نشرة “الإنسان والتطور”
الاثنين: 9-9-2013
السنة السابعة
العدد: 2201
كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (61)
على طريق استيعاب الموقف البارنوى فى العلاج الجمعى
بدءا بالاعتراف بالحق فى الكراهية وتعرية طبيعتها
أنهيت نشرة أمس بوضع ما خطر لى مما أسميته ” الخطوط العريضة “التى قد تعين فى احتواء وتمثل “الموقف البارنوى”، ووجدت أن المدخل المناسب هو مراجعة الألعاب التى ساهمت فى تنشيط وتعرية وجدان الكراهية كطبيعة بشرية أساسية، وكان من أهم العناوين التى شدتنى هو ما ظهر فى النشرة بتاريخ 10-6-2008 (العدد: 284) بعنوان: “وتعلم: كيف تكره – خبرة من العلاج الجمعى”.
العلاج الجمعى هو فى نهاية النهاية (ومن البداية) نوع من التعلم الأعمق، ليس بمعنى التعلم الشرطى ، وإن كان لا يستبعده تماما، وإنما هو أقرب إلى التعلم الإدراكى، أو حتى التعلم بالبصم imprinting، وهى كلها مجالات بعيدة عن مجالات البحث المؤسسى المتاحة. يبدو أن المطلوب فى العلاج الجمعى هو أن نتعلم كيف نحافظ على الفطرة البشرية التى تمثل أرقى ما نعرف مما خلق الله تعالى من خلال استعمال كل البرامج البقائية التى أوصلت الإنسان إلى موقعه المكرّم هذا بفضل الله. هل معنى ذلك أننا لا بد أن نعرف مسبقا طبيعة الفطرة البشرية، وأبعاد تلك البرامج البقائية التى وردت فى الجملة السابقة، الإجابة الجاهزة هى: “نعم لابد”، أما الإجابة الواقعية التاريخية التطورية فهى ليست كذلك بالضرورة، فقد استطاعت الأحياء الأدنى (التى قاومت الانفراض واحد من كل ألف) ، دون تعليم منهجى!! أو بحث علمى!! أو تنظير مسبق!! أن تعرف فطرتها التى فطرها الله عليها، وأن تحافظ على بقائها بدون كل هذا، ما العمل؟
حمدت الله على جهلى، وفهمت لماذا أُوصِى طلبتى والمتدربين لدىّ ألا يقرأوا فى العلاج النفسى قبل ممارسته، وأسمح لهم فى نفس الوقت أن يقرأوا فى النفسِمْراضية (1) (السيكوباثولوجيا)، دون أى تسرع فى محاولة التطبيق، وحين راجعت مسيرتى، حتى فى علاقتى بما أسميه “النظرية التطورية الإيقاعية”، وجدت أننى تبعت نفس السبيل، فهذه النظرية لم تنشأ نتيجة إعادة تشكيل بين نظريات سبقت حاولت أن أؤلف بينها فى نظرية جديدة، بل هى نشأت من فكرة واحدة بدت لى مقنعة ومباشرة وبيولوجية وعملية معا، ولن أعرج إلى نشأتها أو تاريخ تطورها هنا الآن، فقط سوف أشير إلى ما سبق تفصيله من أنها جماع ما بين المدرسة التحليلية الإنجليزية (ميلانى كلاين إلى جانترب) والقانون الحيوى (نظرية الاستعادة لإرنست هيكل، مع الداروينية الحديثة وخاصة إضافات دانيال دينيت) ثم نظريات الإيقاع الحيوى مجتمعة، لا أستطيع ان أدعى أننى قرأت كل ذلك أولا، لكن واقع الحال هو أننى كنت أثناء ممارستى أكتشف أسس كل واحدة من هذه النظريات دون أن أسميها، وقبل أن أعرفها، ثم أعثر عليها فى قراءاتى اللاحقة بشكل يدعم ما عايشته وأعايشه فى ممارستى الإكلينيكية، وتتواصل الحلقة الإيجابية من الممارسة إلى النظرية وبالعكس، يغذى بعضها بعضا باستمرار، كل ذلك أعَاننى أن أعيد ترتيب الأمراض، والعقاقير، وتوقيت إعطاء جلسات تنظيم الإيقاع (إعادة التشغيل كما أسميها مؤخرا re-start) ..إلخ.
بالنسبة للعلاج الجمعى أعتقد أن الأمور سارت موازية على نفس النهج، صحيح أننى بدأت ممارسة العلاج الجمعى بعد بداية اشتغالى بالطب النفسى بخمسة عشر عاما تقريبا، وبعد أن حصلت على آخر الشهادات التقليدية فى الفرع، وأصبحت عضوا فى هيئة تدريس جامعية، لكن العلاقة بين الممارسة والتنظير ظلت تسير على نفس النهج. فلا يحسبن ما اشرت إليه أمس مما سوف أدعمه ببعض مواقفى التنظيرية اليوم، هو نهج ملزم فى الممارسة، لكننى آمل أن يكون فى متناول الممارس الذى لا تتأخر عنه فرصة التدريب المباشر فى هذه المدرسة، أو حتى مشاهدة بعض تقنياتها.
نرجع إلى ما وعدت به، وهو ما جاء إجمالا فى نشرة أمس وهو كيفية استيعاب واحتواء ثم إطلاق الموقف البارنوى فى مساره الطبيعى مشاركا فى النمو من خلال العلاج الجمعى :
1- يبدأ الانطلاق من التسليم بأن كل المواقف النمائية هى موجودة الآن، وليست مجرد تاريخ يُرصد، أو مواقع تُزار (كما سبقت الإشارة إلى ذلك)
2- وبالتالى، فإن أى اختزال للإنسان إلى قيمه الظاهرة، المصنوعة، سواء من منطلق أخلاقى، أو دينى جامد، أو نفسى تنظيرى، أو حتى فلسفى، هو ابتعاد عن طبيعته كما خلقها الله
3- إن كل الممكن هو أن نواكب هذا الكائن وأن نهيئ له أفضل الفرص ليحافظ على موقعه التطورى المتميز بفضل الله، برغم صعوبة ما تورط فيه من حمل أمانة الوعى بخطواته على مسار النمو وما يستتبع ذلك من أعباء المسؤولية بالإسهام فى تخطيط مساره.
4- إن الحرص على ضبط سهم التوجّه، إلى الأعلى فالأكمل تطوريا إلى وجه ما بعد ما نعرف (الغيب) هو أهم بكثير من الحرص على نوع حسن السلوك
5- إن الحرص على مواصلة حركية برامج: “الإيقاع الحيوى”، و”الدخول والخروج”، “فالتوليف”، أهم بكثير من الوصول إلى منطقة كاملة الأوصاف مهما بدت هى غاية الرفاهية وقمة التحرر (والصحة)
هذا ما وصلنى من آليات وتقنيات“حركية” العلاج الجمعى بشكل عام، جنبا إلى جنب مع ما وصلنى من علاج الوسط، لكنه أيضا موجود فى كل الممارسات الإكلينكية الهادفة لتخليق المعنى، ودفع النمو، ومن هنا أقول إننى وجدت أن أقرب منطلق لكشف للموقف البارنوى قد يكون من خلال تحريك وجدان “الكراهية” بوجه خاص، وأن ذلك قد تم بشكل علاجى ، وبشكل تجريبى أيضا مع أسوياء فى قناة النيل الثقافية، وعبر موقعى (كتابة) وتم نشره فى اثنين وعشرين نشرة منذ حوالى خمس سنوات، وقد جمعتها جميعا، فبلغت 146 صفحة من الحجم الكبير (A4)، وقد احترت الآن حيرتين (على الأقل): من أين أبدا؟ وكيف أبرر التكرار؟
أعيد طرح الافتراضات الأساسية التى طرحتها فى بدايات فتح هذا الملف (ملف الكراهية)، لأننى أرجح أنها هى التى كانت، ومازالت تملأ وعيى وأنا أحاول تحريك الموقف البارنوى من خلال هذه اللعبة فى العلاج الجمعى، مع ما يلزم من تحديث ومراجعة
الفروض الأساسية والتوجه العام
(1) لا توجد أية غريزة سلبية فى ذاتها، وإلا: لماذا خُلقَتْ، فالعدوان غريزة بقائية والكراهية التى هى إحدى تجليات العدوان فى الوعى البشرى من حيث المبدأ هى ظاهرة طبيعية كذلك!.
(2) الكراهية هى الوجدان المصاحب والمغلف لأغلب حركية نشاط “الموقف البارنوى” (مع وجدانات أخرى حسب توجه الحركية وغلبة أى من برامج التواصل).
(3) العدوان، مع أنه غريزة طبيعية مثله مثل الجنس ليس له منفذ طبيعى إيجابى معلن، (مقارنة بالجنس يومية 19-3-2008).
(4) من أهم تجليات توظيف الكراهية هى إمكانية الاسهام فى الاستعداد لاستنفار الجانب الهجومى للعدوان .
(5) يترتب على ذلك أن تعتبر الكراهية جزء من برنامج بقائى أوّلى ربما يكون دوره أوضح من دور الحب بلغة البقاء، أو على الأقل أسبق وأعمق.
(6) تعتبر الكراهية الذراع الصاد التوجسى فى برنامج الدخول والخروجin-and-out-program ، الذى قد يكتمل أو لا يكتمل بضلعه الآخر وهو الاقتراب للتواصل (الحب).
(7) إن تجزىء الانسان (حته حلوه وحته وحشه) يسهـّل فصل الكراهية عن الحب ليصبحا ضدان على طرفى نقيض، مع أنهما ذراعان متكاملان فى جدل النمو كما سنرى.
(8) التناوب بين الكراهية والحب يسهِّل أيضا الاعتراف بهما، الواحد تلو الآخر، مع اختلاف وظيفة كلٍّ منهما حسب طور (نوبة) ظهورهما بالتبادل غير المنتظم، وهذا مقبول، لكنه ليس غاية المراد، ولا نهاية المطاف.
(9) إن فصل ماهية الانسان عن تفاصيل سلوكه (أحب الناس وأكره طبعهم !) هو تجزىء أيضا يسهم فى فصل الكراهية عن الحب، وإن كان يمكن أن يكون تبريرا وجيها بعض الوقت.
(10) إذا صحت الفروض 7، 8،9 فإن اتساع الوعى البشرى وتعميقه على مسار النمو الفردى هو الذى يسمح بجدل بين الكراهية والحب، تتحدد من خلاله وظيفة “كل منهما معاً” لصالح بعضهما البعض، ومن ثم لدفع النمو، وإمكان الولاف المتجدد
(11) إن قبول فتحمل اجتماع الكراهية مع الحب تجاه شخص بذاته دون تذبذب سريع، أو تناقض مُشِلّ ([2])، هو الضمان لحب “الآخر” ككل غير مجزأ (الصفقة على بعضها – Package Bargain).
(12) إن تحمل هذا التناقض مع استمرار حركية العلاقة بين اثنين على مستوى نضج متقارب، وهما يمارسان نفس المسئولية، هو الوسيلة القادرة على تحفيز ارتقاء علاقة ما فى الاتجاه التطورى (النمائى) الواعد.
(13) إن فرصة تحمل هذا التناقض فى العلاج الجمعى (كمثال لأية جماعة نمائية تسير فى الاتجاه الصحيح) هى أكبر من فرصة تحمل الغموض فى العلاقة الثنائية المغلقة.
(14) لا يوجد أمل قريب فى أن يلتحم الحب بالكراهية ليصبحا وجدانا جديدا لا نعرف له اسما ولا شكلا فى الوقت الحالى لتصور الانسان المعاصر، وإن كان الاحتمال واردا على امتداد مسيرة التطور.
(15) إن الإصرار على فصل الكراهية عن الحب حتى يصبحا عكس بعضهما هو ميكانزم جاهز، ومثل كل الميكانزمات، لابد أن له دور دفاعى تكيفى مناسب، فلا معنى لرفضه تشنجا (أو منظرة!) من حيث المبدأ، لكن هذا لا يبرر التوقف عنده.
(16) إن التوقف عند هذا الميكانزم وتضخيمه – ميكانزم الاستقطاب- مثل أى ميكانزم هو إعاقة أكيدة لو استمر وأصبح هو الحل الدائم.
(17) إن تفكيك هذا الميكانزم (الاستقطاب)، مثل أى ميكانزم، المفروض أنه يتم دوريا من خلال حركية الإيقاع الحيوى (تبادل البسط والامتلاء لاستيعاب التضاد وحفز الجدل)، فضلا عن أهمية فرص النمو الحقيقى.
(18) إن الألفاظ الدالة على الكراهية عاجزة عن استيعاب حقيقة أبعادها.
(19) إن تناول مناقشة القضية بالألفاظ والنظريات والإقناع والإثبات (ربما مثلما أفعل الآن) أقل قدرة على كشف الحقيقة مما لو غامرنا بالمعايشة الخبراتية مع وعى مشارك (كما نحاول بطرق باب هذه المحاولة فى العلاج الجمعى).
(20) إنه ليس مطلوبا حسم هذه القضية فى أى اتجاه، بقدر ما هو ضرورى (أو مفيد) إبقاء الملف مفتوحا.
وبعد
غالبا سوف نواصل الأسبوع القادم عرض بعض النماذج الدالة على بعض ذلك، مع المقتطفات المناسبة من نشرات سابقة.
[1]- أرجو ان تتعودوا على هذه الكلمة الجديدة .
[2] – تيجى تحب تكره تيجى تكره تحب، وهذا ما يسمى تناقض الوجدان Ambivalence وليست تحمل الضدّان وقبولهما معا.