الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حوار مع مولانا النفّرى (46): من “موقف الصفح الجميل”

حوار مع مولانا النفّرى (46): من “موقف الصفح الجميل”

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 21-9-2013

السنة السابعة

العدد:  2213

   حوار مع مولانا النفّرى (46)

من “موقف الصفح الجميل”

  نبذة: عن أعباء حمل الأمانة، وعلاقة الإبداع بمعنى ومغزى ونعمة “كُنْ” فـ “يكون” بفضل الله.

وقال لمولانا النفرى فى موقف “الصفح الجميل”

   وقال لى:

إذا قلتَ للشىء كن، فيكون، نقلتـُكَ إلى النعيم بلا واسطة

 فقلت لمولانا:

يقولون عنك يا مولاى، أعنى عن مواقفك ومخاطباتك، أنها سبق غير مسبوق لما يسمونه “قصيدة النثر”، ولا أخفى عليك يا مولانا أننى لا أحب هذه التسمية، ولا أجده فخرا بك أن انسبها إليك، ولا أن أنسبك إليها، مع أننى أحترم كثيرا منها، وبرغم كل ذلك فإننى أقرأ استلهاماتك لما قاله لك: “شعرا خالصا”، ولن أسمح لنفسى أن أستطرد لعرض آرائى وأطروحاتى عن ماهية الشعر، أو مستويات الشعر، أو لماذا الشعر، وأنت تعلم يا مولانا أننى تناولت أحلام فترة النقاهة لشيخى الأقرب على أنها “شعر خالص” (1)، حتى أننى لم أستطع أن أنقدها فى الجزء الثانى من قراءتى لها إلا من نفس صنفها، فالشعر لا ينقد إلا شعرا،  وحين وصلنى أن القرآن الكريم هو وعى خالص، رفضت على الفور أن أقرن هذا بذاك، لكن ثمة علاقة.

أن تقول للشىء “كن” هو أن تصلك بعض نِعَم ربنا عليك أنك قادر على أن  تخلق مما فكّكت أو تفكك منك، تشكيلا جديدا ، إذْ “يكون”، الإبداع قبس من نور الله، حتى لمن لا يعرف ذلك، حيث “يقول المبدع لمادة تشكيله أن تتشكل (أن تكون) بما تحركت فى وجدانه من علاقات جديدة، فكيان جديد، فهو خلق جديد، وقد أبلغنا ربنا هذه القدرة المباشرة كصفة له سبحانه إذا قضى أمرا،  وبدت صفة خاصة لا تكون إلا له :”….  بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ”، (لاحظ كيف سبق الصيغة المعنية هنا بأنه سبحانه “بديع” السموات والأرض) ،  لكنه تعالى تفضل  فسمح لمن يستطيع من البشر أن يحمل أمانتها أن يتمتع ببعض ذلك، فاستطاع  من يُسمَّى المبدع أن  يقول لمادته أن تكون، فتكون، هذه نعمة من الله بلا شك، حتى للمبدعين الذين لا يعرفونه، أعنى الذين يتصورون أنهم لا يعرفونه، وصلنى منك يا مولانا هذا التكثيف المباشر الذى ليس له حمد إلا الاعتراف بفضله سبحانه، إذ نتصف بعض الوقت ببعض صفاته، “كن” فــ”يكون”.

لا يقتصر الإبداع عموما على كتابة قصيدة أو رسم لوحة أو اكتشاف نظرية علمية، بل هو عملية يومية على مسار النمو اليوماوى (النشاط الحالم الراتب) لكل الناس دون أن يسمى إبداعا (2)، ومن أروع اشكال الإبداع، مما لا يسمى كذلك أيضا، إبداع الإنسان نفسه وهو يكدح إلى وجه ربه، مهما ضؤلت مساحة إعادة التشكيل حتى لو لم تصل إلى الوعى، وهنا يمكن أن نقول إن هذه النعمة: نعمة “كن، فيكون” هى نعمة كامنة  موجودة طول الوقت عند كل الناس، لكن لا يدخل اختبار إعلانها إلا القلة منهم،  حين نكبّر هذه النعمة بضعة مئات المرات (ربما أكثر، ربما أقل) نواجه هذا الامتحان، الذى يطرح علينا سؤالا يقول: هل يا ترى وصل بنا كدحنا إليه أن نتمتع بها، ولو لجزء من ثانية أو بضع ثوان؟ أم ليس بعد ؟

هذا الذى قاله لك يا مولانا هو خاص بك غالبا، لأنك من أنْجَبِ تلاميذ، وما وصلنى هو أنه يخبرك لا يمتحنك، فقد مررتُ شخصيا بهذا العرض منذ أكثر من ثلاثين عاما، ويبدو أننى أجّلت الامتحان طوال هذا السنين حتى جئت أنت تطمئننى أنه فضله وكرمه أوسع من كل مخاوفنا.

برغم أن عنوان القصيدة التى سجلتْ هذه الخبرة كان “‘عفوا .. فعلتها”، فقد انتهت بأننى لم أجرؤ أن أفعلها حينذاك

إسمح لى يا مولانا أن أبدأ بالمقطع الذى يربط هذا بذاك

قلت فى نهاية القصيدة :

‏…‏يا‏ ‏مِقودَ‏ ‏الزمان‏ ‏لا‏ ‏تطلقنى ‏

ثقيلـةٌ‏ ‏ومرعبة‏ :‏

قولة‏ ‏”كـُـن”‏.‏

لو‏ “كانَ” : ‏بــتُّ‏ ‏بائسا‏، ‏

لو‏ “كانَ‏” ‏طرتُّ‏ ‏نوْرسا‏،‏

‏ ‏لو‏ ‏”كانَ”‏ ‏درت‏ ‏حول‏ ‏نفسى ‏عدما‏ .‏

الآن بعد حوالى أربعة عقود، أتبين أننى لم أجرؤ أن أقولها، وبالتالى لم أعرف نتيجتها، حيث انتهت القصيدة بكل هذه الاحتمالات البادئة بـ “لو …..”

الذى أغرانى أن أتقدم خطوة هو مخاطرة لاحت حين احتدت بصيرتى فدخلت بى إلى ما لم أكن أقصد واعيا، فإذا بى أواجه هذه الأمواج من الرؤية والحزن العظيم، فـأتمنى لو أننى لم أغامر أصلا ، بدأت القصيدة هكذا:

يــاليتنى ‏طفوت‏ ‏دون‏ ‏وزنِ

ياليتنى ‏عبرت‏ ‏نهر‏ ‏الحزنِ

من‏ ‏غير‏ ‏أن‏ ‏يبتل‏ ‏طرفى ‏فـَرَقـَا‏.‏

ياليت‏ ‏ليلى ‏ما‏  ‏انجلي‏،‏

ولا‏ ‏عرفت‏ ‏شفرة‏ ‏الرموز‏ ‏والأجنة‏.‏

إى ‏هجرة‏  ‏الطيور‏ ،‏

فى ‏الشاطئ‏ ‏المهجور‏ .‏

عفوا‏،  ‏فعلتــُـها‏ …‏!!

ويبدو أننى حين وجدت الرؤية أكبر من طاقة استيعابى، رحت أبحث عن مهرب آمن، حتى لو بدا ذلك منى نوعا من الجبن فى البداية

…….

المهرب‏ ‏الجبان‏،‏

المهرب‏ ‏الأمان‏ .‏

لكن يبدو أن الأوان كان قد فات، فلم أتمادَ، ولم أتراجع، وانتظرت ما دام ما زال فى العمر بقية.

كذلك يبدو أننى اكتشفت أننى لم أبدأ أصلا، فانتظرت، ولم أحاول أن أختبر هذه النعمة باكرا برغم فك القيود، وما لاح لى من حرية واعدة، ثم أكتشف الآن أنه ليس فقط فى العمر بقية، وإنما أنه لم يبدأ بعد كما ينبغى، فأواصل سعيى إليه:

فك‏ ‏الحبال‏ ‏صلت‏ ‏السلاسل‏،‏

العمر‏ ‏بعـدُ ‏ما‏ ‏انقضي،

…..

العمر بعـدُ ما بدا

انتظرتُ يا مولانا كل هذا الزمن حتى جئت أنت تبلغنى ما قاله لك يطمئنك أن تدخل الامتحان، فيصلنى أنه واثق من نجاحك، ويعدك بالنعيم بلا واسطة بمجرد إعلان النتيجة؟

حين شعرت يا مولانا آنذاك بثقل الأمانة حسدت الجبال والسموات والأرض أنهن أبين أن يحملنها، قلت: 

‏يا‏ ‏سعد‏ ‏من‏ ‏لم‏ ‏يحمل‏ ‏الأمانه‏ .‏

ياويل‏ ‏من‏ ‏صاحبها‏ : ‏

فى ‏خدرها‏ ،‏

أو‏ ‏عاش‏ ‏ملتفا‏ ‏بها‏، ‏

وحولها‏.‏

أكتشف اليوم من خلال استلهاماتك يا مولانا أن مَنْ أبى أن يحملها وأشفق منها ليس بكل هذا السعد الذى حسدته عليه، بل لعله قد حرم نفسه  من احتمال أن ينعم عليه ربه، ربنا، بفرص السعى فالنجاح، والكدح والبصيرة، حتى تصله كل هذه الطمأنينة هدية لمن دفع ثمنها.

وبعد

فبرغم كل ذلك،  يا مولانا، فما زلت أخشى دخول الامتحان من جديد، حتى لو توسطتَ لى يا مولانا

ومن أنا حتى تتوسط لى؟

سوف أواصل، وحين أنجح، لن أحتاج إلى واساطة

أليس هو القائل:

إذا قلتَ للشىء “كن”، فـ”يكون”، نقلتـُك إلى النعيم بلا واسطة

 

[1] – د. يحيى الرخاوى (عن طبيعة الحلم والإبداع – دراسة نقدية  فى: “أحلام فترة النقاهة” نجيب محفوظ – دار الشروق  2011)

 [2] – الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *