الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (63) الإدراك (24) الفهم واللافهم: مدخل إلى الادراك (3 من .. ؟)

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (63) الإدراك (24) الفهم واللافهم: مدخل إلى الادراك (3 من .. ؟)

نشرة “الإنسان والتطور

3-4-201225-1-2012

السنة الخامسة

 العدد: 1677 

 

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (63)

الإدراك (24)

الفهم واللافهم: مدخل إلى الادراك (3 من .. ؟)

 

تعقيب على استجابات لعبة: “ياخبر!! ده أنا لما ما بافهمشى يمكن…”

فى جلسة من العلاج الجمعى (31-3-2010)

اليوم سوف أقوم  بقراءة الاستجابات التى نشرت يوم الأربعاء الماضى بعد حذف المناقشات المحيطة وقد نشرت الاستجابات اليوم دون تعليق، وسوف ننشرها اليوم واحدة واحدة بالنسبة لكل مشارك فى المجموعة العلاجية، ثم أحاول بعد ذلك  أن أقرأ الاستجابات فى مجملها بغض النظر عن الشخص نفسه،  أو قد أؤجل كل ذلك لحين الانتهاء من عرض عينة من استجابات الأسوياء، وعينة أخرى من استجابات مجموعة علاجية مختلفة لنفس اللعبة فى جلسة أخرى من جلسات العلاج الجمعى.

 هذا، ولا يحسبن أحد أن هذه اللعبة لها ميزة خاصة فى هذا العلاج، هى مجرد عينة، وما اخترتها للعرض هنا إلا لعلاقاتها بآلية الإدراك مكملا للفهم، ولعلها ترد على تساؤل وصلنى من زميل فاضل عن طريق الشبكة العربية للعلوم النفسية (د. إدريس الوزانى) وقد أرسل لى يعبر عن دهشته من أن يكون منطلقى الأول (لم أقل الأوحد) هو من مريضى، لأعرف أكثر عن المرض والمريض أكثر، ومن ثم عن الإنسان، انطلاقا إلى التعرف فى حدود الممكن على  فطرة الله التى فطر الناس عليها.

 فرأيت أن عرض بعض ما يمثل ذلك مما قد يسهل الحوار ويوضح الأمر ولو بعض الشىء

وسوف نعرض الاستجابات اليوم فقط، دون أية تفاصيل من التى عرضت الأسبوع الماضى، والتى كنا نقصد من تسجيلها أن يلم القارئ بكل من:

 (1) طبيعة الصعوبة.

 (2) طبيعة الالتزام بعدم الخروج على النص.

 (3) أسلوب الحث والتصحيح ما أمكن ذلك.

 (4) طبيعة مشاركة المعالجين مع المرضى على قدم المساواة.

 (5) عدم إفساد التجربة التلقائية بتفسير عقلانى وصى (وغير ذلك مما قد يكون قد وصل أيضا).

أما اليوم ، فكما قلت سوف نكتفى بنص الاستجابات ، ثم نعقب على كل مشارك على حدة تعقيبا اجتهاديا لا بد أن يؤخذ على أنه مجرد “وجهة نظر” أو “فرض عامل” لا أكثر.

نص الاستجابات:

د. منى

الاستجابات:

د.منى: يا أحمد ياخبر ده أنا لما ما بافهمشى يمكن أحافظ على نفسى

د.منى: يا هاله ياخبر ده أنا لما ما بافهمشى يمكن ده أحسن لى

د.منى: يانصره ياخبر ده أنا لما ما بافهمشى يمكن أمشى أحسن

د.منى: يادكتور يحيى ياخبر ده أنا لما ما بافهمشى يمكن أكون أجمل

د.منى: يامنى (نفسها) ياخبر ده أنا لما ما بافهمشى يمكن أكون مبسوطه اكتر

التعقيب:

الدكتورة منى تشغل وظيفة طبيب مقيم (عمرها 24 سنة تقريبا)، وهى تتدرب مع الأستاذ المدرب أسبوعيا لمدة عام بمشاركة زميل طبيب مقيم آخر (لم يحضر هذه الجلسة)، والاثنان منتدبان من كلية طب بنى سويف التى يشرف عليها قسم الطب النفسى بقصر العينى (جامعة القاهرة)

نلاحظ أن إجاباتها أظهرت فى عمومها أهمية وفائدة “عدم الفهم”، بما يشير إلى تدعيم الفرض القائل :  إن الفهم ليس إلا أحد آليات التعامل مع الحياة، وربما لأنها طبيبة، ولأنها دخلت كلية الطب بالفهم المدرسى المنظم الذى أتاح لها فرص التفوق، ولأنها منذ كانت – حتى تحقق هذا التفوق – استعملت “آلية الفهم” طول الوقت، ربما على حساب كل ما عداها،  فيبدو أنها بمجرد أن سُمح لها بتصور أية آلية غير ذلك، أو حتى عكس ذلك، انطلقت تعدد ما كانت محرومة منه من “فرط الفهم“، أو نتيجة لاحتكار الفهم لها وللحياة، ولو جمعنا استجاباتها لأمكن أن نكتب جملة مفيدة تقول:

إن الاستغناء عن الفهم، ولو مؤقتا، إنما يسمح لآليات أخرى أن تحقق لنا أن نكون أجمل، وأكثر انبساطا، وأن نحافظ على أنفسنا أفضل، وأن هذا كله هو أحسن لنا بشكل أو بآخر،

وكما شرحنا فى التنظير أن هذا لا يعنى تفضيل عدم الفهم عن الفهم، بقدر ما هو يعنى أن هناك ما يجعل الفهم وحده طول الوقت آلية لها حدودها وقصورها بشكل أو بآخر.

أحمد

الاستجابات:

أحمد: يا هاله ياخبر ده أنا لما ما بافهمشى يمكن أتعب

أحمد : يانصره ياخبر دا أنا لما ما بافهمشى يمكن أرتاح

أحمد : يا دكتور يحيى دا أنا لما ما بافهمشى يمكن … (كلمة غير مسموعة)

أحمد : يا دكتوره مُنَى ياخبر دا أنا لما ما بافهمشى يمكن  أموت

أحمد : يا احمد (لنفسه) يا خبر دا أنا لما ما بافهمشى يمكن كل حاجة تبوظ

التعقيب:

لعلنا نذكر أن أحمد هو الذى أوحى للمجموعة بابتداع هذه اللعبة، وذلك  حين سأل المعالج من قبل أسابيع عما إذا كان التحسن يمكن أن يتم دون أن نفهم الجارى: “هوا الواحد ممكن يخف وهو مش فاهم؟”، وقد كان هذا السؤال بمثابة الجواب،

فنلاحظ هنا كيف تبدو استجاباته  فى ظاهرها متناقضة، فى حين أنها يمكن أن تكون مكملة لبعضها البعض، وهذا يشير إلى أن عدم الفهم ليس نوعا واحدا، وأنه أيضا لا يقع على مسافة ثابتة من الوعى الظاهر، فهناك عدم فهم يزيدنا حيرة ومعاناة (يمكن أتعب)، وهو ليس سلبيا بصفة دائمة، لكنه أيضا ليس هو المطلوب تحبيذا لحقنا فى “عدم الفهم“، وهناك نوع يسمح لنا بقبول التأجيل أو بفرص التقريب، أو بإعلان الحق فى عدم الفهم ولو أحيانا، ولعه النوع الذى قال فيه صلاح جاهين “وقفت بين شطين على قنطرة، الكدب فين والصدق فين يا ترى، محتار حاموت الحوت طلع لى وقال : هو الكلام يتقاس بالمسطرة؟!!”، وبالتالى يصبح السماح بعدم الفهم نوع من الراحة (يمكن أرتاح)

نلاحظ هنا أيضا، ومع كل المشاركين أن لفظ “يمكن” قد سمح بمساحة رحبة من الاحتمالات، بما فى ذلك “الشىء وضده” (يمكن أتعب- يمكن ارتاح)، لكن كما يظهر فإنه يغلب على أحمد حرصه على الفهم، برغم اكتشافه الذى ظهر فى سؤاله البدئىّ أنه يمكن أن يشفى دون أن يفهم، هذا الحرص بدا فى استجابتيه “يمكن أموت” & “يمكن كل حاجة تبوظ”، الأولى كانت وهو يوجه الخطاب للكتورة منى، والثانية وهو يوجه الخطاب لنفسه، وكلتا الاستجابتين تدلان على تقديره (أو سابق تقديره لضرورة الفهم)، وكأنه يحافظ على حياته بمواصلة الفهم، وأيضا يرتبها، أو لعله يتصور أنه يرتب ظاهرها حتى يبدو متماسكا بالفهم (كل حاجة تبوظ)، هذا الموقف يمثل موقف أغلب الناس طول الوقت، بما فى ذلك، أو فى مقدمة هؤلاء، أولئك الذين لا يكفون عن ترديد أننا “نسير بالعقل“، وأن ربنا “عرفوه بالعقل”، وأن “العقل زينة”، وهم يقصدون تحديدا الفهم الذى تحاول هذه اللعبة أن تهز عرشه، لا لتخلعه، ولكن لتضيف إليه ما يعينه، ويكمله من آليات معرفية أخرى، بعضها  له أسماء مثل الإدراك، وأغلبها له نتائج دون ضرورة لتحديد طبيعتها أو تسميتها (تماما مثل برامج البقاء التى حفظت الأنواع دون فهم من نوع الفهم البشرى المغرور).

نصره

الاستجابات :

نصره : يادكتوره منى: يا خبر !! دا أنا لما ما بافهمشى يمكن يبقى احسن

نصره :  يا احمد:  ياخبر دا أنا لما ما بافهمشى يمكن كنت أتجننت

نصره : يا هالة دانا لما ما بافهمشى يمكن كنت فهمت الناس اللى حواليا

نصره : يا دكتور يحيى ….. دا أنا لما ما بافهمشى يمكن أبقى احسن من كده

نصره : يا نصره ياخبر دا أنا لما ما بافهمشى يمكن كنت كسرت الدنيا دى

التعقيب:

الصعوبة التى ظهرت فى استجابات “نصرة”، والتى عرضناها بالتفصيل الأسبوع الماضى، كانت صعوبة أكثر منها مقاومة، فنصرة، التى لا تكاد تفك الخط، أم لخمسة أولاد وبنات، وإحدى بناتها على وشك الزواج، برغم أنها تبدو وكأنها لم تتعد الخامسة والعشرين، وبحسب الفرض الذى نعمل تحت مظلته، فقد تكون هى أكثر أفراد المجموعة تسييرا  لحياتها بدرجة من عدم الفهم، دون إعلان ذلك، فهى دائمة الابتسام الصبور، تعول أسرتها كلها دون شكوى، تعيش مع زوج معتمد عليها بدرجة أفسدت حياتهما، (دون الدخول فى تفاصيل اكثر)، وبرغم كل الصعوبة، وبكل ما لاحظناه من مقاومة، جاءت إجاباتها – مع أنها خرجت منها تحت ضغط – ذات دلالات تحتاج النظر. 

أقرت نصرة احتمال أنها لو لم تفهم “يمكن يبقى أحسن مع ثلاثة مشاركين،  اثنين منهم أطباء، والثالثة زميلتها هالة، لكن كان ذلك (كما لاحظنا الأسبوع الماضى) بعد توقف متكرر، ولعل فى ذلك ما يشير إلى أنها فى حمى الأطباء المعالجين يمكن أن تطمئن لعدم الفهم، بالإضافة إلى احتمال أن دور هالة يمكن أن يكون كما التقطته نصره فى هذه اللحظة هو دور المعالج المساعد كما يجرى فى هذا النوع من العلاج،

 أما حين جاء الدور على زميلها أحمد، فقد فقدت نصره هذه الطمأنينة فجأة فأعلنت أن عدم الفهم يحمل احتمال الجنون (كنت اتجننت) ،

 وأخيرا وهى تخاطب نفسها انطلق العدوان بما يشير إلى أن الفهم هنا ظهر بمثابة العقل والتعقل اللذان يحميانها من إطلاق هذه الطاقة الجاهزة للانطلاق عشوائيا، وربما ثوريا (كنت كسرت الدنيا دى كلها).

هالة

الاستجابات:

هالة: يا دكتوره منى ياخبر دا أنا لما ما بافهمشى يمكن ارتاح

هالة : يا دكتور يحيى ياخبر “دا أنا لما ما بافهمشى” يمكن أنهار وأتعب

هالة (إعادة) يا دكتور يحيى دا أنا لما ما بافهمشى يمكن اتعب شوية

هالة : يا احمد ياخبر دا أنا لما ما بافهمشى يمكن أخلص عليك

هالة : يا هالة (لنفسها) ياخبر دا انا لما ما بافهمشى يمكن… (كلمة غير مسموعة)

التعقيب:

 استجابات هالة حملت تناقضا مثل الذى لاحظناه مع أحمد، (يمكن “ارتاح” – مقابل– يمكن “أنهار واتعب“)، وربما يسرى على هذا التناقض نفس التفسير،

ثم إننا نلاحظ هنا أن “أرتاح” كانت مع الدكتورة منى، فى حين أن “أنهار واتعب” كانت مع الدكتور يحيى المعالج الأساسى الذى تمارس معه هالة درجة أكبر من الاعتمادية، وربما يشير ذلك إلى أن عدم الفهم مع طبيب أصغر يسمح بحركة مسكـّنة تريح من عبء الفهم المنطقى المزعج، أما مع خبير أقدم، فإن التهديد بعدم الفهم مع الدفع إلى الاستقلال على طريق النمو، إنما يشير إلى احتمال تخليها عن دفاع “الفهم” الذى ربما كان يقوم بدور الحفاظ على المسافة بينها وبين الآخر (هنا الطبيب الكبير)، وبالتالى فالفهم يسمح بحسابات عواقب النكوص اعتمادا على معالج أكثر إغراء بالاعتماد، كما نلاحظ أيضا أنها عادت فورا بعد هذا الخوف تعيد اللعبة مع نفس الطبيب الأكبر، وكأنها اطمأنت حين أعلنت احتمال الانهيار، فحالت دونه، وكانت النتيجة هى أنها انتقلت إلى الوعى بمعاناة مسيرة النمو – العلاج- ولكن بدرجة معقولة  (أتعب شوية

إذن يمكن أن نستنتج أن نوع العلاقة ومرحلة العلاج وبعد المسافة هو الذى يحدد درجة ونوع الاعتمادية من حيث الخوف منها (أنهار واتعب) أو ضبط جرعتها (ارتاح شوية).

 ثم إنها حين وصلت إلى “أحمد”، انطلقت طاقة العدوان، ربما مثل نصرة، لكنها هنا طاقة موجهة إلى واحد من المجموعة، (يمكن أخلص عليك) ربما كان هذا الزميل ممثلا للعلاقة بالموضوع عموما، أو نائبا عن بقية أعضاء المجموعة، وقد سمحت هالة لنفسها أن ينطلق عدوانها إلى أقصاه، ربما وهى مطمئنة إلى المعالج والمجموعة أنهم قادرون على منع التمادى

فى هذه الاستجابة ما يجعلنا ننبه إلى أنه مهما كانت فائدة “عدم الفهم”، فإنه لا ينبغى تحبيذه وكأنه البديل الأنسب، بل إن إعلانه هكذا قد يساعد على العودة للفهم لمزيد من الربط الواعى على مستوى أقرب إلى الوعى بدلا من  الكبت المطلق، مع عدم التنازل عن الحق فى عدم الفهم.

د. يحيى

الاستجابات:

يا منى: يا خبر دا أنا لما ما بافهمشى يمكن أترعب من المشوار الطويل

د.يحيى: يا أحمد ياخبر دا أنا لما ما بافهمشى يمكن أفرح عشان اللى مستنينى

د.يحيى: يا هالة ياخبر دا أنا لما ما بافهمشى يمكن باحس أنى أقدر أتواضع أحسن من كده

(د.منى : ما قلتش يمكن ..)

د.يحيى: يا نصره ياخبر دا أنا لما ما بافهمشى يمكن باحس أن أنا بنى آدم قريب من ربنا

د.يحيى: يا يحيى (لنفسه) ياخبر دا أنا لما ما بافهمشى يمكن باحس أنك لسه عايش

التعقيب:

ربما يكون الأفضل أن نترك قراءة استجاباتى (د. يحيى) لواحد غيرى، ولكن بما أن هذا ليس متيسرا الآن، فسوف أحاول أن أقرأها  بنفسى، إلى أن يتفضل أحد الأصدقاء الذين يتابعوننا بعرض فروض أخرى واحتمالات أخرى:

نلاحظ أولا ما ذكر الأسبوع الماضى حين نشرنا نص الاستجابات بما فى ذلك تنبيه د. منى للدكتور يحيى بأنه خرج عن النص، واعترافه بذلك، أقول: ربما يشير ذلك إلى أن اللعبة صعبة، وقد كانت صعبة عليه دون توقع ذلك منه مثلما هى صعبة على الآخرين (إرجع للتفاصيل إن شئت الأسبوع الماضى)، وكما نلاحظ أن ما اشترطه وصححه هذا الطبيب الكبير للأخرين ليضبط نفس الألفاظ وعدم الخروج عن النص طول الوقت، قد وقع هو فيه شخصيا،

ثم نقرأ استجاباته كما وصلتنا

من حيث المبدأ، يمكن أن نكتشف اعترافا ضمنيا بأن الطبيب مهما بلغت خبرته، هو يحضر مع مرضاه بفهم منظم على قدر خبرته، فالفهم مسئولية أولى فى العلاج، لكن يبدو أنه يحضر أيضا بدرجة من عدم الفهم على قدر سماحه لنفسه بالتعلم المستمر،

كمانلاحظ أنه يسرى عليه ما يسرى على بقية أعضاء المجموعة  مرضى ومعالجين،

ثم أنه قد ظهر أن احتمال عدم الفهم قد يعرى صعوبة ما ألزم به نفسه، وكأنه –بالفهم – يمكن أن يحقق ما يتصور أنه فى مقدوره، وإذا به يكتشف “يدرك” من خلال عدم الفهم، أن الطريق فى واقع الأمر ما زال طويلا، وسوف يظل كذلك، (أترعب من المشوار الطويل

وبرغم هذا الرعب، فإن عدم الفهم أيضا، هو هو قد يعد بتحقيق هذا المشوار مهما طال (أفرح عشان اللى مستنينى) ، فيبدو هنا تناقض آخر، موازيا للتناقض الذى ظهر عند أحمد وعند نصرة، مما يدعم ضمناً فكرة أن التناقض يكمل بعضه بعضا ، وهو يتحرك فى اتجاه جدل محتمل

 ثم تحتد بصيرة هذا الأستاذ المعالج أكثر، باحتمال عدم الفهم وليس بزيادة الفهم، فيميز من خلال ذلك أن الإدراك ليس مرادفا مباشرا للبصيرة أو الاستبطان، وإنما هو “معرفة أخرى”، أعمق وأشمل وأكثر تعرية مباشرة (أتواضع أحسن من كده)، فالتواضع نتيجة عدم الفهم قد يكون تواضعا حقيقيا وتلقائيا، أما التواضع من خلال فهم ضرورة التواضع وفضيلته، فقد يداخله شىء من الافتعال،

وحين نتذكر الفرض الذى حفزنا لمواصلة تقليب هذا الملف حول طبيعة الإدراك، وهو أن معرفة الله سبحانه تتم بالإدراك وليس بالإثبات العقلى أو التفكير التقليدى، يمكن أن نلتقط استجابة هذا الطبيب المدرِّب  وهو يخاطب نصره، بأن عدم الفهم يجعله أقرب إلى ربه (باحس إن انا بنى آدم قريب من ربنا)، وقد ذكرنا أكثر من مرة أن معرفة الله تتواصل من خلال معرفة ومواصلة الطريق إليه، الكدح إليه، ومن ثم القرب منه، وهذا يتم أكثر من خلال الإدراك على كل المستويات وليس الفهم كما ذكرنا.

وأخيرا: فإن د. يحيى حين وجه الحديث إلى نفسه، خاطبها بضمير المخاطب (إنك لسه عايش)، وكأن الفهم كان قد أشاع وفاة هذا الشخص الداخلى، إما بوهـْم أن هذا الطبيب الخبير بعد كل هذه السنين قد صور له فهمه أن داخله أصبح متاحا ومندمجا فى خارجه (إذ يزعم هو وأمثاله أحيانا أنه أصبح وكأنه  ليس عنده لا شعور أصلا)، بمعنى أنه تصور أن وعيه الظاهر قد استوعب كل المستويات الآخرى، لكنه هنا حين عايش عدم الفهم، أدرك أن المسألة ليست بهذه السهولة، وأن “الآخر” الداخلى مازال قابعا، قادرا، له دوره “الآخر”، بعيدا عن حسابات الفهم، وأوهام الوصول إلى درجة من النضح ليس بعدها درجة أخرى، فمعنى “إنك لسه عايش” يحمل ضمنا أنه كان قد أنكر هذا الشخص الداخلى بزعم أنه لم يعد داخلى فأتاحت له اللعبة إحياءه أو العودة للاعتراف به.

وبعد

قلت فى المقدمة أننى أنوى أن أجمع فى حلقة لاحقة ما يتيحه لنا عدم الفهم من فهم آخر (إدراك) لكن يبدو أن الأفضل أن نؤجلها حتى ننتهى من عرض كل العينات

وغدا نعرض عينات الأسوياء

ونؤجل القراءة والتفسير لنشرة الأسبوع القادم كما فعلنا مع عينة المرضى، دون وعدٍ جازم لأننى لست متأكدا من تسلسل المسار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *