نشرة “الإنسان والتطور”
10-8-2010
السنة الثالثة
العدد: 1075
“المواكبة” و”المعيّة”: من لعبة جماعية
(أسماء المريضات ليست هى الأسماء الحقيقية، أما أسماء الأطباء فهى – بعد إذنهما– لم تتغير)
اللعبة:
أنا معاكـ(ى) يا فلانـ(ة) حتى لو…………….
أنا خايفـ(ة) أكون معاكـ(ى) يا فلانـ(ة) بحق وحقيقى لحْسَن…………
مقدمة:
آن الأوان بعد طول تأجيل أن نحاول أن نقرأ، ولو بإيجاز ، ودون مقارنات تفصيلية، استجابات بعض الفئات المختلفة لهذه اللعبة التى تكشف بعض ما يتعلق بما يسمى الحب، والذى حل محله فى هذه اللعبة ما اقترحته إحدى المريضات وهو حرف “مع” (مَعَكَ، معنا، معى، معكِ)
بمجرد أن اقترحت المريضة رباب أن نلعب… “مع”… ، بدلا من أن “نلعب حبا”، بدأت الحركة والمسافة تتكشف فيما يتعلق بعلاقاتنا ببعضنا البعض
تحدثتُ من قبل طويلا عن فكرة أن العلاقات البشرية الطبيعية لا تكون كذلك وهى ساكنة أبدا، العلاقة حركة: متصلة، متغيرة، متنوعة، وقد اشرت تحديدا إلى برنامج “الدخول والخروج” (نشرة:13-1-2008 “عن الثقة والتخويْن وحركية النمو والنمو البشرى“) ، ثم إلى برنامج “الإيقاع الحيوى” بلا نهاية مغلقة، وأخيرا إلى برنامج “احتواء التناقض لتخليق التوليف باستمرار” ، كل هذه البرامج هى ضرورية كى نصف ما هو علاقة بين البشر، وهى برامج بيولوجية جاهزة، فهى مزروعة فى التركيب البشرى، أو بالتعبير الذى تكرر استعماله فى العلاج الجمعى (وغير العلاج الجمعى) “خِلقة ربنا”، أو لعلها يمكن أن توصف بما عرجنا إليه فى بداية النشرات ونحن نحاول التعرف على ماذا نعنى بـ “الفطرة” نشرة: 4-11-2007 ، 6-11-2007.
التشويه والإبطال الذى يحدث لهذه البرامج، بعضها أو كلها هو أن تُغَطَّى بقشرة سميكة من “الدفاعات” النابعة من الخوف من الاقتراب، ومن رعب خطوات النمو إلى مجهول جديد. طالما نحن أحياء فثمة علاقة بيننا وبين بعضنا البعض، إذن فثمة حركة وثمة مسافات متغيرة، إلا أن هذه القشرة الفوقية (الدفاعات) إذا زاد سمكها وتكلست يمكن أن تخفى هذه الحركة سنين عددا، أو تبعدها وتنفيها طول العمر، لكنها أبدا لا تستطيع أن تخمدها أو أن تمحوها تماما، وإلا فلن يعود البشر بشرا،
المسألة هى: إلى أى مدى نحن على وعى بهذه العلاقة المتعددة المستويات؟، وإلى أى مدى نحن ننجح أن ننكرها، أو نبطلها أولا بأول، أو نمحوها بعكسها تماما.
هذه الألعاب النفسية، مثل اللعبة الحالية، تساعد فى تحريك الوعى بطريقة غير مألوفة، فيتحرك ما بيننا وبين بعضنا بعض الشىء، إلى ما تعد به “خلقة ربنا”.
منذ اقترحت “رباب” لفظ “مع” ليحل محل لفظ “الحب” تذكرت إحدى مواصفات العلاج الذى نمارسه خلال الأربعين سنة الماضية، وهو الذى نبع من ثقافتنا مباشرة ، واسميناه “علاج المواجهة، المواكبة، المسئولية” (م.م.م) نشرة:24-2-2008 ، 25-2-2008، 26-2-2008
لفظ “المواكبة” جاءنى من خلال الممارسة النشطة مع المرضى حين لا حظنا ما كنا نفعله “معا” وأسميناه أثناء الجرى صباحا قبل طلوع الشمس وحتى نشاهد شروقها: العلاج النشاطى “كتفا لكتف”، فقد كانت نسبة المعالجين إلى المرضى فى هذا النشاط لا تزيد عن واحد إلى ثلاثة فى نشاط المشى القوى، أو الهرولة بجوار بعضنا البعض “كتفا لكتف”، وكانت نسبة المرضى أكثر قليلا فى العمل العلاجى (وقد ميزناه عن العلاج بالعمل (العمل العلاجى (الجماعى) د. رفعت محفوظ – د. محمد حسيب الدفراوى – عدد أكتوبر 1980 – مجلة الانسان والتطور) حيث يقوم المعالج بنفس العمل “مع” المريض، ولا يكتفى بالإشراف عليه (من فوق) أثناء ممارسته هذا العمل العلاجى، وأيضا تأكدت “المواكبة” بشكل أكثر تركيزا حين كنا نقوم بالعلاج بالحرمان من النوم، حيث كان المعالج يواصل السهر مع المريض، المرضى، وإن كان هذا يتم بالتناوب عادة بين المعالجين.
هذه “المواكبة” هى أقرب ما تكون إلى “المعية” التى تعنيها لفظة “مع” فى هذه اللعبة.
بعض استجابات المرضى والأطباء المعالجين
د. منى:
(متدربة سمحت مثل زميلها أن نذكر اسمها الأصلى)
. . . . . .
د.منى: أنا معاكى ياهيام حتى لو حاتعب كتير
د.منى: أنا خايفه أكون معاكى يا هيام بحق وحقيقى لحسن ما أدكيش حقك
. . . . . .
د.منى: أنا معاكى يارباب حتى لو إنتى مش معايا
د.منى: يارباب أنا خايفه أكون معاكى بحق وحقيقى لحسن ماقدرش على ده
(وهنا اقترح د. يحيى أن يكتفى باللعب مع اثنين بالإضافة إلى أن تلعب د. منى مع نفسها، وهكذا كل المشتركين فأكملت د. منى:)
د.منى: (لنفسها، وقد وضعت على الكرسى الذى أمامها حقيبة صغيرة تمثلها كما اعتدنا)
أنا معاكى يا منى حتى لو إتنيلتى أكتر من كده
يامنى أنا خايفه أكون معاكى بحق وحقيقى لحسن مابقاش مع ناس تانيين
القراءة:
أن تبدا اللعبة بالأطباء المتدربين جائز، على أن نتذكر أن المتدرب له حق الاعتذار بما أسميناه ، يضىء الضوء الأحمر، لفترة هو يحددها، تصل إلى عدة شهور أو حتى سنة، حتى يطمئن إلى قدرته على المشاركة مثله مثل المعالج الرئيسى ومثل المرضى، وحينئذ يقرر أن يضىء النور الأخضر مرة واحدة، ولا يعود له حق الاعتذار عن المشاركة حتى نهاية سنة التدريب.
د. منى بدات اللعبة فى هذه المرة، وهذا جائز بالنسبة للمتدربين، إلا أن العرف يقتضى أن تؤجل مشاركة الطبيب الأكبر، المدرِّب، حتى يلعب آخر واحد، حتى لا يتصور الباقى من أطباء ومرضى أن استجابته هى النموذج الواجب احتذاؤه،
وهكذا بدأت د. منى اللعبة كما أوردنا.
وبقراءة مبدئية لاستجاباتها نلاحظ:
- كيف أنها لعبت مع مريضتين ونفسها دون المدرب وهو الرجل الوحيد فى هذه الجلسة.
- وكيف أنها أعلنت أن المعية مع هيام هى متعبة جدا (حاتعب كتير)، من حيث المبدأ، وحين سمح الجزء الثانى من اللعبة أن يحرك المعيّه إلى درجة أعمق “بحق وحقيقى” أعلنت بتواضع خشيتها ألا تستطيع أن تواصل (لحسن ما أقدرشى على كده).
- ربما يرجع هذا الموقف الأمين إلى مسئوليتها كطبيبة متدربة، وبالذات مع هيام التى كانت تمارس “تسول الحب” فى المجموعة طول الوقت، إذ يبدو أنه قد ثقلت المسئولية على الطبيبة حين وجدت نفسها بحق وحقيقى “مع” مريضة لم تكف عن “شحاذة الحب” فى معظم جلسات العلاج، أن تكون دون هذه المسئولة (لحسن ماادكيش حقك)
- أما حين لعبت د. منى مع رباب فقد انتبهت فى البداية إلى إمكانية أن تتقدم بجسارة مغامرة فتكون “معها” حتى لو لم تقبل رباب ذلك، أو حتى لو لم تبذل رباب مثلما تبذل هى، ولكنها حين لعبت الجزء الثانى مع رباب، فتعمقت المعيّه “بحق وحقيقى” تجسد لها عبء العلاقة، فأعلنت خوفها من احتمال عجزها عن الوفاء به (لحسن ما أقدرشى على كده)، تراجعٌ متواضعٌ مثل التراجع فى حالة هيام أو أقل قليلا.
- وحين لعبت د. منى مع نفسها “منى”، اكتشفنا روعة اللعبة حين يواجه أحدنا – طبيبا أو مريضا – نفسه “كآخر”، فإذا بالدكتورة منى، وهى معالجة شابة نابهة، تكتشف من ناحية أنها حين تكون “مع” نفسها ترى الجانب الآخر الضعيف أو المقصر أو المحكوم عليه بهذا أو ذاك، وقد سمحت لها اللعبة أن ترى أنها بهذه المعيّه كأنها توافق على ذلك فتزداد فيما هى فيه، أو فيما قفز إلى السطح هكذا وكأنه سلبى، وتكون النتيجة هى أن: “تتنيلى أكتر من كده”.
أما حين راحت تغامر فتكون مع نفسها أكثر فأكثر “بحق وحقيقى”، فإنها وجدت أنها ليست “متنيلة” كما تصورت لأول وهلة، لكنها خشيت وهى تقترب أعمق من نفسها لتكون “معها” “بحق وحقيقى” أن يتم نوع من “الاستغناء الذاتى” لدرجة تغنيها عن الآخر (الآخريين) … (ما بْقاش مع ناس تانيين).
مشاركة واحدة، من طبيبة متدربة نابهة، صعيدية طيبة، متزوجة ولها طفلة، تكشف لنا بهذا الوضوح كل هذه الأبعاد من تردد، وإقدام، ومسئولية، وأنانية طيبة واقعية، وسلبيات محتملة، ووضوح للصعوبة، وضرورة الآخر، وإمكان الاستغناء عن الآخرين لو استسلمت للاكتفاء الذاتى
كل هذا قد تجلّى هكذا بعد استبدال لفظ “مع” بلفظ “الحب”
ربما
ثم ننتقل إلى استجابات المريضات، ونبدأ بسناء
سناء:
سناء: أنا معاكى ياهيام حتى لو نجحت “الحكايه”
سناء: أنا خايفه ياهيام أكون معاكى بحق وحقيقى لحسن “الحكاية” ماتنفعش
. . . . . .
سناء: يانادية أنا معاكى حتى لو “الحكاية” مشيت أكتر من كده
سناء: أنا خايفه أكون معاكى يانادية بحق وحقيقى لحسن ماينفعش
. . . . . .
سناء: (لنفسها) أنا معاكى ياسناء حتى لو ماعرفتش
سناء: أنا خايفه أكون معاكى ياسناء بحق وحقيقى لحسن ماقدرش
القراءة:
- يا ترى ماذا تقصد سناء بكلمة “الحكاية” التى تكررت مع هيام ومع نادية؟ هل هى تقصد حكاية فى ذهنها لا نعرفها، أم تقصد الحكاية المشتركة معنا، أى هذا العلاج الجمعى الذى استمر حتى تلك اللحظة ما يقرب من سنة، الغريب أنها أقرت أنها حين تكون مع هيام أو نادية، سوف تكون كذلك حتى لو “نجحت” أو “مشيت أكتر من كده”، كيف تكون معهما حتى لو نجحت؟ المفروض أن نتوقع أن تظل معهما (مع المجموعة) حتى لو “فشلت الحكاية”، بما يعنى الإصرار، يمكن هنا أن تفترض أن نجاح “الحكاية”، أو فشلها يمثل فى عمق حدْس رباب خطرا ما يحتاج إصرارها على “معية” أكثر عنادا ومثابرة.
- أما استجابة سناء حين تتعمق حتى تكون “المعية” بحق وحقيقى، فكانت أيضا أغرب لأنها حين تمادى القرب “فالمعية” إلى علاقة أعمق بحق وحقيقى، ظهر احتمال أن الحكاية قد تفشل، (الحكاية ماتنفعشى: هيام & لحسن ما تنفعشى نادية)
- أما حين همت بممارسة “المعية” مع نفسها، فقد بدت أكثر اطمئنانا وإصرارا (حتى لو ما اعرفتش)، وحين أصبحت الحكاية بحق وحقيقى تراجعت قليلا إلى (لحسن ما اقدرشى)
رباب:
رباب: أنا معاكى يانادية حتى لو “ماتصلحتش؟”
رباب: رباب: أنا خايفة أكون معاكى بحق وحقيقى لحسن تبعدى عنى
. . . . . .
رباب: أنا معاكى ياهيام حتى لو مش قريبه منك
رباب: أنا خايفه أكون معاكى ياهيام بحق وحقيقى لحسن تكرهينى
. . . . . .
رباب: (لنفسها) أنا معاكى يارباب حتى لو إنتى بعيده عنى
رباب: أنا خايفه أكون معاكى يارباب بحق وحقيقى لحسن تبعدى اللى حواليا عنى
القراءة:
لم أستطع أن استبين هذه الكلمة بوضوح هل هى “ما تصلحْتِشْ” (يعنى: لم أنصلح أنا) أم ما تصلَّحِتْشِ (يعنى: الحكاية لم تصلح أى العلاج لم ينفع) فتركت الاحتمالين مفتوحين.
أما حين تعمقت “المعية” مع نادية قفز الخوف من الاقتراب “بحق وحقيقى” وكيف أنه يمكن أن يجعل الآخر يبتعد،
لا أظن أنه – بعد هذه المدة فى المجموعة أنه ابتعاد “نفور” بقدر ما خطر لى أنه ابتعاد “حِرْص وحسابات”.
إن هذا يذكرنا بالمبدأ الأساسى وهو تغير المسافة فيما بيننا باستمرار نتيجة لحتمية الحركة، وإذا ما بولغ فى الخوف من الاقتراب فإن المسألة قد تنقلب إلى تضخيم فى الحذر البارانوى الذى وصفته واضحا ومباشرة فى قصيدة “جلد بالمقلوب” (لا تقتربوا أكثر، إذْ أنّى أليس جلدى بالمقلوب، حتى يدمى من لمس الآخر، فيخاف ويرتد إذ يصبح كفيه نزْف حى…الخ ، وشرحتها فى كتاب دراسة فى علم السيكوباثولوجى من ص 264 – ص 320)
رباب هى التى اقترحت إحلال اختبار “المعية” محل كشف ما هو “حب”، ومن ثم تألفت هذه اللعبة، ولعل استجابتها هنا تثبت – بشكل ما- عمق حدسها.
ها هى ذى وهى تلعب مع هيام تواصل طريقها إليها حتى لو توقفت هيام أو رفضت أو بدت بعيدة (هيام التى اعتادت أن تتسول الحب كما ذكرنا)
رباب تقترب لتصبح مع هيام “حتى لو مش قريبة منى”، أما حين تعمقت المحاولة “بحق وحقيقى” فقد أعلنت رباب خوفها ليس فقط من جمود هيام أو وقفتها وإنما من رفضها حتى الكره “لحَسْنْ تكرهينى”، وهذا وارد ولا يدل بالضرورة – فى خبرتى – على كراهية بمعنى الرفض، وإنما قد يعلن عن جدية الاقتراب فعلا
وحين لعبت رباب مع نفسها أعلنت جدية المحاولة مهما كان موقفها منها (من رباب المخاطَبة) بما يقابل موقفها من هيام (حتى لو مش قريبه منى)، فموقفها هنا من نفسها “حتى لو انتى بعيدة عنى”، هو نفس موقف الإصرار المثابر.
أما حين تعمق القرب “بحق وحقيقى” فقد اجتهد وعى وحدس رباب حتى أعلنت أن هذا القرب بحق وحقيقى قد يقيها من علاقة أعمق وأصعب مثلما هو الحال عند د.منى “لحسن مابقاش مع ناس تانيين” وهنا: “لحسن تبعدى اللى حواليّا عنى” فيبدو أن درجة من القرب من الذات هى شريطة الانتباه إلى أن الاستغراق فى الذات والتمادى فى هذا الاقتراب قد ينقلب إلى نوع من الاستكفاء الذاتى.. على حساب العلاقة بالآخر.
نادية:
نادية: أنا معاكى يادكتورة منى حتى لو حاتسيبى الجروب
نادية: أنا خايفه أكون معاكى يا د.منى بحق وحقيقى لحسن يرجع تانى
. . . . . .
نادية: أنا معاك يادكتور يحيى حتى لو بعدنا عن بعض
نادية: أنا خايفه أكون معاك يادكتور يحيى بحق وحقيقى لحسن لما أبعد عنك يحصلّى حاجات كتير
. . . . . .
نادية: (لنفسها) يانادية أنا معاكى حتى لو أمشى فى الموضوع اللى أنا أخذته
نادية: أنا خايفه أكون معاكى يانادية بحق وحقيقى لحسن ماقدرش أعمل اللى أنا قلت عليه
تمهيد:
نادية أم، بنت بلد، لها خمسة أطفال، تبدو أصغر من سنها بكثير (تبدو أنها لم تتعدَّ العشرين) مع أن ابنتها عروس سوف تتزوج خلال اسابيع، وعندها صعوبات حقيقية وحرمانية ومستمرة، مع زوجها، وهى التى تكاد تعول الأسرة بالعمل فى خدمات متواضعة لرعاية مرضى بعد عمليات جراحية، وهى لا تقرأ أو تكتب وكانت تعانى من انشقاق Dissociation حيث اشتكت من أن جنًّا يلبسها يأمرها ويوجهها أحيانا، وقد يطمئنها أحيانا أخرى، ومنذ الجلسة الثانية (أو الثالثة- لا أذكر) أرجعنا هذا الذى يلبسها إلى الداخل (نفس التكنيك) وأسميناه “نادى” (اشتقاقا من اسمها نادية) بدلا من اسم مسيحى كان يظهر به، وحللنا الانشقاق بدراما متواضعة، ولم يعد الانشقاق ثانية أبدا طوال عشرة أشهر، بل إننى كلما سألت عنه كانت تقول “ما خلاص” انت بتنكشه ليه بقى. (كنت أسأل عن نادى وليس عن بطرس)
نادية كانت حاضرة منتبهة طول الوقت، لم تغب طوال العام سوى بضع مرات، وكانت تمارس مسئوليتها وترعى أولادها وأباهم “المعتمد” دون كلل. وقد احضرت زوجها لاستشارة احد الزملاء المتدربين بناء على توصيه المدرب، وعلى مستوى العيادة الخارجية، ولم يواصل هو العلاج ولم يقبل المساعده وظل معتمدا.
القراءة:
لم تلعب نادية مع أى من المرضى، واقتصر لعبها على د.منى & د.يحيى ثم مع نفسها، وبدى أن علاقتها بهما واضحة وطيبة وممتدة، وأنهما أصبحا يمثلان حضورا فى وعيها الداخلى، يبدو أنه حضور قادر أن يمتد إلى ما بعد نهاية المجموعة. وقد بدأت بالدكتورة منى “حتى لو حاتسيبى الجروب” وقد وصلنى ذلك أنه “حتى لو سبنا بعض لانتهاء الجروب” فلم يكن هناك أى تصريح أو تلميح باحتمال أن تترك د.منى الجروب قبل انتهائه، وبالنسبة للدكتور يحيى تأكد حضوره فى وعيها أيضا بقولها: “حتى لو بعدنا عن بعض”
وحين تعمقت “المعية” “بحق وحقيقى” أشارت مع د.منى إلى خوفها من عودة الانشقاق (عودة “نادى” غالبا بعد أن أقرت أنه داخلها أو حتى عودة بطرس، وذلك حين قالت لحّسن يرجع تانى” (فهى أعلنت تحسبها أن تُلِبس من جديد)، أما بالنسبة للمدرب فقد تأكدت درجة أكبر من الاعتمادية (المقبولة غالبا) فخوفها من المعية الأقرب “بحق وحقيقى” هو خوف من البعد بعد ذلك “أحسن لما ابعد يحصلى حاجات كتير”.
وحين لعبت نادية مع نفسها، قفزت إليها معاناتها بشأن قرار محدد غالبا يتعلق بعلاقتها بزوجها، وظهر الصراع جليا حين أقرت أنها لو اقتربت من نفسها فقد تكون قادرة على حسم هذه العلاقة دون أن تتخلى عن حقها ولا عن علاقتها بنفسها “حتى لو امشى فى الموضوع” لكن يبدو أن جانبا آخر يكمن فى عمق أكثر غورا ظل نشطا وهو كامن، جانبا يتعلق بأمومتها، وابنتها العروس التى على وشك الزفاف، ومسئوليتها نحو الجميع، هذا الجانب هو الذى جعل قربها من نفسها “بحق وحقيقى” يدفعها إلى أن تراجع قرارها ذاك “لحسن ما “اقدرش أعمل اللى انا قلت عليه”
ياه!! ما أصعب ذلك.
هيام:
هيام : يادكتور يحيى أنا معاك حتى لو مش موجود فى حياتى
هيام : يادكتور يحيى أنا خايفه أكون معاك بحق وحقيقى لحسن أبكى كتير
. . . . . .
هيام : يارباب أنا معاكى حتى لو مش فاهمانى
هيام : يا رباب أنا خايفه أكون معاكى بحق وحقيقى لحسن علاقتنا تنتهى
. . . . . .
هيام : (لنفسها) ياهيام أنا معاكى حتى لو كنتى تايهه
هيام : ياهيام أنا خايفه أكون معاكى بحق وحقيقى لحسن ما تكونيش جنبى
القراءة:
هيام، التى حسبناها تبالغ فى إظهار احتياجاتها حتى وصفناها (ولعبنا أحيانا معها فى ذلك) بأنها “تتسول الحب”، وأحيانا تستدر العطف وكثيرا تصر على حاجتها إلى أن يفهمها احدنا اكثر فأكثر، وتلح فى طلب أن ترى، بدت هيام فجأة من خلال هذه اللعبة غير ذلك
فقد وضح أن علاقتها مع المدرب أعمق من مجرد الاعتماد الظاهر على قدراته العلاجيه وموقفه الأبوى وأنها ممتدة إلى ما بعد الظاهر، وهذا يؤكد ما أشرنا إليه من أن العلاقات التى تنمو فى المجموعة تنتقل من المعالج إلى المجموعة ككل، أى إلى الوعى الجماعى (المشترك) الذى يبقى داخل كل مشارك ممتد إلى الجماعة، هذه الجماعة، ثم كل جماعة، حتى بعد انتهاء عمر المجموعة، ولعل هذا هو تفسير قولها للدكتور يحيى “حتى لو مش موجود فى حياتى”، باعتبار أن الوعى الجماعى Collective Consciousness قد حل محله، وفى نفس الوقت هو جزء منه، فهى معه من هذا المنطلق حتى لو لم يعد وجوده ماثلا شخصا مفردا، وهذه نقله مهمة من الاعتمادية على فرد إلى الاعتمادية على الوعى الجماعى (ثم على الوعى الكونى: ثم ربما إلى الحق تعالى)
لكن هيام حين انتقلت إلى تعميق “المعية” بحق وحقيقى ربما تجسد لها قرب انتهاء من المجموعة، ومن ثم تراءى الألم “لحسن ابكى كثير“، مما يؤكد أن النقلة الجارية ليست سهله، وأن هذا الألم هو جزء لا يتجزأ من صعوبتها.
وحين لعبت نادية مع رباب ظهر أنها لا تثق فى قدرة زميلتها على رؤيتها وفهمها مقارنه باعتماديتها على المعالج الأكبر، ومع ذلك فهى تواصل محاولة “المعية” مع رباب حتى لو لم تفهمها بالدرجة الكافية “حتى لو مش فاهمانى” وهذا طيب جدا حين لا يشترط الاقتراب من الآخر درجة مستحيله من رؤية الآخر للمقترِب بما هو، وإلا استحالت الحركة، وحين تعمقت محاولة المعية “بحق وحقيقى” أعلنت نادية خوفها أن يؤدى هذا الاقتراب مِنْ زميلة لا تفهمها ولو من وجهة نظرها، إلى انتهاء العلاقة بينهما، ربما نتيجة للتيقن من عدم الفهم، أو ربما رعبا من العلاقة الأعمق “بحق وحقيقى”.
وحين لعبت نادية مع نفسها تبين بعد اخر فى تركيبها، فقد أعلنت اللعبة أنها قادرة على أن تقترب من نفسها حتى لو كانت الأمور غير واضحة، وهذا يؤكد جدية المحاولة، فإن التوْه (حتى لو انتى تايهه) المغطى لحقيقة الذات (الداخلية) هو أقرب إلى الواقع الموضوعى من التحديد المعقلن لما هو “أنا” أمام “ما هو أنا” فعلا.
وحين تعمقت هيام “المعية” مع نفسها خافت أن تكتشف أن وراء هذا التَّوْه نزوع إلى الانسحاب فالإنكار، أو اكتشاف أنه ليس وراء الضباب (التوه) إلا الخوف الذى يسحبها من احتمال التصالح مع نفسها “ماتكونيش جنبى”.
د. يحيى:
د.يحيى: يامنى أنا معاكى حتى لو إنتى حماره
د.يحيى: يامنى أنا خايف أكون معاكى بحق وحقيقى لحسن تتجننى
. . . . . .
د.يحيى: يا سناء أنا معاكى حتى لو ماخفّتيش
د.يحيى: يا سناء أنا خايف أكون معاكى بحق وحقيقى لحسن ماقدرش أعمل حاجه
. . . . . .
د.يحيى: يايحيى أنا معاك حتى لو ماحدش صدقك خالص
د.يحيى: (لنفسه) يايحيى أنا خايف أكون معاك بحق وحقيقى لحسن أبعد أكتر
القراءة:
لست متأكدا إن كان يحق لى أن أقرأ استجابتى شخصيا لهذه اللعبة، وقد خطر لى أن اعتذر عن التمادى فى المحاولة تاركا الأمر لغيرى، ولو من المتدربين معى فى هذه المجموعة بوجه خاص، إلا أننى عدلت عن ذلك مشترطا أن تؤخذ قراءتى لاستجابتى –مثل كل القراءات- على أنها مجرد “فروض محتملة”
لعب د.يحيى مع زميلته المتدربه د.منى، ومع سناء ثم مع نفسه.
نلاحظ فى لعبه مع المتدربة أن الجزء الأول من اللعبة يعلن الصعوبة التى لا يكل من تكرارها من أنه يقوم بتدريب صعب لمبتدئين مجتهدين، وهو يواجه مقاومة عنيدة من السلطة التقليدية، ومن ميكانزمات المتدربين التى تكونت عبر السنين وساهمت إيجابيا فى تفوقهم حتى تميزوا أطباء، ثم أطباء على قمة دفعاتهم مما أتاح لهم فرصة هذه الوظائف الجامعية المتميزة، وأعتقد أن تعبيره أنت حمارة (وهو يستعمل هذه اللغة الصريحة بشكل أصبح مألوفا عند المتدربين وهو يشجعهم بذلك أثناء هذا العلاج وبعيدا عنه على “عدم الفهم” ليكمل الفهم، انظر لعبه: يا خبر ده انا لما مابافهمشى يمكن…”) فهو هنا يصر على مواصلة المحاولة مع من يتصور أنه لن يفهم، (حمارة).
وحين تعمقت المعية أكثر ربما انتبه إلى أن جرعة التعرية التى يتعرض لها المتدرب هى التى تحول دون فهمه وتقدمه، حيث تتهدد دفاعاته بالانهيار (لو لم تضبط الجرعة) لدرجة ما يسمى الجنون، حتى لو كان هو الجنون الاصغر mini-psychosis وبالتالى أعلن للمتدربة الصغيرة أن اقترابه (معيته) بحق وحقيقى قد تعرضها لبعض ذلك
وحين لعب مع سناء ظهر موقفه العلاجى الذى يدعو إليه باستمرار، ولعل هذا الموقف نفسه هو الذى يحفز مواصلته ما يفعل، فهو لا يشترط لما يقوم به من علاج أن يشفى المريض ولا يعد بذلك، ويصر على أن احتمال عدم الشفاء لا ينبغى أن يحول دون المعية العلاجية (علاج المواكبة) فالأصل هو “فعل العلاج” أما النتائج فتحكمها عوامل شئ،
وحين حاول د. يحيى تعميق المعية مع سامية أظهرت اللعبة بعدا آخر فى طريقة علاجه، فهو كثيرا ما يعلن عجزه عن مساعدة مريض ما فى لحظة ما، وهو لا يتظاهر بذلك، بل إنه يلقى بهذا العجز فى وجه نفسه ووجه مريضه أيضا، فمن ناحية فإن ذلك قد يحفز مريضه على الإفاقة للمشاركة فى تجاوز هذا العجز، ومن ناحية أخرى هو يكشف عن قدرات المعالج الانسانية المحددة، وقد وجد د. يحيى أن هذا اسلوب ناجح فى كثيرمن الاحيان، وأنه فى النهاية قد يؤدى إلى درجة أقل من العجز فتبدأ الحركة، يتم ذلك شريطة أن يكون صادقا فى عجزه لا مناورا ولا مدعيا. لعل هذا تحديدا هو ما يفسر أنه حين تعمقت المعية مع سامية بما يقابل مضاعفة جهد الاقتراب (العلاجى) خاف أن يتحقق من حجم عجزه فأعلنه “مااقدرشى أعمل حاجة”.
أما حين لعب د.يحيى مع نفسه فقد بدأ بإعلان إصراره على مواصلة محاولة توصيل الكشف المحتمل الذى وصل إليه بخبرته الخاصة جدا، فهو يعجز عن تسويقها ودعمها ونقلها إلا فى هذا المحيط المحدود من التدريب، والكتابات المتواصلة التى يعرف أنها لا تصل كما ينبغى، وهو يلوم نفسه على هذا القصور أكثر من أى أحد آخر، ومع ذلك فهو هنا- برغم كل ذلك- يعلن أنه سوف “يواصل” حتى لو لم يصدقه أحد إذا نجح أن يقترب من نفسه “حتى لو ماحدش صدقك خالص”.
وحين تعمقت المعيه مع نفسه “بحق وحقيقى” قفز إليه احتمال أن التمادى فى أن يقترب من نفسه أعمق وأقرب بدلاً من أن يحقق مزيدا من التواصل ربما يؤدى إلى وحدة أكبر وابتعاد اكبر “أبعد أكتر”.
وبعد
هذه محاولة متواضعة لا أظن أنها ستفيد أحدا لم يحضر العلاج الجمعى أصلا، بل لم يواصل مشاهدة هذه المجموعة بالذات، بل لم يشارك (ويلعب شخصيا) هذه اللعبة أثناء أدائها .
وقد حاولت – فى تجارب سابقة- أن أتغلب على هذه الصعوبة بعرض اللعبة بالفيديو على من لم يحضروها عيانا بيانا، وشرحها فقرة فقرة، وتيقنت أنه لم يصل أيضا ولا حتى بعرض الفيديو والشرح المباشر ما أردت توصيله.
هذه لعبة لم يشترك فيها سوى 4 مريضات ومدرب ومتدربة لم تستغرق سوى (32 دقيقة) فبما بالك بعرض جلسة كاملة (85 دقيقة + خمس دقائق + مناقشة حوالى 30 دقيقة) أتصور أنه يستحيل شرحها.
فمابالك أكثر بعرض سنة كاملة (من 48 إلى 52 أسبوعا) من نفس المجموعة العلاجية.
أليس فى كل ذلك ما يبرر عجزى عن مواصلة مثل هذا الاختزال والتجزىء وما يترتب عليه من غموض أو حتى تشويه
ماذا أفعل؟
وكيف أواصل؟
غالبا لن أعود إلى مثل ذلك إلا كعينات محدودة.