نشرة “الإنسان والتطور”
27-6-2010
السنة الثالثة
العدد: 1031
تعتعة الوفد
عن “التصوف”، والسياسة، والوعى الشعبى الفطرى (1 من2)
فى إحدى جلسات الحرافيش، حل علينا أ.د. عاطف العراقى ضيفا كريما، كان قد دعاه د. زكى سالم حسب تقليد متبع، استثناءً، حين ينضم إلينا لليلة أوأكثر زائر غريب، نتبادل معه التعارف والحوار، فيثرينا بما نحن فى حاجة إليه من تنوع الإنارة، وتنشيط التواصل، ونحن نحيط بشيخنا نجيب محفوظ، نتفتح معه لمزيد من المعرفة، كان الدكتور العراقى مشرفا على رسالة الدكتوراة للصديق د. زكى سالم (حرفوش احتياطى متأخر مثلى)، عن الموقف النقدى لابن عربى، وطرحنا السؤال المتجدد على أ.د. العراقى عن: لماذا لاتوجد فلسفة إسلامية بنفس الاختراقات الإبداعية التى لا تعيش الفلسفة إلا بها، ودار نقاش فهمت منه رأى د. العراقى وأنه غير متحمس للإعتراف بوجود مثل هذه الفلسفة بهذا المعنى، فسألته سؤالا مباشرا:” ألا يمكن أن يعد بعض أئمة التصوف، وخاصة من أهدر دمه أو كفروه، أن يُعَدّ من فلاسفة الإسلام إبداعا وإضافة، وإن كان لا يحمل هذه الصفة (صفة الفيلسوف) ؟، ولم أستبن على وجه التحديد رأى د. العراقى، وإن كان ما وصلنى هو أقرب للنفى، لكن كانت قد وصلتنى موافقة نسبية من د. زكى سالم على أن ذلك محتمل، أما شيخنا نجيب محفوظ، فهز رأسه بما يسمح أن نفهم أنه موافق، على الأقل على طرح السؤال ووجاهته.
كنت قبل ذلك بسنوات قد نشرت كتابى “مواقف النفّرى بين التفسير والاستلهام” (سنة 2000) بجزأيه، وهو اجتهاد محدود عن مواقف النفّرى، الجزء الأول: كان كشفا عن المنهج المعرفى (العلم الآخر) الذى بينت أنه قد آن الأون أن نقلب صفحاته لنتكامل به، وأنا أكتشف أنه من من صلب تراثنا الماثل فينا حتى الآن، أما الجزء الثانى فهو استلهام مباشر، قمت به مشاركة مع إبنى وتلميذى وصديقى د. إيهاب الخراط، وهو مسيحى إنجيلى استشارى فى الطب النفسى، وفى نفس الوقت هو قس إنجيلى جميل،(دكتوراه فى اللاهوت أيضا). فى هذا الجزء الثانى رحنا نثبت بعض نصوص مواقف النفرى، يليها مباشرة قراءة (استلهام) د. إيهاب الخراط، (نصٌّ على نصّ)، ثم قراءتى (استلهام أيضا : نصٌّ على نصّ على نص)، وكنا نتصور أننا من خلال ذلك، يمكن أن نوصل للناس، عامة ناسنا، أن النص الصوفى الإبداعى الأصيل ، يوحى لمن يريد ويستطيع بما تيسر من إنارة ومعرفة، كشفا عن فطرة الله التى فطر الناس عليها، وعن الفطرة عموما، أن يضيف إلى وجودنا ما نحتاجه مما يميزنا، انطلاقا من استلهامات مصِريَّيْنِ: مسلم ومسيحى، عاشا نفس النص الملهم على حدة، بغض النظر عن دين أى منهما المثبت فى شهادة ميلاده.
هذه المقدمة ضرورية لتحديد مدخلى إلى الوعى الإيمانى الشعبى، وضرورة التعرف عليه على أرض الواقع، وهو ما أعتقد أنه من صلب السياسة، وقد حضرتْ هذه القضية إلى بؤرة اهتمامى مع معايشتى لما أثير مؤخرا حول التصوف والموالد وعلاقة ذلك بالحكومة والحزب الوطنى، ثم ألحت علىّ ضرورة الإسهام فى الحوار حول هذه القضية مع فرحتى وغضبى من مقال الشاعر الجميل فاروق جويدة حول ذلك كله أو بعضه بعنوان “لماذا خلطت الدولة بين الإخوان والطرق الصوفية“، (جريدة الشروق 23 مايو 2010) ولأننى أحب هذا الشاعر الذى أصبح ناقدا سياسيا شجاعا، وصاحب فكر يحتاج إلى حوار بنفس الجدية التى يكتب بها، فقد أثارنى المقال بقدر ما أثارتنى القرارات وربما أكثر.
دعونا نعدد ابتداء بعض ما جرى ويجرى بشأن ظاهرة التصوف التى لا نعرف عنها ما يكفى، ولا ما ينبغى.
أولا : ما أثير حول تدخل الدولة فى اختيار المجلس الصوفى الأعلى، وما جرى حول ذلك بين الشيخ أبى العزايم، والشيخ القصبى، والهمس الذى دار حول علاقة كل ذلك بالانتخابات والحزب الوطنى، واستقرار النظام، وكلام من هذا.
ثانيا: ما أثير حول قرارات منع الموالد لبعض أولياء الله (سيدنا الحسين، والسيدة زينب والسيدة نفيسة) بسبب هذا الوهم التجارى الكاذب المسمى “إنفلونزا الخنازير” .
ثالثا: ما أثير حول منع إقامة “حضرات” الذكر فى المساجد والزوايا الخاصة بالطرق الصوفية
رابعا: الجدل الذى دار حول تنقية الموالد مما سمى تجاوزات، قال البعض أنها تشمل حلقات الذكر فى الموالد أيضا .
هذه الأحداث وتلك القرارات إن دلت على شىء ، فهى تدل على انفصال الدولة عن الوعى الشعبى من جهة، كما تدل على جهل مطبق بما يسمى الدين الشعبى، وأيضا عن التوجه الفطرى الإيمانى لعامة الناس (وكل الناس) من جهة أخرى، فضلا عن الجهل بدور التصوف فى إثراء المعرفة البشرية، وتقديم بديل أنقى وأعمق لما يسمى حديثا “نوعية الحياة”، من واقع ثقافتنا غير الثقافات المستوردة، وغير الثقافات المحنطة فى ألفاظ سلفية، وأيضا غير الثقافات المكتبية الكلامية المختنقة فى المكاتب وفى مقاهى المثقفين المعقلنين وندواتهم.
وأنا على وشك كتابة هذا المقال، وبعد أن امتلأت غيظا فى مقال جويدة، حدث ما يلى:
كان مولد الرفاعى مقام فى القلعة، وهى طريقى إلى بيتى فى المقطم، وكنت ألتمس أثناء مرورى حتى وأنا داخل السيارة: حس الناس، فتُعودُنى مشاركتى لهم حين كانت تلوح فرص المشاركة، أثناء مرورنا تلك الليلة: أخبرنى صديقى “عبد الكريم” (السائق) أن الشيخ ياسين التهامى ينشد هنا هذه الليلة، فقلت له أننى سمعت عنه، وأننى أحبه، وتذكرت بعض حديثى مع الصديق جمال الغيطانى حوله، وأنه يتجاوز مدح الرسول عليه الصلاة والسلام لينشد أحيانا نصوصا صوفية من مأثورات كبار المتصوفين ممن يتهمون بالغموض، فتصل إلى عامة الناس، ليس من منطوق ألفاظها، بل من اختراق أدائه، وجميل تجليه، عدت إلى عبد الكريم وهو يضيف “حضرتك، … أصله من عـِنْدِينَا” ، وفهمت أنه من الصعيد الجوانى، فعبد الكريم من كوم يعقوب مركز أبو طشت، وقد زرته هناك، ووصلنى ما يقصد عبد الكريم بقوله : “من عـِنْدِينَا”، سألته إن كانت للشيخ التهامى شرائط ، فتعجب وقال “مئات، حضرتك وسيديهات، هل أشتريها لك؟”، أجبت بالإيجاب وفرحت، ثم أضاف عبد الكريم “هل تريد لقاءه، أنا عندى رقم تليفونه المحمول”، تعجبت ورحبت.
فى اليوم التالى أخطرنى عبد الكريم أنه اتصل بالشيخ يس شخصيا –دون أن أطب منه- ، وأنه يرحب بلقائى، وإن كان لم يبق له فى المولد إلا ليلتين، فرحت، لكننى أسفت أننى لم أستطع أن أغير مواعيدى حتى ألقاه،. فى الليلة التالية ، رن رقم هاتفى المحمول وسمعت صوتا يقول: ” أنا ياسين التهامى”، رحبت به غير مصدق، أخبرنى أن رغبتى وصلته، وأنه هو أيضا يريد التعرف علىّ، وحين شرحت له ظروفى، وأننى يمكن أن القاه بعد غد ، قال إنه سيغادر فى اليوم التالى، ثم أضاف، وماذا عن الليلة؟ قلت له أننى مشغول تماما، قال : أين أنت الآن؟ ، قلت : فى المقطم، وتأسفنا، وتواعدنا على لقاء فى مولد السيدة عائشة.
فى نفس الليلة، دق جرس هاتفى المحمول أيضا حول الحادية عشرة، وكنت قد دخلت فى النوم فعلا، (فأنا أنام حول العاشرة) وإذا بالصوت يقول “أنا ياسين” (لم يقل التهامى)، ويبدو أنه التقط بسرعة أننى نائم، فاعتذر، وحيّا بسرعة، وودّع، وتمنيت له سفرا طيبا، ولا أذكر إن كنا قد تواعدنا على لقاء فى مولد السيدة عائشة أم أننى استغرقت فى النوم لتوى، وحين استيقظت قرب الفجر رجحت أنه هاتفنى ليبدى استعداده أن يحضر إلىّ فى المقطم قبل سفره، وربطت ذلك بسؤاله “أين أنت الآن”.
أذكر هذا الحدث الشخصى العادى، لتصورى أنه عينة عابرة، لتواصل عادى بين مواطَنِيْن مصريين، لا يعرفان بعضهما، قد يبين هذا المشهد ما أريد توصيله من أن المسئولين، بما فى ذلك أغلب أولى الأمر فى السلطة الرسمية الدينية، لا يعرفون هذا النوع من التواصل العادى، الذى أعتقد أنه يكمن وراء ما أريد من هذا المقال، ومن المقال التالى.
وبعد
أكتفى بهذا القدر اليوم،
لأعود غاضبا عاتبا لمناقشة مقال الشاعر الجميل فاروق جويدة فى الأسبوع القادم.