإنسان ككل قبل أن يتقابل معه جزءا جزءا، فقد أحسست دائما أن الاهتمام بدراسة الكل ينبغى أن يكون الأساس فى تعليم الطب الذى مازال يهتم بالفرع دون الأصل، وتنمية الحفظ دون تنمية الابتكار، ودراسة تركيب الخلية دون دراسة مفهوم الانسان، ناسيين فى كل ذلك أن الطبيب سيعامل رجلا أو امرأة أو طفلا قبل أن يعامل إصبعا ينزف أو كلية تتقلص.
فإذا كانت الفلسفة هى علم الكليات فإن الواجب أن تأخذ حظها فى تنمية فكر الطالب وتوجيهه بدلا من إضاعة وقته فى تفاصيل قد لاتنفعه إلا بعد التخصص الدقيق.
وقد رأى هيبوقراط هذا التزاوج بين الطب والفلسفة، ومجد من يستطيع ذلك تمجيدا يقاربه من الآلهة حيث قال “إن مايصلح للطب يصلح للفلسفة، ومايصلح للفلسفة يصلح للطب، وإن الطبيب الفيلسوف يساوى الآلهة”
وإنى أكاد أوقن أن إهمال تدريس مبادئ الفلسفة وتنمية التفكير المنطقى يرجع إلى الاستسهال والميل إلى السلامة أولا وقبل كل شئ، ومبدأ السلامة مفضل دائما للحفاظ على ماهو قائم ولكن ليس كل ماهو قائم صوابا، وإنما ينبغى أن تكون حياتنا لخلق ماهو أنفع وأبقى، والاستغراق فى الجزئيات يحمينا ولكنه لايهدينا، وهو ضرورى ولكنه غير كاف، ونحن نهمل تماما مالا يتلاءم مع معارفنا بصفة عامة، بل ومالا يتلائم مع درجة أماننا واستقرارنا وراء مفاهيم معينة تحمينا من رؤية الكل المتكامل، وبالتالى من مسئولية المعرفة.
ونحن نتبع هذه الطريقة حتى مع المرضى النفسيين، فما إن يتكلم المريض كلاما لانفهمه، حتى نقول أن عنده عرضا نسميه التفكير الفلسفى الزائف Pseudo philosophical Thoughtsفإذا سألت الفاحص كيف عرف أنه زائف، قال- أو كاد يقول- لأنى لم أفهمه، ولا نحاول جادين أن نعرف ماوراء حديث المريض شبه الفلسفى، ولا ماوراء جهل الطبيب الفلسفى، لأنذلك كله صعب، وربما مخيف..
وهذا هو نفس الأسلوب الذى يتبع فى تجنب دراسة الكليات فى كلية الطب مصداقا لقول ألكسيس كارل فى كتابه “الانسان ذلك المجهول” (الحائز على جائزة نوبل) “.. إننا نفضل دراسة النظم التى يمكن عزلها بسهولة والتقدم منها بوسائل سهلة.. لأن عقلنا يميل إلى الدقة والحلول الدقيقة وماينتج عنها من سلامة عقلية، إن بنا ميلا لايقاوم يدفعنا إلى أن نختار الموضوعات ذات السهولة الفنية والوضوح بغض النظر عن أهميتها.
الطب والفن:
وقد كنت أحس دائما أنه إذا كان الطب فى أساسه علما بكل ماتعنى الكلمة من معان، فهو فى ممارسته فن بكل معنى الفن أيضا، والفن ليس مجرد الإبداع الفنى ولكنه العمل الخلاق أيا كان، أو يمكن أن نسميه العمل المغير المجدد، لذلك فإن ممارسة الطب فن لأنه أيضا عمل مغير ومجدد وليس فقط للتسكين وإزالة الألم، وقد رأيت هذا أصدق مايكون فى الطب النفسى إذ يتصف عمل الطبيب النفسي- أو ينبغى أن يتصف- بالأصالة والجدة والقدرة والفعل معا، وإذا كان الانسان فى حركته المتطورة الدائمة يتجدد باستمرار، بل هو يولد باستمرار، يلد هو ذاته ويخلقها كما شاء فى إطار عالمه النابض بالحياة لاالمستسلم لظاهرها، ثم هو يطلقها فى رحاب الغد تصنعه بشكل مغاير، فإن الطبيب عامة لابد أن يساير التطور فيطور ذاته، لأنه العامل الانسانى الأقرب إلى مشاعر البشر إذ هو أقرب من يصاحبهم فى تطورهم لأنه لايمثل السلطة كما لايمثل الدين، وإنما يمثل المساعدة الانسانية الواعية القريبة من قلوب البشر، وقد تصورت أن “وزارة الارتقاء” التى دعا إليها برناردشو ينبغى أن تكون من الأطباء النفسيين، ثم تصورت أن الأطباء وخاصة الممارسين العامين سوف يكونون وعاظ هذه الوزارة وكهنتها على شرط ألا يتجمدوا مثل الوعاظ والكهنة التقليديين، فإن الجمود ضد التطور، وبالتالى فهو ضد الدين، لأن الدين هو فى صلبه وروحه دعوة إلى الرقى بالإنسان، وإلى التطور، وبذلك تصبح أى دعوة إلى التمسك بالقديم والجمود هى دعوة صريحة ضد الدين فى جوهره، لذلك فإن الأطباء- وعاظ وزارة التطور- ينبغى أن يكونوا فنانين فى المقام الأول لأن الوحى سيهبط عليهم أثناء تأدية رسالتهم السامية، فالوحى بالحق وبالخير وبالتطور مازال قائما، والله لم يمت حتى نتوقف بالفكر والتطور عند مرحلة من الجمود تجعل البديل الوحيد أمامنا هو الارتداد والتخلى عن إنسانيتنا، ولكى يكون الطبيب فنانا ينبغى أن يكون إنسانا، وينبغى أن نهتم فى التعليم الطبى بتنمية قدراته الخالقة، بدلا من حشركم من المعلومات فى رأسه على حساب قدراته الفنية.
وقد وجدت أن الأطباء جميعا يستعملون قدرا ضئيلا جدا من المعلومات الطبية وخاصة بعد تقدم الطب العلاجى للأمراض الشائعة، فأغلب المرضى بارتفاع درجة الحرارة مثلا يبدأ علاجهم بالسلفا والأسبرين ونثنى بالبنسلين أو التيراميسين أو أخواتهم، فإذا طالت المدة أخذوا كلورومايستين ودمتم أو فى النادر نلجأ للمزرعة والحساسية وغيرها، بل إنه حتى فى فرع تخصصى الذى هو من أدق الفروع، تكاد الروشتات تتفق فى مضمونها مهما اختلف الطبيب، فكل روشتة تحوى “مهديء، ومضاد للاكتئاب وأحيانا منوم وفيتامين” ودمتم أيضا، وقد دعانى هذا التفكير فى عمل الطبيب الحقيقى، لأنه إذا كانت الحالات السهلة يعالجها كل الأطباء على السواء، والحالات الصعبة تظهرها معامل الأبحاث والأشعة، فماذا يفعل الطبيب بالضبط؟ لايمكن أن يكون العلم وحده هو سر نجاح الطبيب، بل هى شخصيته وقدراته الفنية التى تحدد ذلك، على أنى هنا لاأريد أن أعتبر النجاح مقياس حديثى، إذ يمكن الحصول عليه بأساليب لاتمت للفن بصلة إلا إذا أدخلنا “فن الفهلوة” من ضمن الفنون.
يقول إلفان فينشنين فى كتابه “التقدير الاكلينيكي”، “إن الخبرة بجوار السرير نادرا ماتعتبر خبرة علمية أكاديمية لها أبعادها الفكرية والعلمية المحددة، بل إن الطبيب الممارس يعتبر ملاحظاته الاكلينيكية من قبيل الفن الذى يمارس فيه ذكاؤه وواقعه المهنى، وتقاليده، وإنسانيته ومشاعره واهتماماته، وليس علمه فحسب”.
ولكن التعليم الطبي- كما رأيته ومارسته- يهمل هذه الناحية تماما ويتركها لحذق الطبيب أو باللغة الدارجة “لحداقته”.
وقد وجدت أن اهتمام التعليم الطبى بالعلم دون الفن أمر سخيف، لايخرج لنا أطباء بل مجاميع من الناس تحمل ألقابا، يحسبهم الناس رسل الرحمة وهم فى الأغلب أجهزة للتسكين، ونحن لانزال نتحدث للناس عن آمالهم فى هذه المهنة، ولاتحاول تحقيقها أو حتى السير فى اتجاهها، وأنا لا أبالغ مبالغة برناردشو فى الهجوم على الطب والأطباء، ولكنى أقول أن هذه الفئة من أولى الفئات التى تشوهت إنسانيتها نتيجة لطرق التعليم السائدة، وأن تشويهها جريمة بشعة لأنها تتعلق بصحة الناس.
ووجدت أنه ينبغى أن نكون صادقين:
”فاما أن نعلن للناس أن الأطباء غير ما يحسبون
وإما أن نجعل الأطباء كما يحسبون”.
التعديل من واقع الحال
لقد خطر ببالى مرة أنه جاء باحث، أمين يريد أن يرتقى بتدريس الطب، فعليه أن يجرى بحثا ميدانيا لممارس الطب على مختلف المستويات، فيجرى له مقابلة مفاجئة (أو شبه امتحان) فى مدد متراوحه: عقب التخرج مباشرة، وبعد عشر سنوات وبعد عشرين سنة، ولعله يهتم أساسا بالممارس العام ليرى ماتبقى فى عقول هؤلاء الأطباء بعد هذه السنين، وهم يؤتمنون على الأرواح بشهادة الجامعة وترخيص الحكومة، وخبرة الحرفى وشهية التاجر، وضمير الانسان الحالى، ولنأخذ نتائج هذا البحث إلى كليات الطب القائمة لنطمئنهم على مصير مايحشرون فى أدمغة الطلبة بلا طائل.
ولاستكمال هذا البحث أقترح القيام ببحث آخر على المرضى فنسألهم ماذا ينتظرون من طبيبهم وماذا يتصورون عن معلوماته..
وبعد ذلك ندرس ماينبغى تدريسه
ومن كل هذا يخرج الشكل الجديد، فننظم مهنة الطب على أساس واقعى وتطورى، ولكن يبدو أن كل ذلك لايهم عند القائمين على أمر التعليم الطبى، المهم أن يقولوا مافى رءوسهم بغض النظر عن “لماذا؟” أو “ماذا بعد؟” وأتذكر ابنى وهو يحاورنى قائلا “لماذا يفعل الناس هكذا؟، إنهم يرسلون أولادهم للمدارس لمجرد أنهم بلغوا سن المدارس” وأقول بدورى “ونحن نعلم الطلبة ما نسميه طبا، لأنهم طلبة فى كلية الطب !! لا لنصنع إنسانا عالما فنانا يساهم فى حفظ النفوس والأجساد على صحتها ليكملوا طريق الارتقاء.
تدريس الطب النفسى:
إذا كنت قد دعوت إلى دراسة التفكير المنطقى والفلسفى، وتنمية الفكر الابتكارى والفنى لطلبة الطب فما كان ذلك إلا تمهيدا لمناقشة تدريس الطب النفسى والفنى وماعانيناه فى هذا السبيل ومازلنا نعانيه، والأمر فى جملته محير أشد الحيرة لأن التناقض إزاءه ليس له تفسير مباشر.
تذهب إلى أى مختص وتشرح له الموقف وتقم له المذكرات والاحصاءات وتقول له أن 60% إلى 70% من المرضى مصابون بأمراض انفعالية أو – على الأقل- يدخل الانفعال فى إحساسهم بالمرض العضوى، فيتحمس ويقول بل أكثر، ونقول: جاء الفرج، ويحدثوك عن حالات وحالات يشاهدونها نتيجة لاضطرابات نفسية وأن الدنيا أصبحت مليئة بهذه الحالات فى الأتوبيس وفى مجلس الكلية وفى الشارع وفى العيادة، ولانجد أمامنا سبيلا إلى الافاضة فى هذا الطريق، فمعلومات المسئول شاملة كاملة، وحين تقترب من النقطة الهامة ونطلب وقتا للتدريس وامتحانا يحفز الطالب على الحضور، يبدأ التناقض الشديد بين سابق الكلام ولاحق العمل، فلا استجابة ولاتنفيذ…
ويستمر الحوار وتظهر الحجج.
أول حجة: أن علمكم صعب، والذى يقدر صعوبته يقدرها بمقياس بسيط جدا هو “ما لا أعرفه أنا فهو صعب” وهذه قاعدة أساسية فى كل تفكير عام، وتقول له أن العلم ليس صعبا وأن صعوبته ناشئة من أنه غير مطروق، وأن المعروف منه هو التشويهات وليس الأساسيات، ولكن القاعدة السابقة غير المنطوقة هى التى تحكم النقاش.
وثانى حجة- وهى حجة تناقض الأولى تماما- تقول أن ما يحتاجه الطالب من هذا العلم هو المعلومات العامة التى يعرفها كل واحد ولاداعى لحشر مخه بتفاصيل أكثر، فإذا قلت له من أين للطالب- أو لسيادته – بهذه المعلومات العامة، قال هذا معروف لكل الناس ولا يذكر من أين هو معروف: من صفحات الجرائد أم من مسلسلات التليفزيون؟
ونناقشه، ثم أناقش نفسى، ولا أنتهى إلى حل أبدا، وأفترض أن اعتراضاته صحيحة تماما، ومع ذلك فإنى أجدها لاتتعارض مع تدريس وامتحان هذا العلم، فإذا كان العلم صعبا فإن العبرة بالأهمية التى اعترف بها وليست بالصعوبة ونحن ندرس ماينبغى وليس مانستسهل، لأننا نعد الأطباء حسب متطلبات الزبون، والزبون هنا هو المريض الذى يحتاج إنسانا يعامله يعرف مشاعره مثلما يعرف أعضاءه، هذا رد حجة الصعوبة المزعومة..
أما حجة المعرفة التلقائية فلو أخذنا بها فرضا فلماذا نختص بها الأمراض النفسية، وإذا عممناها على فروع الطب فإن ذلك يعنى أن كلية الطب معتمدين على المعلومات العامة التى نستقيها من المصادر العامة، ولا أدرى لماذا تطبق هاتين القاعدتان على علم الأمراض النفسية دون سواه.
المصلحة المادية
يشير أستاذى الدكتور عسكر أن السبب فى هذه المعارضة هو سبب رأسمالى أساسا، ذلك لأنهم يريدون أن تظل عياداتهم ملأى، ولكنى لا أقتنع بذلك أبدا، لأن عياداتهم ملأى، والمشكلة هى كيفية تخفيف المترددين لا زيادتهم عند أغلب المعترضين، وأكثر من ذلك فإننا بإلحاحنا أن نعلم الطب النفسى للممارس العام والإخصائيين فى الفروع الأخرى نفترض أن هؤلاء سيقومون بعلاج عدد كبير من الحالات النفسية دون حاجة إلى تحويلها لأخصائى الطب النفسى، فيكاد يكون المنطق الرأسمالى مقلوبا لأننا نصر على التدريس وبذلك نتعرض لعدد أقل من المرضى، وهم يصرون على عدم التعلم وبذلك لايحسنون علاج المرضى الذين لايحولونهم.
ولاأفهم
وأظل أتساءل إذا ماهو السبب؟
وتلح على مقدمة مسرحية برناردشو “حيرة طبيب” (الذى اقتبست منه عنوان هذا الكتاب) وأرفض مقالاته فى الهجوم على الأطباء ولكنى أعود لألتمس له العذر مرة ومرات.
وأتذكر سيدنهام أبو قراط الطب الانجليزى لما سئل ذات مرة عن الكتاب الذى يجب على الطبيب الناشئ أن يطالعه ليهتدى به أجاب ساخرا كتاب دون كيشوت.
وتتوارد على خاطرى كل ما درسناه فى علوم البكالوريوس وأجد أننا كنا ندرس أشياء كثيرة صعبة لامعنى لها ولافائدة منها ولكن أحدا لايعترض، بل إن الطالب الذى لايعرف تفاصيل عملية لن يعملها فى حياته (إلا إذا أصبح جراحا عظيما، وهناك سيدرسها كما ينبغى) يرسب بإذن الله، وتسأل لماذا رسب هذا الطالب، فيقولون تصور!! “تصور أنه لم يعرف عملية تانر” أو “كيف ينجح وهو لايعرف عمليتى بل روث الأول أو بل روث الثانى؟” وأقول فى نفسى “ياه.. ليس له حق، الظاهر أنه لكى يعطى حقنة الطرطير فى وحدة نائية فى الريف لابد أن يحفظ عن ظهر قلب عملية بل روث الأول والسابع عشر أيضا وإلا فليس له الحق أن يصبح طبيبا”.
ياسبحان الله، ليس مهما أن يتعلم الطالب كيف يكلم فلاحة تنزف دما، ولاكيف يسأل عن ابن عامل هل نجح فى الابتدائية أم لا، قبل أن يعرى بطنه ليجس طحاله، ليس مهما أن يتعلم فن الاستماع ولا أن يعرف وظيفته فى الحياة، ولامعنى لوجوده، ولا طريقا لخلاصه، ولكن المهم أن يعرف القوس الشريانى العميق فى باطن القدم، وكأن النزيف إذا حدث فى أقصى الصعيد سوف يختلف إذا كان من الفرع البطنى عنه إذا كان من الفرع الجانبى من ذلك القوس الشريانى العميق.. !!!
ليس مهما أن ينزف الانسان الواقف أمامك من كرامته وشرفه وهو يلهث عطشا إلى انسان يسمعه، لأن المهم أن فروع العصب الحائر داخل الجمجمة هى كذا، وأرجع إلى التساؤل:
لماذا نخاف الانسان ككل؟ نحن نهرب من الكل بالاستغراق في الأجزاء، إن الانسان إذا أراد ألا يرى شيئا فهو إما أن يغمض عينيه وهذا هو الجهل، وإما أن يركز على الجزء دون الكل وهذا هو التجهيل.. لماذا نخاف الانسان كوحدة متكاملة؟ هل لأننا لانريد أن نعرف أنفسنا؟ أليس هذا هو سر ضياع إنسان العصر الحاضر.
ويكاد الأمر يحسم فى مخيلتى على الصورة التالية تجرى على لسان حال المعترضين:
”أنا أخاف أن أعرف نفسى… إذا فلا داعى لذلك طلبا للأمان، ولكن لابد لى من المعرفة فلأعرف الأجزاء وأتلهى بها.. وبعد ذلك فما لا أعرفه فهو ليس مهما.. أو هو صعب وسخيف.. إذا.. فلا داعى لدراسة الطب النفسى.. ولنحكم الرباط”
وتتردد الحجج فى مجالس الاجتماعات وتسمع العجب، ومن العجب قولهم “كيف أطالب الطالب المسكين أن يعرف مالا أعرف أنا؟”
حقيقة الطالب مسكين ! !
وإنسان هذا العصر مسكين. .
وكأن وظيفة التعليم فى العصر الحاضر هى تثبيت النظام، وكأن التعليم المفروض أن يكون الوسيلة الأولى نحو التطور قد أصبح المعوق الأول ضد التطور، وكأن الهدف الأول هو أن أؤكد الشئ القائم لا أن أنمى القدرة على التفكير.
أنا أمتحن.. فأنا موجود
ونختطف عشر درجات من ثلاثمائة وخمسين درجة فى السنة الثانية لندرس فيها “علم النفس” وليس “الطب النفسي”، وننتهزها فرصة وندرس، ويحضر الطلبة بالمئات من أجل خاطر هذه الدرجات العشر، ونشجعهم أكثر بأن نجعلها محاضرة مفتوحة لكل ما يعن لهم من أسئلة.
وبعد فترة تصير لغة بيننا وبين الطلبة، وتزيد الأسئلة المفتوحة وكلها أسئلة عظيمة وهادفة وبناءة، ويتعجب الطلبة وأتعجب معهم، وبعضهم يسأل “لماذا نعيش” ؟
وكأن الاجابة على هذا السؤال وأمثاله من التفاهة بحيث لا يصح التطرق إليها، أو إضاعة الوقت فيها، ونحن ندرس الطب ذلك العلم الفخم المحدد، ولكن الشباب يسأل ولابد من الإجابة، وأظن أنه يستحسن أن نجيب عن هذا السؤال بنفس الاهتمام على إجابتنا عن “لماذا تفرز البولينا من الكلى بسرعة كذا فى الدقيقة؟ ” إلا إن كنا نعيش بالصدفة، ونفرز البولينا مع سبق الاصرار والترصد.
وأعود لأناقش مع نفسى هذه المقاومة مرة ثانية…
لماذا كل هذه المعارضة؟
وأهتدى إلى احتمال أخير وهو أن بعض الناس تقيم نفسها بقيمة العمل الذى تعمله، وهى فكرة مشروعة وطبيعية “فأنا بقدر ما أعمل”، فإذا كان تقدير العلم بعدد الدرجات فإن تمسك أصحابه بكل الدرجات فى حوذتهم يعطيهم قيمة أكبر، وبالتالى يكون التنازل عن أى درجة من الدرجات لأى فرع من الفروع هو تنازل عن جزء من الكيان يهدد الانسان فى صلب وجوده…
وأقول لنفسى.. لاتبالغ.. ولكنى لا أستطيع أن أطرد هذا الاحتمال ويتحدانى الجزء الشقى من عقلى فيضع هذه الصيغة أمامى:
“أنا أمتحن فأنا موجود”
ياسبحان الله
والطلبة؟.. والشباب؟.. والمرضى.. ومصير الانسان؟
إذا… لابد من ثورة.
صراع التطور
وفى تصورى أن الإنسان متطور بالضرورة، وأن قيمة كل تقدم فى أساليب حياتنا وكل أهمية اختراعاتنا المادية ليست فى مدى الرفاهية التى تحققها للانسان، ولكن فى مدى الفرص التى تتيحها له التطور، وبهذه النظرة رأيت الطب الجسمى يحافظ لنا على الكم أى على الأعداد البشرية التى منها سيخرج الجنس الجديد، أما الطب النفسي- كما أفهمه- فهو فرع الطب الذى سيساعد على تكوين هذا المخلوق البشرى الجديد: المحب الصادق المتوحد بغرائزه، الفنان القوى المسالم، ورأيت على ذلك الصراع بين الطب النفسى والطب الجسمى صراعا صوريا، إذ أن الاثنين يخدمان التطور بصورة ما، ولكن علينا أن ننتبه تماما إلى خدعة ترجيح الكم على الكيف، فمهما زاد الكم وزادت الأجساد السليمة فإن ذلك لا يعنى إلا زيادة الفرصة لخلق الجديد ولاستمرار الانسان الأفضل، أما إذا زاد الكم دون أن ننتهز الفرصة لخروج الجديد من ثناياه… فقد ضاعت الفرصة، وأصبحت الزيادة زيادة أجساد تصلح لقانون “بقاء الثيران” وليست لقانون “تطور الانسان”
فوظيفة الجسد فى مرحلة تطور الانسان الحالى أنه الأساس الذى ينطلق منه وبه النوع الجديد من البشر، فطب العيون يحافظ على العين مثلا، والطب النفسى يجعلها ترى الجمال…. وهكذا.
* * *
هذه أفكار تبدو مبالغة وغريبة ولكنى أقر أنها هدتنى إلى اليقظة لصراع التطور والتدهور إذ يطغى الكم على الكيف فى كل مجال… وفى هذا المقام: فى مجال التعليم الطبى.
إذا… ومرة ثانية
لابد من ثورة…
* * *
ولكن .. إذا كنت قد استطعت أن أثور على نفسى فى مجال تخصصى، على طريقتى فى العلاج، وعلى تقسيمات الأمراض، وعلى طرق البحث العلمى، فقد فعلت ذلك فيما أملك لأنهى حيرتى فى هذه المجالات، ولكنى أمام مجال التعليم الطبى مازلت عاجزا تزيد دهشتى كل يوم، وأرى أساتذتى وزملائى يصارعون معى الجمود كل يوم.. ويقاومون التشويه كل يوم.. ولكن يبدو أن الأمل مازال بعيدا.
وفى نفس الوقت.. فإن اليأس مستحيل.
لأنه ضد الحياة.
ولأننا مصممون على الحياة
الفصل الخامس
العلاج أولا والعلاج أخيرا
“ذهب.. ذهب.. ذهب.. إلى الشاطئ الآخر..مضى بسلام إلى ذلك الشاطئ الآخر..”
رقية بوذية قديمة (مقتطفة من دافيد كوبر)
إن كنت قد عرضت حيرتى بين الصحة والمرض، ووقفتى أمام التشخيص والبحث العلمى والتعليم الطبى، فقد كنت أسعى أساسا ودائما لأتبين طريقى إلى العلاج، أتساءل: أين أنا وأين المريض، ثم إلى أين نحن ذاهبان.
وإن كنت قد احترت أمام التشخيصات المبهمة والحالات “البين بين’ فلأن علاجها يختلف عن الحالات الصريحة الواضحة، إذ أن العلاج هو الهدف الأساسى لعلمنا الطبى، وذلك بالمفهوم العادى لعلم الطب، وقد أشرت سابقا إلى أنه فى مجال ممارسة هذا الفرع من الطب بالذات، ينبغى أن يصب كل جهد وكل بحث فى مصب العلاج أولا وأخيرا، وقد أشرت أننا كثيرا مانستعمل العلم والخبرة والحدْس فى العلاج غير مرتبطين ارتباطا مباشرا بالتشخيص، بل إننا أحيانا نعطى علاجات بالرغم من التشخيص وليس بسببه، كما أشرت أنه بلغ من تفضيل العلاج عما سواه أن أحدنا كان يسمى بعض أنواع الأمراض باسم الدواء الذى يتحسن عليه المريض (راجع “الهستيريا الاستيلازينية’ فى فصل التشخيص)
وكان بديهيا إذا أن يكون هدفى الأول منذ اشتغالى بهذا النوع – مثلى مثل أى طبيب، هو العلاج .. وأظن أن هذا هو هدف المريض فى أغلب الأحوال، رغم مايظهر أثناء المسيرة من مقاومة ومعارضة وتحايل، إلا أنه بلا شك يمثل الغاية النهائية من كل نشاط طبى.
لكل ذلك كان اهتمامى فى مناقشة مشكلة الصحة والمرض أن أركز على التمييز بين الانسان الذى يحضر للاستشارة لأنه فى “أزمة تطور’ أو لأنه “عجز عن التكيف’ أو لأنه “انهزم أمام قوى التدهور’ فالعلاج يختلف فى كل حالة، وقد حاولت أن أقصر لفظ المرض على النوع الأخير وربما الثانى، أما أزمة التطور فقد أحسست منذ البداية برفض شديد لتسميتها مرضا أو عجزا مهما ظهر فيها من أعراض.
وقد عرضت حيرتى أمام تشخيص الذهان الكامن، وعرضت رفضى أن نؤجل العلاج حتى يظهر الكامن، فالعلاج هو الهدف الأول، ومنع ظهور المرض فى هذه الحالات هو واجبنا الأول، ولينتظر من شاء، ولكن المريض لن ينتظر، لأن تقدم المرض لن ينتظر، وكنت أعطيه فرصة العلاج المبكر معتمدا أساسا على حدسى ومشاركتى مشاعره..
مصادر الخبرة:
ومن أول حياتى كنت أحصل على خبرتى العلاجية من الكتب والمجلات، ومن توجيه أستاذى، ولكنى كنت أجد أن المكتوب فى الكتب صعب التطبيق جدا فى هذا الفرع من الطب، لأن اختلاف الحالات عن بعضها البعض رغم توحد التشخيص اختلاف أساسى وبالغ التعقيد، وكنت فى فورة الشباب – مثل كل الشباب- أصارع كل أنواع المرض مهما كان، بالحماس والسهر والكهرباء والتفهم والحب، ثم تكرر فشلى تكرارا ملحا، وبدأت أتواضع فى آمالى وأبرد من حماسى، وأحترم كل الأشياء، وتماديت فى الهدوء والتعقل حين كتبت فى كتاب مشترك لى مع الأستاذ عمر شاهين “أن على الطبيب النفسى أن يتذكر دائما أنه طبيب وليس مصلحا اجتماعيا، وأن واجبه أن يساعد الصحة مهما كانت، ويسهم فى إعادة التكيف، ثم يترك المريض بعد ذلك فى الحياة يختار”
ومرت سنوات وأنا أحاول أن أضع مزيدا من السلاسل حول عقلى، وأربط أثقال الكيمياء بأفكارى قبل أن أعطيها للمريض لتعيده إلى حظيرة المجتمع طيعا سلسا.
ولم يهدأ الانسان فى، ولم ينتصر عليه الطبيب أبدا، وإن كان قد كسب منه جولات طوال سنين متتالية، إلا أن الانسان فى داخلى رغم خسارته المتكررة بالنقط، قد كسب أخيرا المباراة بالضربة القاضية حين بزغ النور الجديد.
المريض أستاذى:
وإن كان الكتاب والبحث والتوجيه قد حددوا لى الطريق فى أول حياتى، فإن معلمى الأول والأكبر كان المريض: صديقى وأستاذى، وكما أشرت سابقا فإن الذى تعلمته من المرحوم الفنان “كمال خليفة’ طوال سنوات كان معادلا لكل خبرتى من كل الكتب والمجلات العلمية، كنت أجالس الأصدقاء المرضى بالساعات الطوال لعدة سنوات متتاليية فأفهم وأشعر وأتعلم… وهم فى نفس الوقت يشفون… رغم ضآلة علمى وخبرتى، ولست أدرى هل يتم شفاؤهم بسبب ماأعطيه من سمع وفهم ووقت، أم بسبب مايأخذونه هم منى مما لاأعرف، فقد تيقنت فيما بعد أن العلاج النفسي- وهو أعقد الوسائل فى ممارسة الطب النفسي- لايتم فقط بالفكرة التى فى عقل المعالج أو بالنظرية التى يعتنقها أو بالنظرة التى يراها، ولكنه يتم أكثر بما يأخذه المريض بإحساسه الصادق وحاجته العنيفة إلى صدق المعالج وإنسانيته فى الموقف العلاجى، بغض النظر عن نظريته أو أفكاره أو تفسيراته.
أنا مرتاح “كده”:
وحين بدأت طريق العلاج النفسى كنت مبهورا بالبحث عن الأساليب الخفية وراء الأعراض الظاهرة، وكنت أتصور أن استعادة الخبرات كفيل بتفريغ شحناتها العاطفية ومن ثم الشفاء، وكنت مبهورا فى ذلك الحين بالفكر التحليلى واستعملت للوصول إلى أغوار المريض كل الوسائل المعروفة من تنفيس وإثارة وتهدئة ثم من وسائل التداعى الطليق مما أتاحته لى خبرتى وعلمى فى ذلك الحين، ونفعنى كل ذلك فى الفهم، وأوصل معى كثيرا من المرضى إلى مرحلة “المعرفة مع الراحة’.. ثم لاشئ بعد ذلك، وربما كان هذا من العوامل التى ساعدتنى فى أن أعتبر المستوى المعرفى أو العقلى أقل من المستوى الخالقى (راجع الصحة والمرض) فكثير من الأطباء والمعالجين والمرضى يقفون عند هذا المستوى ويقنعون من العلاج بهذه الراحة “الصحية’ ويتصورون أن هذه هى البصيرة اللازمة، فى حين أنها معرفة وليست بصيرة، وقليل من المعالجين من يراجع فى أمانة قيمة هذه المرحلة ويرفضها فى إيجابية، ولكن المرضى هم الذين يتخطونها فى كثير من الأحيان لأن قدراتهم الخلاقة تتنطلق بالرغم من كل شئ، وهناك فكاهة شائعة عن أحد المرضى الراشدين الذى كان يشكو من تبول ليلى أثناء النوم، إذ ذهب لعدة سنوات يستلقى على الحشية العلاجية للتحليل النفسى التقليدى، وبعد هذه السنوات قابل صديقا سأله “كيف الحال؟’ قال “على أحسن مايرام’ وحيين سأل الصديق “هل كففت عن التبول؟’
أجاب المريض:
”أبدا ولكن ذلك أصبح لايهمني”
هذا الوصف الكاريكاتيرى لما يحدث فى كثير من الحالات، ينكره أو يتجاهله كثير من المعالجين وخاصة المحللين لايرون كل مرضاهم حتى النهاية، أو لأنهم يجدون لذلك تفسيرات مريحة مثل الراحة التى يتمتع بها المريض، هذه المرحلة لم تكن تقنعنى أو ترضينى أبدا، لم يكن من المقبول أن يكون هدف الانسان أن يكون مرتاحا بل الهدف الحقيقى أن يكون إنسانا..
وقلت – كما أقول دائما- إن هذا نتيجة تصورى أنا، لأنى لم أمارس التحليل النفسى تحت إشراف منظم كما ينبغى، وإنما أنا أستعمل طريقتى الخاصة مع القراءة والمراجعة ومناقشة بعض الزملاء ليس إلا، ومهما قرأت ومهما حاولت أن أتمثل أو حتى أتقمص كل ماقرأت لم يتغير رأيى كثيرا، بل تأكدت أن مايحدث لى يحدث لكل من يسلك هذا السبيل، والفرق أن الذى لا أرضى عنه أنا، يجدون هم له تفسيرا أو تبريرا، وحين ناقشت بعض زملائى وأساتذتى مناقشات طويلة زدت احتجاجا ورفضا، ولم يغنى شئ من ذلك عن حيرتى وثورتى ضد هذا الوضع السلبى أمام مشكلة الإنسان وتطوره.
وكان أستاذى الدكتور عسكر يسخر أحيانا من الأمريكان الذين يعطون الطبيب المبتدئ مرتبا سخيا باليمين ثم يأخذونه منه باليسار فى صورة إلزام التحليل النفسى، ورغم ذلك فإنى كنت أؤمن دائما أن المعالج لابد أن يكون إنسانا، ولكى يكون إنسانا لابد أن يكون حرا متطور قادرا على العطاء، وهذا نادر الحدوث فى مرحلة تطورنا هذه دون مساعدة إنسانية جادة وهادفة ومركزة، وكيف يمكن الحصول على هذه المساعدة الأمينة إلا من خلال العلاج المنظم العلمى الهادف، أى أنى فى قرارة نفسى كنت أشعر أن الطبيب النفسى هو أكثر الناس حاجة إلى العلاج وذلك حتى يتخلص من معوقاته ويطلق لإنسانيته العنان، ولكن التحليل النفسى برغم كل ما يقولونه عنه نظريا على الورق، يطلق قدرات الانسان التطورية، لأن فرويد لايؤمن بدوافع تطوريه خاصة للانسان تميزه عن الحيوان، فان انطلقت هذه القدرات انطلقت عفوا نتيجة لصبر المعالج ورغم فكره، ولا أعمم الحكم على أحد، فلا يصلح مايجرى فى مصر بظروفها المحدودة أن يكون قياسا لنوع من العلاج، كما أن المرضى الذين أراهم هم الذين يعالجوا لأنه لابد أن الذى شفى تماما لم أره أبدا، ولكنى كنت أرجع لصلب النظريات فلا تقنعنى أبدا، فرغم أن فيها من الإشعاع والتنوير مافيها، إلا أنها ينقصها التطور والعمق فقد أنكرت على الإنسان أنه يحمل طاقة التطور الذاتية، لذلك فإنه مهما تحدث المتحدثون بعد ذلك فإنى أتكلم عن فرويد الطاغى الذى أصر على أن الانسان لايفترق عن الحيوان فى ظروف تطوره والذى أحل التسامى محل السمو والتحرر والرقى الإنسان الطبيعى.
وكان- ومازال- لى صديق فى الولايات المتحدة مر بهذه التجربة ومازال، وقد بدأها منذ سنوات، وكان لى صديق آخر فى كندا سبقه إلى هذه التجربة بعدة سنوات وكنت أعرف أخبار الأخير من الأول، وكانت حيرتهما لاتقل عن حيرتى، ولكن فرصتهما أكبر وخبرتهما فى هذا المجال أكبر، وفى نقاش بينهما نقل إلى صديقى الأول تعليقا لصديقنا من كندا أن هذه الطريقة ماهى إلا “روث ثيران’ وهذه هى الترجمة الحرفية للتعبير الذى استعمله بالانجليزية.
وبديهى أنه ليس لى أن أحكم بحالة أو اثنتين على طريقة فى العلاج، ولكنى أشير إلى أنى لم أترك بابا لم أطرقه لتهدئة ثائرتى سواء بالقراءة أو الممارسة أو بالمشاركة والمناقشة، وانتهيت إلى جواب لتساؤلاتى أنه “لا’ قررت بوضوح “أن هذا الطريق رغم ما فيه من علم إلا أنه لايكفى ثورتى.. ولايقنع إنسانيتى أن أتوقف عند هذه المرحلة’.
ومآخذى على التحليل النفسى ليست هى مآخذ الطب النفسى التقليدى بل ربما هى عكس ذلك تماما، فالطب النفسى التقليدى يأخذ على التحليل النفسى أنه طويل وأن نسبة الشفاء فيه قليلة، ولكن اعتراضى عليه أنه سطحى وأنه غير تطورى، وأن تفسيراته معقدة فى حين أن أصدق العلم أبسطه، وأكرر أنى لاأعنى المحدثين من المحللين وإن كان لى عليهم مآخذ فى النظرية والتطبيق ليس هذا مجال سردها.
فرويد: فى أصالته وقصوره، وشجاعته وخوفه:
وقد كنت فى أول الأمر مثل كل متعامل مع النفس الانسانية مبهورا بفرويد وكشوفه وخاصة فيما يتعلق بالحيل النفسية الدفاعية Defensive Mechanisms التى مازالت تفسر لى كثيرا من مظاهر السلوك، وإن اكتسبت عندى بعدا أعمق بنظرتى الجديدة، بل إنها- أو روحها على الأقل- هى التى جعلتنى أرى تطور فكر فرويد ومعوقاته.
لقد كان فرويد يتصف بالذكاء المفرط- رغم تكرار شكواه أنه كان يتمنى عقلا أفضل- إلا أن نظريته التى استوحاها أساسا من الخبرة العيادية بما فى ذلك – أو، وأهم ذلك- التحليل الذاتى الذى قام به لنفسه، كانت ومازالت تتناسب مع ما تجرأ على رؤيته من داخل نفسه، ففى تصورى أن الالهام بالنظرية- مثل كل نظرية جديدة أصيلة- تم فى لحظة خلق صوفى صادق، يوم الأربعاء الموافق 24 يوليو 1895، وفى تصورى أيضا أنه رأى ذاته بكل أعماقها فى تلك اللحظة ورأى حقيقة النفس الانسانية، وحين سجل هذا التاريخ حفرا على مائدة المطعم الذى أتاه عليها الحدس يومها، كان يترجم أهمية هذ التجربة الهائلة التى يعرفها كل من أضاف جديدا إلى مسيرة الانسان- أو حتى كل من عاش تجربة خلق جديدة ولو لم يكن قد أضاف جديدا. إلى هنا والأمور تسير كما نعرف جميعا. وأعرف وجه الشبه بين ذلك وبين تجربة الصوفية وتجربة بداية الجنون، والفروق بينهما جميعا فروق مسار بعد ذلك وتطور، وليست فروق نوعية التجربة ذاتها، وعلى قدر مايصاحب هذه التجربة من السعادة وجلاء فكر بالكشف الجديد، على قدر ماتهدد من فقد التوازن والغربة، والذى يمسك بهذه التجربة سوف يخرج بالجديد، والذى سيخاف منها ويهرب سوف يرتد فكرة مجهضا، أو يختل اتزانه.
وفرويد سمح لهذه الخبرة أن تنتج فكرة الخلاق بشجاعة نادرة، ومضى وحده فى أول الأمر يدافع عن نفسه وعن صدقه وعن أصالته، ولكنه فى تصورى خاف واكتفى برؤية تفسير الأحلام بالجنس، ولم يسمح بالغوص فى أعماق النفس إلا حول سنة 1920 حين كتب “مافوق مبدأ اللذة’ وبذلك اكتملت رؤيته- على نقصها- وعلى قدر ماسمح به انكشافه أمام نفسه، فنظريته نبعت أساسا من تحلليله لنفسه، وهذا التحليل كان محدودا بوحدته وبقدرته على الرؤية، وبالتالى بقصور شجاعته أن يرى أعماق أعماقه.
وقد تميز الفكر الفرويدى بميزات وعيوب هى ميزات وعيوب كل فكر أصيل، وفى الوقت الذى حاول فيه فرويد أن يطور فكره على قدر ما سمحت به شجاعته مع نفسه ومع الآخرين وكذا أمانته، فإن بعض تابعيه نصبوه نبيا وتوقفوا- فى أغلب الأحوال- عندما قال حرفيا.
وفى مصاحبتى له فى طريق ممارستى للعلاج آذانى فكره وآذى مرضاى على قدر مانفعهم، فإن التركيز على “لماذا’، مع تصور التسامى والحضارة نتيجة لكبت مشاعر جنسية، قد شوه طبيعة الانسان السامية وحرمه التميز بتلقائية الفضيلة، كما أن الأهمال النسبى للسؤال: “إلى أين’ كان يمثل التراخى والسلبية فى تحديد المجال والمسار للمرضى.. وأيقنت أن فرويد- رغم أصالته وشجاعته إنما انتشر أكثر من يونج مثلا- الذيى كان أعمق وأكثر إنسانية- لأن المجتمع فى أواخر القرن التاسع فى أوروبا الغربية وأوائل القرن العشرين كان يخرج من النكسة التى أصابته بالعقم بعد عصر التنوير، والتى جعلته يبحث عن التبرير والتفسير أكثر مما يسعى إلى الالتزام والبناء، كما كان متلهفا إلى اكتشاف الجانب الآخر، وهو الجانب الجنسى أو الغريزى الذى ظلم وانكسر بعسف الكنيسة طوال القرون الوسطى وحتى ذلك الحين، وربما هذا هو السبب الحقيقى لانتشار فكر فرويد هذا الانتشار، فالفكر إنما ينتشر لا لأصالته فحسب بل لحاجة الناس إليه فى تلك الحقبة من ظهوره، وكم من فكر ظل مختبئا فى طيات سنين طويلة حتى لحق به تطور المجتمع فازدهر حينذاك. فهناك شرط لانتشار الفكر لازم: هو تناسبه مع درجة تطور الإنسان فى مرحلة ما…
وفكر فرويد أدى خدمة دفاعية عظيمة للناس فى تلك الفترة من الزمان (وهذه لغة فرويد وليست ألفاظه) فقد احتمى إنسان هذه الحقبة وراء تفسير نفسه سطحيا من الخوض إلى أعماقها، وقد رضى أن يشوه الحضارة بطريق غير مباشر إذ رآها الوجه الآخر للجنس وليس الارتقاء به ومعه، فإن القول بأن الانسان حيوان متسام غير القول بأن الانسان حيوان سام، الأول يجعل الحضارة نوعا من تكوين رد الفعل (على حد لغة فرويد) والآخر يجعل الحضارة فعلا وتطورا طبيعيا..
وهناك قاعدة عامة تحكم كثيرا من أساليب الفكر ودائرة الرؤية وهى أنه “مالا أراه أنا وأدركه فهو غير موجود’ وهذه القاعدة رغم تمسك علم النفس التحليلى بها إلا أنها تتحكم فى إبداع كثير من الأفكار الأصيلة حتى فى التحليل ذاته كما تتحكم فى مدى ادراك وتقبل هذه الأفكار الأصيلة …. ونحن لانستطيع أن نلوم من يتبع هذه القاعدة فهذه إمكانياته… ولكنا أيضا لا نستطيع أن نعتبر رؤيته نهائية ونتوقف عند درجة تطوره الشخصى.. وقد رأى فرويد من طبقات نفسه الجزء السطحى ولم يتبين ما بعد ذلك، فله عذره، ولكن ليس لنا نحن العذر فى أن نتوقف عندما رأى..
(وفى حيرتى ونقاشى مع نفسى والآخرين اكتشفت قاعدتين مرتبطتين بهذه القاعدة أثرئ منهما فرويد ولكنى أنتهز الفرصة لأنبه لهما فهما قاعدتان من أخطر ما يمكن، ومن أدل الظواهر على تأخر فرد ما أو أشعب ما وهما أولا: “مالا أومن به فهو كفر وضلال’ فى مجال العقائد، والقاعدة الألعن فى مجال العلم هى “مالا أعرفه فهو ليس مهما‘ ولاأستطرد فى هذا، وأرجع لحيرتى فى الطب النفسى وليس فى الحياة العامة لأقول:)
وكانت القاعدة الثانية التى تفسر موقف فرويد وقصوره هى أنه “ماأخاف منه لا أراه’ وهذا من بعض أفضال نظريته فإذا طبقناها عليه وجدنا أنه خاف أعماق نفسه فلم يرها، ومن هنا جاء فهمه السطحى للاشعور، والقاعدة الثالثة هى أنه “مايحملنى المشقة يستحسن ألا أراه’ وهذه أيضا من لغة فرويد، ومشقة تطور الانسان والتزامه بهذا التطور هى من أعظم درجات المشقة إن لم تكن أعظمها، وفرويد فى وحدته الفكرية والعلاجية لم يكن يستطيع أن يتحمل كل هذه المشقة وحده لذلك فقد تهرب من تطور الإنسان الارادى بالتوقف عند هذه المرحلة التفسيرية.
ورغم أن فكر فرويد كان مبررا يعفى إنسان عصره من مشقة الشعور بمسئولية التطور. إلا أن ذلك لاينفى شجاعة فرويد فى احتمال السخرية والرفض والاستهزاء بنظريته وتمسكه بها رغم كل التيارات وضد كل الجمود.
وفى تصورى أن أكبر خطأ وقع فيه فرويد هو تصور أن القوانين التى تحكم تطور الانسان ماهى إلا القوانين التى تحكم تطور الحيوان، وأن دافع الارتقاء لايوجد فى الانسان بصفة خاصة وأساسية..
والخطأ الثانى هو سوء استعمال الألفاظ فى غير مواضعها، فان لفظ “الجنس غير التناسلي’ أحدث من البلبلة ما كان أخلق به أن يعفى نفسه منه لو أنه استعمل لفظا آخر، إذ أنه كان يقصد دائما بالجنس الاتجاه نحو “الآخر’ أو نحو الموضوع، كذلك ينطبق نفس القياس لفظ “الموت’ لايصف به غريزة التدهور والنكوص.
أما الخطأ الثالث فهو أنه مات قبل الأوان! .. فلو أنه عاش ربما وصل إلى ما أراد منذ بدأ حياته بيولوجيا، ففرويد هو الذى قال:
“إن البيولوجى بحق، أرض لاحتمالات لانهائية، يمكن أن ننتظر منه أن يعطينا أكثر المعارف إدهاشا، ولايمكن أن نقدر الاجابات التى سيعطيها خلال بضع عشرات من السنين للأسئلة التى وضعناها”
هذه البصيرة الواضحة والمحددة هى التى توحى بأصالة هذا الرجل، وتجعلنا نلتمس له العذر، فقد حدد المجال لتقدم الطب النفسى بل حدد الزمان كذلك (بضع عشرات من السنين) ولم يشعر بأى تناقض بين علم البيولوجى وبين افتراضاته ولكن خلفاءه انقسموا قسمين: قسم تجمد عند كلامه وجمد معه تطور الانسان، وهو القسم الذى يسمى نفسه أو نسميه نحن التحليليين التقليديين أو الارثوذكس. وقسم تطور بعده على حساب مفهومه اليبولوجى، وهم التحليليون المحدثون وأهم من تعمق فى دراسة السنين الأولى “هى ميلانى كلاين’.. وآخر ماوصلنى هو تطوير “جانتريب’ لنظرية “فيربيرن’ عن الموقف شبه الفصامى فى السنة الأولى. وأغلب هذا العمق كان على حساب المفهوم البيولوجى، ولو أنه أعطى أبعادا عظيمة للتخلص مما أسموه “علم النفس الخلقي’ ليحل محله مايمكن أن نسميه “علم النفس الكيانى’، لأنه بدل أن كان فرويد يركز على صراع الغريزة مع المجتمع أو صراع الحيوان مع الأخلاق، ومحاولة الحصول على التوافق بينهما فإن المحدثين أصبحوا يركزون على صراع الانسان أن “يكون أو لا يكون’ ثم انطلقوا فى نفس الوقت يتحدثون عن صراع الانسان بين أن “يكون وأن يصبح’ أى صراع الجمود الفردى مع التطور الفردى.
أما الذى لم يتطور مع الأسف فهو فكر فرويد البيولوجى.
وإنى أعتذر للقارئ إن كنت قد استدرجته إلى كل هذه التفاصيل فإنها هى التى أثارت فكرى وجعلتنى أحترم فرويد ولا أنساق وراءه، وجعلتنى آخذ ثورة المحدثين على فهم فرويد البيولوجى، لأضع أفكارهم مباشرة فى التركيب البيولوجى بفضل الكيمياء الحديثة والكهرباء، و,لكن من خلال نظرتهم هم وليس من خلال نظرة العصبيين أو المتعصبين.
وإن كنت قد أخذت على فرويد تلك الملاحظات التى أوردتها وأولها وأخطرها هو وقوفه بتطور الانسان الفرد عند الدفاع والتسامى، فإنى أتصور أنه لو كان هناك من يقف بجواره أثناء تحليله لنفسه، أو لو كان هناك من العقاقير ما يسمح له بالغوص مطئنا إلى أعمق أغوار نفسه ليبرى ما رأى يونج فيطور به أفكاره، لو حدث هذا وامتد عمره الشاب (وليس عمره العددى) إذا لكتب كتابا اسمه “ما بعد مبدأ فرويد’ !!.
على أن اعتراضى على فرويد رغم تركيزه على نقطة أو اثنتين، إلا أنه يهد أغلب مفاهيمه.. وطريقة علاجه وهدفها.
ولاأخال أن محاولات تفسير كلام فرويد أو التوفيق بين نظريته ونظريات متعارضة تماما هو الحل الأمثل، فإن ذلك سوف يوقعنا فى قيود لامبرر لها إلا التعصب الشبيه بالتعصب الدينى، ولكن أخذ الصحيح من أفكاره مثل رؤيته للحيل الدفاعية وللمفهوم الاقتصادى للطاقة النفسية ولصراع الحياة مع الموت، وإدخالها فى كل جديد- ياحبذا لو كان بيولوجيا- هو الطريق الأسلم والأصح.
***
أريد أن أقول فى نهاية هذه الفقرة أن فرويد وفكره أفادانى أعظم الفائدة، وعوقانى أشد التعويق، وأن فرويد شخصيا حقق كشفا من أعظم الكشوف، ولكنها تمثل جزءا سطحيا من كل أعمق، وأن كل التعقيدات التى وردت فى نظريته وخاصة فيما يتعلق بتفسير الأحلام كانت نتيجة لتوقفه عند أعلى طبقات النفس الانسانية وهى اللاشعور المكبوت، إذ أن قصور الرؤية لاينتج عنه إلا التفسير الصعب، فإنك لابد أن تبحث عن فروض معقدة تفسر بها اهتزاز أوراق الشجرة مادمت لاترى تمايل جذعها وفروعها.
إذا… ففرويد- كما رأيته- دقيق النظرة سطحى النظرية، عظيم الشجاعة فيما عرف، شديد الخوف مما لم يعرف، أمين فى نظرته البيولوجية. متجاوز فى استعمال الألفاظ- عفويا أو بخبث لاشعوري- وأثره فى النهاية خطير فى تطور الطب النفسى والانسان.. إلا أن يكون جزءا من كل جديد..
هذه قصتى مع واحد من أعظم النفسيين شهرة وأخطرهم، وهى مقدمة للحديث عن العلاج النفسى بصفة عامة.
العلاج النفسى:
والذى أحب أن أؤكده لصديقى القارئ أن فكرته عن علاج الأمراض النفسية فكرة مأخوذة أساسا من القصص السائدة والمجلات الأسبوعية، وأن تصوره لما يجرى فى العيادات النفسية ليس قريبا بأى درجة مما يحدث فيها، ولست أعنى التعريض بأى من الزملاء الأطباء الذين يمارسون الطب النفسى بما فيه العلاج النفسى فإن أى علاقة بين طبيب ومريض هى نوع من العلاج النفسى، ولكنى أقرر أنه على حد علمى فإن ندرة منهم هى التى تمارس العلاج النفسى الذى يتصوره الناس، وأرى أن توضيح هذه الحقيقة لازم حتى لايذهب الناس بمفهوم خاطئ يطلبون ماليس موجودا أو يتصورون صورا هى أبعد ما تكون عن الواقع والممكن.
أما الصورة المقابلة وهى التى يمارسها المحللون النفسيون- عندنا على الأقل- فهى أقل بهجة وإن كانت أكثر تعقيدا، فهى تتم دون كيمياء مساعدة ودون تطبيب حقيقى، فتكون فى النهاية أقرب إلى مسلسلات التليفزيون وقصص إحسان عبد القدوس، وأنا بذلك لا أنتقص من محللين ممتازين وهبوا حياتهم لإثارة نقطة محدودة فى تطور الطفل والإنسان، أما أنها طريقة وحيدة أو أولى فى العلاج فهذا شئ آخر… ليس عمليا، وفى نظرى ليس علميا كذلك.
لذلك فقد شغلنى كثيرا جدا مايمارس فى عيادات الطب النفسى وكيفية التقريب بينه وبين عقول الناس حتى لايتوقعون ماليس قائما، ولايخدعون فيما هو قائم.
ومع هذا فلم يمنعنى كل ذلك من أن أصادق من يلجأ إلى وأن أسير معه على الطريق فترة من الزمن ثم ننفصل بهدوء متمنيا له مواصلة المسيرة.. ونصبح إصدقاء بصورة أخرى.. وكنت أتصور دائما أنه ربما يكون هذا هدفا علاجيا نفسيا.. أو فلنسمه إسما عاديا أكثر: صداقة علمية.. أو مسيرة إنسان يعرف بجوار إنسان يعانى’ أو أى شئ آخر إذ ماذا تهم “التسميات”؟
وفى الآونة الآخيرة حين رأيت رؤية المحللين المحدثين من انقسام الشخص على نفسه، وتعدده، وانسحاب أجزاء منه لتكون ذوات مستقلة لها مواصفات وقوة نكوصية خاصة، لما رأيت هذه الرؤية وبدأت أنظر فى كلام أصدقائى المرضى وجدت أن الصراع فعلا ليس بين الغرائز والمجتمع ولكنه صراع بين الذات، والذات وأن فى كل نفس ذوات متعددة وأن هذه الذوات تتصارع فيما بينها وقد تأخذ أشكالا لأشخاص فى تاريخ الفرد أو فى واقعه، فنرى الشاب يتصارع مع أبيه فى داخله، ومع رجل الدين ومع صورة المستقبل فى نفس الوقت، ويدور الصراع أقسى ما يكون فى فترات النمو الفردى أثناء العلاج، وكنت فى مرة أقول هذا الرأى لأحد الأصدقاء المرضى قلت له: “ألا تلاحظ أنك تتكلم بأكثر من لغة وتحس بأحاسيس متنوعة فى مواقف مختلفة، وفى جلسات متلاحقة، ألا تحس أن ذلك يشير إلى أنك ربما اثنين’ قال “اثنين.. قلت ألف’ قالها بصدق وانفعال…
ولا أحب أن يكون هذا التصور هو مقابل لتصور انفصام الشخصية أو إزدواج الشخصية، وإنما هذه الحقيقة هى حقيقة كل نفس… صراع بين التقدم والتدهور، بين الجديد والقديم، وكل قديم أو جديد يأخذ صورا متنوعة لها صفات يمكن تبينها على أنه أفراد محددون.. بل يمكن تسميتهم فى كثير من الأحيان; فكثيرا ماكان يحدث فى جلسة مع المرضى.. ونتصور الثالث يجلس معنا مستقلا منفصلا على كرسى ثالث ويدور الحديث وكأنه بين ثلاثة.. ونرجح انتصار الجديد على القديم، وكثيرا ماكان يدور نقاش فى أول الجلسة عن “هل جئت وحدك’ فيقول “لا.. جاءت معى ضرتي’ أو “من أنت اليوم؟’ فيقول “أنا هو أنا’ وبعد قليل من الأمان والوقت يتبين أنه “آسف لست أنا… كان أبى.. وأنا ماحضرت إلا الآن’، وحين يتبدل الشخص من واحد لآخر يمر به صداع أو دوخة غريبة ثم يفيق إفاقة رائعة، ويتعجب من كل هذا كان يقول، وكنت أحيانا أرى الطفل الصغير الذى يولد أثناء العلاج يحاول جاهدا أن يشق طريقه وسط أشخاص من كل صنف.. ويتلطم ببين الأرجل وتكاد تسحقه الأقدام.. وكأنى أناديه مثل حواديت زمان “إظهر وبان .. عليك الأمان’ والشئ الوحيد الذى يظهره هو “الأمان’
وكان أهم شئ فى العلاج النفسى ليس التحليل ولاالتفسير ولا الوقوع على الحادث المؤلم وأصل التثبيت .. الخ، وإن كان هذا كله جزءا من العلاج إلا أن العلاج فى النهاية هو هذا الجزء الآمن “إظهر وبان عليك الآمان”
وكنت أود فى هذا المقام أن أعرض بعض أقوال المرضى بالنص، ولكنى أؤجل ذلك إلى مرحلة عرض المادة الإكلينيكية متكاملة.. وأكتفى بهذه المقتطفات والفكرة العامة، ولكنى أحب أن أشير إلى أن الطفل الذى يولد أثناء العلاج النفسى كان يظهر بصورة واضحة وسليمة فى الأحلام، كما كان يظهر فى الجلسات أثناء العلاج، وكان يظهر بهذه الصورة المباشرة وكنت ساعتها أتذكر فرويد وعناءه فى التفسير الجنسى للأحلام…، فالبديهى أن الانسان لابد أن “يكون’ أولا قبل أن يسعى إلى “كيف يكون’ وللأسف فإن التركيز على كيف نكون أغفل تماما السؤال الأول: هل نحن كائنون أصلا أم لا..
هذا هو العمق الحقيقى للعلاج النفسى، وهذا هو الدور الحقيقى للطبيب النفسى أن يرى نفسه على مسيرة التطور، ثم يرى الإنسان الممزق بين القديم والجديد، ثم يعطى الأمان لإنسان، ليدع الطفل يولد ويعود لينمو من جديد فى هذا الجو الآمن، ثم ينطلق ليتآلف مع بقية أجزائه وشخوصه فى كل متناسق جديد..
وفى كل ذلك نستعين لذلك الكائن المصنوع من لحم ودم، بكل وسائل العلم الكيمائية والفيزيائية، وكل ماأوتى الإنسان من حب.
ما أصعب كل هذا.. وماأبعده عن الأذهان.. وماأكثر ما حيرنى .. وماأكثر ماأسعدتنى نتائجه..
العلاج بالعقاقير:
ضاع العلاج بالعقاقير بين فريقين على طرفى نقيض فقد كان التحليل النفسى يصور استعمال العقاقير فى أغلب الأحيان أنه ضد العلاج النفسى، فهو المعارض له أو المعوق له فى كثير من الأحيان، وقد حدث هذا الخضام الذى لامبرر له نتيجة لأن الذى يعطى عقاقير لايمارس – فى الأغلب- العلاج النفسى العميق، والعكس صحيح، كما أنه كان نتيجة لتدخل الزملاء الأفاضل المختصين فى الأمراض العصبية بمعلوماتهم العظيمة عن الشلل والأورام- فى مجال الأمراض النفسية، وهو مجال مختلف تماما، لا من حيث أنه ليس وظيفة للمخ ولكن من حيث أن الطب مهنة، وأن هذا الفرع من المهنة رغم أنه يتعلق تعلقا مباشرا بنشاط المخ إلا أن له طرقا وأساليب تختلف تماما عن أساليب دراسة وتشخيص وعلاج الشلل وضمور العضلات..
هذا استطراد ثانوى نرجع بعده إلى العقاقير …
منذ أوائل الخمسينات ظهرت العقاقير التى عرفت فيما بعد “بالمهدئات العظيمة’ وكان المقصود منها أنها عقاقير لها مفعول مهدئ بدرجة بالغة دون أن يؤثر على النوم أو على القدرات العقلية العقلية الأخرى، ورغم أن وصف هذه العقاقير بأنها “مهدئة’ لاأكثر ولاأقل، إلا أن استقبالها فى مجال الطب النفسى كان استقبالا عظيما، لا لأن الطب النفسى كان مفتقرا إلى التسكين دون نوم فحسب، لكن ربما أحس الأطباء النفسيون- دون يقين علمي- أنهم وضعوا يدهم على مفتاح المشكل الذى حيرهم أبدا…
وكان أول عقار استقبل هذا الاستقبال اللائق وحل مختالا إلى حقل الطب النفسى هو عقار الكلورومازين المعروف باسم “اللارجاكتيل’ الذى اكتشفه الأستاذ الدكتور جان ديليه، وزميله دينيكير ومازال من أحسنهم جميعا….
وقد تصادف أن كانت مهمتى العلمية فى فرنسا فى قسم الأستاذ الدكتور ديليه عضو الأكاديمية الفرنسية ومكتشف هذا العقار وقد حضرت معه الاجتماعات العلمية القليلة التى قادها، وكان مهابا رهيبا ولكنى لم أجد فيه شيئا جديدا بالمقارنة بالأستاذ الدكتور “إي’ مثلا كما سبق أن ذكرت، أما هيبته ورهبته فيعرفها كل من يعرف “هيراركية’ الطب فى فرنسا، ويعرف كيف يتمتع الرئيس بسلطات لاحدود لها، ويعرف الهجوم الذى وجه إلى هذه السلطة غير المحدودة فى ثورة مايو 1968 ولم تتحطم بقدر كاف، وكان الأساتذة الأصغر مثل بيشو ودينيكير يجلسون فى حضرته مثل التلاميذ رغم “عادية’ مايقول، ومن ضخامة ما كان يتمتع من هيبه كنا نطلق عليه أحيانا اسم السيد الإله، وربما كان ذلك لتقارب نطق مقاطع اسمه (بالمقلوب) Delay من اسم الله بالفرنسية le dieu، وحدث شئ طريف لاأنساه يتعلق بكرسى عتيق فى مكتبه، فقد كان القسم فى سبيله إلى الانتقال إلى مبنى آخر جديد وفخم، فترك مسيو ديليه مكتبته (مؤقتا) والمكتب الملحق بها ليشغلها صديقى برينيتى الذى كنت أعمل معه فى قسم الطب النفسى الاجتماعى (وقد تحدثت عنه بافاضة أثناء عرضى للصحة والمرض) كان ذلك الكرسى العتيق يخرج القش من قاعدته بشكل نشاز وسط أثاث الغرفة وتميل إحدى قدميه ويرقص المسند عليه بلا مسامير فهو لايصلح للجلوس ولاللتنقل لأنه يخشى عليه من الحركة، وبديهى أنه كان محل تساؤل منى فانطلق بيير يضحك ضحكته الطليانية وقال إن هذا كرسى مسيو ديليه، وقد طلبت نقله فقالوا لانستطيع أن نمسه إلا إذا حضرت مدام ديليه وأدلت برأيها الأخير فى مصيره، وقد كان، وحضرت وشاهدته وعاينته، وأجلت النطق بالحكم حتى يتم النقل نهائيا، ولكن النقل لم يتم حتى غادرت باريس بعد سنة، ولم يتحرك الكرسى من مكانه، وفى مرة كنت أتناقش مع صديقى بيير عن حكاية المناصب والاساتذة ذوو الكراسى والأساتذة من غير كراسى، ولمحت الكرسى العتيق أمامى وقلت له أنى سأجلس عليه فى حذر وألتقط صورة لى، فإذا ذهبت إلى بلدى زعمت أنى شغلت كرسى الأستاذ الدكتور ديليه لفترة من الزمن وأنا أحمل الدليل على ذلك، ومن يسأل أبرز الدليل المادى المعتمد.
وانطلقنا نضحك من الأعماق.
المهم أنا لا أعرف لماذا ذكرت هذا الاستطراد ولكنى أردت أن أظهر بعض معالم الهيراركية فى الطب النفسى حتى لا نضجر من مثلها عندنا بثورة لم تنضج، وفى نفس الوقت أردت أن أظهر هيبة الرجل الذى اخترع العقار الذى هدانى إلى ما أنا فيه الآن رغم أنه هو شخصيا لم يعطه نفس الأهمية الديناميكية التى تبينتها مؤخرا، بل إنه هو شخصيا لم يؤثر فى بالدرجة التى أثر بها فى عالم آخر غير جامعى سبق أن أشرت إليه ولن أمل الاشارة إليه وهو “هنرى إي’.
محاورة مع سارجنت:
ظهر عقار اللارجاكتيل وتبعه عقارات متعددة من فصيلة الفينوثيازين، ومنذ حذقت استعمالها زاد فهمى للانسان وقدرتى على السيطرة على الموقف، كما صرت أكثر شجاعة فى الغوص إلى الأعماق ومن كثرة ماكان استعمال هذه العقاقير ديناميكيا يثيرنى نشوة وإعجابا، بقدر ماكان إعطاؤها الأعمى يحدث لى الغثيان، وحين حضر الأستاذ الدكتور سارجنت (وهو من قادة العلاج العضوى للأمراض النفسية فى انجلترا)- ليلقى محاضرة فى القاهرة فى جمعية الصحة النفسية سنة 1970 عن المستحدث فى علاج الأمراض النفسية بالعقاقير عرض الأمر بذكائه وعلمه فى صورة غريبة- عل على الأقل- عرضها بمثل هذا الكلام ‘ إذا جاء المريض بعد الثلاثين وقد كان سليما معافى قبل ذلك، إذا جاء يشكو من أعراض فجائية فهو فى الأغلب جدا مكتئب بغض النظر عن الأعراض فإذا أعطيته عقار كذا بكمية كذا فإنه فى الأغلب جدا يشفى دون قيد أو شرط.
ثم تكلم عن الأعراض والأمراض الأكثر خطورة وتناول العلاج بادئا بالكيمياء ثم مثنيا بالكهرباء وأخيرا بالجراحة… ودمتم..
وقلت له سائلا: “إذا نحن استعملنا هذه العقاقير بتلك الطريقة البسيطة دون محاولة فهم التأثير المثبط للطاقة النفسية اللازمة لتطور الانسان وللخلق وللأصالة.. هل نكون مساهمين فى مسيرة الحضارة أم معوقين لها؟”
قال:
”إن استعمال العقاقير ديناميكيا له مؤيدوه .. ولكنه لم يثبت أنه أضاف جديدا لفهم الانسان’.
ثم أخذ يهاجم تحليل مرضى الفصام وفشله الذريع، وقد ظن أنى من الذين يمارسون التحليل النفسى تقليديا، وأخذ يؤكد لى هذا الطريق مظلم لاقرار له.
وكان أمينا حين ذكر فى رده اعتراضا مماثلا للدكتور هـ. لانج صاحب كتاب النفس المنقسمة Split Self حين قال الأخير فى هجومه على هذا الاستعمال الأعمى للعقاقير “أنت تضغط الناس، تشكلهم ليماثلوا النمط الاجتماعى السائد.. ليصبحوا رقما مطيعا ترسلونهم بعد ذلك إلى فيتنام ليقتلوا الأبرياء ويقتلوا أنفسهم’
نقل هذا الاعتراض المماثل بأمانة ثم أضاف:
”ولكن هذه العقاقير تجعل تفكير الانسان أحسن، وحكمه أدق فيتبع ناصر أو كاسترو أو نيكسون’..
وكان واضحا فى رده أن تطور الإنسان عنده أن يتبع الفرد فلانا أو علانا وأغفل القوى التى صنعت ناصرا أو كاسترو، وهى ليست هذه العقاقير على كل حال.
ولم يكن هناك مجال لاستمرار المناقشة ولكن خيالى المحتج ذهب يتصور المعالج بهذه الطريقة مثل واحد فى بلدنا يصلح بوابير الجاز، وهو يضع العقار فى حقنة طرفها مثنى مثل ابرة وابور الجاز ويقول “كده تسليك.. كده توليع.. خلص الجاز.. إديله كباس”
وقلت “اللهم اخزيك ياشيطان عقلي’.. ثم قلت… لا.. يفتح الله .. وتزداد حيرتى…
وقد اكتشفت من خلال الفكر التحليلى أن للإنسان أكثر من ذات واحدة. سموا بعضها مرة الذات الناكصة Regressive Ego والذات الحقيقية مرة True Self والذات المركزية مرةCeutral Ego ورأيت ذلك فعلا محتملا إلا أنى رفضت وضع هذه “الذوات’ “فى الهواء الطلق’ فقد رأيتها ليست مجرد نتيجة لطبيعة علاقات الطفل بالأم بل هى مخلفات تاريخ بيولوجى طويل، أما الأم فأنها تغذى تركيبا موجودا فعلا بطريقة معنية من المعاملة… فينشط لمدة تطول أم تقصر ثم يكن متحفزا فى أغوار النفس، حين تصورت ذلك تلاقى الفكر التحليلى مع الفكر الانثربولوجى والبيولوجى عندى ورأيت الانسان لبس عدة ذوات ولكن عدة أمخاخ بعضها فوق بعض أنثروبولجيا وهدانى إلى تأكيد هذا بعد ذلك النوعية الجديدة لعمل هذه العقاقير، فتصورت أن كل عقار يعمل على مخ قديم أو حديث دون آخر وكان هذا التزاوج أول خطوة هدتنى للطريق.
ومرة ثانية لاأستطرد بدون مادة إكلينيكية وإنما أشير فقط إلى أن عدم رفض الأفكار المتناقضة هو السبب الحقيقى فى رؤية الجديد.
ومنذ هذا التاريخ وأنا أستعمل العقاقير بصورة مختلفة تماما عن ذى قبل أعطيها فى ثقة وتحديد، وأضع لكل مريض فرضا، وأعطى العقار وأشاهد النتيجة لتحقيق الفرض وغالبا ما يتحقق، وأحيانا لايعطنى القيمة التى تصورتها أول الأمر فيكون هذا هو حل المشكلة جزئيا لأنه ينير أمامى نقطة كنت مغفلها، أو يهدينى إلى صفة لأحد مستويات المخ (أو لأحد ذوات الانسان) لم تكن تخطر لى على بال وهكذا أصبح كل مريض مشروع بحث قائم بذاته، وأصبح كل عقار هو “المتغير’ الذى يهدينى طريقى إلى الفهم والعلاج، كل ذلك فى إطار علاقة الحب الانسانى أولا، ولم يخطر فى بالى لحظة من اللحظات أن العقار سوف يغنى عن هذه العلاقة الانسانية التى هى الاصل فى كل علاج نفسى وفى كل تطور إنسانى.
وكنت أتصور الموقف على النحو التالى (وخاصة بالنسبة للفصام المبكر): إن قوى المخ البدائى تنشط نتيجة لفشل المخ الحديث، وأن العقاقير تثبط عمل هذا المخ البدائى مستقلا عن بقية أجزاء المخ، لأن الفصام إنما ينشأ إذا نشط هذا المخ البدائى ليعمل مستقلا عن بقية الكل ولحساب النكوص… إذا فلابد أن يثبط عمله مؤقتا.. ولكن هذا لايكفى إذ أين تذهب الطاقة؟ لابد من جذب إنسانى حانى نحو الحياة ولايتم هذا إلا بوجود إنسان معالج يعطى الأمان ويفتح قلبه منتظرا استقبال الطاقة، كما لايتم إلا بتوجيه هذه الطاقة إلى العمل فى نفس الوقت وإلا توقفت فى محطة متوسطة مثل محطة المخ الاكتئابي
وهذا الفهم الجديد هو الذى أعطى لكل شئ معنى فى نفس الوقت، وهو الفهم الذى أجدنى أكبل القلم تكبيلا حتى يتوقف عن الاستطراد فى شرحه، وإلا وقعت فى خطأ عظيم بعرض نظرية مبتورة دون أدلة، إلا أنى لاأملك إلا أن ألقى بضوء خافت على مسار تفكيرى وأترك الباقى لتفاصيل علمية تظهر فى حينها.. إلا أن هذه الإشارات ضرورية حتى يمكن أن أطمئن الناس إلى أن العقاقير ليست بديلا عن الحب الإنسانى والفهم الإنسانى والاستماع والرعاية والعمل والتوجيه، وأنه حتى هجومنا الدوائى على جزء من المخ لايهدف إلى القضاء على نشاطه بل يهدف أساسا إلى تهدئة نشاطه الهدام، ثم توجيه كل النشاط إلى البناء والحياة، وكل ممارس للطب النفسى يعرف مقاومة تعاطى العقاقير مقاومة هائلة، وحين فهمت الانسان على أنه عدة ناس، كنت أعرف فى محاورتى معه من الذى يقاوم إذ أن الذى يقاوم عادة هو أحد هؤلاء الآخرين فى داخله الذين يهمهم ألا يهمد نشاطه الهدام، وكنت أطمئنه أن هذه فترة مؤقتة ثم يعود الكل للنشاط فى إطار واحد، ولحساب الحياة والاستقلال وليس لحساب المجتمع الزائف والقهر والتشكل، وكان يقتنع فى كثير من الأحيان، ورغم أن الاقتناع هو أصل العلاج إلا أن العلاج وحتى الكيميائى منه يساعد على الاقتناع، المهم أن تكسب الثقة أولا، ثقة “كل’ المعنيين.. أو بالأسلوب الجديد.. ثقة كل الأمخاخ!!
وفى هذا الإطار الجديد لفهم الكلى صالحت علاجا آخر طال خصامى معه لعدة سنوات:
العلاج بالكهرباء
للعلاج بالصدمات الكهربائية سمعة سيئة جدا، وقد حيرنى تماما طوال ممارستى للمهنة، ففيما عدا بعض حالات الاكتئاب الصريحة التى سبق فى الأغلب أن شفيت من بضعة صدمات كهربية، كنت لا أحذق استعمال هذه الوسيلة الممتازة فى العلاج، كنت أعطيها أحيانا فيستجيب المريض استجابة عظيمة لصدمة أو اثنتين أو أربع، وفى الخامسة تتدهور الحال تدهورا ملحوظا فى نسبة كبيرة من الحالات … أتردد.. وأحتار.
وكنت أصفها قبلا- مثل معظم العلاجات – بطريقة تجريبية اجتهادية، وأحاول أن أراجع الكتب لتهدينى فأجد العجب- كالمعتاد- فكثير من المكتوب هناك يشير إلى أن “بعض’ الحالات من تشخيص كذا تستجيب للعلاج الكهربائى استجابة عظيمة، فى حين أن “بعض’ حالات أخرى من نفس التشخيص لاتستجيب، وقد يصف هذا البعض وقد لايصفه..
ولكن أغلب المرضي- إذا أحسنت الانتقاء بالخبرة والإحساس والتاريخ السابق- تستجيب استجابات عظيمة لهذا العلاج، ومع ذلك فقد كنت أجدنى مترددا فى وصفه.. متكاسلا فى مواصلته.. بل محرجا فى تبريره رغم ثقتى بنتائجه..
وكنت أتساءل: لماذا يرفض هذا العلاج أغلب المرضى بدرجة أكبر بكثير من علاج العقاقير؟ وكان الجواب يأتينى أن الإنسان لايحب أن يستسلم هكذا لقوى خارجية مجهولة وهو فاقد الوعى لايعرف أين تؤدى به، والسبب الثانى أن الحالات النفسية التى تتدهور- فى الأغلب لعدم انتظامها فى العلاج أو لعدم استكماله- تميل إلى أن تعزو سبب تدهورها إلى شئ ملموس يمكن الرجوع باللوم عليه، وما أسهل كلمة الكهرباء يعلقون عليها كل الأخطاء واللوم والسخط، وبذلك يعفون أنفسهم من المسئولية الجزئية المرتبطة بحدوث المرض أو بالتقصير فى علاجه، كما يبرئوون خلاياهم من مسئولية الوراثة.. وتصبح الكهرباء هى السبب الأول والأخير..
والسبب الثالث لسوء السمعة التى لحقت بالكهرباء هى أن الحالات التى تشفى بها لاتتحدث أمام قريب أو غريب عن أنها أخذت علاج الكهرباء وشفيت لأنه حتى الآن يعتبر ذلك عيبا أو نقصا يستحسن إخفاؤه وربنا أمر بالستر، أما الحالات التى لم تتحسن بالعلاج الكهربائى فهى التى تعلن فشلها وتعزوه إلى العلاج وليس إلى إزمان الحالة، ولم نسمع أحدا يقول أن حالته تدهورت بالرغم من الكهرباء بنفس النسبة التى نسمع بها الشكوى من أن الحالة تدهورت بسب علاج الكهرباء.
تردد.. وحذر.. ثم..
هكذا كان موقفى أمام هذه الوسيلة الممتازة فى العلاج: تردد وشك، وثقة وحذر، وتساؤل… خليط عجيب لم يهدأ خلال سنين طويلة من الممارسة، لم أستسلم لتفسير قرأته، ولم أقتنع إلا بكلام المرضى واستجاباتهم، وظلت هذه المشكلة مثل كل المشاكل التى سردتها معلقة فى رأسى لاتدخل إلى حد التسليم ولاتخرج إلى حد الرفض حتى اهتديت بتقدم أفكار التحليل النفسى الحديث إلى رؤية الإنسان عدة أناس.. وانتهيت بعلاج العقاقير إلى رؤية المخ عدة أمخاخ ثم قابلت بين هذا وذاك وصارت لغة.. وحينئذ استدرت إلى العلاج الكهربائى وتساءلت: إذا كانت العقاقير الحديثة تعمل على مخ دون آخر وإذا كان العلاج النفسى ووجود الإنسان المحب يجذب حركة القوى المحبة إلى الخارج يا إلى الحياة، فماذا تفعل الصدمة الكهربائية وهى التى توقف عمل كل الأمخاخ للحظات ثم تعود للعمل فلا يوجد اختيار أو تفضيل مخ على مخ، وهنا تذكرت قانونا من أبسط قوانين الفسيولوجى وهو قانون “ستارلنج’ وهو قانون صالح للتطبيق على العضلة المفردة وعلى القلب وعلى الحياة بصفة عامة، وهو يقول بإيجاز أن الصدمة- أى صدمة- تزيد الضعيف ضعفا وتزيد القوى قوة، فإذا كان هناك عدة أمخاخ فعلا فإن الاستجابة للصدمة الكهربائية تتوقف على أيها الأضعف وأيها الأقوى، والضعف والقوة هنا لايأتى حسب حسابات اللحظة الراهنة فحسب بل يدخل فى حسابه التاريخ السابق والإمكانيات المتاحة لعمل كل منها فمثلا فى أول المرضي- بغض النظر عن نوعه- يكون المخ ذو النشاط المرضى ضعيفا فيكون العلاج الكهربائى مفيدا جدا أفضل مما لو أزمن المرضى حيث يأخذ النشاط المرضى قوة تزداد بإحداث الصدمة، وفى حالات الهوس الحاد حيث يكون نشاط المخ الهوسى قوى جدا لايصلح علاج الصدمات الكهربائية بحال إذ أنه يزيده هوسا.
وسأضرب مثلا واحدا أخيرا فى كيفية عمل وسائل العلاج المختلفة مجتمعة مع بعضها، فإنى دائما أتصور أن العقاقير المهدئة العظيمة تضعف الأمخاخ ذات النشاط المرضى الانسحابى أو العدوانى، وأن الحب الإنسانى يمثل قوة جذب إلى الخارج وإثارة للنشاط الصحى نحو اقتحام الحياة فى أمان، والعمل يحور مسار هذا النشاط وكأننا أمام قطار توقف، يمهد له الطريق ونتأكد من صلاحية القضبان (توجيه العمل) ثم نسد الطريق الخلفى (بالعقاقير) ثم نضع قوة جذب أمام القطار (الانسان المحب) ثم تحدث الصدمة بعد ذلك فينطلق القطار… ولاتنتهى القصة… بل ربما تبدأ بعد تلك الصدمة وتستمر المعركة لترجح كفة الحياة وجذبها، وبالعقار والعلاج النفسى والعمل تستمر جميعا لخلق الانسان الجديد…
بهذا الفهم المتعدد الجوانب وبعد أن بدأت استعمال الصدمة الكهربية على جانب واحد بحيث لاتؤثر على الذاكرة بدأت أحدد على وجه الدقة متى أعطى الصدمة الكهربائية ولماذا؟ وبدأت أحدد على وجه الدقة كم صدمة أعطى ومتى أعطى التالية، ولم يعد عندى إطلاقا أى تحديد لعدد مسبق وكثيرا ماكنت أعطى صدمة واحدة تكفى للتغلب على موقف محدد… وحين جمعت هذه الحالات التى أخذت صدمة واحدة، وأخذت أتحدث عنها مع زملائى دهشوا وهاجمونى فى فكاهة وأنا أقول لهم أنه أحيانا فى حالات كذا أعطى “كهرباية’ وقالوا “كهرباية؟ طب خليهم اثنين’ ليذكرونى باحدى المسرحيات حيث يقول فؤاد المهندس طعمياية؟ طب خليهم اثنين
ودون تردد دخلت الكهرباء فى الإطار العام.. وبتوقيت غاية فى الدقة، حتى أنى أعطيتها لبضعة حالات فى ليالى الامتحان دون أى تردد مادامت الحسابات دقيقة ودخل جميعهم الإمتحان وحققوا نتائج باهرة. فى حين أنى كنت أتردد فى إعطائها قبل الامتحان بعدة شهور قبل ذلك.
ولن أطيل فى تفسيرى لهذا العلاج فى هذا المقام المحدد حيث أعرض فكرى بصفته مشاعر شخصية وليس بصفته نظرية علمية، ولكنى أذكر فقط أن المقابلة بين الأطوار التى يمر بها الإنسان المعانى مع مفعول الكيمياء والكهرباء والعلاج النفسى جميعا فى كل متناسق هو المفتاح الحقيقى لوضع الفرض الجديد، وأن تركيز إهتمامى على العلاج هو الذى أوضح لى جذور المرض، وحقيقة الإنسان.
متفرج أم مساهم ايجابى؟
ولكنى أحب أن أشير هنا إلى اليقظة التى صاحبت ولادة ذلك الفرض الذى أسميه ثورة فيما يتعلق بالعلاج، فالمعركة التى احتدمت فى داخلى بين الطبيب والإنسان بدأت بأن طغى حماس الانسان الشاب، ثم انتصر الطبيب الشيخ… ولو ظاهريا ولو لفترة، ولكن الانسان لم يهدأ ولم يرض أن يقف موقف المتفرج، ثم ثار أخيرا، ونتيجة لثورته الكاملة اتخذت موقفا إيجابيا فى العلاج، أساهم به فى مسيرة الانسان الثائر.
وراجعت كل شئ من موقفى هذا بين الكهرباء والكيمياء والعلاج النفسى، وتذكرت توقعات فرويد البيولوجية، ولكنى عتبت على بعض اتباعه وتوقفهم بتطور الانسان، وجمودهم عندما ترك فرويد لحظة موته، ناهيك على قصر اهتمامهم الأول على أبسط أنواع المرض النفسى (الهستيريا) وأسخفها (عصاب القهر) دون بقية الأمراض الأساسية فى سلم المرض، ثم إلغاءهم الجانب البيولوجى من فكرهم .. ورأيت أن هذا الفهم الجزئى الجامد إن لم يدخل فى الكل الجديد فإنه فهم قاصر ومعوق… وكرهت موقفهم السلبى وإن كنت انبهرت واهتديت بأفكار بعض المحدثين دون اتباع طريقهم- فموقف المتفرج الذى يبحث عن الأسباب والشحنات المختبئة داخل العقد والتلافيف غير موقف الانسان الايجابى الذى لايتعلق بتفاصيل ما كان، إلا بمقدار مايتضح الفهم ثم تكون رؤيته “للآن’ و “الغد’ أوضح، فهو لايتساءل لماذا حدث هذا، ودمتم، ولكنه يتساءل أيضا لماذا لم يستمر “ذلك’ النمط فى الحياة؟ وماذا جد حتى يضطرب ذلك الموقف الهادئ؟ ثم: ماذا بعد؟
وأصبحت رؤيتى للمرض النفسى أكثر وضوحا:
اضطراب تكيف أم اضطراب كيان؟
أصبحت أضع فى الاعتبار سؤالا جديدا جوهريا بديلا عن السؤال القديم “عصاب.. أم ذهان؟’ أو “مرض نفسى.. أم عقلي’ أسئلة سخيفة لم يعد لها مكان، تعوق أكثر مما تهدى، وإنما أصبح السؤال فى صورته الجديدة هو:
”اضطراب تكيف… أم اضطراب كيان’.
وذلك إنما يعنى التساؤل: هل الاضطراب الذى حدث هو محاولة من نفس النظام القائم فى التغلب على بعض المصاعب على الطريق فى سبيل إعادة التكيف.؟
أم أنه فشل تام لهذا النظام بحيث أن الكيان نفسه قد اهتز، فلابد من ثورة أو مشروع ثورة لإعادة تنظيم الكيان بطريقة جديدة..؟
ولاتخفى العلاقة بين اضطراب التكيف واضطراب الكينونة فقد يصل فشل التكيف إذا كان تاما إلى اضطراب الكيان من الداخل. كما قد ينتج عن اضطراب الكيان سوء تكيف لايحله إلا تغيير شامل بمزيد من التطور.
وبمعنى آخر فإن اضطراب التكيف هو – من وجهة النظر هذه- اختلال كمى فى طريقة الحياة العادية.
أما اضطراب الكيان فهو تغير كيفى فى نوع الوجود.
المهم هذا موضوع قد يحتاج إلى تفاصيل، إلا أن أهميته فى هذا المقام أن علاج الأمراض قد اختلف عندى منذ رأيت هذه الرؤية.
فإذا كان اضطراب “تكيف’ فان الواجب الأول هو فهم أبعاد المشكلة والمساعدة لإعادة التكيف كما كان..
أما إذا كان الاضطراب هو اضطراب كيان.. فلابد من ضبط الثورة حتى يتم إحلال البديل الجديد محل القديم الفاشل.. وإلا فإن التدهور محتم.
وكنت أجدنى غير متحمس لمشاكل التكيف رغم احترامى لآلام صاحبها، ولكنى ألجأ إلى وسائل سطحية تساعد على التكيف، وسرعان مايعود المريض “كما كنت’ على حد التعبير فى التدريب العسكرى، وفى كثير من الأحيان كنت لا أعجب المريض فيختفى ليذهب إلى زميل أحذق منى فى التفسير والتبرير والترويض والتسكين، المهم أنى أعتبر مساعدة هذا النوع من المرضى ضمن واجبى كطبيب لابد أن يساعد من يستنصحه، ولكنه ليس من ضمن رسالتى كإنسان.
أما مشكلة الكيان فهى مشكلة “وجود’ أو “كينونة’، تتصل بجوهر وجود الانسان وبالتالى فهى من صلب مشكلتى، ولم أكن أحاول أن أعيد الأمر “كما كنت’ لأننى حتى لو حاولت فلن يحدث ذلك أبدا، والذى يتصور أن المريض عاد كما كان بعد اختلال كيانه إنما يرى الشكل الظاهرى للأمور ولكنه لو قاسها بمقياس إنسانى دقيق يحدد به العواطف الانسانية بالذات لتعجب أن التدهور أكيد وخفى، فالإنسان الذى رفض نوع الحياة القائم، أو بمعنى أدق الذى انهارت طريقته تماما ليس أمامه إلا أن يصبح أسوأ مما كان أو أفضل مما كان، ولكن ليس أبدا “كما كان’، ذلك أن هذا النوع من الرفض الذى يتعلق بالكيان والكينونة والذى أسميه “أزمة تطور’ يثير نشاط خلايا كامنة تحاول أن تعطى بديلا عن ذلك النظام الذى فشل، وهو بديل يمثل عادة مرحلة سابقة من التطور (بالنسبة للإنسان الفرد وبالنسبة للإنسان النوع)، وتكون مظاهر المرض هى مجموع نشاط هذا المستوى البدائى، وبقايا نشاط المستوى الأصلى، والصراع بينهما، وكنت حين أشرح هذه الفكرة لزملائى الكبار يقولون ما أصعب ذلك، ولكنى حين كنت أشرحها لزملائى الذين لم تنحشر فى أدمغتهم موسوعات العلم، كنت أجد فهما أسرع بل تشخيصا أوضح، فبدل أن تسأل ماذا يعنى قول المريض “أعتقد أن الناس سوف تقتلني’ وهل هذا وسواس أم ضلال، كنا نسأل عن حديثه جملة: هل هو حديث من كيان واحد مثل كل الناس، أم أنه يمكن رؤيته على مستويين، وكأن جزءا من كلامه يعبر عن اتجاه، فى حين أن جزءا آخر يعبر عن اتجاه آخر، وكأن قوله ذلك إنما يعنى مايعانيه جزء من نفسه من الجزء الآخر، وكان ذلك سهلا، ومن واقع التجربة التى سأذكر تفاصيلها فى موضعها العلمى، كان الأمر سهلا لدرجة أنه نادرا ما أخطأ طبيب امتياز أن يتبين أن الذى أمامه واحد أم أكثر بمجرد أن يعرف الطريق، إذا فمقاومة الجديد ليست لصعوبته ولكن ربما لغرابته، وربما لطبيعة البشر فى فترة معينة من العمر.
وكنت بعد ذلك، وبعد أن أدرك معنى اللغة ومصدرها، أتدخل بحماس وإيجابية مؤمنا أن الانسان الكامل لايصح أن يسيطر المخ الحديث فيه على الأمخاخ القديمة سيطرة متحيزة بل ينبغى أن تعمل جميعها فى اتجاه تطورى واحد، فكنت أعطى العقاقير لأهدئى ثائرة الإنسان القديم داخل المريض، ثم لأطلق سراحها فى الإطار العام، لأنه لو، كان الهدف هو مجرد القضاء على نشاطها، فنحن بذلك نرجح أن يستمر الانسان ناقصا مسطحا بلا أعماق، وهذا هو السبب المباشر فى فشل النظام السابق بالمرض، فكأن خلايا الإنسان القديم تقول له- بالمرض- : مادمت أيها الإنسان الحديث نسيتنى وفشلت فى أن تتكيف معى فدعنى أنطلق بلغتى الخاصة، وحتى إذا تحطم الهيكل كله، فعلى وعلى أعدائى… وليكن مايكون.
وهنا ينبغى أن تتدخل الكيمياء حتى لا يكون مايكون، فنهدئ الخلايا الثائرة بالعقاقير الحديثة التى كان لها الفضل فى هذه الرؤية لما لها من عمل اختيارى على أشكال معينة من السلوك، وبالتالى على خلايا ودوائر معينة فى المخ، بل إنى وضعت لها ترتيبا تصاعديا من واقع خبرتى يقابل مستويات المخ فى القدم، ذلك أن بعض المهدئات العظيمة تعمل على المخ القديم السلبى دون الحديث الميكانيكى، وغيرها تعمل على المخ القديم الإيجابى… وهكذا، وهذه الرؤية جميعها هى التى أيقظت انتباهى للتوفيق بين التحليل النفسى والعلاج الكيميائى وتطور البشر وتطور الانسان الفرد، إلى جانب ماأشرت إليه من طريقة “مسح النشاط الأضعف’ بالكهرباء…
كل هذه العلاجات تعمل جنبا إلى جنب فى دقة متناهية، وفى جو من الحب الانسانى الغامر الذى يحتاج إلى فهم عميق، ووقت طويل، وصبر، وقدرة غير محدودة على العطاء، على أن هذه الطريقة العضوية فى التفكير قد تفرح بعض زملائنا المتخصصين فى الأعصاب، إلا أنها أبعد ما تكون عن سابق تصوراتهم:
هم يتحدثون عن خلايا وكيمياء…
وأنا أتحدث عن مستويات وظيفية تعمل فيها الخلايا، ولكنها خلايا غير محددة ولن تتحدد بوسائل البحث الحالية- فهى ترتبط بدوائر كاملة منتشرة فى كل مكان بالمخ غير أن العقاقير تحدد مكانها تطوريا، وليس على وجه الدقة تشريحيا.
وهم يتصورون أن الكيمياء والكهرباء ستحل الاضطرابات النفسية
وأنا أرى أن الكيمياء والكهرباء ستجعل الإنسان أكثر قدرة على السيطرة على الموقف، ولكنه سيحتاج إلى عمق أكبر فى العلاج النفسى، ووقت أطول، وحب أشمل، وصبر وفهم وتطور مستمر…
إذا فهذه الدعوة ليست فى نفس الاتجاه إن لم تكن نقيضا لذلك الاتجاه الميكانيكى المحدود، إذ أنها دعوة عضوية دينامية أساسا، بدأت من ساندرو رادو’ واستمرت فى “هنرى إي’ ووجدتها لاتستكمل إلا بالأفكار التحليلية الجديدة، وفهم مفعول العقاقير والأنثروبولوجيا فهما تطوريا.
وآخر مثال أضربه للاختلاف هو أن بعضهم يقول أن الأمراض النفسية هى نوع من الصرع.
والعلاقة بين الصرع والأمراض النفسية كانت مفتاحا مساعدا للأفكار التى هدتنى إلى التوفيق بين كل شئ، حتى وضعت الأمر فى أسلوب آخر: وهو أن الصرع نوع من الأمراض النفسية فى أغلب الأحوال، فهنا نطلق الكل على الجزء فى حين أنهم يطلقون الجزء على الكل…
وهكذا أعتبر الاختلاف جوهريا وأساسيا بلا أمل فى اللقاء القريب، بل إن المتوقع هو التباعد المستمر، ما لم يتخلوا عن التفكير التشريحى، ويتجهوا أساسا إلى الأسلوب المهنى، حيث الذى يحدد تخصص الطب وفروعه هو طريقة تعليم المعلم لصبيه، وليس المنطقة التشريحية التى يقع فيها الاضطراب.
ومرة ثانية أعتذر عن هذا الاستطراد، ولكنها أفكار حرة منطلقة، مثلث جزءا كبيرا من تكوينى ومن حيرتى، ولا أجد مفرا من أن أشير إليها على الطريق، حتى أرجع إليها بالتفصيل.
وزارة التطور:
أكرر أن الناس جميعا يتصورون العلاج النفسى نوعا من الترفيه والمهادنة، وهذا ما أوحاه إليهم الكلام عن الظروف والعقد، وكله كلام نابع من فكرة التحليل النفسى، ومن كثرة ما انتشرت هذه الأفكار لدرجة معوقة فعلا، كتبت مرة فى نقاشى المتصل مع صديقى د. محمد شعلان أسمى التحليل النفسى بهذه الصورة “التحسيس النفسي’ وفى إحدى ثورات غضبه وافقنى وسماه اسما على نفس الوزن وفى نفس الاتجاه، إلا أنى لا أسمح لنفسى بذكره، وأستعيض بكلمة “التحشيش النفسي’، وإن أنكر ذلك المحدثون من المحللين، إلا أن هذا هو مفهوم الناس عنه، على الأقل فى خبرتى المتواضعة:
يأتى المريض وأهله، يريد أن يتكلم.. هذا حق واجب وضرورى لفهم الحالة ودراسة جذورها، ثم يريد أن يتكلم… لا بأس من ذلك، ثم يتكلم ولايكف عن الكلام، ويبحث عن القصص والروايات… كل هذا طيب، ويتصور أن العلاج يبدأ بالكلام وينتهى بالكلام، ولابأس من تفسير الأحلام على الطريق، وياحبذا لو بررنا الأعراض ووجدنا عذرا لكل تصرف، وكل ذلك مقبول وياحبذا لو بررنا الأعراض ووجدنا عذرا لكل تصرف، وكل ذلك مقبول وموصوف فى كل أنواع العلاج الحديث، ولكن هذا كله مرحلة محدودة، فقد كنت أرى فى كثير من الأحيان كيف يمكن أن تكون هذه المرحلة خدعة كبرى تمهد لمزيد من الهرب من المسئولية ومن التطور ومن الحياة، ولاأنكر أن طول هذه الفترة قد كان له ضحايا فى خبرتى أكثر مما تصورت. فقد كنت أشعر إننا فى بلد ظروف الحياة فيه صعبة، والفرص لاتنتظر، وعندنا من السلبية والتواكل مايكفينا ويكفى عدة شعوب معنا، لذلك فإن الأمر يختلف عن بلد أكثر رخاء، وعرفت بعد عديد من الضحايا أن المريض يحتاج درجة هائلة من التوجيه الإيجابى الذى كنت أسميه أحيانا “الضبط والربط’، حتى يستقيم على الطريق، وإلا فإنه – فى الأغلب- متدهور لامحالة إلى مستوى أدنى من الحياة تحت سمع وبصر اللافتات التحليلية، والآمال النظرية المكتوبة فى الكتب، وكنت أشعر أنه – كما قال أفلاطون “الفرد مثل الدولة’- إذا كان الحل الاشتراكى هو الطريق الوحيد لتطور الأمم النامية فإن العلاج الإيجابى هو الطريق الوحيد لتطور الفرد المتخلف وخاصة فى مجتمع مختلف. وبهذا فقط نحمى المريض من الهرب وهو رافع لافتة مكتوبا عليها تشخيص لامعنى له، يهرب تحته وبالعلاج من الألم اللازم لتطوره، وبالتالى يهرب من المسئولية المقترنة بحريته كانسان، والأهل يساهمون بفكرهم وعطفهم وجهلهم,- أو بعلمهم الذى هو ألعن من الجهل- فى مسيرة التدهور.
وكنت أتسائل دائما: لماذا يصر الناس أن يقولوا أن لكل شئ سببا- وهذا مقبول ومعقول- دون أن يقولوا ولايريدون أن يقبلوا أن لكل وجود هدفا، وهو ليس هدف القوة أو سيطرة كما يقول “أدلر’ بقدر ماهو التطور الذى يشمل القوة، ولكنه يتصف أساسا بالحب والإيجابية والرقى… والذى يذكر ما أوردت من حديث عن تلقف الناس فى غرب أوروبا فكرة التحليل النفسى دون أفكار يونج وأدلر مثلا فى أواخر القرن التاسع عشر، يستطيع أن يقارن مرحلة تطورنا الآن بتلك المرحلة فى غرب أوروبا، فنحن للأسف وللحقيقة نعيش بعقول القرن التاسع عشر، وبعضنا يعيش بعقول القرون الوسطى، أو فى بعض الحالات ماقبل التاريخ، وإن لم ننتبه لنقفز هذه الحقبة بكل مانملك من إيجابيات فلن نلحق الركب أبدا، بل إن هناك أملا فى أن نتجنب حتى الأخطاء التى وقع فيها السابقون الذين تحمسوا للماكينات أكثر مما تحمسوا للإنسان وهم يراجعون أنفسهم الآن، فلنراجع أنفسنا ونتعلم من أخطائهم وننطلق. ولاداعى مطلقا أن يكون الطبيب النفسى عامل هدم وتبرير، بل عليه أن يكون عامل بناء وتطوير، وحين قرأت برناردشو وتمثلت فكرته عن “وزارة التطور’، ورغم هجومه القاسي- الظالم أحيانا- على الأطباء، فقد تصورت أن خير جهاز لهذه الوزارة هم الأطباء النفسيون الإيجابيون، حيث يرون الإنسان فى مسيرته نحو نوع أرقى ويدرسون الظروف التى تسمح له بالنمو النفسى الإرتقائى، ويوجهون التعليم والتربية إلى صنع الانسان الحديث، واكتساب عادات ارتقائية، لتصبح غرائز المستقبل، ونوفر بذلك ضياع أجيال قادمة تقاسى من هزيمتها الداخلية، وقهرنا الخارجى لها.
أنا حر:
”أحضر إلى العلاج أو لا أحضر … أنا حر…”
”أعيش إنسانا أو أتدهور… أنا حر..”
”أستغل المرض والعلاج لصالح التبرير والاستسهال أم أعالج فعلا وأنتصر… أنا حر..’
”وحريتى أكتسبها لأنى إنسان.. وأنا إنسان لأنى ناطق؟ !! إلى أين تقودنا دعوى الحرية؟….
”أقتل الثوار فى فيتنام؟ …. أنا حر…”
”أستولى على أرضك ووطنك لأدعو إليها مهاجرين جددا… أنا حر….”
”أحرمك من التعبير ضد رأى الحكومة…. أنا حر…”
”لأنى أقوي- أقوى فى الخير أو فى الشر، هذا تقدير شخصي- فأنا أفعل ما أريد… لأنى أستطيع ماأريد…”
كنت ومازلت من أكثر الناس تعصبا للحرية.
كنت ومازلت أدرك أن الحرية مقترنة بالعدل والمسئولية معا، لايوجد أحدهما دون الآخر.
وفى مجموع نشاط الشعوب سوف تنتصر الحرية لامحالة مهما تعثرت أو أسئ استعمالها، ولكن من واجبنا ومسئوليتنا أن نحد من النكسات بكل قوة حتى نوفر الوقت الضائع على طريق التطور بأن نتمسك بالعدل الذى يتيح حرية أكبر.
أما فى نشاطى الفردى فقد كانت مشكلة الحرية أكثر تهديدا وتحطيما للفرد.
وقد رأيت فى تجربتى أنه لايمكن أن يتحرر منطق الإنسان ودعاواه، دون أن تتحرر ذاته وخلاياه حتى الأعماق.
ولايمكن أن تتحرر ذاته وخلاياه بأن يرجح نشاط مخ على نشاط مخ آخر، بأن نرجح المادية على سمو الإنسان، أو نرجح الغريزة على التطور، أو يرجح المنطق على الحدس، ولا العكس فلن يتحرر الانسان بأن يلغى ماديته أو يتناسى غريزته أو يهمل حدسه، وإنما الحرية الحقيقية هى أن تعمل كل خلاياه وتركيباته التاريخية والحالية فى كل جديد يهدف نحو التطور.
وبكل أسف فقد كانت خبرتى تسمح لى برؤية الناس من الداخل، ربما أكثر مما ينبغى، ووجدت أن أبعد الناس عن الحرية هم الذين ينادون بها، من الفريقين، وكلما علت الشعارات ورنت الألفاظ كلما كان أسهل على أن أضبطه متلبسا بالتحيز والطمع والذاتية المطلقة…
وممارسة الطب النفسى بمفهوم التطور من أكبر الأمور تعرضا لحرية المريض، فبشكل ما يمنع الطبيب المريض من إغماض عينيه، ومن التغاضى عن مصيره، ومن انتصار السلبية ومن الاستمرار فى تكرار أسلوب آبائه، باختصار يمنعه من الضياع ومن التدهور..
والإنسان يشكو من الضياع ويخاف من التدهور وهو دون أن يدرى ومهما رفع من لافتات يصر على الضياع ويسعى حثيثا إلى التدهور، وأخطر صور التدهور أن يكرر جمود آبائه، أو أن يمارس حريته ضد تطوره، وأصعب الأمور على الطبيب النفسى الإيجابى هو أن يكسب هذه المعركة، أن يظهر للمريض كيف أن الحرية التى ينادى بها هى منتهى العبودية، لأنها حرية جزء على حساب الكل، هى أحيانا حرية الفرد دون حرية المجموع، وهى أحيانا حرية العقل أو الجنس دون حرية المشاعر أو الإيمان، ولاأعنى بالإيمان التدين
وإعادة النظر فى كل ذلك يصلح القول الشائع أن البقاء للأقوى، إذ أن البقاء للأصلح وليس للأقوى والصلاح هنا يأتى من قياس مدى مايتمتع به الانسان من الصفات الخاصة بالإنسان.
والسلاح الأول الذى وجدت أنه يساعدنى على التغلب عل التدهور مع سبق الإصرار والترصد هو “الحب’، لابد أن يصل حبى للمريض أولا، لابد أن يدرك أنى معه على كل حال. ومع الغد، ولكن الحب وحده لايكفى، والكلام وحده لايكفى، والتداعى “الحر’ وحده لايكفى، كل هذه مراحل تمهيدية لكسب الأمان والثقة، أما لو توقفنا عندها فإننا نمارس العجز شخصيا مثل الداعين للسلام بدون سلاح، ذلك لأن التدهور لايرحم، وهو يستعمل كل الأساليب والقوى حتى يتم دورته، وألعن الأساليب هى الأساليب الخفية التى تحتمى تحت ستار الحرية.
”أريد أن أعالج بطريقتى أنا”
”أنت هنا لتسمع.. وتريحني”
’ لاأريد أن أتألم.. وإلا لماذا جئت”
”أنا حر… أفعل ما أشاء حتى الانتحار”
وكان الانتحار عندى أصنافا ربما كان أخفها قتل الجسم، لأن قتل النفس قد يتم فى مجال العواطف السامية، أو التفكير الحر، أو العمل الإنسانى ليحل محلها بقايا من السلوك الروتينى البالى الذى لاقيمة له كل ذلك تحت ستار الحرية..
وأول شكل لممارسة الحرية فى العلاج هو ممارسة حرية الهرب من العلاج، ولعل أغلب الأطباء ذوى الخبرة فى العلاج الطويل يتحدثون عن نسبة توقف العلاج التى تبلغ أضعاف نسبة إكماله، إذا فالحب وحده لايكفى فانما هو يمهد للخطوة التالية ليس إلا، لأنه يمكن أن يساء استعماله أو تأويله، إذا لابد من خطوة تالية للضبط والربط، وتأتى الخطوة عادة عن طريق التعاون مع كل المعنيين وأولهم الأهل..
موقف الأهل:
وكانت أكبر عقبة تقف فى طريقى إزاء هذه الخطوة هى موقف الأهل الذى يمثل لى عجزا أساسيا عن السيطرة على البيئة المحيطة، والأهل منطقيون فى موقفهم فهم يهدفون إلى راحة أولادهم وذويهم بالعلاج، على شرط أن يصنعهم العلاج على الشكل الذى حددوه لهم، لابد أن يكون الطفل (أعنى الشاب أو الرجل) مطيعا هادئا بارا لحساب الأهل أولا وبمنطقهم ومثلهم على وجه التحديد، وأنا أوافق أنه لابد للمريض أن يكون إنسانا فاضلا إيجابيا مسئولا ملتزما، ولكن الذى أختلف معهم فيه أن يكون كذلك لحساب غيره وليس لحساب نفسه أو غده، الذى أرفضه أن يكون الأدب خوفا والذى أدعو إليه أن تكون الفضيلة اختيارا، الذى لاأوافق عليه أن تكون الطاعة عمياء، والذى أعنيه أن تكون الطاعة فهما وترجيحا وحرية واختيارا. أو لا تكون..
وهذه كلها اختلافات جوهرية وضخمة، فأنا أحتاج الأهل ليساعدونى فى البناء حتى لايسمحوا بعطفهم أو ترددهم للمريض بالتراجع، والانهيار وهم ينقسمون إلى فريقين: فريق يشترط أن يكون التحسن لحسابه ولمنفعته وقد بينت اختلافى معهم إزاء ذلك، وفريق آخر يتراخى ويضع كل المسئولية على الطبيب يبرئ بذلك نفسه، ويعلل كل الاضطرابات والأعراض بالمرض، وكأن ذلك مبرر لفشلهم وفشله فى نفس الوقت.
وكان على دائما أن أكسب جانبهم بطريقة ما، ولو برشوة تحصيلية، كأن تكون المكافأة على تعاونهم أن أوحى لهم أن هذا هو الطريق إلى النجاح فى الدراسة مثلا… وهم فى ذلك يضحون بالغالى والرخيص وأول ما يضحون به هو رأيهم الخاص إذا مالوحت لهم بالنجاح!
ولكى أحدد المشكلة أضرب مثل فئة المرضى التى كانت تثير اهتمامى دائما، وتحيرنى فى نفس الوقت، وهى تلك الفئة من الطلبة على عتبة الثانوية العامة أو على أبواب التخرج، الذين يصابون بالتوقف الدراسى المفاجئ، وقد كنت فى أول الأمر ألتمس لهم العذر وأحاول معهم بالطرق السلمية، وأهلهم يشجعون على ذلك، وكانت أغلب هذه الحالات من الحالات غير المحددة التشخيص التى تحدثت عنها سابقا: الحالات ال “بين – بين’، وكانت المشكلة تبدو فى ظاهرها بسيطة إلا أن تكرار الرسوب وعدم دخول الامتحان تحت سمع وبصر العلاج جعلانى أعيد النظر فى كل شئ، فبعد أن كنت أعتبر هذه المضاعفات من مظاهر الاضطراب نتيجة للقلق العادى لأى مقبل على امتحان مهم يحدد مستقبل الطالب بدأت أرى هذا القلق مهددا لكيان الشاب وليس لمجرد تحقيق نجاحه، حيث يكون الشاب فى هذا الصدد بلا معالم إلا الكتاب، فأهله ربوه على أن قيمته تتحدد بمدى استيعابه للكتاب، وهو قد حقق قيمته فعلا بهذا الكتاب، فإذا تعرض كيانه للتهديد فى صورة الكتاب، أو ظهر احتمال عدم التوفيق، فإن الأمر ينتقل إلى مرحلة أخطر من اضطرابات الكيان.
وكنت فى أول الأمر أتصور الأمر فى صورة معادلة:
أنا أستذكر… أنا خائف,… أنا لاأستطيع الاستذكار
ولكنى رأيته بعد ذلك فى هذه الصورة:
أنا كتاب… الكتاب مهدد بالضياع… أنا مهدد بالضياع.
وهنا يصبح الحب أساسيا ليس لمجرد إزالة الخوف من الموقف ولكنه يتعلق بالكيان ذاته ويصبح بعد ذلك التوجيه والعمل مكملا ضروريا للخطوة الأولى، لأن الانتظار فى هذه الأحوال ضيع معى فى سنى ممارستى الأولى عددا هائلا من هؤلاء الشبان الممتازين، حيث كانوا ينزفون قواهم النفسية تحت سمعى وبصرى، وأخيرا فقد أصبحت أتخذ موقفا واضحا بالنسبة لهذه الفئة وغيرها ممن هم فى مفترق الطرق.
العمل:
كنت أشترط أنه على الانسان أن “يعمل’ حتى يمكن لعلاجه أن يستمر، ولاتوجد أجازة علاجية فى مثل هذه الحالات، وليس مهما نوع العمل ولكن المهم مبدأ العمل، فالطالب مثلا إما أن يعمل طالبا أوصبى مكوجى، ونستكمل العلاج فى الحالتين، وأكرر أنى كنت لاأضع هذا الشرط إلا بعد أن تصل علاقتى العاطفية بالمريض درجة تسمح لى بالحديث فيه.
ولم يحدث فى خبرتى المحدودة أن قبل مريض من هذه الفئة- فى أول مراحل المرض- هذا الشرط إلا وتغلب على صعوبته وانطلق فى دراسته، وربما هربا من البديل.
ولم يحدث أن عارض الأهل هذا الاقتراح علنا أو سرا إلا وبقينا نحرك أرجلنا “محلك سر’، نبحث عن العقد النفسية والأسباب الخفية وراء “المسألة الاستذكارية’.
وأهم خطوة فى هذا السبيل هو أن يتيقن الطالب، من خلال الحب، أن الاستذكار والكتاب هما وسيلة لاغاية، وأن هذا الطريق هو الطريق الوحيد الذى سيكسبه القوة، ومن ثم القدرة على الاستقلال، وأنه رغم أنى أنصحه وأصر على أن يستذكر، إلا أن هدفى يختلف تماما عن هدف الأهل أصلا، وكان تحويل مفهوم الشاب من معنى إلى معنى آخر يحتاج إلى استغلال علاقتى به والارتباط الشرطى لاستجابتى له أو لسلبيتى إزاءه، فبمجرد أن يبدأ الاستذكار أقترب إليه أكثر لمدة أيام وأسابيع وشهور دون الاشارة من بعيدا أو قريب للاستذكار، أما إذا توقف فان الجلسة كلها تتحول إلى نقاش عن المذاكرة وكأن وسيلة اقترابى منه هى أن يزيح جانبا هذا الموضوع السخيف الذى يحول بينى وبينه، وكأن الاستذكار هو بداية العلاج وليس نهايته، وهو حريص على أن يجد نفسه معى كما أجد نفسى معه، لذلك لم يكن الثمن غاليا أو معوقا… وهذا المفهوم هو خليط بين فكرة العلاج النفسى الشخصى والعلاج السلوكى (والاقتراب بينهما يزداد كل يوم)
القسوة:
كانت- ومازالت- أصعب الأمور على نفسى أن أقسو على صديق مريض، جاء يطلب منى النصح ويضع ثقته فى، وفى أول حياتى كنت لينا مريحا بصفة عامة لأنى لم أكن أستطيع أن أقسو، كنت أخاف من ذلك. فهذا أسلوب خطير فى العلاج وفى غير العلاج. ولكن حين ضاع أعزاء على بالانتظار حتى التدهور رأيت أنه من الأنانية ألا أقسو، فإذا كانت القسوة تؤلمنى أساسا مما يجعلنى أتجنبها، فإن معنى ذلك أنى أفضل راحتى بالسلبية، عن ممارسة إنسانيتى بالقسوة.
والحقيقة أنه لكى يسمح الانسان لنفسه بالقسوة لابد أن يكون قادرا على الحب بدرجة أكبر بكثير من درجة القسوة التى يمارسها، وهذه القدرة على الحب تتناسب تناسبا طرديا مع درجة الحرية الشخصية التى يتمتع بها، وكذا درجة العدل وعدم الذاتية فى ممارسته لمهنته وحياته، وهذه كلها متطلبات من أصعب ما مر على لأن الناس جميعا يتصورون أنفسهم أحرارا عادلين، ولكن الذين مروا بخبرة الحرية الحقيقية يستطيعون أن يقيموا كل ادعاءاتهم السابقة على أنها شعارات هروبية ليس إلا، إذا فلا يمكن أن يمارس معالج القسوة، ويسمح لنفسه أن يقول أن هذه القسوة لحساب المريض، إلا لو كان هو سليما حرا قويا، وهذه درجة- للأسف- لا يصل إليها الإنسان ببساطة بل هى تحتاج إلي معاناة وصبر ويقظة وولادة ونمو وحب لاحدود لها، ومن أين يأتى الإنسان بهذا كله وهو بشر له ضعفه ومشاكله وخوفه وخباياه، إذا فلا بد للطبيب النفسى أن ينتصر معركته إذا كان سيسمح لنفسه أن يساعد الناس لدرجة القسوة، ولعل هذا هو السر الذى تشترطه أحيانا بعض مدارس التحليل: أن يقوم المحلل بالتصالح مع نفسه أولا، ولكن فى اعتقادى أن التصالح وحده لايكفى، بل أن الدرجة التى ينبغى أن تتوافر فى الطبيب النفسى الإيجابى درجة أكبر من التصالح، إذ لابد أن يكون كيانا إنسانيا، وأن يتمتع بالطفولة القوية والشباب الدائم، يرى الغد أرحب ويصمم على المساهمة إيجابيا فى المسيرة، وبالتالى يسمح لقسوته أن تنطلق دون أن يخشى شيئا.
ولا يمكن للقسوة أن تكون ذات قيمة إلا إذا كانت الخيوط فى يد الطبيب، وكل الامكانيات تحت تصرفه، إذ لابد من تعاون مطلق من الأهل وحرية حركة فى استعمال العقاقير والكهرباء مثلا، كل ذلك حتى يفقد المرض فائدته ووظيفته، فيتكسر تحت ضغط القسوة الحانية، فينطلق المريض إلى الصحة والارتقاء…
وقد شبهت مرة الموقف أنه إذا كانت الذات الحقيقية مختبئة وراء قشرة صلدة من المرض والامبالاة، فإنه إذا هوى عليها الطبيب ليكسرها تحتم أن يضعها على أرضية صلبة (وهى البيئة المتعاونة)، أما إذا كانت الأرضية رخوة فإن الضرب على القشرة سوف يغوص بها بعيدا عنه، ولن يشعر المريض بفشل مرضه أبدا، بل سوف يشعر بمزيد من الألم يبعث مزيدا من الهرب… أى من المرض.
مرت على كل هذه الأفكار ولم أنطلق فى استعمال القسوة إلا مترددا هيابا حتى قرأت عن وجهة نظر “أدلريه’ عظيمة فى علاج مرض الفصام، إذ قام “روزن’ بعمل فريق علاجى (يتكون من مرضى سابقين أشداء) يحرم المريض من وحدته ومن مرضه ومن أى ميزة يمكن أن يتمتع بها فى المستشفى نتيجة لمرضه، وكأنه يفرض عليه اختيارا آخر هو أن ينطلق إلى الصحة خوفا من عواقب المرض، والفرق بين هذه الطريقة والطرق التأديبية التى كانت تتبع فى القرون الوسطى هو إضافة الحب والفهم والكيمياء والكهرباء، أو هو الفرق بين قسوة الوالد ليصبح ابنه فى الاستذكار أول الفصل، وقسوة الطبيب ليصبح الطالب بالاستذكار ندا لوالده، وربما يبدو ذلك فرقا طفيفا، ولكن الذى يمارس التجربة سيعرف أن هذا الفرق الطفيف هو كل شئ فى العلاج.
اختيار المرض:
الاختيار هو ترجيح شعورى لرأى دون آخر أو لطريق دون آخر، هذا هو الشائع عن الاختيار وهو نفس الاشاعة التى تشوه الحرية التى هى نوع من الاختيار، ولكن بما أن فى النفس “لاشعورا’. أو قوى أخرى “غير الشعور’ تختار طريقا ما، فلماذا لا نعتبر ذلك اختيارا أيضا، إه بلا شك اختيار، فإذا درسنا القوى التى جعلت هذا الاختيار غير الشعورى هو اختيار للمرض بدلا من اختيار الصحة فاننا نستطيع أن نهاجم هذه القوى بطريقة علمية منظمة، حتى يصبح اختيار المرض – بغض النظر عن كونه شعوريا أو لاشعوريا- اختيارا فاشلا، وبمجرد أن يفشل الحل المرضى فشلا تاما فإن علينا واجبا آخر أن نعطى بديلا أحسن، ليس أحسن فقط من الحل المرضى، ولكن أحسن أيضا من الحل قبل المرض، أى أننا إذا كنا بسبيل الوقوف بقسوة بجوار المريض فإنه ينبغى أن نفهم لماذا فشل الحل الآخر حتى لجأ الشعور أو اللاشعور إلى اختيار المرض، ولانحاول بعد ذلك أن نكررالمحاولة بمجرد استعادة القديم، بل نهيئ الظروف إلى بديل أرقى وأفضل..
وفى حيرتى كنت أحذر المريض وهو فى طريق الشفاء أن يحسن لنفسه ما سبق رفضه بالمرض، بل إنى كنت ألاحظ أن الأعراض تظهر بمجرد أن يحدثنى عن رغبته فى العودة إلى ما كان، وكان الحوار صريحا وواضحا فأنا أشجع الرفض لأنى أوافق على مبدأ الرفض، ولكن ليس على طريقة الرفض بالمرض، وفى تجربة “روزن’ التى أشرت إليها كانوا يلجأون إلى إفشال الحل المرضى بأن يتصرفوا مع المريض تصرفات أشذ مما يأتيه حتى تصبح تصرفاته المرضية لامعنى لها ولافائدة منها، أو على حد تعبيرهم كانوا يتصرفون “بجنون’ أجن من جنونه’ Behave more psychotically than his psychosis وبهذا يفقد الجنون معناه ووظيفته…
وأنا فى خبرتى لم أمارس ذلك على وجه الدقة، لأن هذا يتطلب مستشفى وفريقا قويا محبا متعاونا يحيط بالمريض من كل جانب، وخلال أربع وعشرين ساعة فى اليوم، إلا أنى وجدت نفسى وأنا أمارس درجة أقل من القسوة أساعد المريض فى اختيار الصحة، أو على الأقل فى اختيار الحياة العادية، فمثلا فى مرة من المرات كان عندى طالب أحببته لذاته ولمواهبه المتعددة، وكان ذكاؤه من النوع النادر وآماله فى الدراسة أكثر مما يحتمل كيانه، حتى أنى فى مناقشتى معه أظهرت له أنه مثلا يريد الحصول على 200% فإذا ماحصل على 98% فإنه يصاب بخيبة أمل عظيمة لأنه خسر 102% وكأنه خسر أكثر مما كسب، وتكرر هذا الحرص البرجوازى الأصيل فى كل مجال، حتى تحطم الشاب، ورفض الاستذكار، ووجدتنى أقسو على الحل المرضى رويدا رويدا، وحتى على الحل العادى فأحطم فائدة الاستذكار بهذه الطريقة، بل وفائدة الحياة بهذه الطريقة التنافسية التى لا يمكن أن تحل إشكالا ما، وصارت محاورات ومناقشات وحب وصراع حتى انطلق فجأة يعدو هربا منى إلى حظيرة الاستذكار، وكنت فى ذلك محقا لأنى بعد أن أفشل العملية المرضية أتركه بين أمرين: إما أن يرتقى بالرفض الصحى، وإما أن يعود “كما كنت’، وفى الحالتين هو الكاسب بالشفاء، أو بالعودة، وكلاهما أفضل على كل حال من المرض.
كل ذلك يتم – ولن أمل التكرار- تحت مظلة من الكيمياء والكهرباء وعلى أرضية من بيئة صلدة متعاونة.
وبعـد
فقد أردت فى هذه العجالة وأنا أتحدث عن العلاج أن أوضح كيف أن العلاج هو جزء من الحياة منظم بقيم علمية محددة، وتجارب إنسانية مسجلة، ولكنه فى النهاية مثله مثل الحياة علاقة بين إنسان وإنسان بكل معنى الكلمة، وليس بين مريض وطبيب، أو بين واحد ممدد على أريكة وآخر سارح خلف نظارته، وأردت أن أوضح أنه بعد حيرتى وترددى إزاء طرق العلاج المختلفة أصبح مفهوم العلاج عندى واسعا تطوريا إيجابيا فلا أقتصر على علاج الاضطراب النفسى وإنما أعنى أساسا بعلاج التدهور الانسانى، وقد أردت أن أظهر للقارئ كيف يمكن أن تعمل كل وسائل العلاج فى تكامل بناء، وأن أوضح الحيرة التى تقاذفنى من وسيلة إلى وسيلة، ثم الصحوة الإيجابية التى التزمت بها مؤخرا.
وإنى إذ أعتذر عن بعض التفاصيل أعتذر أيضا عن بعض الاجمال ولكن هكذا كان الحال:
تعلمت من الكتاب فلم أفهم
درست على أساتذتى فلم أقنع
ثم مارست البحث والحساب… فلم أهدأ
ثم تعلمت من المرضى ومن فشلي
وانتصر الطبيب على الشاب المتحمس فترة من الزمان
ثم انتصر الانسان أخيرا… واستعمل الطبيب لصالحه وتغير الحال.
الفصل السادس
ولادة فكرة
“يخيل إلى أنه قيض لى أن أكتشف أكثر الأمور بداهة”
سيجموند فرويد
فى قراءاتى فى الطب النفسى ومايتعلق به كنت- ومازلت- أعانى من ظاهرة غريبة تماثل ظاهرة الألفة أو “الرؤية السابقة” Deja vu، وهى تعنى أن الأشخاص أو الأشياء التى نراها لأول مرة نشعر وكأننا رأيناها قبل ذلك، وقد لاحظت ذلك على نفسى منذ البداية، ولعل السبب الأول فيه هو أنى كنت فى أول تدريبى فى مهنة الطب النفسى كطبيب مقيم أجلس مع المرضى أكثر مما أقرأ فى الكتب، وربما لأن المنهج حينذاك كان يلزمنى بالحصول على دبلوم الأمراض الباطنية أولا قبل دبلوم التخصصفى الأمراض النفسية والعصبية وحين بدأت التحضير لهذا الدبلوم الأخير كان على أن أقرأ الكتب الكاملة بشكل تحصيلى منظم، والقراءة للتحضير للامتحان غير القراءة للعلم أو للممارسة طبعا، وحين أخذت أقرأ كتابا جامعا مثل كتاب Mayer Gross أحسست وكأنى قرأته قبل ذلك، ولم يؤكد لى العكس إلا أن صفحة كانت خالية من التخطيط والتعليقات التى أشوه بها – أو أزين بها- ما قرأ، وأحسست حينذاك أن معايشتى للأصدقاء المرضى كانت معايشة كاملة حتى إذا ما قرأت عنهم فيما بعد أعراضهم وتصنيف أمراضهم لم أجد فيها غرابة مهما اختلفت المدارس.
وكان موقفى تجاه المدارس المتعارضة موقف المتقبل للتناقضات، لا قهرا بل فهما، وكنت أتعجب من ظاهر التناقضات التى تتفق فى العمق إذا ما انتصرنا على نظرة التعصب لكل مدرسة، فكنت أقبل من كل ما يوافق إحساسى وفهمى، وهذ هو الموقف الذى يسمى الموقف الاصطفائى Eclectic، وهو أن يصطفى المرء من كل طريقة جانبا ثم يؤلف بينها ما يتفق مع هدفه وتطبييقاته، وهو موقف فيه من الحرية بقدر مافيه من التساهل والهرب، يلجأ إليه من يعلم الكثير ويمارس الصدق مع نفسه فلا يقبل إلا ما يوافق غرضه- وهو هنا خدمة المريض- ويكون حين ذلك “اختلاف المدارس رحمة”، كما يلجأ إليه الذى لايعلم شيئا.. إذ هو يفعل مابداله تحت ستار اختلاف المدارس مطمئنا إلى أن التبرير على مايفعل ممكن، وبذلك لايتقيد باتجاه معين ولن يعدم أن يجد تفسيرا للشئ وضده. وهنا يكون اختلاف المدارس خطرا ونقمة.. لأنه باب للهرب وليس دعوة للصدق.
لذلك فقد كنت ألجأ لهذا الموقف الاصطفائى ولكنى أسعى إلى تخطيه فى نفس الوقت، وكلما حاولت الارتباط بمدرسة من المدارس لم أنجح ، إذ أن عطشى للعلم كان عظيما، وتفتحى للحرية كان ملحا، ولم تنجح أى مدرسة فى أن تروى عطشى أو تطلق حريتى أو تتفق مع نظام عقلى، وكانت حجتى دائما أنى طبيب ومهمتى الأولى أن أخدم المرضى، والمريض لايهمه إن كنت فرويديا أو يونجيا أو سلوكيا محدثا أو بافلوفيا ولكن يهمه أنه إنسان يعانى، ووظيفة الطبيب النفسى أن يساعده فى أن ينتصر على ضعفه ومعاناته ليستقيم بعد ذلك على الطريق، فإذا مافعل فإنه ينطلق إلى السلامة والتطور دون أن يلتفت إلى مافى عقل الطبيب من معلومات أو معتقدات أو مدارس.
صراع لا هوادة فيه:
والصراع بين مدارس علم النفس صراع لا هوادة فيه، وهناك محاولات حديثة للتوفيق لصالح الإنسان، ولكن التعصب مازال على أشده والمعارك مستمرة فى كل مكان، وهى تصل إلى من ينكر وجود اللاشعور أصلا، كما تصل فى الناحية الأخرى إلى من ينكر الأساس البيولوجى للأمراض النفسية تماما، وكان موقفى إزاء هذا وذاك أن أقبل إيجابيات كل منها ولاأجد فى ذلك تعارضا أبدا، ولايجد المريض معى تذبذبا أيضا، وكنت دائما أشعر أن هذا هو الطريق الذى سيوصلنى إلى شئ ما… يوما ما، لأنك إذا رفضت الفكرة ابتداء قلت معرفتك بالأصول المشتركة، أما إذا قبلت كل وصف صادق ومشاهدة علمية، ثم بحثت لها عن مكان ملائم فى إطار كامل فأنت تهيئ للحمل السليم… الذى قد ينتهى بولادة مخلوق جديد.
وحين حضرت “هنرى إي” وتتبعت فكرته عن التزاوج الديناميكي- وليس الميكانيكي- بين الجهاز العصبى وتطور الإنسان- كفرد والنوع- أحسست أنى قريب مما أريد، ولكنه ليس كل ماأريد.
وحين توصلت إلى تصنيف الصحة النفسسية تصنيفا تطوريا (راجع الملحق) حاولت أن أربطه بتقسيم جديد للأمراض النفسية لم يشف غليلى، وأحسست أن الفكرة تنير جانبا من الطريق وليس كل الطريق، وقد كتبت أول نسخة من المقال عن الصحة النفسية فى فرنسا وحين عرضته على صديقى بيير فى شكله الأول قال “ماذا تريد أن تقول؟” قلت “ماقرأت” قال ” لا.. يخيل إلى أنك تريد أن تقول شيئا أكبر.. وعليك أن تهب حياتك لهذا الشئ حتى تقوله بشكل كامل” وحين تساءلت عن هذا الشئ، قال: “ستعرفه يوما ما”.
وظننت أنه يستعمل طريقة أوروبية مهذبة ليقول أن هذا المقال ناقص، أو غير واضح، وأخذت الأمر على هذا الاعتبار، ولكن كلماته ظلت ترن فى أذنى “شيئا لابد أن أهب حياتى له”.
وعشت أحمل المتناقضات فى عقلى، وأقبل منها بعض التلفيقات التى تعيننى على المسيرة مع المرضى، ولكنى قلق لا أهدأ، أبحث عن الشئ بغير وعى، ولا أرضى عن فرعى ولا عن وظيفتى كطبيب يمارس عمله “كالمطيباتي” تعينه الكيمياء وأحيانا الكهرباء، ولكنه مغمض العينين فى كل حال، فاذا فتحهما سلك سبيل التحليل والتبرير والتفسير، وحين قرأت آخر تطورات التفسير الديناميكى للتحليلين ووجدتهم ينتصرون على فرويد ويتخطونه، أحسست أنى أقترب أكثر من الفكر التحليلى رغم أنى أرفض تماما بعدهم عن الأسباب البيولوجية كعامل أساسى وهام فى المرض النفسى.
***
وعشت حيرتى أياما وشهورا وسنين..
***
وفى يوم الاثنين الثانى عشر من أبريل الماضى (1971)، وكنت جالسا مع مريض صديق بعيادتى الخاصة، أستمع إليه ولا أستمع إليه، وجدت أن الأمور المتناقضة جميعا قد ارتبطت ببعضها البعض فجأة، وأن كل الأضداد (أو معظمها) استدارت من موقف المواجهة إلى موقف التماسك والتآلف، وارتبط الانسان الفرد بالإنسان النوع، واستقر الأنا الهارب والأنا الناكص والأنا المنقسم (التعابير من الفكر التحليلى الجديد) فى قاع خلايا المخ، وصعد فرويد إلى أعلى طبقات النفس وأكثزها سطحية، وكأن كل شئ أشرق فجأة… وتفاهمت الكيمياء مع الكهرباء مع التحليل النفسى مع التطور.
وتعجبت من كل هذا.. فرحت به، وخفت منه فى نفس الوقت.
واتصلت تليفونيا بزميل صديق، فلم أجده..
وانطلقت أشرح أفكارى للصديق المريض أمامي- بلغة قريبة منه ومن مشكلته- وكان للجديد وقع عنيف على… وقال لى الصديق المريض “ما أنا عارف”، وعجبت، وتذكرت حقيقة قديمة وهى أن الأصدقاء المرضى يعرفون النفس أدق وأصدق من كل النظريات، وذهبت آخر النهار لزميلى الصديق ومعى زوجتى… ولم أجده، ولم أستطع الصمت، وأخرجت ورقا من مكتبه وانطلقت طوال ساعات ثلاث أشرح لزوجتى الفكرة وأرسمها على الورق وأربط الآشياء ببعضها البعض.. ولا أعرف إن كانت قد أدركت التفاصيل أم لا.. ولكنها كانت تتابع أفكارى الأغلب بقدر من الحب يشجعنى أن أقول مالا يعنيها دون تحرج..
وحين حضر زميلى وزوجه تواعدنا أن أشرح له الفكرة فيما بعد..
وخلال أيام كنت أعيد القصة عليهما مع زوجتى من أولها لآخرها… وسألتهم هل هناك جديد؟ فقالوا: يبدو ذلك…
وفى ليلة تالية حلمت أنى أكتب خطابا لصديقى بيير فى باريس الذى قال تعليقه عن الشئ ال “ما” الذى ينبغى أن أهب حياتى له، واستيقظت فى جوف الليل وأخذت أكتب له وأكتب حتى أكملت أكثر من عشر صفحات، وأرسلتها فورا دون أن أحتفظ بنسخة، ولم يرد (ولا أدرى حتى الآن إن كان خطابى قد وصل، وخجل أن يسفه آرائى فى الرد، أم أن رجال البريد أحسوا بثقل وزنه فتخففوا من جهد توصيله).
واستمررت بعد ذلك أمارس المهنة، ولكنى وجدت أن الأسماء القديمة تعوق فهمى أكثر وأكثر، وأن الفكرة الجديدة تلح على فى أن أبحث عن أسماء جديدة، وفعلت…
ووجدت أن هذه الفكرة أكثر تقبلا وفهما من التعقيدات الشديدة والألغاز التى كنا نحاول أن نفهم بها الانسان المريض.
ووجدت أنه حتى العلاج أخذ طابعا آخر ومراحل أخرى، أصبح أوضح وأبسط وأسرع وأكثر ترابطا.
وطبعا شككت فى كل ذلك، ولم يشك فيه مرضاى ولا زملائى (الصغارمنهم طبعا) وقلت أبدا,: هذه صحوة من صحوات الحيرة أردت بها أن أهدئ من حيرتى فترة ما، وأن هذه الفكرة موجودة من قديم وقد انجلت فجأة… هذه هى كل الحكاية… لابد أنى قرأتها يوما.. أو أنى سأقرؤها يوما…
وذهبت أبحث عنها فى كل ما تصل إليه عينى مما قرأت، وذهبت أناقشها مع كل من أثق فى سعة إطلاعهم، ووجدت جزئياتها موجودة فعلا، ولكنها ليست موجودة إطلاقا ككل متكامل…، قال بها “فرويد” عندما تحدث عن غريزة الموت والحياة، وقال بها يونج وهو يغوص فى اللاشعور الجمعى، وفى حديثه عن تاريخ الانسان النوع وضرورة تحقيق ذاته، وقال بها “إريك اريكسون” وهو يضع الانسان فى تطوره الاجتماعى وكأنه عدة أناس بعضهم فوق بعض، وقال بها ساندور رادو، وإريك فروم، وكارن هورنى وفيدبدن وجنترب وهنرى إى وزرادشت ونيتشه وبرجسون وبرناردشو وكل الناس.
ولم يقلها أحد.
وكنت حين أقرأ بالانجليزية والفرنسية ولا أجد هذه الفكرة، أقول لنفسى لابد أنها كتبت بالألمانى. فهناك الأصالة والتطور وأنا لاأعرف الألمانية، إذا فلا جديد. ولكنه بالرغم منى، بدا لى كل شئ جديدا.
وبعد شهور طويلة حين استقرت الأشياء وأخذت الأسماء الجديدة مواضعها التقريبية، كتبت إلى زميلى وصديقى الدكتور محمد شعلان خطابا سيئا للغاية حاولت أن أقدم له الفكرة ببعض التفاصيل، وبعد أن شرحت فيه وجهة نظرى فى أن انتشار فرويد لم يكن لأصالته، وإنما لحاجة الناس إلى تبرير توقفهم التطوري- أو تدهورهم- خلال القرن التاسع عشر، قلت له:
”يامحمد: إما أن نساهم إراديا فى التطور أو نموت، والمسألة تحتاج إلى حوار متصل، ولكنها لاتحتاج- فى نظري- إلى تحليل منظم، المسألة تحتاج إلى حب جارف، وصدق، وتقشف نفسى، وتصوف، وإيمان بالأصل، وبالاستمرار، ويقين بالغد، وبكل ماهو أصيل… وأين هذا كله؟
هو موجود عبر التاريخ، وهو الذى يجعلنا نفخر بأن ننتمى إلى هذا الجنس من المخلوقات…. ليس هناك جديد بمعنى الجديد، وإنما الجديد هو فى إعادة تنظيم القديم، أنا لاأشك أن هناك حوالى ألف أو قل مائة- فى مجال الطب النفسى فقط- يفكرون فيما أفكر فيه الآن، أنا لاأشك أنى إن لم أكتب مايدور فى وجداني- الشئ الذى يلح على فيه البعض الآن- لاأشك أن غيرى سيكتبه، وربما أفضل، وحين أرسلت إليك مقالتى عن الصحة النفسية قدمت لها أقترح أن تعتبرها نوعا من الضلال المنظم Systematized delusion، فإذا كان الضلال ماهو إلا دفاع ضد الجنون المطبق، فقد أطبق، إلا إذا أردت أن تعتبر أن هذا الجنون فى خدمة الذات والتطور.. إذا فهو الخلق..
هل آن الأوان أن أحدثك عن هذا الذى كان؟. فليكن..
الآن: ماهو موقفنا من المرض النفسى وتقسيماته وعلاجه؟
راجع التقسيم الدولى والأمريكانى وغيرهما وتعجب للمرحلة الوضيعة التى تجمدنا عندها…
ثم راجع محاولة فهم المخ بالتفاعلات الكيميائية وفقط، وستجد تقلصات العلماء فى المعامل تشبه تشنجات الفئران، إذ يحاولون تعميم ما على الفأر على الإنسان…
ثم راجع الموقف الأبله فى تفسير الصدمات الكهربائية…. ذات المفعول الأكيد.
ثم راجع النظريات السيكوباثولوجية وعدم ارتباطها ببعضها البعض من ناحية وبالوضع العضوى للمخ من ناحية أخرى.
ثم راجع أقصى اليمين من المدعين – مثلا- أن الأمراض النفسية ما هى إلا نوع من الصرع…. وهم لايفهمون الصرع ذاته.
ثم راجع الصراع الصورى بين التحليليين والسلوكين.
ثم راجع علاقة الأمراض ببعضها البعض: الصرع بالشيزوفرينيا والأخير بجنون والهوس والاكتئاب.
ثم راجع التاريخ…. أعنى تاريخ الحياة وتناسبها: لا مع المرحلة الفمية والمرحلة الشرجية…. ولكن مع الموقف البارنوى والموقف الاكتئابى… “الخ”
ومضيت فى خطابى ألح فى حاجتنا إلى جديد يربط كل ذلك ببعضه البعض وأن الفارماكولوجيا (علم العقاقير الطبية) النفسية من ناحية، وتداخل الأمراض الذهانية فى بعضها البعض من ناحية أخرى يمكن أن يعمق الفهم ويحل الإشكال…
ثم عرضت فكرتى عن أن مخ الإنسان ليس مخا واحدا بل عدة أمخاخ، وأنى أعنى بالمخ تركيبا متكاملا وليس منطقة بذاتها، وأن كل تركيب متكامل له نقطة انبعاث تنظم عمله، وأنه فى الأحوال العادية لا يعمل إلا مخ واحد وتكون بقية الامخاخ كامنة وأن هذا المخ الواحد هو الذى يسيطر على كل أجزاء الجهاز العصبى، وفى الأحوال المرضية (أمراض الكينونة) يعمل أكثر من مخ، وأحيانا يعمل المخ القديم متفوقا، وينتصر على المخ الحديث والصراع بينهما، وأن العقاقير تعمل بشكل تطورى مرتب على بعض الأمخاخ دون الأخرى، وبذلك يمكن تهدئة المخ القديم اختياريا دون المساس بدرجة كبيرة بالمخ الحديث، وأن الصدمة الكهربائية إنما تمسح النشاط الكهربائى لكل الأمخاخ ثم تعطى الفرصة للمخ الأقوى أن يلتقط عصا المايسترو ليوجه الفرقة كلها، وأن هذا يفسر اختلاف الاستجابة للعلاج الكهربائى دون حساب كيميائى وتهيئة نفسية مناسبة، وأن العلاج النفسى وهو الحب الإنسانى يجذب طاقة المريض إلى الخارج إلى الناس ويغرى المخ الحديث بأن يلتقط عصا المايسترو ولايخاف من الوحدة أو القهر، وأنه بذلك يتوافق العلاج الكيميائى مع العلاج النفسى مع العلاج الكهربائى، وقسمت له الأمخاخ وسميتها، وكان بديهيا وأنا أعرض كل هذه الأفكار فى خطاب من بضعة صفحات أن أزيد الأمر تعقيدا وليس توضيحا كما قد يجد القارئ نفسه فى متاهة وهو يتابع الفقرة السابقة مما يحتاج إلى اعتذار جديد- وكان بديهيا ألا أتوقع ردا إيجابيا… وهذا ماحدث- ولكنى على كل حال ختمت الخطاب قائلا:
”والآن: هل نعلن الثورة؟ هل نرفض الأسماء؟ هل آن لنا أن نصمم على التطور بإرادتنا وعلى رفض المقدسات الخادعة، هل نأخذ من كل مخ أصالته وجوهره ونحاول أن نوافق بينها لنحول الناس المنشقين على أنفسهم إلى إنسان واحد متوافق مع تاريخه المجيد فى الصراع لبقاء والتطور.
هل تحضر؟ هل تكتب؟ هل نتفاهم؟
هل نستطيع الصمود حتى نموت لا تسرقنا أيامنا ولا أطماعنا قبل أن يفتت عقولنا الكولسترول المترسب داخل شراييننا؟
هل نستمر؟
هل نيأس مثل الأنواع المنقرضة من الأحياء؟
هل أنت معى؟
ولك منى الحب والسلام…
وكما قلت، لم يكن الرد إيجابيا حيث أرسل لى خطابا قال فيه:
”هل تغضب من حرارة الشمس إذا حرقت جلدك…. أو من بلاهة الحمار إذا لم يفهم قولك؟ فلا غضب منى إذا كانت استجابتى لكتابك الأخير قد تجمدت طيلة هذا الوقت. فقد كان كتابك (أو خطابك) محاولة لترجمة إحساس أثق فى صدقه…. أما ترجمة الإحساس إلى لغة العقل والتصنيف والتنظيم فقد نزل على عينى غشاوة فلم أستطع أن أفهم ماذا تريد أن تقول … ربما لمجرد أننى فى حالة ثورة على العقل والمنطق….”
ثم قال “…. ولأنى أعتقد أن مثل هذه المحاولات ضرورية من أجل نقل الخبرة من مجال الاحساس المبهم الغامض إلى مجال المفاهيم الموضوعية، ولتمكين نقل العلم من جيل إلى جيل ومن مكان إلى مكان، ومحاولتك هى إحدى هذه المحاولات، ولكن مثلها مثل غيرها من المحاولات تجد نفسك تقول ماقاله الغير ولكن تصر على تغيير لفظ أو مفهوم، بينما الأساس واحد وينشأ حوار ومناقشة وخلاف وبيزنطية.
ثم يقول “أريد أن أصل إلى أنى شبعت نظريات وتنظيرا وتنظيما وتصنيفا، وإذا كان لى أن أتعلم بالخبرة” “إن مجال العلم ملئ بالمقالات، إنها أصبحت تمثل أزمة مثل أزمة المواصلات وأزمة تلوث الهواء وأزمة التخلص من الفضلات، والمقالات العلمية أصبحت قيمتها مقاربة لقيمة الورق والحبر الذى ينفق عليها… أنت تتفق معى فى هذا، وسوف تقول أن ماحاولت أن تعبر عنه ليس مقالة أخرى وليس نظرية، ولكنه توضيح وتنسيق لما هو معلوم، وربط أجزاء العلم المتفرقة وتوحيدها حتى فى اللفظ وتصر على استخدام كلمة “مخ” وكلما تستخدمها يثار لعابى لأنه كان فيما مضى سندوتشى المفضل عند “على كيفك” فى الإسكندرية “ولاباس” فى القاهرة.
ثم يقول “أعود وأقول معك لابد من تنظير وتنسيق وتوفيق… ولكن أليس العلم مليئا بالنظريات… وكلها نظريات لاتفعل شيئا ولا تنجد الطبيب فى لقائه مع مريضه فلماذا نضيف واحدة أخرى؟”
”لقد كنت فيما مضى متحمسا لساندور رادو ثم وجدت نفسى أتحدث بلغة لايفهمها إلا تلاميذ ساندور رادو وعددهم محدود…. – ولكنى فضلت أن أعود إلى لغة التحليل النفسى لأنها لغة منتشرة ويفهمها الكثيرون ممن أحترمهم وأستطيع التفاهم معهم”
ثم ينهى خطابه بعد اعتراضات أخرى كثيرة قائلا:
قبل أن أنام أقول: نعم لابد أن أكتب وأن تكتب ولابد أن نتحدث بل نتعارك أحيانا ولابد أن نتفاعل وجها لوجه، ولابد أن نجابه مشكلة حية نتحدث عنها قبل أن نغرق فى النظريات ولابد أن تكون بوجدانك فى كتاباتك وألا تعتذر….. وأقول أنى معك ولست معك… وليكن هذا “علم وصول” لحديث لابد أن يستمر “محمد”
وسكت.
أرسلت إلى بييبر فى باريس… ولم يرد
وأرسلت إلى محمد فى أمريكا… ورد على بهذا الدش البارد، أو أقول “الفاتر” لما فيه من حب وصدق..
وحاولت … ولم أستطع.. واستمررت … كل شئ جديد ومتغير رغم كل شئ… القديم موجود منذ الأزل وإلى الأبد، والحقيقة باقية لاتتغير، ولكن ضوءا بسيطا مهما كان خافتا لابد أن يغير المنظر العام…
وسكت طويلا حتى جاء العيد فأرسلت له خطابا حارا كان فيه:
”عزيزى محمد: كل سنة وأنت طيب، وأنت حر، وأنت خالق، وأنت نفسك، وأنت مستيقظ، وأنت محبوب، وأنت تحب، وأنت تغنى وتنطلق، وأنت قوى، وأنت مسئول، وأنت شريف، وأنت إنسان، وأنت تتطور، وأنت حى….
وصلنى خطابك “ضد الأمخاخ” ورفضت أغلب ماجاء فيه وجمعت فيه من التناقضات ما أغرانى بالرد عليه، ثم أغرانى بالرد عليك، ثم أغرانى بالحديث عنك.
وفيه قلت:
”لقد رفضت اللغة ثم تمسكت بلغة الأغلب: المحللين
وهاجمت الأبحاث… ثم استشهدت بنتائجها !
ورفضت التشخيص… ثم تمسكت برموز النظريات السائدة !
ورفضت المخ… خوفا من أن تسجن فى خلاياه !
وحاولت أن تتحرر، وخيل إليك أنك نجحت… ولكن الحرية صعبة صعبة، فأنت تتردد وتحاول أن تميل تحت مظلة تحتمى بها، والمظلة ليست قفصا مثل قفصك القديم، ولكنها وقاية مما يأتى من السماء، من المجهول… ولكن إلى متى تظل رافعها فوق رأسك؟ ثم كيف تستعمل يديك؟ وكيف تنطلق؟ لتنطلق !
نعم…
لابد من آخرين، ولكن ليس دائما أصحاب لغة لفظية وإنما أصحاب مشاعر وقلوب (قلوب مخية أيضا)، وفيما أعلم فلم ينجح إنسان وحده”
ثم قلت له:
”قيود الأرض غائرة فى جوفها وهى تجذبك إليها، وأنت تحن، وتخاف، وقيود التحليل النفسى تأمن فى رحابها… ولكنها تتسلل إلى فكرك فى براءة ظاهرية، وتوهمك أنها مفاتيح تفتح الأقفال، وأنت فى سكرة الأمان، وأنت تحمل كومة المفاتيح، تنسى أن المفاتيح تقفل الأقفال أيضا ولا تفتحها فقط، وأنت تعلم أنى كنت حريصا على رجوعك، ومازلت، ولكن حرصى اليوم لسبب آخر غير زمان، لأنى زمان كنت حريصا على قسم الأمراض النفسية وعلى مصر، وعلى صديق شريف، أما الآن فأنا حريص، على إنسان، فلربما كان وجودك معنا خطوة على الطريق التطورى لنا جميعا.
وأنت تسأل: هل الجلسات الصباحية التى أشرت إليها من معلم لتلاميذ أم من ند لند؟ وأنا أجد عندى الشجاعة الآن لأقول إن رؤيتى الصوفية الآن تجعل الصدق أساس التفاهم وليس كم المعلومات، وتجعل الحرية الذاتية هى الوسيلة الأولى لتقييم الرأى وليست الحجج والبراهين، ومن ثم فإنى لا أجد الصدق والحرية إلا فى الشباب (مهما كانت أعمار شهادة الميلاد) وإنى بعد تجربتى الأخيرة لست مستعدا بحال أن أضيع عمرى فى مناقشات بيزنطية تستعرض فيها العضلات، أو يحمى بها المناقش نفسه من أصالته، أو يحصل بها المناقش على شبق فكرى زائف، وإنما أنا مستعد أن أبذل عمرى مع إنسان حر صادق تثيرنى اعتراضاته فأجد بها ذاتى وأنير بها فكرى، ويثيره هجومى فيستيقظ ويرفض، ويتعرى بلا خجل… والإنسان الذى حل مشكلته بين الكتب والأبحاث، الذى يعشق حروف المطبعة أكثر من نبض الإنسان يصعب على أن أثير فيه تساؤلات الوجود والكون والخلق، وربما كانت مثل هذه الفروق هى التى تميز الانجليز عن الفرنسيين، والعلم الهندسى عن الفلسفة الصوفية، والأرقام عن الموسيقى… الخ، والزميل العالم الحافظ المنظم، أحترمه كما أحترم الأسمنت المصنوع منه برج الجزيرة، وأحبه كما أحب عمارة بلمونت، وأقدر كفاحه كما أقدر مهندس السد العالى… وفقط- من أجل ذلك فأنا أحتاج من أستطيع أن أتكلم معه دون أن أنطق، وقد وجدت منهم الكثير هنا بين الشباب خاصة، لأنه كما يقول العرب “من طلب شيئا وجده”
ثم قلت أخيرا:
لست أدرى كيف بدأت الخطاب وكيف أنهيه، كل ما أدريه أنى أحمل فى نفسى هذه الأيام ومنذ إبريل الماضى طاقة هائلة من الحب تكاد تغمر العالم كله، طاقة تكاد تصنع الحياة، طاقة تتحدى الجنون، وتشرق كالشمس بين جنبى وتضئ وتدفئ وأحس أننا لو كنا جماعة لعملنا شيئا.. ربما.. بل حتما..
وأخيرا لك ماتشعر به من خلال الكلمات”
***
هل يمكن أنهى هذا الفصل بغير ماأنهيت به هذا الخطاب؟
أو هل يمكن أن أنهى هذا الكتاب بغير ماأنهيت به هذا الفصل؟
لاأعتقد.
***
وبعد ….
فهل انتهت حيرتى؟
أم هى بدأت؟
ملحق الكتاب
مستويات الصحة النفسية
على طريق التطور الفردى
“سقراط: لقد كنت أدرك أيها الصديق أنك لن تقنع برأى الآخرين فى هذه المسألة.
جلوكون: ذلك لأنه لا يليق بمن قضى حياته مثلك وهو يفكر فى هذه المسائل، أن يكتفى بعرض آراء الآخرين دون أن يعرض آراءه هو.
سقراط: ولكن أتظن أنه يليق بالمرء أن يتحدث عما لا يعلمه وكأنه يعلمه؟
جلوكون: كلا، لا يصح أن يتحدث وكأنه يعلمه، ولكنه يستطيع أن يقول ما يعرفه على سبيل عرض رأيه الخاص”
أفلاطون- محاورة الجمهورية
الكتاب السادس
مقدمة:
الإنسان كائن متطور، وتطوره لا يقتصر على مفهوم النشوء والارتقاء فحسب وإنما يعنى الواقع الذاتى للفرد للوصول إلى مستوى أرقى، والانسان لذلك لا يقتصر هدفه فى الحياة على متعة ذاته أو حفظ نوعه، ولكنه يمتد إلى تطوير وجوده والرقى على نفسه.
هذه حقيقة قديمة قدم إدراك الإنسان لذاته، وقد ظهرت فى حياة وإنتاج الفلاسفة والفنانين ورواد الفكر على مر العصور، وحين نادى زرادشت أو نيتشه أو برناردشو بالإنسان الأعلى، كانوا يجسدون شعورهم الصادق لفكرة تطور الفرد غير تاريخه الشخصى، ومن ثم تطور نوعه، ومعظم هؤلاء الارتقائيين يعزون هذه النزعة إلى دافع أصيل فى الانسان يتخذ أسماء وصفات تختلف باختلاف نوع الفسفة أو زاوية الرؤية أو لغة الفن.
إلا أن آخرين أنكروا ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر، ومنهم فرويد بتأثيره غير المحدود على الرأى العام- رجل الشارع- وتأثيره المتغلغل فى علوم النفس، فقد عارض هذه الفكرة صراحة إذ يقول “…. ذلك لأنه يلوح لى أن التطور البشرى، وما وصل إليه حتى اليوم لا يتطلب أن نلتمس له تفسيرا يختلف عن تفسير التطور فى الحيوان، وأن مايبدو لدى أقلية من الناس من رغبة ملحة جامحة تدفع بهم إلى الرقى والكمال ليمكن تفسيره على أنه نتيجة كبت الميول الغريزية !!”
وقد استدرج الطب النفسى تحت تأثير التحليل النفسى مرة، وتأثير الكيمياء والكهرباء مرة أخرى، إلى إغفال هذه الحقيقة وأصبح هدفه إما أن يحقق للمريض اللذة والحياة السهلة، أو أن يسكن ثائرته ويخفى أعراضه، وفى هذا أو ذاك هو يحاول أن يرجع بالإنسان إلى حظيرة الصحة، أو ما يتصوره كذلك.
ولكن ما هو تصور الطب النفسى للصحة، وما هو الحد الفاصل بينها وبين المرض؟ وهل السواء هو المتوسط الاحصائى؟ أم هو الحالة التى كان عليها المريض قبل عارض المرض؟
على أنه لو استطردنا فى عرض هذه الأسئلة القديمة الجديدة، ومحاولة إجابتها لكان ذلك إعادة لما سبق أن حير الناس والأطباء وعلماء النفس معا، ومازال يحيرهم دون جديد محدد.
ولكن المشاكل العلمية التى تترتب على هذا الغموض فى ممارسة الطب النفسى، مشاكل لا تقع فى دائرة الخلافات النظرية وإنما هى تمس الطبيب وتحيره أمام المريض فى كل يوم.
لكل هذا فإنى أتقدم بعرض مفهوم تطورى للصحة النفسية أحاول به الرد عن بعض هذه الأسئلة من ناحية، والمساهمة فى إعادة النظر فى وظيفة بعض أنواع ومراحل المرض النفسى على سلم التطور والتدهور من ناحية أخرى، وهذا المفهوم يهدف أيضا إلى وضع الطبيب النفسى موضعا إيجابيا يساهم فيه فى هذه المعركة بعيون مفتوحة على وضع الطبيب النفسى موضعا إيجابيا يساهم بمستقبل الانسان وخيره.
الهرب من المشكلة
لجأ كثير من الأطباء النفسيين إلى التهرب من مواجهة هذه المشكلة بعدة طرق أورد أهمها فى هذه المقدمة:
أولا: أعتبر بعض الأطباء النفسيين أن الصحيح نفسيا هو الخالى من الأمراض، أو بشكل أدق من الأعراض.
ولكنه تبين من ناحية: أن بعض الأعراض توجد فى كثير من الأسوياء ! ولكن مجرد وجود العرض لا يعنى المرض، وقد حاولت بنديكت روث Benedict Roth أن تثبت أن قيمة العرض المرضية تتوقف ليس على وجوده فحسب، بل على انتشاره وقبوله من البيئة أو رفضه، ولكن فجروكى Wegrocki أوضح أن المسألة تتوقف على وظيفة العرض المرضية، وليس على مجرد وجوده أو انتشاره، فإن العرض قد يخدم التوازن النفسى وأحيانا التكيف، أو هو قد يخل بهما تبعا لدوره الديناميكى ووظيفته السيكوباثولوجية، ومن ناحية أخرى: ففى حالة ما إذا لم توجد أعراض أو أمراض فإن ذلك لايعنى الصحة إذ أن تعريف الصحة تعريفا سلبيا رفض فى أغلب المجالات حتى أن الهيئة الصحية العالمية أوردت تعريفا للصحة بوجه عام ينص على أنها “ليست مجرد الخلو من المرض” كما سيأتى تفصيلا.
ثانيا: حاول فريق آخر من الأطباء أن يحدوا أنفسهم بالذين يحضرون إليهم للعلاج طائعين أو مكرهين، فلجأوا إلى التفرقة بين “المريض” والذى به مرض”، “فالمريض” عندهم من يحضر لاستشارتهم، يحضر هو أو يحضره آخر، أما “الذى به مرض” فقد يحضر أو لايحضر وقد لايحضره آخر,، وحين لا يحضر يتصور هذا الفريق من الأطباء أنه ليس لنا أن نحكم له أو عليه، ويفسر أصل هذه الفكرة وجود لفظين فى اللغات ذات الأصل اللاتينى يختلفان فى المعنى نفس هذا الاختلاف وهما فى اللغة الانجليزية مثلا لفظا “Ill & patient” (ولم أجد لهما مقابلا مباشرا فى اللغة العربية فترجمتها إلى ماسبق وهو أن المريض هو ال Patient “والذى به مرض” هو (ILL أما المريض “Patient” فمعناه الحرفى فى اللغة الانجليزية: الشخص المريض (حالة كونه) يعالج بواسطة طبيب، وأما الذى به مرض” فترجمته الحرفية ” فى صحة سيئة” (ولكن لهذا اللفظ الأخير معان أخرى مثل “ذو خلق سئ” أو مؤذ.. وهى معان ليست بعيدة عن بعض أنواع المرض النفسى على كل حال).
وقد ذكر جيليس Gillis فى ذلك أنه لا يوجد مبرر لمحاولة أن نفصل الخراف عن الماعز باعتبار أن من يحضر للعلاج فقط هو المريض.
على أن خروج الطبيب النفسى من وراء مكتبه فى العيادة النفسية أو المستشفى العقلى، ودخوله بالبحث والدراسة إلى المجتمع الأوسع، وازدهار علم النفس الاجتماعى والطب النفسيى الاجتماعى جعلوا هذه التفرقة لا معنى لها، بل أصبحت قاصرة ومعوقة، لأن حضور “ذى الصحة السيئة” إلى الطبيب ليصبح “مريضا” لن يغير من صفاته، كما أنه ثبت أن أسباب الذهاب إلى الطبيب النفسى لا تتوقف على شدة المرض أو نوعه، بل تتداخل فيها عوامل متعددة مثل درجة ثقافة الفرد والمجتمع، ومدى الرعاية النفسية، والقدرة الاقتصادية، والمكاسب الثانوية من الموقف عامة، وقد قام روانسلى ولاودن Rawnsley & Lawden بدراسة بعض هذه العوامل التى تتحكم فى تحويل المريض إلى عيادة نفسية عن طريق الممارس العام، ولم يجدا أى ارتباط ذى دلالة بين هذا التحويل وبين “شدة المرض” أو أى “تشخيص خطير”، أو أى آخر مثلا مع السن أو الحالة المدنية.
ويلاحظ الطبيب النفسى وخاصة الذى يمارس المهنة فى عيادة خاصة أن بعض المرضى يجيئون “للعلم بالشئ” وزيادة المعرفة، أو ليزيد طالب قدرته على الاستذكار، أو لتنظم أسرة مصروف الشهر… إلى آخر هذه الأسباب التى لا تتصل مباشرة بالمرض النفسى المحدد المعالم.
ثالثا: لجأ جمهور الأطباء إلى اعتبار المريض مقياس نفسه، وبالتالى فالصحة هى ماكان عليه قبل المرض أو قبل الاستشارة الطبية، ويقوم فى ذلك الطبيب بدراسة مستعرضة لشخصية المريض قبل المرض يدرس فيها نوازعه وسماته وعلاقاته الاجتماعية وعاداته وغير ذلك، ثم يجرى دراسة مقابلة عن حالة المريض أثناء المرض (الآن)، ثم يحكم على مدى صحته ومرضه وربما على الهدف من علاجه.
ولكن حالة المريض قبل المرض ربما لاتعنى الصحة، فربما أنه “لم يكن يشكو” أو أنه “لم يكن يعرف”، ولو أن الهدف من العلاج كان فى المقام الأول هو الصحة، وكانت الصحة هى حالته قبل المرض، فإن ذلك قد يعنى أن نقلل من إدراك المريض حتى لا يشكو !!! ورغم أن هذا طريق يصلح فى بعض الأحوال إلا أنه ليس القاعدة على كل حال، إذ أنه كثيرا ما لا يستطيع المريض أن يعيد ترتيب ذاته كما كانت قبل المرض بعد ماتبين له – بالمرض- فشل الترتيب السابق له، وكثيرا ما تكون مقاومته واحتماله قد أصبحا أضعف من الاستمرار فى الحالة السابقة مما يتطلب درجة من المقاومة أكبر، أو درجة من الحياة أدنى.
اتجاه التعريفات:
لا أريد هنا أن أسترسل فى مراجعة تعريفات الصحة النفسية التى يمكن أن نجدها فى بحوث نظرية أخرى بشكل شامل ومفصل مثل جيليس Gillis أو تيوكر Tucker، وقد انتهت أغلب البحوث المماثلة بالحيرة التى بدأت بها، فيقول جيليس مثلا فى نهاية مقاله أنه يبدو “أن الصحة النفسية لا يمكن تعريفها كشئ محدد، وأنها موضوع نظرى وليست قيمة قائمة بذاتها”، ويضع تيوكر تعريفا يبدو أنه شخصيا غير مقتنع به، إذ ينتهى إلى تشبيه الصحة النفسية- مشيرا إلى حوار فلسفى بدأ به المقال- ببقرة موجودة “هناك” ولكنها تقف وسط الضباب.
ونلاحظ أن التعريفات بصفة عامة تتجه ثلاثة اتجاهات رئيسية:
الاتجاه الأول:
وهو الاتجاه الذى يرى الصحة النفسية حركة، أو عملية، تتجه نحو هدف ما وأنها ليست حالة ساكنة، ومن الأمثلة على ذلك ماقاله ليمكو Lemkau “هى هدف فى المستقبل تتجه إليه الشخصية باستمرار… وأن هذا الهدف هو الشخصية الصحية” وماأورده عن آخرين من “أن الصحة النفسية هى غاية سعى الفرد أن ينمى قدراته الكامنة” أو “أن الصحة النفسية هى السعى إلى المثل ومحاولة اختيار أى القيم نعتقد وأى الأعلام نتبع”
ويستمر هذا الاتجاه واضعا الصحة النفسية كحلم للمستقبل
الاتجاه الثانى:
وهو الاتجاه الذى يبسط الأمر تبسيطا ظاهريا باستعمال ألفاظ سهلة ولكنها تعنى معان ضخمة وغامضة ومتنوعة، فمن أبسط التعاريف وربما أشملها قول فرويد أن الصحة النفسية هى أن”تعمل وأن تحب”، ولكن بالغوص إلى فكر فرويد وطريقته فى التفسير والعلاج نجد أن نوع العمل يحتاج إلى توضيح فضلا عن نوع الحب وقد أرجعه صاحب التعريف إلى أصول شبقية تحد من مفهومه تماما، ومن هذه التعريفات أيضا مايؤكد على أن الصحة النفسية هى “التكيف” ويشير بعضهم إلى أن المقصود بالتكيف هو التشكل مع المجتمع القائم ومعاييره، فى حين يتسع معنى التكيف عند آخرين ليصبح مرادفا للتوازن الداخلى والخارجى، أى مرادفا للصحة، وبين هذا المعنى الضيق وذلك المعنى الشامل لا يوجد تحديد أو تصنيف، لذلك فإن الرضا بالتعاريف البسيطة دون عمق لا يتقدم بفهمنا لهذه المشكلة كثيرا.
الاتجاه الثالث:
أما الاتجاه الأخير فهو يتحدث عن الصحة النفسية بصفات مرصوصة، تحدد معالم الصحة الايجابية وتؤكد أن الفرد ينبغى أن يتصف بكل هذه الصفات مجتمعه قبل أن يستأهل صفة الصحة، ومثال ذلك ماأوردته جاهودا Jahoda متضمنة فى تعريفها مفاهيم عظيمة، ولكن يبدو أنها كانت أعظم مما يمكن تحقيقه، مثل “شعور الفرد بأبعاد نفسه، ودقة الذات، والتوافق الذى يتضمن توازن القوى النفسية، والتلقائية، وإدراك الواقع، والرضا عن النفس، والسيطرة على النوازع” إلى آخر هذه الصفات التى تقترب من المثالية وليست من الصحة بمفهومها العام.
***
وحتى هذه المرحلة نجد أن كل ذلك يشير إلى أن الصحة النفسية هى “حركة فى اتجاه… يبدأ من التكيف مع المجتمع بقيمه السائدة، وينتهى بمثالية صعبة أو نادرة التحقيق، وكل هذا فى إطار غامض غير محدد”
***
صعوبات عملية:
على أن هذه الحيرة، والتفاوت بين التعريفات، ليست مشكلة نظرية بحتة فإن ما يترتب عليها من تشويش وخلط فى الحكم على الأسوياء والمرضى فى مجالى البحث والعلاج يؤكد حاجتنا الشديدة إلى تحديد واضح وخاصة فى مجتمعنا النامى وما يماثله من مجتمعات. من ذلك أن الأبحاث التى تدرس أثر التصنيع على الصحة النفسية تصل إلى نتائج مخيفة ومتشائمة دون مبرر علمى دقييق، فقد راجع أراسته Arasteh ستة وسبعين بحثا أجريت فى أفريقيا وأمريكا الجنوبية عن تأثير التصنيع على الصحة النفسية وخوج بأ النمتائج متناثرة، وغير محددة، وليس لها علاقة بعضها ببعض، وعزا ذلك إلى إختلاف المقاييس التى يقيسون بها.
ومثال آخر فى المجتمع الصناعى فى الولايات المتحدة الأمريكية حاول بلات Blatt أن يطبق مفهوما للصحة النفسية- كما تصوره طلبة الدراسات العليا فى علم النفس الاكلينيكي- على مجتمع صناعى، وخرج من نتائجه بالاستنتاج التالى: “كلما زادت رتبة الوظيفة.. كلما كانت الصحة النفسية أحسن”، ولكننا يمكن أن نضع النتيجة بصورة أخرى قائلين “كلما زادت رتبة الوظيفة كلما تشابه شاغلها مع طلبة الدراسات العليا لعلم النفس“. أو حتى: “.. كلما تشارك الفريقان فى التفكير الآمل.” ذلك لأن نوع الصحة لابد أن يتناسب مع المستوى الاجتماعى والفكرى.
وفى محاولتنا هنا للدخول إلى فهم المجتمع الصناعى ومشاكله النفسية والطبية فى هذه الفترة من تطورنا أجرينا بحثا عن الغياب المرضى (الرخاوى وآخرون) حاولنا أن نربط فيه بين تواتر الأعراض والمظاهر النفسية، وبين الغياب المرضى الطويل لأى سبب، ووجدنا علاقة إيجابية، مما دعانا إلى استنتاج أن الغياب المرضى بالنسبة للمجتمع مايمكن أن يكون مؤشرا للصحة النفسية للمجتمع ككل، أما بالنسبة للأفراد فقد عجزنا عن تعميم هذه القاعدة، وقد تجنبنا التعرض لتقييم ومقارنة الصحة النفسية للصعوبات التى تحيط بهذاالمفهوم، وكان هذا نوعا من التهرب من مواجهة المشكلة فى مجال البحث العلمى، مما يشير إلى أن البحث عن تحديد وتوضيح مفهوم الصدمة النفسية أصبح ضرورة ملحة ليس فى مجال التطبيب فحسب بل فى كل المجالات.
المقاييس التقليدية للصحة النفسية:
بالرغم من اختلاف التعريفات لهذا الاختلاف الظاهر، إلا أن المقايس التى نقيس بها الصحة النفسية مازالت محدودة ومقبولة من الجميع وهى ثلاثة مقاييس على وجه التحديد، التكيف، والعمل، والرضا وهى معايير صالحة فعلا، ولكن معانيها كما سبقت الإشارة قد تختلف أشد الاختلاف من فرد لآخر ومن مجتمع لآخر.
وقد أشرنا إلى “أن التكيف” مثلا قد يعنى التلاءم مع البيئة الخارجية أو الداخلية، ولكن أسئلة كثيرة قد تشكك فى قيمته كمؤشر للصحة مثل:
التكيف لمصلحة من وعلى حساب من؟ التكيف إلى أى مدى وفى أى مجال؟ وماهو حكم تكيف مجرم مع أفراد عصابته أو عدم تكيف فنان مع بييئته القريبة؟
أما “العمل” فإذا قصدنا به مجرد الإنتاج المادى فى المجال الأساسى لعمل الفرد فهو كثيرا مايضع الانسان فى عداد الآلة التى تقاس جودتها وصلاحيتها بمدى إنتاجها، لذلك كان العمل أنواعا تختلف حسب هدفه ومجاله ووظيفته للفرد والمجتمع.
وأخيرا فإن “الرضا” يمثل قمة الإلغاز، إذا لم تحدد معالمه تفصيلا، فما هو الرضا فى جوهره؟ أهو الاقرار بالرضا؟ أم التسليم عن رضا؟ أم هو تصور الرضا؟ أهو حكم الشخص على نفسه أم حكم الناس عليه؟
كل هذه تساؤلات تثير نفس القضية حول نوعية الصحة، وقد تثير مشاكل مصاحبة للقضية مثل “مدى اعتبار المجرمين مرضي” أو مشاكل “العبقرية والإبداع الفني” وغيرها من المسائل التى ترتبط كلها بأصل واحد وهو مدى الصحة ونوعيتها.
نوعية الصحة:
من كل ذلك يتضح أن التفرقة بين مستويات الصحة النفسية أصبحت حاجة ضرورية وعملية للتطبيقات اليومية، سواء فى مجال البحث العلمى أم العلاج، لذلك كان الاتجاه حديثا إلى وضع التساؤل عن الصحة النفسية بشكل آخر، فبدل أن نتساءل عن الشخص المعنى: هل هو صحيح أم مريض؟ ينبغى أن نسأل “كيف هو صحيح” ؟ أى على أى مستوى وبأى صورة؟ فإن للصحة مستويات تصاعدية مختلفة، وبذلك نتجنب الوقوع فى خطأ اتهام أغلب الناس بعدم الصحة إذا هم لم يتفقوا بصفات معينة، ربما تكون أقرب إلى صفاتنا نحن، أو حتى إلى الصفات التى نتمناها لأنفسنا، وقد نبالغ فى ذلك حتى نصل إلى مثالية بعيدة التحقيق، فكم لاحظنا صيغة “أفعل التفضيل” فى كثير من الأوصاف التى تخلع على الصحة مثل “أحسن مايمكن من تكيف” “أفضل طريقة للحياة” أو ألفاظ أخرى تصلح للقصيدة شعرية مثل “قمة السعادة” “غاية النضج” “الفاعلية الكاملة”، ولم يقع فى ذلك الخطأ فرد أو عدة أفراد، ولكن التعريف الذى أوردته الهيئة الصحية العالمية عن الصحة عامة كان يحمل مثل هذه الصفات المطلقة وهو: “الصحة هى حالة من تمام Complete الشعور بالسعادة (أو الراحة) فى كل المجالات: العقلية والجسمية والاجتماعية، وليست مجرد انتفاء المرض”.
كل دلك جعل لزاما أن يتضمن السؤال عن الصحة، تفاصيل عن الكيف وليس مجرد الكم.
وقد دفع هذا “أراسته” Arasteh إلى وضع مفهوم عملى للصحة النفسية، يربط فيه مدى تطور الفرد بمدى إدراكه لهذا التطور وتناسب احتياجات هذه المرحلة مع مايهيئه المجتمع من فرص لتحقيق أغراضها، وبذلك يكون قد ربط الإدراك، بالتطور، بتحقيق الاحتياجات، بالفرص المتاحة فى المجتمع، وعليه يكون الفرد فى صحة جيدة “إذا حققت دوافعه مدى إدراكه لاحتياجاته، وأمكنه مجتمعة من ذلك”.
وقد وضع تبعا لذلك فرضا لنظرية متكاملة عن الإنسان تجعل دافع النشاط Activity Motive فى مستوى أساسى، على قدم المساواة مع دافع الجنس، وحفظ الذات، وقد حدد مستويات ثلاثة للصحة النفسية هى المستوى الطبيعى Natural Level حيث ينصرف الإنسان آليا ليحقق حاجاته البيولوجية أساسا، والمستوى التالى هو المستوى البيئى Cultural Level حيث يدرك الانسان بيئته ويستجيب لاهتماماته فى حدود البيئة المباشرة، وأخيرا المستوى الخالقى – وسماه أيضا البعد بيئى – Creative & Transcultural، حيث يتخطى الانسان حدود بيئته المباشرة ويصبح تكيفه مع الحياة ذاتها.
ويبدو أن هذا الاتجاه كان ينبض فى عقل أكثر من مفكر فى نفس الوقت فقد حاول برينيتى Brunetti مستقلا أن يضع مستويات للصحة جاءت موازية تقريبا لمستويات أراسته، واعتمد فى ترتيبه على مجالات التكيف وأبعاده، وفرق بذلك بين “صحة الجسم” أو الصحة البيولوجية La sante Biologique حيث يكون التكيف بين أعضاء الجسم، وتكون الصحة مرتبطة بمدى تلاؤم الآعضاء مع البيئة العضوية الداخلية، ثم “صحة النفس” La Sante psychologique التى ترتبط بمدى تكيف الفرد مع مجتمعه البشرى المباشر مثل أسرته وزملاء عمله، ثم أخيرا “صح الروح La Sante de L,esprit التى تشير إلى التكيف والتلاؤم مع عالم الانسان بصفة مطلقة، وعالم مابعد الانسان زمانيا ومكانيا.
ورغم وضوح هذه الرؤية ومسايرتها لحاجتنا الشديدة لتقسيم الصحة النفسية إلى مستويات نوعية إلا أن تطبيقاتها العملية لم تأخذ حقها الواجب، كما أن النظريتين لم تشيرا على وجه التحديد إلى هذه التطبيقات وكيفية الاستفادة من هذه الرؤية فيما عدا ماأشار به أراسته من الحذر فى الدراسات المقارنة، وعلاقة نظريته هذه بنظريته فى العلاج النفسى.
***
ويمكن أن نوجز الحقائق التى أوصلتنا إلى هذه المرحلة من التفكير فيما يلى:
1- أن الصحة النفسية ليست قيمة واحدة وإنما هى عدة قيم، أو هى عدة مجموعات من القيم، التى يمكن ترتيبها على مستويات تصاعدية.
2- أن الفروق بين هذه المستويات هى بالضرورة نوعية وليست فقط كمية.
3- أن الانسان فى حالة تطور دائم، ليس فقط فى تاريخه كنوع ولكن أيضا أثناء حياته كفرد مستقل.
4- أنه ينبغى فحص الفرد وبيئته فى نفس الوقت، لتحديد نوع ومدى صحته النفسية.
وقد وجدت أن المستويات المختلفة للصحة النفسية صالحة لغرض محدود، ووجدت أنه ينبغى أن نضع فى الاعتبار الوسائل النفسية للحصول على التوازن فى كل مستوى، والمشاكل العملية التى يمكن أن نحلها بهذا الفهم الجديد.
ومن بعض هذه الأسئلة التى ينبغى أن تشغلنا ونحن نقسم الصحة إلى مستويات، تساؤلات حول أسباب المرض النفسى وأنواعه وعلاجه مثل:
1- هل يمكن أن ترتب الأمراض النفسية فى مستويات مقابلة لمستويات الصحة المقترحة، وبالتالى نعيد ترتيب التشخيصات ترتيبا تطوريا- أو تدهوريا- على وجه الدقة؟
2- كيف يمكن ربط أسباب المرض النفسى الوراثية والبيئية بهذه الحركة التطورية ومضاداتها سواء للوصول إلى مستوى أرقى للصحة النفسية، أو مستوى أخطر من المرض؟
3- هل يمكن للعلاجات المختلفة- نفسية أو كيميائية أو اجتماعية- أن تجد دورا جديدا يتناسب مع إعادة ترتيب مستويات الصحة والمرض؟
التعريف:
وفى محاولة للاجابة على هذه الأسئلة أقدم فرضا جديدا من واقع الممارسة العملية، ولايخفى أن العلم لا يتقدم بمجرد وضع الفروض، ولكنه أيضا- كما قال ويتهود Whitehead”… إن بعض المصائب العظمى التى لحقت بالانسان، كانت نتيجة لضيق الأفق مع أسلوب منهجى ممتاز”
وقد بدأت بوضع تعريف للصحة النفسية حاولت أن أجعله شاملا، ولكنى موقن ابتداء أن أصعب الأمور، وربما أسخفها، هو التعريف، ومع ذلك فلابد من بداية:
” إن الصحة النفسية هى توازن القوى التى توجه إمكانيات فرد معين فى مجتمع ما فى وقت بذاته لتحقق لهذا الفرد احتياجاته المرتبطة بدرجة تطوره، والتى يتم بها التوافق الداخلى، والتلاؤم مع ماحوله فى نفس الوقت”
وأهم ما أحب التركيز عليه فى هذا التعريف- وهو ماأكده الكثيرون من قبل متفرقين- وهو توازن القوى وارتباطه بعامل الزمن، لأن الفرد يتغير، والمجتمع يتغير، والرؤية تتغير، والاحتياجات تتغير من وقت لآخر، ومن ثم فإن التوازن وقياسه يتغير من وقت لآخر، فهى عملية تناسب مستمرة تتوقف على الوقت مثلما تتوقف على العوامل الأخرى مجتمعة أو على انفراد.
التطور الفردى ومحطات التوازن المرحلية:
أحب أولا أن أشير إلى أن الحديث عن الصحة النفسية مرادف فى أغلب الأحوال للحديث عن النضج، وكأن مفهوم الصحة النفسية الشائع وتعريفاتها يختص بالانسان الراشد، ويصف تلك الحالة التى يتمتع بها الفرد بعد إتمام مراحل نموه، وهذا مقبول بداهة، إلا أنه لابد من توضيح شكل التوازن ومعناه فى مراحل النمو المختلفة، وعلى ذلك فاننى سأبدأ بتصنيف الصحة النفسية عند الراشد ثم أربط ذلك فيما بعد بالمراحل السابقة.
وباعتبار أن الصحة النفسية هى توازن القوى الفعالة التى تهدف إلى تحقيق التوافق الداخلى والخارجى بكل وسيلة ممكنة، وأن الانسان كائن متطور فى حياته الفردية مثل تطوره فى تاريخه، فإنى أعرض الفروض المتتالية الآتية:
الفرض الأول:
يولد الطفل حاملا إمكانيات ودوافع متعددة يختلف تصنيفها حسب المدارس النفسية المختلفة، كما يولد حاملا طرقا فى السلوك يستعمل بها هذه الامكانيات والدوافع، ولنسم هذه الأخيرة ” الوسائل” تمييزا لها عن القدرات الأساسية العامة والخاصة، وتمتد جذور هذه الطرق السلوكية إلى تاريخ الفرد وتاريخ النوع معا، وتاريخ الفرد هو تكرار لتاريخ النوع على كل حال، وتستعمل هذه الوسائل المتنوعة سائر القدرات لخدمة أغراضها حسب مرحلة تطور الفرد، وهدفها دائما تحقيق التوازن، فالذكاء العام أو المهارة الخاصة قد تساهم فى تحقيق التوازن فى كل مرحلة تطور ولكن بنوعية مختلفة عن المرحلة الأخرى لاختلاف الهدف ونوع الحياة فى كل، فالتقسيم هنا ليس تقسيم قدرات أو دوافع، بل هو تقسيم وسائل وأهداف استعمال هذه القدرات.
ويمكن تقسيم هذه الوسائل إلى ثلاث نوعيات:
1- الوسائل الدفاعية: وهى الوسائل التى يدافع بها الانسان عن وجوده ككائن حى، وعن بقائه واستمرار نوعه الحالى، وبها يتجنب الألم والقلق والرؤية المثيرة لهما، وهى وسائل تمتد جذورها إلى تاريخ الانسان الحيوانى وإن اتخذت فى أجداده صورة بيولوجية (بمعنى جسمية عضوية فى هذا المقام) فى حين تحورت بالنمو النفسى المعقد للانسان إلى وسائل دفاعية نفسية معقدة تسمى أحيانا الميكانزمات الدفاعية Defensive Mechanisms فالحرباء والفراشة تغيران لونهما لتماثلا البيئة من أحجار وأزهار وتتجنبان بذلك الخطر، والانسان يتشكل مع المجتمع ليحمى نفسه من الاختلاف الخطير، والنعامة تدفن رأسها فى الرمال، والإنسان يستعمل ميكانزم الإنكار، والحيوان يمارس العدوان، والإنسان يمارس الاسقاط والعدوان لتخفيف التوتر، وفى الحالتين فإن الهدف واحد وهو: حماية الذات، والحفاظ عليها من اعتداء الآخرين، وتجنب الألم والقلق، ومن ثم المحافظة على بقاء النوع والتراث كما هو.
2- الوسائل المعرفية: وهى الوسائل التى يدرك بها الانسان بيئته وذاته، وهى تتشابه بين الانسان والحيوان ولكن رقى نمو المخ والتفكير فى الانسان، جعلاها تفوق مثيلتها فى الحيوان بأضعاف الأضعاف، وأريد هنا أن أميز بين “المعرفة” و “البصيرة”، فإنما أعنى بالمعرفة الادراك العقلى السطحى دون عمق عاطفى حدسى، وربما امتدت المعرفة إلى بعض طبقات النفس فيعرف الانسان دفاعاته أو “ميكانزماته” مثلا ويتفهمها، ويعرف قدراته ويطلقها حسب ظروفه المتاحة، ويتعرف على بيئته ويستغلها ويتكيف معها، ولكنها غير البصيرة التى تشير إلى إحساس أعمق بجذور الكيان الانسانى، فالمعرفة قد يصحبها وقد لا يصحبها عمق انفعالى مناسب، ويتوقف نمو هذه الوسائل المعرفية على ظروف تكوين الفرد، ومجال نموه، ومصادر الإعلام من حوله، واتساع دائرة ثقافته وإمكانيات مجتمعه، على أن كل إنسان يولد وعنده استعداد للمعرفة على قدر الفرص المتاحة، فإذا ماانطلقت للعمل فإنها تساهم فى الحفاظ على التوازن… ومن ثم الصحة.
3- الوسائل الخلاقة (بالعمل المغير): وهذه الوسائل تشمل القدرة على التغيير وعلى الخلق وعلى إعادة تنظيم الذات والمجتمع والحياة بصورة عامة، وهى قدرة إنسانية أساسا رغم وجودها عند أجدادنا عبر التطور، إلا أنها لم تصل إلى الوعى الإرادى كما وصلت عند الانسان، والذى لم يستعملها من أولاد عمومتنا لم يتطور، فالواقع ” أن الحيوان لا يعمل بمعنى الكلمة، وإنما تتحكم فى نشاطه مجموعة من التنظيمات البيولوجية، فنراه يسعى إلى اشباع حاجاته العضوية كلما دعت الضرورة إلى ذلك” (زكريا ابراهيم)، ولذلك استمر حيوانا، وإنما الذى أعنيه هنا هو العمل الانسانى الذى لا يتصف به- عموما- إلا الإنسان، والذى هو نتاج الانسان وربما صانع الانسان “إن التاريخ العالمى المزعوم إن هو إلا عملية إنتاج للانسان نفسه عن طريق العمل البشرى” (ماركس).
وهذه الوسائل الخلاقة بالعمل المغير تخدم التوازن أيضا فى أعلى صوره، وهى موجودة فى الانسان منذ الولادة.
فكأن هذا الفرض يقول “إن الطفل الإنسان يحمل هذه الوسائل الثلاث بنسب متقاربة- تختلف حسب الوراثة طبعا، فهى ليست متساوية تماما-، وهى بهذا الترتيب السابق ذكره تمثل تاريخ تطور الإنسان بصفة عامة، أما بالنسبة لنمو الفرد فان الطفل فى طريقه نحو النضج يحاول تنمية كل منها حسب الظروف المتاحة من المجتمع بما فى ذلك طرق التربية والنظم السياسية والثقافية والاقتصادية، التى ترجح فى النهاية إحداها على الأخرى.
الفرض الثانى:
يتم التوازن فى الإنسان الراشد فى أغلب الأحوال- وحسب درجة تطور المجتمع إنسانيا وحضاريا- بتنمية الوسائل الدفاعية على حساب القدرات الأخرى، فتطغى عليها ولكن لا تلغيها، فيحصل أغلب الناس على التوازن بالوسائل الدفاعية أساسا.
وفى نسبة أقل يتم التوازن بتنمية الوسائل المعرفية أساسا على حساب الوسائل الأخرى.
وفى نسبة نادرة يتم التوازن بالعمل الخلاق أساسا ثم بدرجة أقل بالوسائل الأخرى شكل (1).
وبديهي- ولكنه تكرار لازم- أن الوسائل الدفاعية أقل تطوريا من الوسائل المعرفية، التى هى أدنى بالتالى من الوسائل الخلاقة.
الفرض الثالث:
إن الإنسان يتطور أثناء حياته كفرد ، وأن وصوله إلى مرحلة من التوازن باللجوء إلى وسيلة لايعنى توقفه النهائى عند هذه المرحلة، إذ أن قدراته الأخرى التى لم يتح لها فرصة التدريب والنمو قد تهدأ مؤقتا فى هذا المستوى الأدنى، ولكنها قد تثار فى أى وقت فى تاريخ حياة الفرد نتيجة لواحد أو أكثر من العوامل التالية:
1- أن تفشل المرحلة الأدنى لحفظ التوازن لأنها استنفدت أغراضها مثل أن يبدو فى الحياة من الأمان مالا يتطلب الاستمرار فى الدفاع والهجوم، فتصبح الحاجة إلى استعمال الوسائل الدفاعية (والهجوم من ضمن الدفاع) لا معنى لها وهذا مانقصده بتعبير “استنفدت أعراضها”
2- أن تثار القوى المعرفية أو الخلاقة أو هما معا نتيجة لمثيرات خارجية مثل مزيد من الثقافة فالرفض، أو الاحتكاك الإنسانى الأوسع فالفهم فالاحتجاج، أو فترات التحول الحضارى القلقة، أو رؤية الأمل فى الاحسن وأنه ممكن التحقيق، أو غير ذلك من المثيرات لهذه القوى الكامنة.
3- أن تثار هذه القوى نتيجة لفقد التوازن البيولوجى (بالمعنى العضوى فحسب) فى فترات التحول الهرمونى مثل فترة المراهقة أو سن اليأس، أو نتيجة لأى اختلال عضوى آخر مثل المؤثرات العضوية الخارجية والداخلية التى أتجنب الإشارة إليها فى هذا البحث.
4- أن تثار هذه القوى تلقائيا نتيجة لقوة ذاتية تحددها فى الأغلب فى هذه الحالة العوامل الوراثية.
وعادة ما يتم فشل المستوى الأدنى نتيجة لأكثر من عامل فى نفس الوقت، فإذا اختل التوازن، ظهرت الأعراض، وفى نفس الوقت أثيرت وسائل جديدة لإعادة التوازن، ذلك لأن الوسائل الأدنى لم تعد كافية لتحقيق التوازن بعد هذه الإثارة أيا كان مصدرها – على أنه من أهم مثيرات مستوى معين من الصحة هو مخالصة نوعيته، فالهجوم يثير الدفاع، والثقافة تثير المعرفة، والاستمتاع الفنى يثير الابداع الفنى، وهكذا.
الفرض الرابع:
أن للصحة النفسية مستويات متتالية تقابل الوسائل الغالبة للحصول على التوازن، وأنه يمكن تمييز ثلاثة مستويات محددة دون إغفال المستويات المتوسطة بينها، وأنما نشرح كل مستوى بصفاته الكاملة نظريا حتى تتحدد الصورة بوضوح أولا، أما التوفيقات البينية فيمكن استنتاجها بسهولة.
وعلى ذلك فأنه يمكن أن يقال على أى فرد متوازن أنه صحيح نفسيا مع تحديد نوع الصحة التى يتميز بها حسب الوسيلة الغالبة للحصول على التوازن.
وحتى نعرف نوع الصحة التى يتميز بها فإنى سوف أستعمل نفس المقاييس التقليدية لقياس الصحة وتمييزها، وهى التكيف والرضا والعمل ولكن معانيها وترتيبها سوف تختلف اختلافا تاما من مستوى لآخر جدول (1)، كما يلى:
أولا- المستوى الدفاعى:
وفيه يمارس الانسان مظهر الحياة دون جوهرها، ويستمر يدافع عن نفسه وبقائه وقيمه الاجتماعية الثابتة أكثر مما يسعى إلى معرفة طبيعتها وإطلاق قدراته لتغييرها، وهذا المستوى يتصف به (ربما للأسف) أغلب الناس وخاصة فى المجتمعات البدائية والتقليدية والمتخلفة، ويتم التوازن بالدفاع والهجوم معا، وتقاس الصحة النفسية بمدى نجاح العمى النفسى الذى يتمتع به الفرد، ويكون ترتيب المقاييس ومعناها كالتالى:
التكيف: ويعنى هنا التشكل حسب قوالب المجتمع ومجاراة القيم السائدة على حساب أى شئ آخر، فالإجابات التقليدية جاهزة لكل سؤال، وتثبيت الواقع أمان من كل اهتزاز.
العمل: ويتجه أساسا لإرضاء الغرائز وحفظ النوع (لا تطويره)، فالانسان هنا يعمل للحصول على لقمة العيش والمركز أساساً، ثم لاقتناء ممتلكات رمزية تميز وجوده وتبرره وتساعده فى نفس الوقت فى نجاح العمى النفسى لتحقيق التوازن.
الرضا: ويتم أساسا بتجنب الألم والقلق والارتواء من اللذة الحسية. وأود أن أشير إلى معنى الترتيب فى هذه المرحلة من البحث، إذ أنه لا يمكن فصل مقياس عن الآخر، وإنما وضعت الترتيب على أساس أنه إذا تعارض اثنان فرضا فأيهما يرجح؟ ووضعت الراجح فى ترتيب سابق، فمثلا إذا تعارض التكيف مع الرضا (وهما لا يتعارضان عادة لأنهما يخدمان نفس الهدف النفسى للمرحلة ولكن الذبذبات محتملة) فإن الفرد لا بد أن يتنازل عن الرضا مؤقتا ليتشكل مع النظام السائد الذى سيحقق له الرضا أخيرا بشكل أدنى ما دام قد قبل هذا المستوى من الصحة، فهذا الترتيب لا وجود له فى الواقع إذا كانت المعانى مطابقة تماما للمرحلة، كما أن هذا الترتيب يشير إلى “المقياس” وليس إلى “القيمة المطلقة” فالصحة هنا تقاس بالتكيف أولا فالانسان فى هذا المستوى من الصحة “مثله مثل الجميع يكسب لقمة العيش، ويقتنى من الأشياء أكثر ما يمكنه ويملأ بطنه وتتلذذ حواسه، وينام، وتنتهى آماله فى الأغلب عند الستر أو الممتلكات الرمزية”
وأحب أن أؤكد أن هذا المستوى مشروع من الصحة، يتمتع به الأغلبية، لذلك لا ينبغى أن ينتقص توازن الفرد عند هذا المستوى من حقه فى الحياة الآمنة مادامت قدراته وإمكانيات مجتمعه لم تسمح له بغير هذا المستوى، ولعل هذا المستوى هو ماأشار إليه لامبو Lambo فى مناقشته للصحة النفسية فى المجتمعات النامية قائلا “إن مفهوم التقبل والتلاؤم الاجتماعى هو أكبر علامة لتقويم الصحة النفسية فى المجتمعات التقليدية”.
ثم إن الانسان فى تطوره يحتاج إلى الكم الذى منه يخرج الكيف، واحترام الكم الذى يمثله هذا المستوى إنما يعنى أمرين: الأمر الأول أن هدف الطب النفسى هو تحقيق التوازن على قدر ماتسمح الظروف، وليس اتهام الناس بالمرض وإثارتهم دون إمكانيات مناسبة، والثانى أن الانسان على هذا المستوى قد يتطور فى أى وقت أو قد ينجب من الأطفال من يحمل بذور التطور وتسمح له ظروفه باطلاقها فى أمان أكبر، وبهذا يكون قد أدى وظيفته التطورية بطريق غير مباشر.
ثانيا: المستوى المعرفى:
وهنا يعرف الانسان أكثر، فيدرك كثيرا من دوافعه وغرائزه كما يدرك القيم الاجتماعية من حوله، ويتقبل هذا وذاك فيحصل بذلك على التوازن، وبهذه الرؤية الواضحة قد لا يحتاج إلى كثير من الحيل الدفاعية إذا اعتبرنا أن المعرفة فى بعض صورها دفاع ضد البصيرة الأعمق، وهو يصل إلى درجة من الراحة والتلاؤم لا تثير قدراته الخالقة لعمل الجديد والتغيير فيكون هدفه أساسا فى هذه المرحلة هو الراحة واللذة والهدوء، وربما القراءة أو المناقشة العقلية، ويصل الفرد إلى هذا المستوى من التوازن بالمعرفة وربما بالاستبصار الذاتى عن طريق معلم أو كتاب أوصديق أو محلل أوطبيب، وكما سبق أن ذكرنا (وهو مبين بالشكل التوضيحى شكل (1) أن التوازن عند هذا المستوى لا يخلو من وسائل دفاعية أو ممارسة بعض النشاطات الخلاقة (ولكنه ليس نشاطا بالضرورة للتغيير، رغم أصالته) وتكون المقاييس حسب أهميتها القياسية مرتبة بشكل خاص كما تختلف معانيها عن بقية المستويات كالتالى :
الرضا: وهو هنا المقياس الأساسى، ويميز بقبول الذات واحترام الصراع، ويتم بتحوير الألم بتجاهله تماما مثل المستوى الدفاعى، وينفس الفرد عن القلق بالتفريج والترويح والفهم، ويحصل على اللذة العقلية بالمعرفة، بالاضافة إلى الافراج عن اللذة الحسية والتمتع بها.
التكيف: ويشمل هنا التكيف مع داخل النفس والواقع الخارجى معا نتيجة لمعرفة بطبيعة مايجرى فى الداخل والخارج على المستوى العقلى، ولا يتعدى مجال التكيف المجتمع القريب فى الأسرة والأصدقاء والعمل، وقد يتحدث عن المجالات الأوسع للانسان إلا أن ذلك لا يكون تكيفا معها بقدر ما هو فهم لها أو مناقشة لظروفها، ومهما ظهرت كلمات التغيير فى الحديث فإنها تفتقر إلى العمق الخالقى، وتكون أقرب إلى التفسير والتبرير.
العمل: وهنا يتعدى مفهوم العمل مستوى كسب العيش واقتناء الأشياء وإرضاء الدوافع الغريزية إلى ممارسة بعض الهوايات التى تجلب المتعة والتسلية كذلك، وتصبح وظيفة العمل هنا بعد تحقيق الدوافع الأولية، إطلاق الطاقة للمتعة وتثبيت الذات، ومن ثم الرضا والراحة والاستمتاع.
وهذا المستوى ربما يصف من يطلق عليهم المثقفون، وعلى الرغم من أنه يعتبر أرقى من سابقه وأقرب إلى الصفات الانسانية إلا أنه من الصعب اعتبار أو تصور أن غاية تطور الانسان أن يكون فاهما مرتاحا، وإن كان هذا هدفا عظيما فى حد ذاته حتى يغرى بأن يكون غاية أمل الفرد فعلا، إلا أنه لا يحمل إرادة التطور والتغيير ولكنه يخدم اتساع دائرة المعرفة الانسانية التى تخدم بدورها ولو بطريق غير مباشر شحذ البصيرة الانسانية ومن ثم الانطلاق إلى المرحلة التالية، ويمكن وصف الانسان فى هذا المستوى من الصحة بأنه “إنسان يتمتع بالراحة، يعرف كيف يرضى نفسه ويساير من حوله، ويقبل الموجود ويتمتع بالممكن، يمارس عمله وبعض هواياته”.
ولكن هذا المستوى مثل سابقه، إذا استنفد أغراضه، أو ثارت قوى التطور عليه (تلقائيا أو نتيجة مؤثرات كما سبق) فإنه لا يعد كافيا لحفظ التوازن.
ثالثا: المستوى الخالقى (الانساني)
وقد وضعت الانسانى بن قوسين حتى لا أنفى صفة الانسان عن المستويات السابقة، لأن هذا المستوى وإن وصف الانسان كما ينبغى أن يكون، إلا أنه لا ينطبق إلا على ندرة من الناس فى المرحلة الحالية لتطور الإنسان، ونظرا لأن الطبيب النفسى يعالج كل البشر فعليه أن يحترم مراحل تطور كل البشر، وبذلك نتجنب ما أخذناه على بعض التعريفات حين قصرت معنى الصحة على هذا المستوى فحسب.
على أن هذا المستوى هو غاية تطور الانسان “كنوع” والانسان “كفرد” لأنه إذا امتد معنى التكيف إلى اهتمام الانسان بوجوده زمانيا كمرحلة من النوع البشرى تصل الماضى بالمستقبل، ومكانيا كفرد من البشر فى كل مكان، وأصبحت راحته وصحته لا تتحقق إلا بأن يساهم طوليا فى التطور وعرضيا فى مشاركة الناس آلامهم ومحاولة حلها بالتغيير والعمل الخلاق، ولم يخل كل ذلك بحياته اليومية، ولم ينتقص من قدرته على كسب عيشه مثلا أو تكوين أسرة ورعايتها، فإنه يكون قد حقق إنسانيته وتوازنه على أرقى مستوى معروف للصحة النفسية، والحياة.
ويكون ترتيب المقاييس فى هذا المستوى حسب أهميتها كالتالى:
العمل: وهنا يصبح العمل أساسيا لا غنى عنه لتحقيق التوازن ومن ثم الصحة النفسية، والعمل الذى يؤدى هذا الغرض هو “العمل المغير” أو الخلاق ولا أعنى به هنا نوعا خاصا من الإبداع الفنى (إلا أن هذا يدخل فى بعض الأحيان ضمن هذا المستوي) وإنما أعنى به أى عمل فيه تغيير للواقع لصالح الإنسان وخلق الجديد، وهذا الجديد ابتداء هو نوع من الحياة التى يحياها الفرد وكأنه يخلق نفسه من جديد، ومنه أن يطلق قدرة طفله وينمى حرية الخلق لديه، وهو بذلك يتعدى مجرد كسب العيش أو ممارسة هواية، ولكنه لا يتم على حساب هذا أو ذاك.
من هذا يتضح أنى لم أعن أنه لابد للإنسان من خلق عمل فنى حتى يتصف بالتوازن على هذا المستوى، بل إنه ليس ضروريا أن من يخلق عملا فنيا يكون قد حقق صحته النفسية فى هذا المستوى، إلا أثناء عملية الابداع فقط (كما سيرد ذكره)، فالمقصود هنا أن الوجود الانسانى الإيجابى والمساهمة فى الاستمرار كحلقة متغيرة فى سلسلة التطور، هو خلق جديد فى ذاته، فتكون الحياة ذاتها فنا أصيلا، ولا يكون الفن بديلا عن الحياة، لأن مجرد تغير نوع الفرد يحمل الأصالة اللازمة لاستمرار سلسلة التطور.
الرضا: ويعنى هنا السعادة الايجابية التى تصاحب “العمل المغير” أو الخلق، ويشمل الشعور بالحرية والمسئولية معا، وممارسة القلق البناء لصالح التغيير، لأن الرضا يأتى مما يثيره القلق من عمل يتفوق به الانسان على نفسه، فلا يقتصر بذلك معناه على المتعة أو اللذة الحسية، وإنما يعنى الشعور بالتناسق والانسجام مع الحياة والناس والوجود، ولا يشترط لذلك درجة النشوة التى يصل إليها الصوفى أو الفنان أثناء تجربة الخلق، فهذه حالة مؤقتة، ولكنها على كل حال تحمل نوع هذه التجربة حيث تتعدى السعادة الانسانية اللذة والراحة إلى النشوة والإحساس الإيجابى بالحياة والناس، وبقيمة الانسان، وبأهمية المشاركة الانسانية لتحقيق هذه النشوة.
التكيف: ويصبح معناه التلاؤم مع الجنس البشرى كله فى المكان والزمان، فلا يقتصر على المجال القريب للمتصلين بالفرد، ولكنه يتم فى هذا المجال كخطوة أولى نحو مجال أشمل، وكثيرا مايضطرب هذا المقياس مع سابقيه، ولكن الصحيح المتوازن نفسيا فعلا هو الذى يملك القدرة على إعادة تنظيم نفسه وبيئته القريبة بحيث تتفق مع قدرات خلقه وتحقق سعادته التى ينشدها فى وسط الناس وبهم، وإلا فإنه بمقياس الصحة النفسية يصبح توازنه ناقصا، ويبدو أنه لابد أن يملك الفرد القدرة على قبول تنازلات مرحلية دون أن تمس توازنه الأصلى أو قدرته على العمل الخلاق، بل تساعد على استمراره وتوازنه على المدى الطويل.
الفرض الخامس:
إن الانسان إذ ينتقل من مستوى أدنى للصحة النفسية إلى مستوى أعلى ( للأسباب التى ذكرتها ص 203) تظهر عليه أعراض غير عادية قبل أن يستعيد توازنه على المستوى الأعلى، وينبغى ألا نساوى بين هذه الأعراض وأعراض التدهور المرضى، بل يستحسن ألا نطلق عليها اسم المرض أصلا، وأقترح اسما جديدا لهذه المرحلة من فقد التوازن هو “أزمة تطور” Evolutionary Crisis فيقتصر اسم المرض على فشل هذه الأزمة فى أن تحقق أغراضها التطورية، إذ تستمر الأزمة بدرجة معجزة أو تنهار القوى المتطورة فيظهر المرض فى صورته شبه المستقرة يحقق التوازن ولكن فى مستوى أدنى من الحياة، لأن التوازن المرضى قد يتم بديلا عن المستوى الأعلى للصحة ويكون مقابلا لهذا المستوى الأعلى، وكأنه يحقق نفس الهدف ولكن بطريقة محطمة تخدم التدهور لا التطور. (شكل 2).
على أن هناك احتمالا آخر وهو ان ترتد هذه الأزمة إلى المستوى السابق للصحة النفسية، أو أدنى منه، وإن بدا مشابها له من الظاهر، لأن هذه الفروق البسيطة لاتظهر إلا بالمقاييس الإنسانية الدقيقة وليس بمجرد اختفاء الأزمة.
الفرض السادس :
يمكن تقسيم الأمراض النفسية (شكل 2) – فيما هو ليس أزمة تطور – إلى مستويات مقابلة لمستويات الصحة، هى مستويات التدهور حين يفشل التطور.
فتوضع الأمراض العصابية التى تستخدم فيها الوسائل الدفاعية بدرجة معجزة تزيد من العمى النفسى حتى تسمى أعراضا، توضع هذه الأمراض فى المستوى المقابل للمستوى الدفاعى للصحة، وتستعمل هنا الوسائل الدفاعية لتجنب الألم أيضا، ولكنها تزيد إلى درجة مرضية لتغطى احتمال رؤية أعمق أو أصدق، فإن العمى النفسى هنا يكون دفاعا ضد التهديد بدرجة أكبر من الرؤية، والأمثلة فى هذا المستوى كثيرة ربما أشهرها الهستيريا.
وتوضع الأمراض التى تحتد فبها المعرفة بلا فاعلية ولا بناء، فى المستوى المقابل للمستوى المعرفى للصحة، وهنا تزيد الرؤية أيضا ولكنها لا تخدم التوازن، ويزيد الألم ولكنه يقتصر على التعجيز والتعويق، ويقضى على الهدوء والرضا، وتختل العلاقة بالآخرين وتفقد الحياة معناها الحالى بلا بديل أرقى، والأمثلة فى هذا المستوى هى: مرض الاكتئاب بدرجاته ومرض القلق.
وأخيرا فإن الأمراض التى تقابل المستوى الخالقى للصحة هى أمراض تحقق الخلق ولكن على مستوى مرضى لا يخدم التطور، بل هو نهاية التدهور، صحيح أنه خلق مبتكر ليس كمثله شئ، ولكنه خلق فى عالم الخيال والأوهام بلا هدف بناء ولا تناسق متكامل ولاقدرة على التغيير، وهو محاولة لتحقيق فكرة الأهداف بأقسى الوسائل تحطيما، والتوازن الذى يتم به يبدو على ظاهره الاستقرار ولكنه استقرار فى قاع الانسحاب والانفرادية والنكوص فمرض الفصام هو الخلق المرضى المتدهور.
الفرض السابع:
إن العلاج إذن يتطلب أن يتحدد ما إذا كانت الأعراض الموجودة تدل على “أزمة تطور” أم هى علامات تدهور، وهذه خطوة مبدئية وأساسية حتى لايكون الخلط بين المرض والثورة أو بين الخلق والجنون، فإذا كانت الحالة أزمة تطور فإن علاجها يتوقف على تحديد أين تقع هذه الأزمة بين مستويات الصحة المتتالية، وعلى قدر فهمنا لمستوى المرحلة السابقة من الصحة وأسباب فشلها أو رفضها، وعلى قدر تقييمنا لقوة الفرد التطورية (وراثيا وشخصيا) وعلى قدر حساباتنا للامكانيات المتاحة فى بيئة الفرد لإطلاق قدراته فى ذلك الوقت من حياته…. على قدر نجاحنا فى تحديد نوع الأزمة، وبالتالى مسيرة التطور والمستوى الأنسب لمساعدة الفرد للوصول اليه حتى ولو كان المستوى الأدنى، ولو مرحليا.
أما إذا كانت الأعراض قد استقرت على مستوى معين من التدهور- ويحدث هذا أساسا فى المستوى المرضى الأول والثالث (الدفاعى والخالقى: شكل 2)- فإن وظيفة العلاج قد تكون إثارة أزمة التطور تحت ظروف أفضل، أو على الأقل تسكين الأعراض والعودة إلى مستوى مناسب- وإن كان أدني- من الصحة حسب الحسابات السابقة.
أما فى المستوى المعرفى فإنه من الصعب تصور الاكتئاب أو القلق نهاية مرحلة ما، مهما أزمن، فإن هناك دائما احتمال الانتقال من المعرفة إلى البصيرة، ومن ثم فإن العلاج فى هذا المستوى يكون أقرب إلى المعاونة نحو تمام التطور، لا مجرد التسكين.
وحين أقول العلاج أعنى تضافر كل أنواع العلاج المعروفة كيميائيا وكهربائيا ونفسيا وبيئيا مما لن أتناوله فى هذا البحث مرحليا، إذ يحتاج إلى تفصيل مستفيض.
***
وبهذا تكون قد انتهت الفروض الأساسية.
***
الحل الوسط:
على أنه لا يمكن تصور مستويات الصحة محددة ومنفصلة عن بعضها البعض هكذا بالقلم والمسطرة، فإن أى تناسب من الوسائل الثلاث قد يتم بنسب متفاوتة ويحقق التوازن عند الفرد حسب ظروف تطوره، وكما ذكرت فإن هذه الصورة التى قدمتها عن المستويات المختلفة هى الصورة الكاملة- نظريا- لكل مرحلة، أما فى الواقع فإننا نجد درجات متنوعة من الخليط بين المستويات، وإنما يتحدد نوع الصحة بنوع الوسائل التوازنية الغالبة فى كل وقت.
وهناك وضع متوسط آخر وإن كان غير مستقر أو متوازن بصفة دائمة إلا أنه قد يستمر لفترة طويلة حتى نحسبه حلا وسطا، وهو أن يظل الفرد لمدة طويلة متذبذبا بين مستويين أو أكثر، ترجح كفة هذا مرة، وترجح كفة ذاك مرة، أو يظل فى أزمة تطور تستمر عدة سنوات وهذا مايفسر ماأشار إليه ياسبرز من أن “الحالة الحادة” يمكن أن تستمر سنوات، إلا أنها لايمكن أن تدوم إلى الأبد فهى حالة قلقة مزعجة، فإما أن ينطلق منها الانسان إلى المستوى الأعلى ويستقر، أو أن يرجع إلى المستوى الأدنى أو أقل، أو يلجأ إلى الحل المرضى بالتدهور.
كما أن هناك حلا ثالثا وهو أن يكون المستوى الأغلب للصحة هو أحد المستويات الأدنى، ولكن الفرد يمارس نوعية المستوى على فترات محددة، وكأنه يفرغ شحنتها باطلاقها وإتاحة الفرصة لغلبتها ثم يعود للمستوى الأصلى العام لتوازن، وأكثر ما نشاهد هذا التناوب عند بعض الفنانين المبدعين بصفة عامة الذين تنطلق قدراتهم الخالقة أثناء عملية الابداع فقط (شكل 3)
– لاحظ أن إرهاصات الإبداع المؤقتة تقابل أزمة التطور
- لاحظ أن المستوى الأدنى قد لايستطيع أن يحقق التوازن رغم كثافته
فيعيشون نوعية الصحة على المستوى الخالقى حينذاك، ثم يعودون إلى المستوى الأصلى للتوازن الذى قد يكون المستوى المعرفى أو الدفاعى أو خليطا منهما معا، وتكون الأعراض السابقة مباشرة لعملية الابداع هى أشبه ماتكون بأزمة تطور ولكن الفرق أنها تتم لفترة محدودة أثناء عملية الابداع، فى حين أنها تطول إلى شهور أو سنوات فى التطور الفردى الذى قدمناه، وبانتهاء عملية الإبداع مؤقتا يعود التوازن على المستوى السابق العام، وهذا قد يفسر اختلاف أحاسيس ونوعية الفنان أثناء الابداع عن حالته بصفة عامة، إذن فالابداع الفنى ليس دائما مرادفا للتوازن على المستوى الخالقى كما سبق أن ذكرنا وإنما هو بهذه الصورة حل وسط متناوب بين مستويين للصحة النفسية، وهذا هو الفرق الذى أوضحناه بين أن يكون الفن بديلا عن الحياة أو أن يكون الفن هو الحياة، ونتاجها بعض صوره، ففى الحالة الأولى يمارس الانسان الفن كحل وسط يطلق به قدراته الفنية على فترات حتى لاتتجه اتجاها تحطيميا، وفى الحالة الثانية تصبح الحياة ذاتها فنا ونتاجها الطبيعى هو الفن بصفة شبه دائمة.
على أن ذلك لايعنى التقليل من أهمية الانتاج الفنى مهما كان مستوى الصحة النفسية للفنان عامة، فإن نتاج الفن الأصيل ينفصل عن حياة الفنان وذاته ويصبح من أهم المثيرات والمقومات التى توقظ القدرات والوسائل الخلاقة عند المستمتع الذى يسعى بدوره إلى تحقيق مستوى أفضل- نتيجة لهذه الإثارة- من الصحة النفسية، وهذه هى قيمة الفن فى الحياة.
وقد يحتاج كل ذلك إلى تطبيق وتحقيق- مثل سائر الفروض- إلا أنى أوضحت كافة الاحتمالات حتى تكون الحلول الوسيطة واضحة وجاهزة للتطبيق كفروض مكملة.
صحة الطفل والمراهق أثناء النمو:
إذا كانت مستويات الصحة التى قدمتها هى المستويات التى يستقر فيها الشخص الراشد، وقد ينتقل من أحدها إلى الآخر فى الظروف التى أشرت إليها فكيف يحقق الطفل والمراهق التوازن والتلاؤم… وماهو نوع صحته؟
إذا رجعنا إى تعريف الصحة بأنها توازن القوى الفعالة للحصول على التوافق الداخلى والتلاؤم الخارجى فى وقت معين، وتذكرنا أن الفرض الأول يقول أن الطفل يولد على استعداد أن تعمل الوسائل المختلفة بنفس الدرجة للحصول على التوازن حتى تغلب إحداها على الأخرى فى مرحلة الرشد; فإننا نستنتج أن الصحة فى أطوار النمو السابقة تعتمد على مدى عمل هذه القوى مجتمعة بدرجات متفاوتة ومتناوبة وكأن التوازن إذ ذاك يكون أقرب مايكون إلى الحلول الوسط التى أشرنا إليها حيث لا تغلب إحدى الوسائل على الأخرى بشكل ثابت قبل مرحلة النضج.
أما مظاهر المرض عند الأطفال فهى تحدث إذا تخلخلت سرعة النضج فى غير تناسب مع إمكانيات التوازن… فإنه لو أهملت ملكات الطفل الخلاقة لحساب نمو الوسائل الدفاعية فربما نشأت الأعراض فى شكل الإنكار المستمر والهرب الكامل من كل مواجهة للواقع، مثال ذلك أعراض الهستيريا أو الأمراض العصابية الأخرى التى تبالغ فى استعمال الوسائل الدفاعية حلا للقلق.
كما أنه لو أطلقنا – فى التربية- الفرصة لتنمية القدرات المعرفية على حساب الوسائل الأخرى فإن الطفل قد يهمل قدرات الخلق مبكرا، أو قد يصاب بأعراض القلق أو الاكتئاب، والأخير أقل احتمالا فى الأطفال.
وأخيرا فإنه لو طغت قوى الخلق التطورية دون إمكانيات تعبيرية مناسبة ودون دفاع كاف عن ذات الطفل الضعيفة- إذ لم تتشكل بعد بالصلابة الكافية- لانقلب الخلق مرضا تدهوريا مثل الفصام أو هو الفصام ذاته.
إذا فصحة الطفل تعتمد على تناسب القوى الثلاث المستمر ونموها التدريجى حتى ترجح كفة إحداها عل الأخرى فى سن الرشد.
أما كيفية قياسها فهذا أمر نسبى إذ تختلف معانى مقاييس الصحة (التكيف والعمل والرضا) باختلاف مراحل النمو، ولعل وصف إريك إريكسون Erick Erickson لمراحل النمو- رغم اختلافنا مع تفسيراته- هو أقرب مايتصل بهذا التنوع فى قدرات التوازن على مختلف المراحل.
فالعمل: قد يعنى عند الطفل أو المراهق إطلاق الطاقة أو اللعب أو الاستذكار أو تدريب ملكاته الخلاقة أو كل ذلك معا، حسب مرحلة تطوره.
والرضا: قد يعنى تجنب الألم أو قبول الذات أو نشوة الابداع والخلق أو كل ذلك أيضا.
والتكيف: قد يعنى التشكل مع البيئة والمجتمع أو قبوله أو تغييره… وعادة مايتم ذلك معا.
إلا أنه ينبغى الاشارة أن الفروض التى قدمناها لا تؤكد أن المستويات الأدنى سابقة للمستويات الأعلى، فهى لا تشير إلى أن الطفل يلجأ للدفاع أكثر من الخلق، بل بالعكس فإنهاتشير إلى أن الوسائل كلها تتقارب فى أول الأمر، ولا ترجح الأدنى أو الأعلى إلا بمرور الزمن، وحسب ظروف المجتمع والامكانيات المتاحة، فتكمن بعضها وترجح الأخرى، ثم تثار الوسائل الكامنة فى أزمات التطور حسب مابيننا.
تطبيقات محتملة:
لقد عمدت من أول الأمر وأنا أقدم هذا المفهوم ألا تكون وظيفته مجرد بحث نظرى لمشكلة تعريف الصحة النفسية، ولكن كان الهدف أن نتمكن من استعمال مقاييس معينة ومحددة نقيس بها مستوى الصحة، وأن يخدم هذا التقسيم فهم بعض الظواهر النفسية المرضية والصحية على السواء، وأن يساهم فى تقسيم الأمراض النفسية ودرجاتها وكذلك اتجاهات العلاج والتخطيط له، وأن يتيح فرصة أكبر للدراسات المقارنة ويلقى ضوءا هادفا على وسائل التربية.
وأقدم هنا بعض ما أتصوره من هذه التطبيقات- بالاضافة إلى ما أشرت له فى مواقع متفرقة من هذا البحث- مدركا تماما أن هذه مجرد رءوس موضوعات لإثارة التفكير فى فاعلية هذه الفروض وجدواها.
وأوجز فما يلى بعض هذه التطبيقات المحتملة وإن كان فيها بعض التكرار:
1- فى الدراسات المقارنة لتقييم الصحة والمرض يمكن أن يكون تحديد مستوى الصحة قبل الدراسة المقارنة عاملا أساسيا فى عدم الخلط، بمعنى أنه لا يمكن مقارنة مظاهر الصحة عند المستوى الدفاعى مع مظاهرها عند المستوى الخالقى مثلا، وإنما ينبغى أن تكون المعانى واحدة وعلى نفس المستوى لتكون المقارنة علمية، ولا تحفى أهمية ذلك فى تقييم الصحة النفسية فى فترات التحول التى تمر بها الدول النامية، فمن البديهى أن نوع الصحة الغالب فى المجتمع الزراعى غيره فى المجتمع الصناعى، والحديث عن التفضيل بينهما حديث لا مجال له أساسا، إذ أن وجود الأعراض بشكل زائد فى فترات التحول قد يكون علامة تطور للمجتمع ذاته وليس تدهورا للصحة.
2- إن التفرقة بين ” أزمة التطور” وبين المرض الذى يقتصر على الهزيمة أمام قوى التدهور، خليقة بأن توجه العلاج توجيها أساسيا منذ البداية (الفرض السابع) إذ يتيح لنا الفرض تقييم بعض الأعراض التى كانت تعتبر مضاعفات لبعض العلاجات الكيميائية تقييما جديدا، إذ أنها يمكن أن تكون علامة صحة على طريق العودة إلى الأزمة السابقة على التدهور، وهذا بالفهم الديناميكى لعمل الكيمياء، فإن ظهور الاكتئاب مثلا فى مرض الفصام أثناء العلاج يمكن النظر إليه على أنه تقدم وليس مضاعفة; حيث أن الاكتئاب من صفة الأزمة السابقة، وبذلك نستغل وجود الأعراض الايجابية فى فهم وتطوير العلاج لتجنب الاستسلام للاستقرار المرضى السلبى، والذى يتيح لنا كل هذا التنقل بين المستويات، ومواجهة الأزمات الخطيرة بأمان نسبى هو عدم التقدم فى استعمال العقاقير النوعية الحديثة، حيث تزيد قدرة التحكم فى مسيرة التطور… وبديهى أن كل ذلك هو موضوع التطبييقات الاكلينيكية الجارية فعلا.
3- إن بعض العلاجات التى غلب عليها مفاهيم التحليل النفسى (وخاصة التقليدى منها) قد تقتصر على المستوى المعرفى للصحة النفسية، ورغم أنهم يطلقون على هذه المعرفة معنى البصيرة إلا أنه إذا اقتصرت رؤية الانسان على تفسير سلوكه بالميول الغريزية الجنسية (صريحة أو متسامية)، فإن ذلك لايتعدى حدود المعرفة التى انتقلت من عقل صاحب النظرية أو معتنقها إلى المريض; مهما صاحب هذه المعرفة من تفريغ انفعالى وطرح ومقاومة، إذ لايمكن للتحليل النفسى أن يخدم بطريقة مباشرة وفعالة قضية التطور على المستوى الفرى وهو ينكرها إنكارا صريحا إذ يقصر مسار التطور الانسانى على نجاح خليتى التناسل فى الاندماج، ولا يفرق بالنسبة للتطور بين إنسان وحيوان، أما عن القول بأن التحليل هو إطلاق القدرات فإن الذى يحدد أبعاد “النظرية” ليس فقط مفاهيمها النظرية وانما تفاصيل أبعادها، إذ أنه لايمكن إطلاق قدرات لاوجود لها من وجهة نظرهم حيث القدرات التطورية للفرد ليست ذات بال فى نظر فرويد، وما الثقافة والفن عنده إلا تسامى بالغريزة الجنسية، على أن النتائج التى يصل إليها بعض المرضى والتى تنطلق فيها القدرات التطورية فعلا بما يتخطى حدود النظرية ذاتها إنما تدل على أن الانسان إذ يتحرر يتعدى الحدود، وأولها حدود الفهم الأدنى لطبيعته، وكأن مثل هذا المريض يشفى “بالرغم من العلاج وليس بسببه” أو كأنه يستعمل العلاج بطريقته الخاصة لمجرد أنه إنسان متطور أساسا.
على أنى لا ألوم فرويد بالذات رغم ماترك لنا من معوقات، فقد كان دائم الاعتذار فى تواضع العلماء، وذكاء أصحاب الغرض- عن تصوره، فهو الذى يختم كتابه الذى تناول فيه مشكلة الموت والتطور “فوق مبدأ اللذة” مستشهدا بقول الحريرى فى مقامته الثالثة: “فليس على أعرج من حرج”
4- إن تقارب هذه الوسائل التوازنية منذ الولادة يعطى تفسيرا لوجود ملكات الخلق عند الطفل أكثر من الناضج، كما أن ترجيح القوى الدفاعية على القوى الخلاق للحصول على التوازن بالطريقة الدفاعية عند أغلب الراشدين يفسر كمون هذه القوى الخالقة عند معظم الناس فى سن اليفوع وبعده.
5- ينبغي- بناء على ذلك- أن تتجه الأساليب التربوية فى عصرنا الحاضر إلى عدم ترجيح مستوى من الصحة أدنى على حساب قدرات الإنسان التطورية، لذلك كانت محاولة تنمية الفكر الخلاق والملكات الإبداعية هى من أهم محاولات تطوير الإنسان، لأنه إذا تحقق التوازن مباشرة وبطريقة آمنة وهادئة ومخططة بتنمية قدرات الخلق أساسا فإن هذا خليق أن يعفى الفرد- وخاصة ذا الطاقة التطورية القوية- من مشاكل تطورية تعترض حياته فيما بعد، حين يحاول فى تطوره الفردى أن يرفض المستويات الأدنى التى فرضت عليه قسرا، فيدخل فى أزمات تطور متلاحقة، لانعلم مدى إمكانيات نجاحه فى الانطلاق منها إلى الخلق، أو احتمال فشله، ومن ثم التردى فى هوة المرض، أو النكسة إلى مستوى أدنى، وهذه الاحتمالات تكثر فى أقارب المرضى الذهانيين وأقارب المبدعين على السواء.
6- إن هذه الفروض قد تفسر العلاقة الوراثية والتشخيصية بين مختلف أنواع المرض النفسى الوظيفى (وخاصة الذهان الوظيفي)، أى بين الفصام وجنون الهوس والاكتئاب، وكذلك بينهما وبين الابداع والخلق، فهى تشير إلى أن الوراثة قد لا ترتبط بوراثة مرض معين بقدر ماهى وراثة كم متفاوت من قوة التطور الدافعة، وكذلك اتجاهات معينة للتحكم فى هذه القدرة وتوجيهها، وعلى قدر التفاعل بين هاتين الصفتين من ناحية، وبين الامكانيات المتاحة فى المجتمع لتطور الفرد من ناحية أخرى، يتوقف نوع المستوى من المرض أو من الانطلاق الخلاق.
وقد يفسر هذا الفرض وراثة الفصام بوجه خاص حيث هو مرض خطير بيولوجيا، وشائع فى نفس الوقت، فإن الفرض الذى أورده جوردون آلن Gorden Allen يشير إلى تفسير هذا التناقض بين “الشيوع” و “الخطورة البيولوجية” بأنه : “من المحتمل أن يكون المرض الشائع نتيجة لمورث له فى الأساس مفعول حسن، وما المرض إلا نتاج جانبى By-produet لهذا المورث: بالصدفة، لمجرد سوء الحظ” ذلك الاحتمال يمكن النظر إليه من خلال هذا الفرض الذى قدمناه متغافلين حكاية ”سوء الحظ” مؤقتا، فإذا اعتبرنا أن المورث الخاص بالفصام هو مورث تطورى أساسا (القوة الدافعة التطورية) وأن مرض الفصام هو النتاج الجانبى لهذا المورث، لكان لزاما علينا أن نثبت هذا الفرض بأن نجد ميزات تطورية خاصة فى أقارب الفصاميين، وقد حاول بوك Book أن يجدد ميزة بيولوجية عضوية فى مجتمع فى شمال السويد ينتشر فيه مرض الفصام بنسبة أكثر من التعداد العادى (3% بالمقارنة بالنسبة فى التعداد العادى 8,.%) ووجد أنهم فعلا يتميزون بميزات عضوية لتقادم الظروف الطبيعية المحيطة ولكنها كانت ميزات أغلبها جسمية. وهذا التفسير هو نفس تفسير مقاومة أقارب المصابين بالانيميا الهلالية Sickle cell anaemia للملاريا الخبيثة.
إلا أن هذا الفرض قد يتحقق أكثر إذا درسنا القوى الدافعة التطورية على أنها ميزة بيولوجية بالمعنى التطورى النفسى، ودرسنا الوراثة فى الشخصية شبه الفصامية وفى الفصام معا من نفس العائلة، ومايحققه شبه الفصامى من ميزات تحصيلية (معرفية أساسا) أو من ميزات إبداعية، وما يحاول تحقيقه الفصامى نفسه من ميزات فنية خالقة قبل أن ينهار تحت وطأة المرض، أو بعد أن ينتصر على أزمة المرض. هذه الدراسات سوف تفتح آفاقا هائلة وسوف تتجاهل موضوع الصدفة أو سوء الحظ فى فرض آلن، لأن علم تحسين النسل Eugeenics لن يقتصر على إتاحة أكبر الوسائل للأسوياء لانجاب نسل أفضل معتبرين أن كل المرضى النفسيين من معوقات التطور، وإنما سوف ينتشر إلى فهم قوة التطور على طريق الارتقاء الفردى والتحكم فيها على حساب المرض، موجهين هذه القوة إلى الخلق والابداع، واضعين فى الاعتبار بالنسبة لتطور النوع حقيقة انتقال الصفات المكتسبة بالوراثة، وبذلك نحقق آمال جالتون فى علم تحسين النسل فى “…. أن تحل محل الانتقاء الطبيعى وسائل أكثر رحمة وليست أقل فاعلية” ولكن المجال لذلك لن يكون بهذه النظرة الأوسع والأشمل.
وفى ذلك ما يحقق فرض سويف (مصطفي) فى “أن يكون منشأ العبقرية ومنشأ الجنون… واحدا” وينفى الارتباط السببى الذى افترضه كرييتشمر بين الجنون والعبقرية لأن الجنون بهذا المفهوم يصبح هوة التدهور فى حين أن الخلق يمثل قمة التطور (شكل 2)
7- وإذا كان الخلق فيه “إرادة ودافع وإطار ومجال” (سويف) فلا بأس من تصور أن فى الجنون (الفصام) “إرادة ودافعا وإطارا ومجالا” وهذا ما افترضه برنارد شولمان وأثبته فى تطبييقاته من أن الفصام “ليس مجرد رد فعل وإنما هو فعل وقرار واختيار”، وبالتالى تصبح الإيجابية فى احترام الانسان المريض والسليم هى الطريق إلى التطور والعلاج معا، ومن ثم هى الصيغة الأساسية فى ممارسة الطب النفسى، لأنه إذا كان المرض اختيارا فى ظروف معينة تكون الصحة اختيارا حين تهيأ لها الظروف المناسبة، فإذا عجزنا عن إتاحة فرصة تحقيق المستوى الخالقى للصحة النفسية أمام أزمة تطور فإننا بذلك ندفع بالإنسان الثائر إلى المستوى المرضى المقابل أو المستوى الصحى الأدنى، وقد كان وسيكون للتقدم السيكوفارماكولوجى أعظم التأثير فى التحكم فى مسار هذه القوى.
8- إن دراسة الحيوان مهما قننت، لا يمكن أن تعمم أو تنطبق على الانسان، وخاصة بالنسبة للذهان الوظيفى، حيث أن مشكلة الانسان فيما يتعلق بالذهان الوظيفى مشكلة تطورية فى مرحلة لم يصل إليها الحيوان، لذلك تصبح المقارنة مستحيلة، ويصبح توقع الذهان الوظيفى من نوع الفصام أو جنون الهوس والاكتئاب فى الحيوان مستحيلا، وهذا ماأقره ياسبرز من أن أحدا لم يصف الفصام أو جنون الهوس والاكتئاب فى الحيوان لأنها أمراض خاصة بالانسان تماما.
***
الخلاصة:
1- إن الانسان كائن متطور كفرد، كما أنه متطور كنوع، وصحته النفسية تتوقف على توازن القوى المسئولية عن التوافق والتلاؤم التى تختلف أثناء مراحل النمو، كما تختلف من فرد لفرد ومن مجتمع لمجتمع، ويمكن وضع الصحة النفسية للراشد فى مستويات تصاعدية تبعا للقوى الغالبة المستخدمة للمحافظة على التوازن، وهذه المستويات هى المستوى الدفاعى (أو العمى النفسى المريح) والمستوى المعرفى (أو الرؤية الراضية) والمستوى الخالقى (أو الحياة المتطورة).
2- إن الانسان أثناء تطوره الفردى يستقر بعد أزمة البلوغ فى مستوى معين من الصحة، فإذا مافشل هذا المستوى أو ثارت قوة تطور الفرد- وعادة ما يحدث الاثنان معا أو يثير أحدهما الآخر- فإنه قد يحاول أن ينتقل إلى مستوى أعلى، فتكون “أزمة التطور” التى إما أن تنجح فيرتقى، أو تفشل فيقع صريعا للمرض، وأن الأفراد يختلف بعضهم عن بعض من حيث كم ومشاكل هذه القوى التطورية (الوراثة) كما يختلف فرصهم من حيث أهداف هذه القوى ومسارها (البيئة) وأن الأمراض والعلاج والوقاية يمكن أن تقسم وتحدد تبعا لتطبيقات هذا الفرض.
آفاق جديدة:
وقد حاولت منذ ثلاث سنوات أن أضع هذه الفروض محل اختبار وكانت النتائج الأولية مشجعة، إلا أنها فتحت أفاقا أوسع فى الفهم التطورى للأمراض النفسية، وخاصة بادخال عامل العلاجات العضوية والفيزيائية مع العلاج النفسى والبيئى فى كل تطورى متناسق مما جعلنى أحجم عن تقسيم الأمراض النفسية على تلك المستويات المقترحة فى هذا البحث حيث وجدتها أقل مما يفى بفهم مجاميع الأمراض وفهم تطور الانسان الفردى والنوعى بالتفصيل
وقد كانت هذه الآفاق الجديدة التى مهدت لفروض أكثر تفصيلا بالنسبة للمرض النفسى وعلاجه، هى أهم مانتج عن التطبيق المبدئى للفروض التى وردت فى هذا البحث.
ولكنى اقتنعت – رغم الصعوبات المنهجية التى لم أتغلب عليها بعد- أنه ينبغى تقديم المادة الإكلينيكية والمشاهدات أولا قبل الإقدام على عرض نظرية تطورية متكاملة لتقسيم الأمراض النفسية وأسبابها وعلاجها ولكن ذلك قد يحتاج إلى وقت ليس بقصير، وقد لا يتحقق بفرد أو عدة أفراد فى المدى القريب، وهنا يصبح تقديم الفرض حتى قبل تحقيقه ضرورة حتمية لا مفر منها.
وكل ما أرجوه أخيرا أن يكون هذا الفرض الذى قدمته خصبا حتى ولو لم يكن صحيحا مصداقا لما قال حسين (محمد كامل) ”.. وأقول الفروض الخصبة وليست الفروض الصحيحة….. وإنما تقدر الفروض العلمية على قدر خصوبتها وأعنى بذلك قدرتها على فتح آفاق جديدة من البحث، وعلى الإيحاء بتجارب جديدة توحى بدورها فروضا خصبة أخرى حتى تتجلى الحقيقة…”
***
شكر:
لم يكن ليخرج هذا الرأى فى هذه الصورة دون مناقشات مستمرة أدت إلى تعديله عدة مرات; وإنى أحس بذلك أنه ليس خاصا بى تماما; لذلك فإنى أقدم شيئا من الدين على إذ أشكر الدكاترة الأصدقاء د. بيير برينيتى; ود. محمد شعلان; ود. عمر شاهين; ود. صلاح الدين ابراهيم; والسيدة سعاد أبو العزم; ود. زينب سرحان والسيدة ليلى حلمى; والسيدة فوزية داود، والآنسة يسرية أمين.
مراجع الملحق
REFERENCES
1- Allen G.: Genetic Aspects of Mental Disorders, reprinted from: The Nature and Transmission of the Genetic and cultural characteristics of Human population. proceedings of the1956 Annual conference pp. 112-.121Milbank Memorial Fund, 40 wall street, N. Y. .5
2- Arasteh A.R. : Psychocultural Analysais
and three concepts of Mental Health. confina psychiatrica vol. 9, No. 1,.1966
3- Blatt, J. : An Attempt to Define Mental
Health, Journal of consulting psychology, Vol 28, No 2, .1964
4-Book, J. A.: A Genetic and Neuropsychiatric Investigation of a North Swedish Population. Acta Genet. 4, 1- 233 (1953). After Mayer Cross W., Slater E. and Ruth M. “Clinical psychiatry.,” Cassel and company Ltd., London, .1960
5-Brunetti P.M : contribution au concept
Ecologique de la Sante Mentale. Social psychiatry Ed. N. petrilowitsch and Flegel. Topical problems in psychiatry and Neurology,Vol. 8, Karger Basel, New York,.1969
6- Clegg, E.J.: The Study of Man. The English Universities press Ltd., London, EC. 4, .1969
7- Dobzhansky T. and Allen G. : Does Natural Selection continue o Operate in Modern Mankind: From the smithsonian report for 1958,pp359.-.374publication 4362,smithsonian institute, washington,.1959
8- Erickson E.H. :Growth and crisis of the Healthy personality. in “personality” in Nature Society and culture Ed. by clyde kluchhonn and Henry A. Murray. New York, Alfred A Knoff,.1965
9- Fuller J.L.: The Genetic Base pathway Between Gene and Behaviourial Characteristics. A paper in the Nature and Transmission of the Genetic and cultural characteristics of Human population, p. .101 N.Y., bank Memorial Fund, 1957
10- Gillis, L.S.: who is Mentally Healthy, South Africa Medical Journal, Vol. 35, No. 8, Deel, 35,cape Town (Feb).1961
11- Jahoda, Marie: Current concepts of positive Mental Health : Basic Books, N.Y.,.1958
12- jaspes K.: General Psychopathology. Translated by Hoenig J. and Hamilton Marian W. Manchester university Press, .1962
13- Kretschmer, .: The psychology of the Men of Genius, tanslated b R.B. cattell, London, Kegan paul. .1933
14- Lambo, T.A.: The concept and practice of Mental Health in African cultures. East African Medical Journal, Vol. 37, No. 6, 1960
15- Lemkau P.V: Mental Hygiene in public Health, Mc Craw- Hill Book company Inc., New York, .1955
16- Maslow A.H.: Motivation and personality, New York, Harper, .1954
17- Meninger C., Mayman M., pruyser, P.: Mental Illnes Vital Balance or Myth. quoted from Bulletin of the Meninger Clinic, Vol. 28, pp. 145-53, .1964
18- Rakhawy, Y., Shaheen O. and Soliman R. Sich Absence as an Index of Mental Health in an Industrial Society in U. A. R. The Egyptian Journal of Mental Health, Vel 12, No. 7, (Annual No.) .1971
19- Ruth Bendict: Patterns of culture, Boston, Houghton Mifflin, .1934
20- Rawnsly K. and Laudon J. B. : Factors Influencing the Referral of patients to psychiatrits by General practitioners. Brit. Journal of preventive and Social Medicine, Vol. 16, No. 4, Oct. .1962
21- Shulman H.B.: Essays in Schizophrenia. William and Wilkins Co., Baltimore, .1968
22- Tucker D.K. and Harding le Riche W.: Mental Health. The Search for a Definition. canad.Med. Asoc. J., Vol. 90,.1964
23- Wegrocki H.J.: critique of cultural and Statistical concepts of Abnormality in personality in Nature, Society and culture. Ed. by clyde clushhorn, Henry A. Murray and D. Schnider, New York, Alfred A. Knoff, .1965
24- Whithead, A.N.: The Function. (par bake Edition), Boston Beacon press, .1958
25- إبراهيم (زكريا) مشكلة الإنسان: مكتبة مصر: القاهرة.
26- حسين (محمد كامل) متنوعات: “البحث العلمي” مكتبة النهضة المصرية. القاهرة.
27- سويف (مصطفى) الأسس النفسية للابداع الفنى (فى الشعر خاصة) القاهرة دارالمعارف 1959.
28- سويف (مصطفي) تنمية الفكر الخلاق: المجلة يناير 1967 (46-35):
29- فرويد (سيجمون) مافوق مبدأ اللذة- ترجمة اسحق رمزى- دار المعرف بمصر 1966