نشرة “الإنسان والتطور”
30-6-2010
السنة الثالثة
العدد: 1034
الحلقة: (72)
لعبة الحياة (3)
(الفصل الثالث)
توقفنا فى الحلقة السابقة عند أن الحياة لا تحتاج مزيدا من التعريف، وأن الاختيار المطروح فى نهاية الأمر يبدو أنه هو المطروح فى بداية الأمر، هو اختيار “أن أحيا..، أم لا”، وهو نفسه كان ومازال هو الاختيار المطروح على أى كائن حى عبر تاريخ التطور، أن يحيا فردا، ثم أن يحيا نوعا، بآليات وبرامج البقاء فيما هو دون الإنسان، وبدرجة ما من الوعى والتخطيط بعد أن أصبحنا بشراً.
هل كان من السخف وفرط التبسيط أن نقف هذه الوقفة فى الحلقة السابقة نغرد للحياة مثل عصفور الكناريا، ونتمسك بها بما هى لما هى، وما يحدث يحدث؟ ربما؟ لقد لامنى بعض الأصدقاء على هذه الوقفة وهذا الاكتفاء وكأننى أستعبط بأن ألهى نفسى عن ما عدا ذلك، أو ما بعد ذلك. الوعى الذى أمتُحِنَ به الإنسان يمنع البقاء فى هذه الوقفة طبعا، لكن يبدو أنها ضرورة البداية، وبداية الضرورة ، لكن علينا ألا نكتفى بأن نعلنها هكذا فقط، بل لا بد أن نعيشها بشراً، ولكى يكون الإنسان بشراً لابد من أن يعيش جدل الوعى مع وعى آخر، وعى بشرى أيضا، بل أكثر من وعى فى كل فرد، ومع عموم الناس.
يبدو أن القصيدة التى نحن بصددها تنبهنا إلى ذلك بشكل سريع قبل أن ننسى، فبمجرد اختيار الحياة نجدنا بين الناس هكذا:
الحياه هيّا الحياهْ
أغلى حاجه فيها هيَّا:
“إنى عايشْ”
وِسْط ناسْنا الطيبين
حتى ناسنا النُصْ نُصْ
همّا برضه أحلى ناسْ: طيبين
ما انا منهمْ،
يبقى لازم زيُّـهمْ،
حلو خالصْ
بس انا برضه بَلاقينِى ساعات كدا نُصْ نُـصْ،
قلت أتعلم، وابُص
إذن الحياة هى الحياة شريطة أن تكون وسط الناس، لا تكون الحياة حياة بشرية إلا بين الناس.
فى العلاج النفسى الفردى الصحيح يعتبر المعالج ممثلا لمن هو “آخر” بالأصالة عن نفسه والنيابة عن الناس، هذا مفهوم آخر غير المفهوم الذى يؤكد عليه التحليل النفسى التقليدى، حين يهتم أساسا بالتركيز على “الطرح” والتداعى الحر والتنفيث. إن لم يقم العلاج بتهيئة تنمية العلاقة مع جماعة صغيرة، (أسرة مثلا)، ثم مع بعض الناس ثم مع كل الناس، فهو علاج تنفيثى محدود هكذا يعلن المتن من البداية أن الحياة لاتكون حياة إلا وسط ناسنا الطيبين.
أعتبر خبرتى فى قصر العينى مع مرضى العلاج الجمعى خاصة خبرة أتاحت لى الفرصة أن أعرف وأتعرّف على عينات من ممثلى الشعب المصرى الحقيقى عاماً بعد عام، أعنى الشعب المصرى التاريخ، أعنى الشعب المصرى الطبيعى، أعنى الشعب المصرى الآن. أنا أمارس العلاج الجمعى المجانى فى قصر العينى منذ سنة 1971 مع مرضى من الشريحة الأقل قدرة من الطبقة الوسطى والدنيا، وأيضا من الطبقة الأفقر، تعلمت من هؤلاء المرضى معنى الطيبة المصرية الحقيقية “وسط ناسنا الطيبين”، وهم يعطون الموافقة الطيبة بكل ترحيب أن يجلس معنا فى نفس قاعة العلاج فى دائرة أوسع كل من يرغب فى التعلم والتدريب لمشاهدة الجلسة العلاجية بشروط شديدة اليسر، كما يقبل هؤلاء الناس الطيبون التصوير بالصوت والصورة، خدمة للعلم والمتعلمين، الطريقة التى أمارس بها هذا العلاج علانية مع إمكانية التدريب ودوام التسجيل استمرت حتى الآن أربعين عاما إلا عاماً (عام وراء عام)، تجتمع عينة ناسنا الطيبون (من 8 –14 فرد) بشكل منتظم كل أسبوع فى يوم محدد (الأربعاء الآن) الساعة 7.30 صباحا ولمدة ساعة ونصف، ولا نحدد اختياراً معنيا للسن أو التشخيص أو الشخصية (أنظر الحوار مع د.أميمة أمس الثلاثاء: 1-6-2010)، اكتشفت وأنا أكتب هذا الشرح الآن أن الذى شجعنى على الاستمرار طوال هذه السنين هو أن ناسنا طيبون بالمعنى البسيط العميق، وليس بمعنى الاستسهال أو السطحية أو التفويت، يبدو أن هذه الطيبة معدية، ومهما كان ظاهر الأعراض، ومهما كان اسم التشخيص، ومهما كان نوع الشخصية، فإن وعياً جمعياً يتكون فيما بيننا من أول جلسة وينمو باضطراد حتى نهاية العام (مدة التعاقد للعلاج هى عام كامل: اثنا عشر شهرا). هذا الوعى الجمعى Collective Consciousness هو آخر ما قدمت فى مؤتمر حديث بعنوان: “الصياغة فى مقابل التشخيص والتصنيف”. (يمكن أن يجده الصديق الزائر فى الموقع) ولم أكن قد تبينت أنه “الطيبة المصرية الحقيقية”.
قلت حالا إن هذه الطيبة معدية، لكن التعبير الأصح هو أن أقول إنها قادرة على أن تستخرج ما يقابلها (خلقة ربنا) من كل فرد من أفراد المجموعة، فهى ليست سمة أو صفة تنتقل من فرد إلى فرد (معالج أو مريض) بقدر ما هى حقيقة بادئة تتحرك منا بمثير صدق التقائنا، ثم تتجمع وسط دائرتنا فيما أسميته “الوعى الجمعى” Collective Consciousness وليس الوعى اللاجمعى الذى قال به “يونج” Collective Unconsciousness
الذى يجعل العلاج الجمعى ذا فاعلية هو أن هذا الجزء الطيب (العام المشترك) يتحرك من داخل المعالجين أيضا ليساهم فى تكوين الوعى الجمعى المشترك المشارِك.
ليس فى الأمر خصوصية للشعب المصرى، فهذه الطيبة التى أتحدث عنها تصلنى من ناسى لأننى منهم، وهى أقرب إلى ما أسميناه “الفطرة” وقد تقعرنا فى التنظير حوله سابقا 4-11-2007 ، 6-11-2007 ، ونلاحظ أن المتن ينبهنا أن هذه الطيبة موجودة فى الطيبين ظاهرا، وحتى فى الذين أخْفتها دفاعاتهم نبدو غير ذلك، أو “نصف نصف”.
فى خبرتى مع طول عمر المجموعة وجدت أن هذا “العامل المشترك” “الذى نسميه طيبة (المصرى أو غير المصرى) هو هو “الحلاوة” التى نصف بها الحياة طول القصيدة، هذه الحلاوة بدت فى وصف ناسنا الطيبين حتى “النص نص” منهم بأنهم:
أحلى ناسْ: طيبين
بنفس الآلية تتم تعتعة نفس هذه المنطقة عند المعالج، “عندى”، فأنا أعلن من البداية، مع تمام مسئوليتى “أن ما يسرى على المرضى يسرى علىّ”، فتنشط عندى نفس المنطقة “الطيبة الجماعية المسئولة” (لاحظ أضفنا لفظ “المسئولة” هنا).
انتماء المعالج هكذا إلى هذه المنطقة المشتركة بنفس الشروط لايتصف بأى قدر من التواضع أو التنازل، بل إنه يعطى للمعالج قيمة أخرى: أنه واحد من الناس مع اختلاف جرعة الخبرة والمسئولية،
يمكن أن يقيس المعالج مدى لياقته لهذا النوع من العلاج بمدى تلقائية أدائه أثناء العلاج من جهة، وبعدم إرهاقه منه بأى درجة من جهة أخرى، لأن العامل العلاجى الأهم هو تخليق هذا الوعى الجمعى المشترك الذى يجمع أفراد المجموعة إلى بعضهم، فينتمون إليه، فيرتد إليهم يعالجهم، كما خلقهم ربهم، فهم “أحْلى ناس”، وليسو “أحلى الناس”، وما يخرج بشكل طبيعىّ: هو طبيعىّ، فمن أين يأتى الإرهاق؟
فإذا كان تحريك هذه المنطقة تجعلنا نرى أنفسنا “أحلى ناس” فإن المعالج حين يرى نفسه أحد هؤلاء الـ “أحلى ناس” يكتشف أنه أيضا “حلو خالص”..
إذن فصفة المبالغة “أحلى، والإطلاق “خالص” لا تشير إلى تفضيل فوقىّ لأنها تقر أن سمة أو صفة الحلاوة هى أيضا صفة ناسنا العاديين جدا حتى ناسنا “النص النص”، كذلك المعالج ليس إلا شخصا من هذا النسيج نفسه الذى أحيانا يكون نص نص، وذلك لا ينقص من حلاوته، كما لا ينقص من حلاوة الناس،
بس انا برضه بَلاقينِى ساعات كدا: نُصْ نُـصْ،
تكرار وصف الحياة فى هذه القصيدة بالحلاوة “الحياة الحلوة حلوة” وقد تكرر هنا “أحلى ناس” & “حلو خالص”، هو وصف قريب مما أريد توصيله لمعنى خلقة ربنا، التى هى الأقرب لما يتخلق ما أسميته بنا معا: “الوعى الجمعى”ّ
اللفظ الآخر الذى يوصل بعض ما يجرى هو لفظ “الفرحة”، وكل من لفظ الحلاوة والفرحة هو الأقرل إلىّ جدا من لفظىْ “السعادة” و”الراحة”، الذين يصر أغلب المرضى على طلبهما أو على الأقل السؤال عنهما.
وسوف نعود إلى ذلك كثيرا.
هذه البداية هى المدخل فى العلاج الجمعى الذى هو ليس إلا نموذجا “للحياة البشرية معاً”، كما أننى وجدت أنها هى المدرسة التى أتعلم فيها ومنها جوهر الحياة:
قلت أتعلم، وابُص
وإلى الحلقة القادمة نناقش الفقرة التالية:
-2-
الحياة هى الحياة
باترجف من خطوتى الجايَّةْ، ولكنْ:
باترعب أكتر لو انى فضلت ساكنْ
كل ما أشك ف خطايَا،
ألتفت ما لقاش ورايَا
إلا إنى،
وسط كل الناس باغَنِّي
يعنى بَابْنِى،
أنا وابْـنِي.
واللى مش ممكن حايخلص بــيه وبـيّا.
يبقى غيرنا يكمله.