نشرة “الإنسان والتطور”
24-4-2012
السنة الخامسة
العدد: 1698
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية(69)
الإدراك (30)
البوابة المعرفية الأولى
وفتح ملف العين الداخلية
مقدمة:
حين عثرت، مصادفة تقريبا، على الكتاب المحدود النشر: ثنائى اللغة، عن الأعراض (السيكوباثولوجيا الوصفية) وقدمت الأسبوع الماضى بعض متنه باللغتين، دون التزام بالترجمة أو المقابلة حرفيا، كنت قد طلبت من الأصدقاء، إن كان هناك من يهمه الأمر، أن يشيروا علىّ عما إذا كنت أنشر المتن الأصلى باللغتين متقابلتين، أم متتاليتين، أم أكتفى – كما أفضل أنا- بنشر المتن العربى فحسب؟ ولم يصلنى ما كنت أنتظر، وما زلت أقاوم الكتابة بالإنجليزية.
طيب ، وماذا عن ما كُتِبَ فعلا بالإنجليزية منذ ما يقرب من عشرين عاما؟ وقد روجع بعد ذلك مرة أو أكثر، وكتب مقابِلُهُ بالعربية، أو أنه هو الذى كتب مقابل النص بالعربية؟
حاولت أن أحلها هكذا:
بما أننا خصصنا الثلاثاء والأربعاء للكتابة العلمية الطبنفسية أساسا، مهما كانت غير منتظمة، (وربما غير ملتزمة) دعونا نكمل كما يلى:
أولا: ألتزم بالمتن القديم (ثنائى اللغة) كبنية أساسية ومنطلق، لعل ذلك يقلل من اندفاعى للتداعى والاستطراد
ثانيا : ألتزم أيضا بترتيب الفصول كما جاءت قبلا
ثالثا: أتمم فصل الإدراك أولا، برغم أنه الفصل الثانى فى الطبعة المذكورة، حتى لو ظهر فى الفصل الأول ما كان يلزم أن يتقدمه
رابعا : أنشر النص بالعربية يوم الثلاثاء بدءا بالمتن القديم دون تعديل (تقريبا، اللهم إلا إذا احتاج إلى تصحيح) ، ثم أضيف ببنط آخر، أو بترتيب مميز والسلام، ما طرأ على فكرى، أو وصلنى من خبرتى، منذ كتابة هذا النص السابق وحتى الآن، ثم أضيف ما تيسر من نقد أو تحديث أو شرح.
خامسا: أنشر النص هو هو بالإنجليزية فى اليوم التالى (الأربعاء)
وهكذا
ثم دعونا نأمل أنه حين تأتى مرحلة تجميع كل هذه المادة للنشر الورقى، أو النشر الإلكترونى مجتمعا، سوف تتم مراجعة كل ما نشر متفرقا بعد أن يجمع إلى بعضه البعض، كذلك سوف يتم النظر فى مقابلة وتكامل الصورتين، خاصة علما بأننى وجدت أن ثمة معلومات وردت فى المتن العربى لم ترد فى المتن الإنجليزى، وبالعكس، وكذلك علما بأننى سوف أحاول أن اقرب بين المتنين بدءا من هذه المرحلة ما أمكن ذلك.
ما رأيكم دام فضلكم؟؟
تراجع قوى:
ما إن انتهيت من كتابة هذه المقدمة شاملة هذا التخطيط الذى بدا لى حلاًّ “توافقيا” (يرضى جميع الأطراف”!!)، حتى اكتشفت أننى كتبت عن “العين الداخلية”، بضعة عشر نشرة ستة منها بعنوان “العين الداخلية” وكانت من أوائل ما كتبت فى هذه النشرات، ثم إن النشرة الأخيرة بعنوان: “فصامى يعلمنا” امتدت وحدها ست من النشرات.
تساءلت فورا، أيهما أكثر فائدة: أن أواصل مثل ذلك أستلهم فروضى العلمية من واقع الممارسة كما جاء فى هذه النشرات وخاصة من المقابلة الإكلينيكية المسجلة بالصوت والصورة، لأثبت ما أراه مرجحا، ومن أهم ذلك وأبعده عن الأطباء “فرض العين الداخلية” هذا، أم أن أرجع للكتابة بالإنجليزية أطلب الرضا شعوريا أو لا شعوريا من سادتنا السابقين الأولين؟
ولم تتأخر الإجابة، وقررت أن استمر كما أنا، ومن يحترم لغتى العربية يفرح بها، ومن لا يعرف إلا الإنجليزية (خاصة من زملائنا العرب!!) يتصرف، حتى أجد الوقت لأترجم له حين يصلنى أنه “يهمه الأمر”!!.
تراجعت عن الاقتراح الذى جاء فى المقدمة، وقلت أؤجل هذا المشروع حتى أصل إلى تفاصيل أعراض اضطراب كل وظيفة نفسية فى صورة أعراض كما هو اختصاص هذا الكتاب، فقد اضطر للرجوع للكتابة باللغتين .
لم يمنعنى ذلك من البدء بالنظر فى المتن الإنجليزى فوجدت أن ثم جديدا ورد فى فصل الإدراك لم أتطرق إليه بعد بقدر كاف وهو يحتاج أن يثبت بالعربية. برغم طول ما نشر حتى الآن ولم ندخل بعد فى اضطرابات الإدراك.
إشارة محدودة إلى ما فات:
جاء فى النص الإنجليزى ما ترجمته: الإدراك هو الخطوة الأساسية فى العمليات المعرفية برمتها، بما فى ذلك الدراية(1): فهو بمثابة البوابة المعرفية الأولية Cognitive gate التى توصل مستويات الوجود فى الداخل والخارج بعضها ببعض بدرجات متفاوتة من الدراية،
وكذلك جاءت إشارة عن علاقة الإدراك بالتخيل أيضا لم ترد فى التحديث الحالى حتى الآن، كما أوضح المتن القديم أنه: فى حين أن الإدراك يتضمن بصورة شبه دائمة قدرا وافرا من الشعور بواقع ماثل (سواء كان من البيئة الداخلية أو الخارجية) نجد أن التخيل كما يشاع عنه يتجاوزالواقع المعروف عادة، فهو تشكيل مصنوع بآلية أقرب إلى التفكير منها إلى الإدراك، وبالتالى فهو يتجاوز الواقع الآنى داخلا وخارجا دون أن ينفصل تماما عنه.
وتعجبت كيف أننى لم أتطرق لا إلى فكرة “البوابة المعرفية” هذه، ولا إلى علاقة الإدراك بآليات الخيال والتخيل فى كل التقدمة السابقة خلال النشرات الكثيرة على مدى أساسبيع متلاحقة،
التخيل هو فعلا بعيد عن الإدراك ، فهو تشغيل آليات التفكير (وليس الإدراك) فى صنع واقع جديد، مستمد من كل أبجديات المعرفة الظاهرة والباطنة (وسوف نؤجل التفصيل لحين نناقشها فى فصل التفكير)، أما بالنسبة لمصطلح: “البوابة المعرفية”، فيبدو أن له علاقة وثيقة بفرض “العين الداخلية”، الذى ألمحنا إليه مرارا، وقد آن الأوان أن ينال مزيدا من الإيضاح، حتى نعود إليه لاحقا فى تناولنا للهلوسة مع اضطرابات الإدراك.
قصدت آنذاك بالبوابة المعرفية أننى عاينت الإدراك باعتباره الخطوة الأولى الأساسية فى السلوك المرتبط بعمليات اعتمال المعلومات(2) Information Processingبصفة عامة (على كل المستويات : التفكير والعواطف والجسد)، أما تحديد الاسم هكذا “البوابة المعرفية”، فلا أعرف من أين جاءنى، ربما من مريض.
هذه البوابة لم نتطرق إليها بشكل محدد فى كل ما قدمنا قبل الرجوع إلى هذا المتن القديم، ويبدو أنها تشير إلى كيف ينشط الإدراك فى وحدة زمنية شديدة القصر، ليصبح بداية لأغلب العمليات المعرفية وأيضا الإبداعية، بداية أشبه بالانطلاق الحاد المنفرج الضام. هذه البوابة المعرفية لا ينتهى دورها بعد البدء وإنما تظل آلية تواصُلٍ بين مستويات المعرفة المختلفة طول الوقت، ولعل لهذا علاقة بما اشرنا إليه سالفا من أن معرفة الله من خلال الإدراك، لا تقتصر على مستوى من الوعى، بذاته أى أنها ليست من اختصاص منظومة معرفية دون الأخرى، وإنما هى نتيجة تنشيط كل مستويات المعرفة معا، ربما بفضل جدل حركية نشاط هذه البوابة المعرفية (الإدراك).
دعونى مرة أخرى حرصا على منع الخلط والاختزال لا أتردد فى أن أكرر أن ما يسمى الاستبطان أو التأمل الداخلى، ليس مرادفا لنشاط ما يسمى العين الداخلية، ذلك لأن ما يسمى التأمل الذاتى يغلب عليه النشاط المعقلن المترجـم إلى رموز كلامية فى العادة فى محاولة وصف ما بالداخل.
إن إدراك البيئة الداخلية هو غامض عادة، وكلىّ غالبا، وتماشيا مع مصطلح ووظيفة البوابة المعرفية فهو يعتبر أول خطوة فى كثير من العمليات النفسية (المعرفية والوجدانية على حد سواء)، وفى ظروف خاصة قد يستطيع بعض الأفراد أن يرصدوا نشاطه وخطواته، بل وأن يصفوها مثلما يحدث فى بداية الذهان وفى أطوار نشاطه قبل إزمانه وتشويهه أو ترميزه، وأيضا فى حالات الإبداع والحدس مما سنعود إليه لاحقا.
بلغ اليقين ببعض الإكلينيكيين فيما يتعلق بإمكانية إدراك الداخل مباشرة أنه نشاط جوهرى عند المبدعين والتشكيليين والمرضى فصكوا لذلك مصطلح “العين الداخلية“، ليس على سبيل المجاز، كما سنرى بعد. وقد استعمل هذا المصطلح بشكل مباشر ودقيق فى وصف نوع من الهلوسة ممارس إكلينيكى نابه هو سمز Sims(3) حيث تحدث تحديدا عن “العين الداخلية” مما سنعود إليه مع مناقشة الهلوسة، وجدير بالذكر أن اسم المصطلح هو الجديد فحسب أما الظاهرة فقد وصفت أيضا بواسطة كل من كارل يونج وياسبرز وبنز فاجنر وكاتب هذه السطور.
هذا، ويمكن اعتبار جهاز تشغيل العين الداخلية شديد الارتباط بجهاز تشغيل ما يسمى بالحواس المتجاوزة للحواس الخمس وهو ما يربط الفرضين ببعضهما البعض بشكل ما.
وبعد
حين رجعت إلى النشرات اليومية (الإنسان والتطور) التى تناولتُ فيها موضوع العين الداخلية وجدتها كثيرة، كانت آخر نشرة فيها امتدت لوصف ومتابعة حالة واحدة لعدة نشرات متتالية.
أما الشرائح الأولى فكانت عرض مقطع عن خبرة بالعلاج الجمعى رفضتُ فيها أن نتهم مريضا بالهلوسة الشمية Olfactory Hallucination لمجرد أننا – الباقيين أطباء ومرضى – لا نشم ما يشم، ولعبنا ومثلّنا حتى نجح بعضنا أن ينشط حاسة الشم الداخلية بشكل أو بآخر، وقد بلغ اجمالى مجموع صفحات هذه النشرات (221) صفحة.
وفيما يلى روابط بهذه النشرات:
(4-12-2007 ، 5-12-2007 ، 27-7-2008 ، 29-7-2008، 21-4-2009، 22-4-2009، 28-4-2009، 29-4-2009، 5-5-2009، 6-5-2009، 12-5-2009، 13-5-2009، 19-5-2009، 20-5-2009)،
تنويه هام:
لا أعتقد أن أحدا من الأصدقاء عنده من الوقت، وربما من الاهتمام ما يدفعه لمراجعة كل هذه النشرات بدقة، فأشير عليه بالاكتفاء مرحليا بالرجوع إلى ملف شرائح برنامج الباور بوينت بعنوان: “الحلم والإبداع والجنون” تظهر فيه حركية وتفاصيل موضوع “العين الداخلية” حتى يمكن أن تساعده فى الفهم والتتبع.
* * * * *
* * * * *
* * * * *
[1] - سوف نستعمل كلمة “الدراية” ترجمة للفظ awareness حتى نقصر استعمال كلمة الوعى لتخص لفظ consciousness وتظل كلمة الإدراك لما هو perception، وإن كان هذا لايحل الإشكال تماما إذ تظل ألفاظ مثل الشعور واللاشعور تشير إلى الوعى وما تحت الوعى، ونأمل رويدا رويدا أن يختص كل لفظ خاص به، جامع مانع.
[2] اعتمال المعلومات هو الترجمة التى انتهيت إلى اختيارها لمصطلح Information Processing بعد أن كنت أستعمل تعبير فعلنة المعلمات، وكان آخرون يستعملون نتعبير “طبخ” المعلومات، أما الأكثر تداولا فهو “معالجة المعلومات”.
[3] – Sims, A. (2002) Symptoms in the Mind: An Introduction to Descriptive Psychopathology (3rd ed).. Elsevier. ISBN 0-7020-2627-1